يضع الإقليم في أولوياته أموراً معقدة ومزدحمة، ويتراجع الاهتمام في الرحلة الدبلوماسية لإنهاء الكارثة السورية التي استهلكت، حتى الآن، سبعَ جولات في جنيف، وثلاثاً في أستانة، وعشرات المؤتمرات الصحافية، وأميالا جوية كثيرة قطعها ستيفان دي ميستورا في أجواء الحل.. الحرب على الإرهاب تأخذ الحيز الأكبر من الاهتمام، وهي عنوان يتقدم على أي جهد، ويعرض نظام الأسد نفسه مساهماً فعالاً فيه، من خلال إعلامه الحربي الذي لا يكفّ عن بث مقاطع تُظهر سيطرة جحافله على مزيد من المساحات والقرى الواقعة على طريق دير الزور. يظهرُ طرفٌ آخر في المعادلة متمثلاً بقوات سورية الديمقراطية التي تستحوذ على نصيبها من الأراضي وحقول الغاز والنفط، بما يشبه تقاسم الأسلاب مع جيش النظام في تكتيكٍ متناغم، ويجعل استفتاء إقليم كردستان المعادلة أكثر صعوبة، فهو الأمر الذي سيتيح تدخلاً أكبر من إيران، بسبب تلاصق حدودها مع كردستان العراق. وخشيةً من مكونها الكردي الذي تسعى، مثل تركيا، إلى عدم إثارته. في هذا الظرف الذي يشبه الجلوس في وهج الشمس، تقف إدلب بلا مظلة، تحت حملة قصف منتظمة ويومية وكثيفة، حصدت حتى الآن عشرات المدنيين، على الرغم من اتفاق "خفض التصعيد" الذي شملها، وتم توقيعه في آخر نسخة من نسخ أستانة.
سقطت إدلب بسرعة في يد قوات معارضة متنوعة، بعد أن تراجعت عنها قوات النظام بما يشبه التخلي، والتخلي سياسة دأب النظام على تطبيقها في إدلب في كل مراحل حربه على الشعب السوري. وهو الآن، بمساعدة أو ربما بتحريض روسي، يقصف تجمعاتها السكنية الرئيسية، ويتقصد المشافي ومراكز التنمية، وهي طريقة يتبعها النظام، عندما ينوي مهاجمة مدينةٍ ما، فيبدأ ضرب بنيتها التحتية حتى تخرج من الخدمة. يمكن أن تطول عمليات القصف المنظم كثيراً، حتى تصبح أقرب إلى العادة "العلنية"، وحين يصبح المدنيون أشبه بالعراة تهجمُ قوات النظام، وهي تمارس ساديتها على الشجر والحجر والإنسان. قد لا يكون الهدف من قصف إدلب المتكرّر مهاجمتها برياً في الوقت الحالي، ولكن النظام وحليفه الروسي يصرّان على الإعلان أن حملتهما تأتي في سياق الحرب على الإرهاب، وهو الشعار الذي يمكن صرفه في أي مكان، حتى ولو كان بلا رصيد.
على الرغم من تعرّضها للكمية الأكبر من البراميل والقذائف والهجمات الكيميائية، إلا أن إدلب ما زالت تحتضن أكثر من مليوني شخص، يكنُّ لهم النظام كراهية خاصة. ولكن في حالة الهجوم البري على إدلب، قد يتحول هؤلاء إلى لاجئين، وسيكون أقرب مهرب إليهم، أو ربما المكان الوحيد المتاح، هو تركيا، وهذه لن تقف مكتوفة الأيدي، إذا وجدت نفسها عرضةً لنزوح دفعة تقدر بمئات الألوف، كما قد يمنح هجوم النظام على إدلب جبهة النصرة التي تفرض سيطرة كبيرة هناك تعاطفاً كبيراً، وتختلط بطاقات الحرب على الإرهاب بعضها ببعض. لذلك من الأرجح أن الهجوم على إدلب مؤجل حاليا، لكن القصف سيستمر بتواتر مختلف، يتوقف على سير المعارك في الجبهات الأخرى، خصوصاً بعد أن ضمن جيش النظام والروس أن جبهة النصرة والفصائل الموجودة في إدلب لن يكونوا قادرين على شن هجوم كبير ومؤثر.
التخبط الدبلوماسي، وارتفاع أسهم الأسد، ونجاحات الهجوم على تنظيم الدولة الإسلامية في المناطق الشرقية، جعلت إدلب هدفاً سهلاً، فالهجوم الجوي يظهر انفجاراتٍ كبيرة في مبانٍ ومنشآت تقول المؤتمرات الصحافية الروسية إنها مقرات عسكرية تخص جبهة النصرة، بما قد يجعل الإعلام يتجاهل الضحايا المدنيين، ويحول إدلب كانتونا مغلقا مسيّجا بالنار، يغدو مليونا إنسان بداخله رهائنَ أو محتجزين في انتظار تغير جديد، هذا المتغير من غير المضمون أن يخفف من حجم الألم الواقع على المدني المحتجز ضحيةً كبرى لجبهة متطرفة تحكمه من الداخل، وطيران عسكري ذي تقنية عالية وحقد دفين يترصده من السماء.
قبل فترة قصيرة كتب هنري كيسنجر مقالة تحت عنوان «فوضى ونظام في عالم متغير» اختصر فيها رؤيته للتطورات الإقليمية والدولية التي ستنشأ عنها، بحسب رأيه، حرب باردة تهدد استقرار العالم. ونعى وزير الخارجية الأميركية الأسبق النظام العالمي الذي أسسه الغرب عام 1648، مؤكداً انفراط عقده على أطراف الشرق الأوسط.
ويعتبر المؤرخون أن معاهدة «وستفاليا» التي أنهت حروب الثلاثين سنة في أوروبا، تمثل أهم محطات السلام في عالم ذلك الزمان. وأعطى كيسنجر مثلاً على ذلك فقدان السيادة لدى أربع دول حوّلتها الحروب إلى ميادين للنزاع، هي: سورية والعراق واليمن وليبيا. ثم تساءل بعد ذلك عن طبيعة الكيانات التي سترث إقليم تنظيم «داعش». واعترف بصعوبة الجواب لأن الكيانات البديلة أصبحت موضع خلاف بين روسيا ودول الناتو. كما ازدادت حدة المزاحمة بين الدول المنتصرة وفي طليعتها روسيا وإيران وتركيا. ووصف تركيا بأنها تعرضت في عهد رجب طيب أردوغان إلى تحوّل عميق، وانتقلت من دولة علمانية إلى قوة إسلامية أيديولوجية.
وقال إن هزيمة «داعش» ستشرّع الأبواب أمام تعاون وثيق بين روسيا والدول الغربية. وفي حال تعذّر هذا التعاون، فإن تعاظم الفوضى سيصل إلى حدود دول نائية مثل الصين والهند. أي الدول المرشّحة للدخول تدريجياً إلى جانب روسيا بحيث تملأ فراغ نفوذ الغرب الآفل. وهذا بالطبع، يرجّح كفة العودة إلى نمط الحرب الباردة.
ومع أن كيسنجر ساهم أثناء عهد ريتشارد نيكسون في رسم معالم الخريطة الحديثة لبعض المناطق الاستراتيجية في العالم، خصوصاً منطقة الشرق الأوسط، إلا أنه لم يتردد في الاعتراف بأن العالم الذي بناه الغرب عام 1648 قد تفكّك وتراجعت كياناته أمام هجمة الأيديولوجيات الإسلامية. على ضوء هذا التصوّر، فإن الحرب الباردة الذي حذّر كيسنجر من تداعياتها، وتخوّفَ من أن تنقلب إلى حرب ساخنة... هذه الحرب بدأت تتكون عناصرها في مواقع عدة، بدءاً من كوريا الشمالية، مروراً بكردستان، وانتهاء بإيران وإسرائيل.
الرئيس الأميركي دونالد ترامب خرج عن المألوف في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الـ72، وهدّد كوريا الشمالية بمواجهة اختبار لم تشهد مثله من قبل. جاء هذا التهديد بعدما أجرت كوريا الشمالية سادس تجاربها النووية، الأمر الذي أحدث زلزالاً نسبته الدول المجاورة إلى بيونغيانغ خصوصاً بعدما توعّد وزير خارجية كوريا الشمالية ري يونغ هو بأن الزعيم كيم جونغ أون يبحث اختبار قنبلة هيدروجينية على نطاق لم يسبق له مثيل في المحيط الهادئ.
ومنظمة الصحة العالمية طالبت مجلس الأمن بضرورة التدخّل لمنع إجراء التجارب النووية في المحيط الهادئ. وذكّرت أنه قبل توقيع اتفاقية الحظر عام 1996، شهد هذا المحيط أكثر من مئتي تجربة كان من نتائجها إصابة 430 ألف نسمة بالسرطان. وعليه، حذّرت المنظمة من الأخطار التي تهد سكان شبه الجزيرة الكورية. ويُستدلّ من الإجراءات الوقائية والأمنية التي تقوم بها اليابان أن الحكومة في طوكيو تتوقع ضربة مفاجئة من غير إنذار مسبق. والسبب أن زعيم كوريا الشمالية «كيم جونغ أون» أمر باختبار 22 صاروخاً باليستياً سقطت جميعها في بحر اليابان. وترى الحكومة اليابانية أن العمليات الصاروخية الاستفزازية ليست أكثر من حملة تخويف بغرض إجبار اليابان على فك تعاقدها مع واشنطن. أي التعاقد الذي يسمح للقوات الأميركية المرابطة في اليابان بحق الدفاع عن بلد مهزوم في الحرب العالمية الثانية.
