اندلاع مواجهة مسلحة بين الولايات المتحدة الأميركية وكل من إيران و «حزب الله»، لم يكن أمراً مستبعداً في أي وقت، غير أن الترتيبات المتعلقة بالتحسُّب لمواجهة هذا الاحتمال كانت نهاية عهد باراك أوباما تجري في سياق وقائي، تحت مظلة التخطيط الإستراتيجي المعتاد لمواجهة مختلف مصادر التهديد. أما الآن فقد تغيَّر الوضع كثيراً، فالقادم الجديد إلى البيت الأبيض لا يؤمن بإمكانية التعايش مع إيران و «حزب الله»، ويرى أن «تغيير النظام» هو المنهج الوحيد الملائم للتعامل معهما، ومن ثم لا أستبعد أن يكون قرر الانتقال من مرحلة «التحسب الوقائي» لاحتمال اندلاع صدام مسلح مع إيران و «حزب الله» إلى مرحلة «التجهيز الميداني» لشن الحرب عليهما. لذا أظن أن السؤال المطروح، لم يعد يدور حول ما إذا كانت الحرب ستقع، وإنما حول متى وكيف.
قد يبدو هذا الاستنتاج بالنسبة إلى البعض متسرعاً بعض الشيء، أو ينتمي إلى عالم التنجيم بأكثر مما ينتمي إلى علم السياسة. غير أنني أهيب بالنخب العربية ألا تستهين بتأثير العامل الإسرائيلي على تحوّلات السياسة الأميركية، وأودّ تذكيرها هنا بحدة الخلاف الذي وقع بين نتانياهو وأوباما عقب توصُّل الأخير إلى اتفاق حول برنامج إيران النووي. فقد انزعج نتانياهو من هذا الاتفاق إلى الحد التي دفعه ليس فقط إلى إدانة الاتفاق الذي اعتبره خنجراً في ظهر إسرائيل، وإنما أيضاً إلى تحدّي أوباما في عقر داره بإلقاء خطاب على رغم أنفه في الكونغرس لتأليب الرأي العام عليه.
الآن، وبعد أن اقترب الموقف الأميركي تجاه إيران و «حزب الله» إلى حد التطابق مع الموقف الإسرائيلي، لم يعد لديَّ من شك في أن العامل الإســرائيلي سيكون أحد أهم العوامل المعجّلة بشن الحرب، والتي لا أســــتبعد أن تــندلع قبل نهاية فترة الولاية الأولى لترامب، إذا استطاع الأخير أن يصـــمد أمام مــحاولات إسقاطه.
الإحساس بحتمية الصدام المسلح مع إيران و «حزب الله»، وربما بقرب موعده أيضاً، تسلّل إلى نفسي عقب متابعتي أعمال الدورة الثانية والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة، واستماعي إلى خطابَي ترامب ونتانياهو. ولأنني لم أكتفِ بالاستماع إلى الخطابين وإنما حرصت على قراءة متأنية لنصّيهما بعد ذلك، فقد راح هذا الإحساس ينغرس عميقاً في وجداني. ولا أظن أنني أبالغ في القول، إنني أصبحت الآن على يقين تام بأن إسرائيل ستبذل كل ما في وسعها لإقناع ترامب، أو حتى لابتزازه إذا لزم الأمر، للتوصل إلى صيغة متفق عليها لتوزيع الأدوار والمسؤوليات، بحيث تتكفّل إسرائيل بشن حرب على «حزب الله» تستهدف ليس فقط إضعافه عسكرياً وإنما استئصاله كلياً وإخراجه من معادلة السياسة اللبنانية، بينما تتكفّل الولايات المتحدة بشن حرب متزامنة على إيران لا تكتفي بتدمير برنامجها النووي وإنما تواصل الضغط عليها إلى أن يتم تغيير النظام. خطاب ترامب في الجمعية العامة عكس «غرور القوة الحمقاء»، وحمل في طياته رسالة مفادها أن إدارته تتبنّى سياسة خارجية محورها «أميركا أولاً»، مؤكداً التزامه الشخصي الدفاع عن مصالح بلاده بكل الوسائل المتاحة، بما في ذلك استخدام القوة إذا لزم الأمر. المدهش في الأمر أن ترامب حاول تبرير هذا التوجه بالتخفّي وراء مفهوم السيادة الوطنية، مؤكداً أن الدفاع عن المصالح الوطنية ضرورة