ومن هنا تعتبر كوريا الشمالية أن اليابان وكوريا الجنوبية هما الدولتان اللتان منحتا الولايات المتحدة امتيازات استثنائية لنشر قواتها في شبه الجزيرة الكورية. لذلك يحرص الزعيم «كيم» على تهديدهما بالقنابل النووية المسماة «جوشي». وكان جده كيم إيل سونغ هو الذي أطلق هذا الشعار الذي يعني الاعتماد على الذات.
وفي تصور المراقبين، فإن بكين هي التي تقود هذه الحملة ضد اليابان التي احتلت منشوريا في الثلاثينات، ولأسباب ثأرية تبنّت كوريا الشمالية وأرسلت خبراء الذرّة الذين رفعوا من شأن بلد فقير ليصبح مساوياً للولايات المتحدة من حيث قوة الردع النووي. ولم يكن التزام الصين بالعقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة بالحد الجزئي من صادراتها النفطية إلى الدولة المشاغبة، سوى تمويه إعلامي لن يبدّل في دور الرعاية، ولا ينتقص من مسؤولية تأمين الحاجات الضرورية.
الموقع الثاني الذي يحمل بين طياته احتمال انفجار إقليمي هو كردستان.
وعلى رغم التحذيرات التي سبقت موعد الاستفتاء على استقلال الإقليم عن العراق، فإن مسعود بارزاني بقي مصراً على تنفيذ وعده، متسلّحاً بعدة أمثلة بينها استقلال جنوب السودان عبر استفتاء شعبي. عقب صدور النتيجة المتوقّعة، رفض رئيس وزراء العراق حيدر العبادي الاعتراف بشرعيتها. وهدّد برفض مبدأ التفاوض، معلناً عبر وسائل الإعلام عن نيته استرجاع المطارات والمعابر الحدودية.
وأمر رجب طيب أردوغان بإجراء مناورة اشتركت فيها فرق الدبابات والمشاة بهدف ممارسة ضغط عسكري على بارزاني، وخلق جبهة رفض داخل كردستان يمكن أن تمنع الانفصال.
كذلك منعت إيران شاحنات النفط من العبور، ووعدت بغداد بممارسة أقسى العقوبات في حال استمرت كردستان في تركيز دعائم الانفصال.
وترى مصادر الأمم المتحدة أن ردود فعل كل من العراق وتركيا وإيران وسورية مبنية على حسابات داخلية ليس لها أي علاقة بكردستان. وبحسب تقديرات المطلعين على أوضاع الأكراد في المنطقة، فإن نجاح هذه التجربة سيشجع كل الجاليات الكردية في الدول الأربع المتاخمة، على التمرُّد وطلب الاستقلال. ويكفي أن نذكر الجالية الكردية في تركيا يزيد عددها على 15 مليون نسمة، وأن أردوغان قد يضطر إلى تسديد صفعة عسكرية إلى كردستان، تنتهي بغزو الإقليم حفاظاً على الوحدة الوطنية. ولكن هذا الخيار قد يشجّع أكراد الدول الأربع على التمرُّد والعصيان!
الموقع الثالث المرشح في المستقبل لأن يكون جبهة حرب ساخنة يمتد من مرتفعات الجولان إلى سورية ولبنان. كل هذا من أجل منع وصول الأسلحة الإيرانية إلى «حزب الله».
وحدث قبل فترة قصيرة أن قصفت طائرات حربية إسرائيلية مستودعات أسلحة تابعة لـ «حزب الله» قرب مطار دمشق.
وسبق لإسرائيل أن قصفت في آخر نيسان (أبريل) الماضي مستودعاً تابعاً لـ «حزب الله» في المكان ذاته. كذلك زعمت تل أبيب أن طائراتها شنّت غارة على مصنع إيراني للصواريخ في الأراضي السورية غير بعيد عن الحدود مع لبنان.
وكانت الحكومة السورية قد اتهمت إسرائيل باستهداف موقع عسكري غرب البلاد، زعمت تقارير صحافية أن دمشق تطور فيه أسلحة كيماوية.
وفسّرت إسرائيل نشاطها المستباح بأنه يأتي في سياق سياسة تقوم على رفضها لأي مراعاة روسية للإيرانيين في منطقة تعتبرها حيوية بالنسبة لأمنها.
بكلام آخر، يرى المراقبون أن القصف الإسرائيلي ضد أهداف تابعة لـ «حزب الله» هو جزء من أمر واقع يسمح بالتحرك الإسرائيلي فوق منطقة سورية خالية من أي وجود إيراني.
والثابت من خلال كثافة الرقابة الإسرائيلية أن بنيامين نتانياهو قد اتفق مع فلاديمير بوتين على إخلاء منطقة جنوب سورية بعمق خمسين كيلومتراً من خط وقف إطلاق النار في الجولان المحتل منذ عام 1967.
من الواضح أن حرية التحرك الإسرائيلي- ولو في منطقة محدودة- تكشف عن عمق علاقة التنسيق القائمة بين روسيا ودولة اليهود في شأن الوضع الأمني. كما تشير أيضاً إلى وجود تفاهم بينهما على المستوى الرسمي. من هنا يرى بعض المراسلين في دمشق أن توقيت الغارات ودقة استهداف مخازن السلاح ينبئان عن وجود تنسيق مسبق مع موسكو.
ولكن، هل يعني ذلك التنسيق أن إسرائيل محصّنة ضد هجوم مفاجئ؟!
تقول مصادر مقرّبة من «حزب الله» أنه يملك ترسانة صواريخ يصل عددها إلى 120 ألف صاروخ من مختلف الأنواع، مخبأة داخل منازل مموّهة. وإن توقيت إطلاقها ينتظر ساعة الصفر... وإن استخدامها متوقف على قرار الرئيس دونالد ترامب، وما إذا كان التهديد بإلغاء الاتفاق النووي مع إيران هو أمر جدي... أم مناورة لتطمين صديقه نتانياهو؟
يتأكد كل يوم أن الأزمة السورية هي أحد أكثر أزمات العالم ما بعد الحرب العالمية الثانية تعقداً وصعوبة، نظراً إلى تعدد الأطراف المتداخلة دولياً وإقليمياً، وما يمثله هذا الصراع في مستقبل التوازن الدولي، ومن ثم فإن الاقتراب من حسم ناتج هذه الأزمة مازال مستعصياً، وتأتي التطورات المحيطة بكردستان والمسألة الكردية لتضيف فصلاً جديداً إلى هذا التعقد الفريد.
التطورات التي تشهدها سورية أخيراً معروفة، حيث تواصل قوات النظام السوري مدعومة بالقوات الروسية تقدمها في دير الزور، واتساع مساحة الأراضي التي يسيطر عليها الجيش السوري وفي شكل كان يعطي انطباعات لمعسكر مؤيدي النظام ولبعض المراقبين بأن هناك حسماً قريباً للمسألة السورية، وأن روسيا تواصل السيطرة على أوراق هذه المسألة، وحققت أخيراً خطوة أخرى في مسيرة طويلة لإجراءات بناء الثقة والتهدئة وفقاً لما حدث في جولة الآستانة الأخيرة، إلا أن أموراً أخرى سارت جنباً إلى جنب مع هذه التطورات وكانت تؤشر إلى ابتعاد فرص الحسم للطرف الروسي – الأسد وحلفائهم.
الأول هو الإستراتيجية الأميركية منذ بعض الوقت، بنشر مئات عدة من جنودها لإكساب الحصانة لقوات سورية الديموقراطية الكردية للتقدم في مناطق دير الزور لمحاصرة عناصر داعش وطردها، وبينما بدا المشهد وكأن روسيا والولايات المتحدة يستهدفان الإكمال على «داعش» في مناطق دير الزور والرقة، فإن الأكثر أهمية هو أنه بينما تتسع سيطرة دمشق على مناطق متزايدة من الأراضي السورية بالدعم الروسي فإن هناك تحركاً عكسياً من الجانب الكردي السوري للسيطرة على مناطق كردية سورية في شمال شرقي البلاد، كما أن هناك، وهو الأخطر، وجوداً عسكرياً أميركياً في الشأن السوري، وبكلفة زهيدة نسبياً لا تتعدى مئات من الجنود، تواجه فلول «داعش» المنهارة بدرجة كبيرة بفعل القصف الروسي المستمر، وبعد أن ثبت أن التنسيق الروسي – الأميركي محدود نسبياً، فقد وصلت الرسالة إلى الجانب الروسي والعالم، إن واشنطن ليست في حاجة لكلفة سياسية ومادية كبيرة للتدخل، فضلاً عن أن كلفة التدخل العسكري الكبير لا تحقق بالضرورة الانتصار الكامل، ولكن الردع الأميركي الروسي المتبادل قادر على إحداث توازن معقد، أو على الأقل ضمان دور في ساحات المعارك التي تدور بالوكالة، أو مباشرة بين الجانبين. وهذا الوجود الأميركي يمكن أن يكون له عائد في المشاركة في الترتيبات النهائية أولاً وفق المسألة الكردية، كما سنعرض بعد قليل.
أما التطور الثاني، فهو الاجتماع الذي عقد أخيراً بين أطراف غربية وعربية، وكرر مطالبه في شأن إزاحة الأسد، وربط هذه الإزاحة بالمشاركة في جهود إعادة إعمار سورية، ليصبح بالتالي أمام الراعي الروسي للترتيبات النهائية أحد طريقين: إما استيعاب هذه المطالب في التسوية النهائية، أو على الأقل البحث عن صيغة حل وسط بهذا الصدد، أو يرعى تسوية أمر واقع لا يملك كلفتها الاقتصادية، كما أنها ليست في إمكان الحليف الإيراني، وهنا تثور التساؤلات حول المدى الذي تستطيع به الصين الدخول إلى حلبة النفوذ السياسي الحقيقي والمكلف مادياً، خصوصاً بعد لقاء المبعوث الصيني الجديد لدى سورية مع نائب وزير الخارجية الروسي بوغدانوف أخيراً، وإثارته رغبة الصين في المشاركة في صيغة الآستانة، وهل تصبح سورية هي مدخل العملاق الاقتصادي الصيني إلى نادي النفوذ والتأثير السياسي والدولي؟ أمر قد يكون سابقاً لأوانه ولكن أظن أن احتمالاته عالية.
ثم يأتي التطور الثالث والمهم، والأكثر خطورة في مستقبل المشرق العربي، وهو مصير كردستان العراق، وإلى أين ستتجه هذه المسألة، والآن وقد تم إجراء الاستفتاء ضد إرادة الحكومة العراقية، والنظام الإقليمي العربي، وضد إرادة كل من تركيا وإيران، وادعاء دولي غربي بعدم تأييد هذه الخطوة، وكان التأييد الواضح طبعاً من جانب إسرائيل والمتوقع أيضاً، هنا يثور السؤال المعقد حول الدور الأميركي الذي يدّعي عدم ترحيبه بعقد الاستفتاء في وقت كان الداعم التاريخي للأكراد ودعاة الانفصال، وفي وقت يتحالف مع فصيل كردي سوري في عملية عسكرية مثيرة للتساؤلات في سورية، وأن يأتي كل هذا متزامناً لتتضاعف هذه التساؤلات، ولأنه من الواضح أن مسألة انفصال كردستان ستواجه بتعقيدات كثيرة، فإنه من المؤسف أن هذه التعقيدات والضغوط قد تؤدي إلى مزيد من احتمالات تكريس الانفصال، وقد تحدث مواجهات عسكرية لترسيم الحدود، ومراعاة مطالب وحاجات الحكومة العراقية، وقد تواصل أطراف إقليمية بخاصة تركيا محاصرة هذا الإقليم، وأياً كان مصير هذه التفاعلات التي أشرنا إليها في مقال سابق وقد نتناولها بمزيد من التحليل في ما بعد، فإن السؤال يظل مطروحاً بالنسبة إلى سورية المعقدة بما يكفي، وهو أي دلالات وانعكاسات ستؤثر في المشهد السوري المعقد بما يكفي مع تكريس سيطرة عسكرية كردية مدعومة بحصانة أميركية على بعض مناطق فيها أقلية كردية في سورية على خريطة التوازنات الجديدة في المنطقة. المعنى إذن أنه لا يمكن فصل المشهد الكردي العراقي عن نظيره السوري، وهذا ما يفسر تصاعد اتهامات قوات سورية الديموقراطية في الأيام الأخيرة ضد ما سموه تصعيداً روسياً ضد أهداف لها بما في ذلك قصف متعمد، وفي التقدير أنه مع احتمالات بدء ترتيبات جادة في الشأن الكردي أن روسيا ستعمد إلى انتهاز كل فرصة لا توجد فيها قوات أميركية لتقليص المساحات التي سيسيطر عليها الجانب الكردي السوري في هذه المعارك، ما يبقى في النهاية متضمناً قدراً كبيراً من الأخطار والاحتمالات التي تحتاج إلى ضبط أعصاب شديد من الجانبين الأميركي والروسي، خصوصاً أن تركيا قد تدعم روسيا في هذه العمليات الانتقائية مستقبلاً، ما لا يترك مرونة تكتيكية عسكرية أميركية كافية.
أما مقدرة واشنطن على مقايضة هذا الدور بمساحة أكبر في التسويات النهائية للأزمة السورية، فترتبط بمدى احتمالية انفصال كردستان، وأي أولوية ستعطيها واشنطن وهل يكون لها دور في الترتيبات السورية النهائية، أم لتمكين الأكراد من إقامة كيانهم السياسي المستقل عن كل من العراق وسورية كبداية. ولأن الشواهد تشير إلى توقع الكثير من التفاعلات في شأن كردستان العراق، فإن الموقف في سورية بصدد الرقة ودير الزور قد يصل إلى حالة من الجمود والكمون النسبي بعد استكمال محاصرة وطرد «داعش»، أو قد يتم التباطؤ من الجانبين في هذه المهمة، ويبقى التماس بين الجانبين الأميركي والروسي هادئاً لحين حسم كردستان العراق.
في النهاية تواصل روسيا لعب دور محترف بهدوء وصبر لافتين لجمع كثير من خيوط الأزمة والتحكم في الموقف في يدها، ولكنها لن تتمكن من فرض إرادتها كاملة وسيكون عليها إيجاد صيغة مقبولة إلى حد ما من الفاعلين الرئيسين العرب والدوليين، كما ستكون عليها رعاية رؤية متكاملة لقضية إعادة إعمار سورية واستكمال إعادة النازحين الذين بدأ بعضهم في العودة فعلاً وعليها هنا أن تلزم النظام السوري رعايتهم واحترامهم، ولأن هذه الشروط مازالت بعيدة يظل المشهد السوري غير جاهز بعد لتسوية نهائية وشاملة.
تناقش الدول الأربع التي يمتد عليها الوجود الكردي (تركيا وإيران والعراق وسورية) قضية انفصال شمال العراق («كردستان») من منظور تحريمي، أو مما تعتبره أمنها القومي، مؤكدة أن ذلك غير قابل للمناقشة والحوار. وهي- أي الدول الأربع- كانت أمضت عقوداً تتجاهل وجود «المسألة الكردية»، اعتقاداً منها بأن التجاهل قد يؤدي إلى النسيان، وأن انتهاج الحظر والعنف والقسر في مواجهتها لشعوبها يقمع أو يجهض طموح هذه الشعوب بالحرية. وبينما كانت المسألة الكردية، ولا زالت، عامل تفريق بين هذه الدول، فإن القاسم المشترك اليوم بينها هو توحيد الموقف في القضية نفسها، برفض استفتاء كردستان العراق، والتوافق على فرض عقوبات عليها، بين أطراف إقليمية تعيش حالة خصومة بل وحرب بالوكالة في ما بينها.
وبينما يوحّد التخوّف من إقامة كيان كردي ديموقراطي هذه الدول، يتم في الوقت ذاته تجاهل مطالب الشعوب (وضمنها الأكراد) التي تبدي بوضوح رغبتها في أن تبقى ضمن إطار الدولة الواحدة، (في سورية مثالاً) إذ تهيئ الأنظمة المستبدة لسيناريو النظام العراقي، على رغم أنها ترى نتائجه على أرض الواقع، ولا تحاول تدارك أسبابه، منعاً من تكرار السيناريو الذي يقود فعلياً الشعوب إلى التفكير بالانفصال، أو اللجوء إلى حلول شبه انفصالية، ولعل هذا ما يجب أن تفعله هذه الدول، في ما تبقى لها من خيارات متاحة مع شعوبها لإقامة نموذج الدولة الديموقراطية، على أساس المواطنة المتساوية، بدل أن تقود تلك الشعوب إلى خيارات المواجهة مع التقسيم والانفصال، في ظل انعدام الرؤيا والحكمة والتقدير لهذه الأنظمة، ومع الأسف أيضاً عند بعض معارضيها (وثيقة لندن أيلول/ سبتمبر 2016 التي تتحدث عن رؤية المعارضة لسوريا الجديدة، والتي تلاقت فيها الهيئة العليا للتفاوض مع النظام في تجاهل السعي لإقامة الدولة الديمقراطية لمواطنين أحرار متساوين).
لعل ما حدث في العراق يعطي الدول التي ترفض الاستفتاء درساً جديداً في حق المواطنين أفراداً ومجموعات، أو قوميات، ويجعل تفكيرنا في سوريا القادمة يختلف عن الأوراق المتناثرة التي ابتدعتها المعارضة في رؤيتها لسوريا ما بعد المرحلة الانتقالية، كما ينهي إلى الأبد سياسات النظام السوري الإقصائية والاستبدادية، التي مارسها لنحو خمسة عقود ماضية. فالنظام السوري الذي يقف اليوم معارضاً لاستقلال أكراد العراق، هو ذاته الذي طالما استخدمهم كورقة ضغط ضد نظام العراق، كما هو حال تركيا في استخدامها الأكراد ضد النظام العراقي، واستخدام إيران وسورية لأكراد تركيا ضد نظام الحكم في تركيا، ولكن في وقت الحسم الذي اختاره أكراد العراق، بعد طول انتظار، تناست هذه الأنظمة خدمات الأكراد، وتوظيفاتها الضيقة والسلطوية لهم، كاشفة عن حقيقة أن خلافاتها البينية يمكن تجاوزها لتحل مكانها توافقات المصلحة المشتركة في عرقلة المشروع أو الطموح الكردي.
ومن نافل القول أن الأنظمة العربية تحديداً التي تعلن رفض الاستفتاء (سورية والعراق) لم تستطع خلال عقود من استقلال دولها بناء مجتمعات المواطنة، التي تجعل كل المواطنين يشعرون بالانتماء المتساوي لهذه الأوطان وإزاء القانون والدولة، كما لم تبن لهم مصالح تربطهم بها، تجعل من الصعوبة لأي مكون أو فرد أن يذهب به الحال اليائس من أنظمته إلى البحث عن سبل للخلاص منها، تحت ظل الدولة الواحدة أو بالانفصال عنها. ومثلاً فقد كان للعراق فرصة النجاة، بكل العراق، من خلال ما اتفق عليه في الدستور الفيدرالي الذي اعتمد اللامركزية (2005)، لكن ارتهان ساسة العراق لإيران وخضوعه لهيمنة ميليشياتها المذهبية والمسلحة، والتراجع عن الاتفاقيات المبرمة مع الأكراد، أعطى المبرر، وسهل على الرئيس مسعود البرزاني في شمال العراق اللجوء إلى خيار المواجهة- الاستفتاء، آخذاً بيد مؤيديه على الأقل، إلى إحياء حلم ظنت الأنظمة أنه قد مات، بفعل القمع والتجاهل والتعصب وطمس حقوق المواطنة الكاملة للأفراد والقوميات، وقيادة شعبه نحو استفتاء هو أشبه بمغامرة، فالرجوع عنها يساوي الإقدام عليها.
في المقابل، فإن الحديث عن الاستقلال وكأنه نهاية المطاف لحلم الدولة بإقامتها، يشوبه عديد من المشكلات، إذا لم يرتبط بإقامة دولة مواطنين متساوين وأحرار، وبأنظمة ديموقراطية تخضع للمؤسسات والقانون، وإذا لم يعتمد النظر في مصالح حقيقية تربط كل مكونات المجتمع، أولاً - على أساس فردي وهو الأهم، لأن المواطنة هي التي تشكل البنية المجتمعية الأساسية. وثانياً- على أساس جمعي يأخذ في اعتباره حقوق المكونات الإثنية أو القومية أو الطائفية، في التعبير عن ذاتها. أي أنه من دون هذا الترتيب فإن هذه الدولة قد تكون إزاء مشكلات تؤجل ولا تموت، كحال ما هو قائم في بلداننا العربية ومنهم سورية. وعليه فإن ما ورد في «الوثيقة السياسية» لضمان حقوق المكونات القومية والدينية في كردستان، من تركيز على حقوق المكونات فقط، يجعل التخوّف مشروعاً، حيث الحديث يدور أساساً، أو في معظمه، عن ديموقراطية توافقية للجماعات، إذ سيكون ذلك محور الحياة السياسية، وكأن من صاغها استرشد باتفاق الطائف لانهاء الحرب الأهلية في لبنان، (الديموقراطية الطائفية)، وبذلك تتجاهل الوثيقة- إلى حد ما- والتي يفترض أنها تؤسس لدستور جديد لحقوق المواطنين الأفراد المستقلين عن الكيانات والانتماءات الجمعية، ما قد يكرس العصبيات والهويات الجمعية، قبل الوطنية، على حساب حقوق المواطنة الفردية.
ما يجب فــهمه من قبل الأنظمة وتحديداً النظامين السوري والإيراني أن ما حصل يوم الإثنين الماضي 25 أيلول ليس نهاية مرحلة، سيغلق بعدها ملف الأكراد في المنطقة، بل هو بداية لما يمكن تســميته مواجهة الواقع، لفتح الملف الذي لا يزال بعضهم يظنه قد أقفل إلى الأبد. وهذا يشـــمل ســورياً (النظام والمعارضة)، لهذا على الأطراف المعنية بسوريا المســـتقبل، ولا سيما أطراف المعارضة، أن تفكر بطريقة أخرى، لمعالجة المــسألة الكردية، بالضد من الســياسات الإقصائية التي اعتمدها النظام في مصادرته حقوق الأفراد والجماعات، وفي تجزئته الجماعة الوطنية السورية، ووضــعه مكـــوناتها في مواجهة بعضها، بدل العمل على إيجاد فرصة للنجاة بها كوحدة سورية، قبل التشدق بشعارات الوحدة مع الآخرين، وهذا لن ينجز إلا بإقامة دولة سورية كدولة مؤسسات وقانون ومواطنين متساوين وأحرار، وكدولة ديمقراطية «فيديرالية مثلاً» على غرار دول العالم المتحضرة، حيث الفدرالية على أساس جغرافي وليست على أساس اثني أو طائفي.
هكذا يمكننا القول بأن هذا هو الشرق الأوسط الجديد خاصتنا، وليس الذي كانت أعلنت عنه كوندليزا رايس الوزيرة السابقة لخارجية الولايات المتحدة الأميركية، منذ عام 2006، والأجدى أن نقول إن الأنظمة الاستبدادية هي التي تجعل من العرب عربين، ومن السيادة الوطنية مزارع حكم استبدادية، وبالتالي هي السبب الأساس في خلق «الفوضى الخلاقة» التي بشرت بها رايس ذات مرة.
لا يكاد يمر يومٌ إلاّ ويؤكد طرفٌ من الأطراف السياسية في لبنان، على ضرورة استعادة العلاقات المميزة مع دمشق وطهران! بيد أنّ الأبرز في الشهور الأخيرة في الإصرار على ذلك كان ولا يزال جبران باسيل صهر الرئيس ووزير الخارجية. وآخِر فصول هذا المسار التسريعي كان ما بدأ به رئيس الجمهورية بنيويورك، وأكمله وزاد عليه جبران باسيل باجتماعه بناءً على طلبه مع وزير الخارجية السوري وليد المعلم، ومندوب النظام السوري في الأمم المتحدة بشار الجعفري. ثم حديثه إلى ممثلي الجالية اللبنانية في الولايات المتحدة عن اللاجئين السوريين والإرهاب وضرورة إعادتهم طوعاً أو كرهاً إلى بلادهم.
تتابعت الحلقات الأخيرة من الفيلم القديم عندما تحدث الرئيس الأميركي عن اللاجئين السوريين، فشكر تركيا والأردن ولبنان على استقبالهم، وذكر الإسهام الأميركي في المساعدة، ودعا إلى مراعاة الشروط الإنسانية؛ تمهيداً لإعادتهم إلى بلادهم بسرعة عندما تتحسن الظروف الأمنية والسياسية. من هذا الكلام فهم النصراويون والعونيون أنّ المقصود: التوطين! توطين اللاجئين في لبنان. فحمل الرئيس وحمل صهره حملات هوجاء على اللاجئين، وازدادت وسائل إعلام النصراويين تركيزاً على التوطين وشجبه، إلى حدّ أنّ رئيس الحكومة تأثر بذلك وقال إنّ التوطين ممنوع بحكم الدستور، وأنه لا أحد يستطيع إرغام لبنان على ذلك! بيد أنّ اتضاح الكلام الأميركي خلال يومين، ما خفّف من الحملة. وبرزت للعلاقات مع النظام السوري فضائل لا تُعدُّ ولا تُحصى: إعادة اللاجئين، والعلاقات التجارية، وترسيم الحدود، وتقاسم المياه، والحقول البحرية للنفط... الخ. وفيما عدا ملف اللاجئين؛ فإنّ كلَّ هذه الملفات قديم، ويعود بعضها إلى تسعينات القرن الماضي. وما أمكن في أي تفاوض، لا قبل العام 2005 ولا بعده، إقناع النظام السوري بأي شيء، حتى في الشاحنات التي تنقل السِلَع الزراعية والتجارية فيما بين لبنان والخليج عبر سوريا والأردن. بل إنه في ملفٍ حيوي جداً في أهمية ملف مزارع شبعا وتلال كفرشوبا بجنوب لبنان، التي لا يزال الصهاينة يحتلونها؛ كانت الدول الكبرى مستعدة للمساعدة في مجلس الأمن على إجلاء الإسرائيليين عنها، إذا كتب النظام السوري رسالة إلى الأُمم المتحدة أنّ هذه الأراضي تابعة للبنان. فالسكان ومالكو المزارع لبنانيون، لكنّ التبعية لا تزال سورية منذ زمن الاستقلال! لكنّ السوريين أبوا، كجزء من التنسيق مع الحزب والإيرانيين. فعندما لا تعود هناك أراضٍ محتلة، لا تعود هناك حاجة إلى ميليشيا المقاومة، التي ومنذ العام 2006 تقاتل في كل مكان، ومن سوريا إلى اليمن، باستثناء جنوب لبنان! ومع ذلك، وحتى بعد الفضيحة في سوريا وغيرها، لا يزال النصراويون - ومعهم رئيس الجمهورية الحالي - يرون ضرورة وجود هذه الميليشيا في مواجهة إسرائيل! ويزعم رئيس الجمهورية الحالي من دون تردد وفي كل مناسبة: أنّ الجيش اللبناني ومعه القوات الدولية غير كافيين للدفاع عن أمن الحدود، ولا بد من إضافة قوة الميليشيا هذه إلى قوة الجيش الذي قال الرئيس إنه لا يزال ضعيفاً!
وهكذا، فإنّ العمل في خدمة إيران في السيطرة على لبنان لا يقتصر على الابتزاز بملف اللاجئين؛ بل هناك من جانب آخر زعزعة القرارات الدولية لحفظ أمن لبنان وأمن حدوده، وأبرزها القرار 1701 من العام 2006. وهناك، إلى ذلك، القرار 1559 بشأن منع وجود الجيوش الأجنبية والميليشيات على أرض لبنان، والقرار1680 والقرار 1757؛ وكلها قراراتٌ أُنجزت بعمل عربي ودولي من جانب أصدقاء لبنان لحمايته من العدوان الإسرائيلي، وإخلائه من الميليشيات المسلحة المخلة بالأمن والمخلة بالعدالة والحياة السياسية الحرة. والرئيس عون يخلّ بكل ذلك، بل ويذهب إلى أن النأي بالنفس متحقق، وملف «حزب الله» إقليمي، وحلُّه ليس من شأن لبنان!
لقد اتهم جبران باسيل و«عمه» في السنوات العشر الأخيرة بإثارة موجة كراهية ضد المسلمين في لبنان. واتهما أيضاً بالعمل ضمن «تحالف الأقليات» الذي يرى أنّ الخطر الأكبر عليهم هم السنة، وأنّ الأقليات المسيحية وغير المسيحية لا حامي لها غير إيران بالمنطقة. وما خفّت الحملة (رغم أملنا الوهمي) بعد أن رشّح الحريري عوناً للرئاسة. فقد ظلت النبرة عالية في فصل المسلمين عن المسيحيين في قانون الانتخاب، وظلَّ العونيون يأخذون مناصب السنّة في الدولة والإدارة. وصار اللاجئون السوريون باعتبارهم مسلمين سنة «مكْسَرَ عصا» وخطراً أمنياً وإرهاباً. وكان «حزب الله» شديد الترحيب طوال السنوات الماضية بالدعاية العونية، باعتبارها تساعده ضد السنّة من جهة، وتتيح له الاستيلاء أو المزيد من الاستيلاء على القسم المسيحي في الجيش، وعلى المطار والمرفأ والجمارك... إلخ. ولذلك؛ وفي نطاق التحالُف الذي بينهما منذ العام 2007 ما سمحوا بانتخاب رئيس غير عون، حتى لو كان نصيرهم الآخر الأقدم، ونصير الأسد: سليمان فرنجية! ووزراء عون وفرنجية وأمل والحزب بالأمس واليوم ذاهبون آيبون إلى سوريا ويعملون مع رئيس مخابرات النظام، وبالتأكيد لا أحد منهم يأتي على ذكر اللاجئين!
لقد كان يمكن السكوت أو التعقل أو التشاور العلني في «فوائد» التواصل وتقديم اعتراف مستجد بالنظام، لو كان في ذلك أدنى فائدة! هناك بالطبع الاعتبارات الأخلاقية. ففي سوريا وعلى أيدي النظام والميليشيات الإيرانية والمتأيرنة والروس سقط نحو المليون قتيل، و12 مليون مهجّر، وأكثر من مليون معتقل. لكن هناك الاعتبارات السياسية، فالجامعة العربية علقت عضوية النظام السوري منذ العام 2012، والمفوضيات الدولية تحاول تحويل النظام إلى المحكمة الجنائية الدولية بسبب جرائم الحرب التي ارتكبها. والجميع - باستثناء الروس والإيرانيين - لا يريدون التعامل مع النظام السوري إلا بعد إنفاذ القرار 2254 بشأن الانتقال السياسي. ثم إنّه لا أمل على الإطلاق في إمكان عودة اللاجئين بالتفاوض ما دام النظام ما دخل في الحل السياسي بعد.
فلماذا إذن هذا الإلحاح وهذه الاستماتة وهذه اللهجة العنصرية ضد المسلمين وهم حلفاء باسيل في الحكومة الحالية رسمياً - وكلُّ ذلك بحجة تطبيع العلاقات مع النظام من أجل إعادة اللاجئين، والفوائد الأُخرى؟
لهذا الإلحاح علتان: إظهار الولاء للحزب وإيران ومحورها باعتباره انتصر، وسيكون جنة للأقليات، وبخاصة أن المتداول في بعض الأوساط الشعبية المسيحية والشيعية أن السنّة رغم كثرتهم هم إلى زوال، وستحلُّ محلَّهم إيران وميليشياتها!
أما العلة الأخرى، فهي الانتخابات النيابية. فهذه الانتخابات تجري من دون عنوان سياسي، بل الحديث عن انتزاع المناصب والأموال والتقاسُم، ومن الطرف الأقدر على ذلك. ولذلك؛ يرى باسيل واستراتيجيوه أنّ ملفّ اللاجئين، ومن ورائه المحور الإيراني المعادي للعرب وللمسلمين السنة؛ يمكن بشكلٍ من الأشكال أن يمثّل عنواناً شبه سياسي للحرب الانتخابية المقبلة.
لا بد من مواجهة باسيل وأتباعه، والحزب وميليشياته؛ إبقاءً على الدولة والدستور. لقد افتتح الوزير نهاد المشنوق هذه المواجهة ولا بد من متابعتها بحركة سياسية دؤوبة ومراكمة. وكنت أردد: يا للعرب، وأنا أُضيف اليوم: ويا للبنانيين!
رغم آلة الحرب والدمار الذي طال كل شيء، الحجر والبشر، نفوس ضعيفة تشوه الحياة في قلوب من بقي على قيد الأمل، في قلوب أشخاص عانت الكثير إزاء قصف همجي؛ سلب من المنطقة كل ما يوحي بالحياة، ليحوّلها إلى مدينةٍ منكوبةٍ، لا يوجد فيها سوى مشاهد الدمار المؤلمة ورائحة الموت التي تملأ المكان.
الحالة الإنسانية الصعبة التي يعيشها أهالي جسر الشغور لم تتوقف على قصف النظام وطائرات حليفته روسيا فقط. بل وسرقة الأمل من الإنسان الفقير. قام أصحاب النفوس الضعيفة باستغلال نزوح أهالي المدينة؛ فسرقوا منها أمل الفقير الضعيف بالحصول على أبسط حقوقه في الحياة، فقد تعرّض مركز نماء التطوعي في مدينة جسر الشغور لحالة نهب يوم السبت 30 أيلول 2017، حيث قام بعض الأشخاص بسرقة مركز لحليب الأطفال مستغلين الحالة التي تشهدها المنطقة.
الأستاذ "عبد الحميد خلف" قائد فريق نماء التطوعي قال عن حالة السرقة التي تعرض لها المركز: "بسبب الأوضاع التي تعرضت لها مدينة جسر الشغور غادر ما يقارب 90% من أهالي المدينة إلى المناطق المحيطة بمدينة الجسر بعيداً عن قصف طائرات النظام، ليأتي أصحاب النفوس الضعيفة ويستغلوا فرصة خروج الناس فقاموا بسرقة مركز توزيع الحليب في المدينة الذي يخدم ما يقارب 700-800 طفل، أغلبهم من الأطفال الأيتام وأبناء الشهداء والمعتقلين، وهي الفئة الأساسية التي يخدمها المركز؛ حيث يتمّ توزيع كميات الحليب بشكل يومي ضمن أرقام وبطاقات محددة، ولايتمّ تخزين هذه الكميات في المستودع".
لم تكن هي المرة الأولى التي يستغلّ بها أصحاب النفوس الضعيفة فرصة القصف الهمجي على المدينة، ليسرقوا مابقي من فتات الحياة والأمل في عيون الآخرين.
يتابع "الخلف" قائلاً: "عند وصول المسؤول اللوجستي إلى المركز وجد أن الباب معرض لعملية كسر، وسرقة كمية الحليب الموجودة في المركز التي وصلت إليه قبل حملة القصف وتعادل 1500 علبة حليب، وهي تغطي حاجات 700 طفل وطفلة دون عمر السنة من نوع "رينو لاك1 و2"، حيث يعطى الرقم 1 لعمر الأطفال ما دون 6 أشهر ورقم 2 لسن الأطفال من 6-12 شهر، كما تمّ إفراغ محتويات المركز من بطاريات وأوراق وبطاقات للأطفال والبعض منها ممزق وتمّ رميه في الأرض، فعلاً إنه عمل إجرامي بحق الإنسانية".
المأساة التي يعانيها الأطفال في زمن الحرب لم تقتصر على خوف من القصف أو فقد للأحبة، فهناك الفقر والجوع الذي لا يعرف أي نوع من الشفقة والرحمة، فأثناء الفترة الأخيرة انخفض الدعم المقدم لهؤلاء الأطفال الأيتام الذين لا معيل لهم في الحياة، في بلد أصبح فيه تأمين مستلزمات الحياة من الصعوبات الكبيرة فكيف وإن كان رب الأسرة غير موجود.
ليبقى التساؤل ألا يكفي ظلم الحرب؟، ألم يعد هناك إنسانية في قلوب البعض!، أي إجرام وحقد قد نال منك سوريا.. صبراً جميلاً وبالله المستعان ...
على رغم أنني لم أهتم طيلة حياتي بالسياسة ولم أتعاطف مع أية جماعة معارضة، لا أعرف لم اعتبرت نفسي أحد المعنيين بعبارة «لا عودة لهم الى الوطن» التي صارت تتكرر على لسان غير مسؤول سوري في نشوة «انتصاراته»، متوعداً ومقرراً مصير ملايين اللاجئين الهاربين من جحيم الفتك والخراب، مثلما قرر بعنفه وتنكيله مصيرهم كمشردين في بقاع الأرض. ربما يكون السبب شعوري بأني مدان سلطوياً على مغادرة البلاد قبل أن يكتمل حصار مدينتي وتتلقى نصيبها من القصف والتدمير، وربما لأن ذاكرتي استحضرت من الماضي قصصاً وحكايات عن قهر وإذلال طاول أناساً عاديين لمجرد أنهم امتعضوا أو لم يظهروا تأييداً صريحاً لسياسات النظام وممارساته، فكيف الحال وقد وصل الاستقطاب بعد سنوات من صراع دام وحاقد إلى الحد الأقصى؟ ما يعني أن «حفلات السؤال والجواب» لدى الفروع الأمنية ستكون مفتوحة على أسوأ الاحتمالات، ما أن تطأ قدماي أرض الوطن.
حنيني إلى الوطن لا يزال يصطدم بالسؤال المحذر لجارتنا الوفية حين استشعرت رغبة زوجتي في العودة: إلى أين تعودين، هل مسك الجنون؟! قبل أن تبدي أسفها لإخبارنا بأنهم استولوا على بيتنا، وأن أحد ضباط الحاجز القريب حضر مع عناصره ليلاً واقتحم المنزل، وأنه زجرهم عندما سألوه عن السبب، قبل أن يجيب بحدة، أنه إجراء موقت، واعداً بما يشبه التهديد بتسوية الأمر مع صاحب البيت متى يعود... والأنكى حين أضافت أن هذا التصرف لا يتعلق بمنزلنا فقط بل بغالبية المنازل التي هجرها أصحابها أو نزحوا عنها لحماية أنفسهم من طيش المعارك المحتدمة، وأنه ليس ثمة ما يضمن، بمجرد عودتهم، استرداد بيوتهم، ومثالها جارنا الطبيب الذي عاد وطالب بمنزله، ولجأ الى ما تيسر له من المؤسسات والمراجع، ولكنه لم يصل إلى نتيجة سوى تهديد صريح من الساكن الجديد بأنه لن يفقد بيته فقط إن استمر في مطالبته وإنما حياته وحياة أولاده أيضاً، مجبراً إياه، كي يشرع مصادرة البيت، على توقيع عقد إيجار لعشر سنوات لقاء مبلغ زهيد.
والحال، لا يخفى على أحد أن الاستيلاء على كل ما يقع تحت اليد من بيوت وممتلكات بات عرفاً سائداً عند أصحاب «الانتصار الكبير» بينما ينتظر الويل والثبور وعظائم الأمور كل من يحاول استرداد حقه ويتجرأ على المطالبة بأملاكه، وخاصة في المناطق التي شهدت حصارات طويلة، والأخطر حين تكون ثمة نيات مبيتة لجماعات مذهبية معينة للاستيلاء على أحياء وبلدات تهمها دينياً وأمنياً، لنشهد مخططاً بات يعرف بالتغيير الديموغرافي يجري على قدم وساق، لخلق تجانس سكاني من النمط المذهبي ذاته يعتمد عليه لتعزيز السيطرة.
وما شغل تفكيري أكثر تلك الأخبار التي وصلت عن أحوال أبناء الأقليات التي هادنت أو ساندت سياسات السلطة خوفاً من سيطرة الإسلاميين المتشددين على مقاليد الحكم، وفحواها أن النظام وأعوانه لا يضيعون فرصة «لتمنينها» عن دورهم في حمايتها وتخليصها من براثن التطرف الجهادي، وتالياً لامتصاص عافيتها ولابتزازها بأموالها وممتلكاتها وكرامتها.
وزاد الطين بلة الجدل الصاخب حول إقرار المناهج التعليمية الجديدة، وتلك المطالبات التي تصر على شطب أسماء كل المبدعين السوريين المهاجرين أو المعارضين منها، من رواة وشعراء ومسرحيين وفنانين، بما في ذلك منع إدراج أية معلومة من إبداعاتهم، وحتى تخوين كل مدرس يقوم بذلك، ما أثار السؤال عن حقيقة التحصيل العلمي والمعرفي الذي ينتظر أطفالي حين تُحشى أدمغتهم بمنظومة فكرية متجانسة يسعى النظام الى تكريسها، وحين يحرمون من الاطلاع على إنتاج شخصيات إبداعية أنجبها وطنهم وتغّيبت، ليس لشيء، سوى لأن حسها الإنساني المرهف حضها على إعلان موقف رافض للعنف والتدمير ويدعو لاحترام حيوات البشر وحقوقهم.
ومن الأفكار التي تراودني يبقى الهاجس الأكبر هو مستقبل البلاد التي سأعود إليها، فإذا كان حافز الثورة هو تردي الوضعين الاقتصادي والمعيشي، فالوضع اليوم أكثر سوءاً وتردياً بكثير، وإن كان رداً على واقع قائم على القهر والقمع والتميز والفساد، فإن الراهن بعد مقتل مئات آلاف البشر واعتقال وتغييب مثلهم وتشريد ملايين السوريين، هو أكثر حدة، بل ازداد سفوراً مع توهم النظام بأنه قد انتصر، ومع بنية سلطوية لن تستطيع أن تحكم بعد ما ارتكبته إلا بتشديد القهر والإرهاب وهدر حقوق البشر، ما يعني أن الأسباب التي أدّت إلى اندلاع الثورة لا تزال قائمة إن لم نقل إنّها تفاقمت أكثر، وأن فترة الهدوء الراهنة لن تدوم بل يرجح أن تشهد البلاد، في وقت ليس بعيد، صوراً من الرفض والتمرد أكثر وضوحاً وجدوى.
قبضة أمنية أكثر شراسةً وقسوة... تعزيز السيطرة المتخلفة الطائفية والمذهبية على مفاصل الدولة والحياة... استمرار تدهور الأوضاع الخدمية والصحية وغلاء فاحش يترك غالبية الناس في حالة عوز شديد أو شبه جياع...، هي عناوين ما ينتظر بلاداً غارقة في أزمات اقتصادية وإنسانية عميقة وتتنازعها قوى خارجية عديدة يزيد صراعها على النفوذ من تهتك البنية الوطنية، ما يكرس الانقسامات المجتمعية والمذهبية ويسعر اندفاع الشباب المتضرر والناقم نحو العصبية والتطرف.
وإذ تطمئنني، بعد سنوات الفتك والتنكيل، حقيقة أن سورية لن تعود إلى ما كانت عليه قبل آذار (مارس) 2011، وأن منطق التسلط والقهر بات مرذولاً عند غالبية السوريين، وأن إيمانهم بحقوقهم بات أوضح، فما يقلقني أن النظام الذي يتوهم الانتصار صار أبعد من الحلول السياسية وأشد تمسكاً بخيار العنف والغلبة، وأن ثمة مرحلة سوداء ستشهدها البلاد يحاول فيها أصحاب ذاك الانتصار المزعوم تأديب الشعب السوري الذي تجرأ وثار، كما استباحة كل شيء لتكريس سلطتهم وامتيازاتهم.
يحدث في سوريا الآن ما بدا للجميع قبل عامين ونيف أنه مستحيل. لم يكن متصوراً أن يستمر نظام الرئيس بشار الأسد، ويُعاد تأهيله دولياً وإقليمياً. أركان هذا النظام أنفسهم لم يتصوروا ذلك. كان أقصى طموحهم الاحتفاظ بمساحة صغيرة لا تتجاوز ثلث الأراضي السورية على الأكثر أُطلق عليها «سوريا المفيدة».
ولذا يبدو التغير الجوهري الذي حدث خلال نحو عامين أشبه بمعجزة. وتعبير المعجزة يُستخدم في الحالات التي يتحقق فيها ما كان يبدو مستحيلاً. وربما يصح استخدامه في الحالة التي نتناولها من زاوية أن مختلف مراكز التفكير وأجهزة المعلومات في العالم، إما توقعت سقوط نظام الأسد، أو رأته مُرجحاً على بقائه. لكنها راجعت تقييمها بشأن مستقبل سوريا، بعد التدخل العسكري الروسي وحسم واشنطن موقفها باتجاه التركيز في مواجهة الإرهاب.
غير أن تعبير المعجزة هنا يظل مجازياً، لأنه يرتبط بعوامل غير منظورة أو ليست معروفة. لكن بقاء نظام الأسد يعود إلى أسباب محددَّة ومعروفة مكَّنته من الصمود بعد أن فقد سيطرته على أكثر من ثلثي الأراضي السورية، وأتاحت له التحول من الدفاع إلى الهجوم، وإعادة ترتيب أوراقه على المستوى الدولي، وأدت إلى تغيير صريح أو ضمني في مواقف الدول التي أيدت مطلب إنهائه، إذ باتت الآن تقبل استمراره، إما في مرحلة انتقالية لم يتم الاتفاق عليها بعد، أو فيما بعدها أيضاً، بعد أن نجح في استغلال تصاعد الإرهاب وأعاد تقديم نفسه كشريك في الحرب عليه.
غير أن وضوح العوامل التي أدت إلى استمرار نظام الأسد لم يمنع خلط أوراق عدة في الجدل الدائر حول هذا الموضوع. فكثيرة مجادلات بعض أنصار المعارضة السورية عن خيباتها وإخفاقاتها، واتهامات هذه المعارضة لأطراف دولية وإقليمية ترى أنها خيَّبت آمالها، أو تخلت عنها، أو حتى خانتها. وكثيرة أيضاً الأوراق التي تُخلط في الجدل حول أدوار القوى الدولية والإقليمية التي ساندت نظام الأسد، فإيران تنسب لنفسها الفضل في بقاء نظام الأسد، في لحظة تسعى فيها إلى مراكمة ما تعده انتصارات تاريخية رغم أن أكثرها من نوع يحمل في طياته بذور انتكاسات لأسباب في مقدمتها هول التكلفة.
ومن هنا أهمية العمل على فرز الأوراق التي تُخلط في سياق الجدل حول بقاء نظام الأسد، وتدقيق العوامل التي ساهمت في استمراره، وأوزانها النسبية. ومهما قيل عن مساندة إيران والميليشيات التابعة لها التي لا يقل عددها عن الخمسين، والتدخل العسكري الروسي الذي قلب موازين القوى، لم يكن ممكناً أن يتغير المشهد جذرياً في سوريا من دون تصاعد الإرهاب إلى مستوى غير مسبوق جعله في صدارة أولويات القوى الدولية والإقليمية.
وليتنا نتأمل هنا السياق الذي تحول فيه تردد الإدارة الأميركية السابقة تجاه الأزمة السورية إلى قرار بعدم الانخراط فيها والاكتفاء بإدارتها، وتجميد الموقف الذي تبنته في بدايتها ضد نظام الأسد ليبقى شعاراً معلَّقاً في الهواء.
كانت التجربة المرة في العراق، خاصة على صعيد تصاعد الإرهاب وتوسعه عقب إسقاط صدام حسين، وراء تردد إدارة أوباما. وكان تصاعد الإرهاب، وتوسع تنظيم «داعش»، واحتلاله مساحات واسعة في سوريا والعراق منتصف 2014، وراء حسم هذا التردد باتجاه عدم الانغماس في الحرب السورية، وإعطاء أولوية مطلقة للحرب على الإرهاب منذ تأسيس التحالف الدولي في سبتمبر من ذلك العام.
وهذا هو نفسه السياق الذي جعل طريق روسيا إلى التدخل العسكري في سوريا في سبتمبر 2015 ممهَّدة تماماً. كان كافياً إعلان أن هذا التدخل يرمي إلى محاربة الإرهاب لإضفاء شرعية دولية ضمنية عليه، وخاصة في ظل عدم ممانعة واشنطن.
وإذا كان التدخل العسكري الروسي هو العامل الحاسم الذي غير ميزان القوى لمصلحة نظام الأسد، فما كان لهذا التدخل أن يحدث بسهولة إلا لتصاعد الإرهاب والتوافق الدولي الواسع على أولوية مواجهته. لم يكن سهلاً أن تتدخل روسيا عسكرياً بدون هذا التوافق على مواجهة الإرهاب. ولم يكن متصوراً أن يحظى تدخلها العسكري بقبول دولي واسع، رغم أنه فاقم المأساة الإنسانية في سوريا، وشجع أجهزة نظام الأسد وميليشيات تابعة لإيران على ارتكاب جرائم فادحة، في غياب إرهاب متوحش يدفع إلى التغاضي عن أي شيء في سبيل محاربته والقضاء عليه.
لقد تعددت العوامل التي حققت ما كان يدخل ضمن المعجزات، ولكن تصاعد الإرهاب هو العامل الرئيس الذي يتصدرها.
للمرة السابعة، يحتفل النظام الأسدي بانتصاره على شعب"ه"، على الرغم من أنه كان قد شطبه من دفتر الوطن، وسحب جنسيته وأعطاها لمن يدافعون عنه من مرتزقةٍ أغراب، استجلبهم من كل حدب وصوب، لقتل مواطنيه الذين أقسم رئيسه على حمايتهم.
يحتفل النظام بانتصار لا يد له فيه، قاتلت من دون أن تحرزه حثالاتٌ تشبه شبيحته وجيشه، قدمت لإنقاذ من صار منسقها، غاصب الدولة والمجتمع بشار الأسد، الذي أوهم نفسه سبع مرات أنه انتصر، لاعتقاده أن الثورة ترتبط بالجغرافيا، وليست بإيمان المواطن السوري بحقه في أن يكون حراً كإنسان ينعم بالعدالة والمساواة. توهم الأسد أن احتلاله قرية هنا وبلدة هناك يأكل شرعية الثورة، وحق السوريين في الحرية والخروج على ظلمه، ويبطل مطالبتهم المشروعة بأوضاع طبيعية، يشاركون في صنعها. ونسي أن نظماً كثيرة هزمتها ثوراتٌ لم تحتل شبراً واحداً من وطنها.
بعد أن فقد النظام شرعيته، بسبب فشله المزمن في تحقيق أي من الوعود التي سوّغ انقلاباته وصراعات أجنحته، وإخراج الشعب من السياسة بواسطتها، وفقد معها قبول السوريين الطوعي به، وسيادته على شعب سورية ومجتمعها، لم يجد وسيلة تبقيه في الحكم غير وضع نفسه تحت تصرّف مرتزقة سيدهم على مناطق من جغرافيا كانت له بكاملها إلى ما قبل سنوات، بعد أن اعتبرهم شعباً بديلاً لشعبها الأصلي الذي نزع جنسيته، ومنحها لهم، لأنهم في نظره "مجتمع متجانس"، "مجتمع الطبقة الواحدة" الذي كان أبوه يتغنى به وينشده ويكرّس حياته لإقامته، في بحثه القلق عن شعبٍ بديل، يحصّن به نظامه ضد ثورةٍ يقوم بها شعب سورية، رآها آتيةً لا محالة، خطط لتحويلها إلى اقتتال بين المواطنين، أداته السلطوية "مجتمع الطائفة الواحدة" الذي ضم، منذ ذلك التاريخ، كل عدو للحرية داخل وطنهم وخارجه، وهل هناك من هو أشد عداوة لشعبٍ، يطالب بالحرية والمساواة من مرتزقة طائفيين، استجلبوا من أكثر مناطق العالم الإسلامي، جهلاً وتأخراً، ومن شبيحته المحليين الذين صهرتهم جرائمهم في ما سماه زعيمهم بشار "المجتمع المتجانس"، "مجتمع الطائفة الواحدة" العابرة للجنسيات، بما تضمّه من قتلةٍ أرسلت أغلبيتهم الساحقة إلى سورية من بلدانٍ يقتلها الاستبداد والجوع، سلحتهم ودربتهم ومولتهم "الجمهورية الإسلامية".
بعد أربعين عاما من إفساد الشعب السوري وقمعه قبل الثورة، ومن حربٍ دولية منظمة عرّضته لأشنع أنواع القتل والتجويع والاعتقال والتعذيب والقصف والتدمير بعدها، أعلنت الأسدية إلغاء وجوده، وها هو شبيحٌ برتبة عميد في مليشيا الحرس الجمهوري الطائفية الصرف "ينصح"، بعد أن استعرض عشرات الجثث المرمية أرضاً، وجثثا معلقة فقدت نصفها الأسفل، عشرة ملايين سورية وسوري بعدم العودة إلى سورية، لأنها لم تعد وطنهم، تاركاً صور الجثث المقطعة تعلمهم بمصير من سيعود منهم.
ألغى الأسد الشعب، فألغى شبيحته وطن هذا الشعب. وكان قد أخبر صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية، قبل الثورة بأسبوعين، إن نظامه حصين، بفضل التطابق التام بينه وبين الشعب، واتفاق سياساته مع ما يريده السوريون. واليوم، يقف هو نفسه ليعلن، في حمأة انتصاراته، استبداله بشعب آخر، استجلبه لإبادته، ولو كان منتصراً حقاً لكانت أعادته إلى وطنه أول أفعاله، ليس فقط لأنه لا يتوقف عن الادعاء بأنه موالٍ له، وإنما كذلك لأن جنسية شعبٍ هي حقه الطبيعي وليست منحةً منه يستطيع إلغاءها، هذا إذا تذكّر أيضاً أن مصدر سلطته هو الشعب الذي ليس مصدره هو أو غيره.
لماذا يخاف شبيح الحرس عودة السوريين؟. ثمة تفسير تؤكده الوقائع، وهو أن نظامه يخشى أن لا يكون العائدون مهزومين، وأن يواصلوا ما بدأوه من ثورة، وهم الذين صمدوا نيفاً وسبعة أعوام في وجه آلة الحرب الإيرانية / الروسية، وهشّموا نظامه، وأوصلوه مرتين إلى حافة السقوط، بشهادة حسن نصر الله وبوتين، ولن ينقذه، في النهاية، أحد من رغبتهم في الحرية وتمسكهم بتحقيقها، طال الزمن أو قصر.
بإعلانه وكلام شبيح "الحرس الجمهوري"، يكشف الأسد الحقيقة، وهي أن سلطته ستبقى مهدّدة، ما لم يتخلص من شعب "ه" الذي لم يعد لديه أي خيار آخر سوى استعادة وطنه، بالقضاء عليه وعلى شعب المرتزقة الذي يحتمي به.. وفي النهاية: يمكن للأسد اصطناع شعبٍ من العبيد، لكنه لن ينجح إطلاقاً في تركيع شعب من الأحرار!.
خلّفت الحرب في سوريا أوجاعاً وأسقاماً في نفوس السوريين، فباتت مشاهد الموت اعتيادية، وقصة حرمان الأطفال في ربيع العمر من ارتياد المدارس أمر بسيط في مقابل الحفاظ على حياتهم.
لم تعلما "نور" وأختها " كندا" أنّهما لن تتلقيا التعليم بعد أن بدأ العام الدّراسي الجديد أيامه الأولى، وأنّهما لن ترتديا الثياب الجديدة، والحقيبة المدرسية التي دفع ثمنها من مجموع النقود الموفرة، بعد أن حصلتا على خرجية العيد من المقربين من الأخوال والأعمام.
لكن المشاهد الأكثر قساوة أولئك الأطفال الذين قُطفت براءتهم بين الركام لتكون حصيلة الشهداء المبدئية بهم، ما دفع المعنيين في المناطق المحررة مدينة "إدلب" لتعليق المدارس لأيام متوالية؛ خوفاً من استهداف الطيران لأماكن التجمعات وأهمها: مدارس الأطفال التي سبقت وطالتها أيادي الغدر بمجازر عدّة، تندى لها جبين البشرية.
ونتيجة لملازمة الأطفال المنزل كانت مواقع التواصل الاجتماعي منصة يعبرون فيها عن معاناتهم وينقلون الواقع المرّ الذي يعيشونه في ظل حملات التصعيد للقصف، وبطريقة كوميدية و هزلية، ومنها ” جنة الأطفال منازلهم” و” لا مدارس واقفة على جدرانها" وغيرها من الأساليب الساخرة التي تخفي وراءها ألف قصة وغصة، لأطفال ينتظرون نهاية نظام يغري حليفته روسيا بأراضيه وكأنها قطعاً من الحلوى المعروضة تعيث فسادا فوق تراب هذا الوطن.
يحاولون ببراءة طفولتهم رسم مستقبل يلائم أفكارهم وتطلعاتهم، وينسجون من وحي خيالهم صوراً ومشاهد تحقق لهم تلك التطلعات، يعيشون الواقع المخجل الذي لا يحقق لهم أدناها، فقد كان الأطفال سابقا ينتظرون نهاية العطلة الصيفية لينكبوا على مقاعد الدراسة بجّدٍ ونشاط، لكن الصدمة كانت كبيرة مع الواقع المخجل الذي لا يحقق لهم طموحهم.
(وسط تلك المتغيرات على الساحة السورية يظهر سؤال يطرح نفسه، هل ستقبى موسكو تفرض نفسها كضامن؟! وسط صمت قاتل لا يعادله إلا الخذلان العربي بحق المدنيين السوريين الأبرياء)
تشابكت يدا الطفلتين وبخطىً بطيئة واصلتا طريق العودة إلى البيت، بعد حرص الأم على اصطحابهما إليها باكراً، وبنظرات الخجل من الواقع المرّ، دمدمت الطفلة "نور" بكلمات هادئة: "الله لا يوفقهن لسى ما فرحنا برجعة المدرسة.. بلشو بطياراتن يقصفونا"، تربت يدّ أمها على كتفها قائلةً: "سلامتكم عندي أهم من كل شيء.. الله يفرجها".
رغم صغر سنّ الطفلتين إلا أنهما يمتلكن عقولا نيرة وأذهانا مبدعة وقدراً كبيراً من الوعي والفهم للواقع الذي فرض عليهم، ورغم حرمانهن من طفولتهم الناعمة إلا أن الحرب أكسبتهن القوة والصلابة في مواجهة صعاب الحياة ومجابهة نظام خرج من قمقمه بعد صرخة حرية نطق بها أطفال الثورة.
تعود الطائرات للتحليق مجدداً في سماء المدينة التي تنزف دماً لتسرّع خطوات الطفلتين البائستين نحو باب منزلهما، علّ جدرانه بحدّ زعمهما تنجيهما من الموت... والله خير الحافظين.
تتعدد التسريبات والتوقعات لمصير محافظة إدلب المجهول بنظر الكثير بعد أن غدت محط أنظار القوى الخارجية بين من يريد أن يحرق الأخضر واليابس فيها بدافع الانتقام أو الإركاع، أو من يريد تثبيت وقف القتل وإخراجها من معادلة الموت المستمرة، وإبعاد كل الحجج التي تمهد للمحرقة كرقة أو موصل أخرى، لاسيما أن إدلب غدت الموطن الجديد لآلاف المهجرين، مصيرهم مرهون بمصير المحافظة.
شكلت الحملة الجوية الأخيرة على إدلب لاثني عشر يوماً، رسالة واضحة وجدية لأهالي إدلب والفصائل فيها على حد سواء، أن المحافظة أمام خيارين لا ثالث لهما، إما قبول دخول تركيا لتثبيت نقاط مراقبة في المحافظة وتثبيت وقف إطلاق النار ضمن اتفاق خفض التصعيد، أو الخيار الثاني وهو "المحرقة" والذي ذاقت المحافظة منه جانباً يسيراً خلف قرابة مئتي شهيد.
الرسالة التي وصلت للجميع مدنيين بعشرات الشهداء والجرحى ومجازر وتشريد وإرهاب بعد أن ذاقوا حلاوة الهدوء لأشهر، والفصائل التي استهدفت مقراتها واحداً تلو الآخر، لم تترك فصيلاً دون أن تصله حروف هذه الرسالة بصواريخ وتوقيع روسي سواء الجيش الحر وأحرار الشام وتحرير الشام، كون روسيا هي الجهة الأكثر ربحاً في هدوء وتجميد الجبهات للتفرغ للجائزة الكبرى في سوريا وهي دير الزور.
من يقف بين الأهالي اليوم في إدلب ويستطلع حديثهم يدرك تماماً حاجتهم لدولة تضمن سلامة أرواحهم بعد أن فقدوا الأمل في كل الفصائل أن تكون سنداً وعوناً لهم، وبعد أن تكشف الستار عن الشعارات الرنانة لنصرتهم والدفاع والذود عنهم، في الوقت الذي تبدو هذه الفصائل صراحة عاجزة كل العجز حتى عن التخفيف عن معاناتهم وآلامهم، وكل ذلك ليس لقلة عدة وعتاد وجنود بل لتفرق مصالحهم وأهوائهم.
تركيا لن تكون دولة محتلة أو عدواً للشعب السوري كما يروج، صحيح أن لها مصلحة في إبعاد قوات سوريا الديمقراطية "قسد" عن حدودها وتحتاج لأن تكون هذه الحدود آمنة وبعيدة عن أي صراع بحيث لا تتحول إلى أكبر نقطة نزوح ولجوء إليها، وهذا ليس عيباً وهو من حقها، ولعل مصلحتها مشتركة مع الشعب السوري الثائر وهي الدولة الوحيدة التي لم تغير موقفها من ثورة هذا الشعب، وواصلت دعمه رغم كل الضغوطات التي مورست عليها ومازالت تمارس، ولعل توجهها للتنسيق مع روسيا جعلها في موضع شك إلا أنها السياسة والمصالح لبلوغ الهدف وتحقيق المصلحة ليس أكثر.
الترويج على أن تركيا ستكون دولة محتلة ومعادية أغفل الحديث عن العدو والمحتل الحقيقي المتمثل بروسيا و إيران والتي ستشارك في حرق الشعب السوري وتدمير إدلب لامحال في حال كان الخيار رفض دخول تركيا كطرف مراقب والسماح بدخول قوات مراقبة لها على الأرض، والتي ستكون صمام الأمان للمنطقة ولآلاف المعذبين والمهجرين.
فمن أراد القتال فليوجه بندقيته وسلاحه للعدو الحقيقي ويؤمن المدنيين في إدلب ويوفر لهم الأمن والحياة الهادئة وعندها يقول لا للتدخل التركي، أما أن يجلس ويراقب الدم والقتل والتدمير ويرد عليها بشعارات رنانة واستعراضات عسكرية لا تغني ولا تثمر لهو " ....." بعينة.
دخلت قوات روسية إلى سورية، نهاية سبتمبر/ أيلول سنة 2015، بـ "طلب من الأسد" كما أعلنت موسكو، تحت هدف "محاربة داعش"، بعد أن أعلن الأسد أنه لم يبقَ من قواته ما يسمح بسيطرته على سورية. على أساس أن مهمتها لا تتجاوز ثلاثة أشهر. لكنها لا تزال في سورية بعد سنتين، ولا تزال تشارك في الصراع، وبوحشية. وعادت وأكدت أنها مَنْ حمى النظام من السقوط، وظهر ذلك واضحاً في خطتها العسكرية التي ركزت على المناطق التي لم يكن لـ"داعش" فيها وجود، أي في الشمال والشمال الغربي والوسط ومحيط دمشق وجنوب سورية. بمعنى أن عنوان "داعش" لم يكن سوى مبرّر للتدخل لمنع سقوط النظام، ليس حباً به، بل لأن لروسيا مصالح ومطامح إستراتيجية، دفعتها إلى استغلال لحظة ضعف النظام وإيران بكل قواتها التي أرسلتها، من أجل فرض وجودها العسكري، ومن ثم التحكم بمصير سورية.
لكن تدخلها لم يعد "تمرينا عسكريا"، بل بات يستنزف اقتصاد البلد، ولم يعد يُظهر قوة روسيا، بل ضعفها بعد أن فشلت في سحق الثورة، وهذا ما دفعها إلى المناورة من خلال سياسة "خفض التوتر"، وعقد صفقات مع الجيش الحرّ في مناطق عديدة، وأيضاً الحوار في أستانة مع من كانت تعتبرهم إرهابيين. استخدمت كل الأسلحة الحديثة، وجرّبت سلاحها المتطور وجيوشها، وقامت بعملية تدمير واسعة، أكملت ما بدأ به النظام. لكنها لم تستطع النصر كما طمح فلاديمير بوتين. وباتت الأشهر الثلاثة سنتين، وربما سنوات أخرى. واعتبار أن تكلفة التدخل هي تكلفة تمرين عسكري، كما أشار، تبخّرت لتستنزف قدرات روسيا التي تعاني من الحصار الأميركي والأوروبي، نتيجة تدخلها في أوكرانيا. وتركيزها على استخدام الطائرات الحربية فقط جرّ إرسال قوات برية و"شرطة عسكرية"، وكذلك شركات أمنية تضم متطوعين ومتقاعدين روسا.
بالتالي، على الرغم مما يظهر من "نجاح"، ومن تهليل لانتصارات، وكذلك من حسم للصراع يكرّس بشار الأسد، فإن سنتين من الحرب الروسية التي لا يمكن أن توصف إلا أنها وحشية، ومستهترة بكل القيم البشرية، وتنحكم لغطرسة تريد إظهار القوة الفائقة والعنف الكبير، سنتين من الحرب لم تسمح لروسيا مدعومة بكل ما أرسلت إيران من قوات، ومن كل صفقاتٍ عقدتها مع دول إقليمية، مثل تركيا والأردن، ومن تحييد لقوى سلفية ضحكت عليها في أستانة، أن تقول إنها أنهت الحرب بتحقيق الانتصار. وما حققته عسكرياً قليل بالقياس إلى ما تسيطر عليه الكتائب المسلحة وبعض المجموعات السلفية، على الرغم من استخدام جبهة النصرة عنصر تخريب يُضعف بيئة الثورة، ويربك الكتائب المسلحة، ويشوّش على دورها.
روسيا، الدولة التي تريد أن تصبح قوة عظمى مهيمنة، وتفرض سطوتها العالمية، وتعزِّز من قدراتها الاقتصادية، لم تستطع خلال سنتين من سحق ثورة شعب، وليس أمامها ليس منع سقوط النظام، بل إسقاط النظام، لكي تستطيع أن تكمل سياستها "المتصالحة" مع الشعب، والتي تقبل بسيطرة الكتائب المسلحة على المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام. وبالتالي أن تُسهم في بناء "دولة جديدة"، بعيداً عن الطغمة التي حكمت، والتي ارتكبت مجازر بحق الشعب، والتي حمتها هي من السقوط لحظة ضعفها وتراجع قواتها.
لكن، في كل الأحوال، لا يمكن أن نتجاهل أن روسيا باتت دولة محتلة، بعد أن فرضت وجودها العسكري، بعقد إذلال وقّعه النظام يسمح بوجود قاعدة بحرية مدة 99 سنة، وجوية مدة 49 سنة، وبالتالي سمحت بوجود عسكري طويل الأمد. بالتالي، تعيد روسيا عصر الاستعمار، بعد أن تحققت "تصفية الاستعمار" بُعَيْد الحرب العالمية الثانية، وهي تفرض وجودها حتى أكثر مما تفعل أميركا في أفغانستان والعراق.
لم تنتصر روسيا بعد سنتين من الحرب القذرة والوحشية، ولن تنتصر. وستكون "تحت مرمى الشعب"، لكونها باتت دولة احتلال، دولة محتلة لسورية في عصرٍ انتهى فيه الاستعمار.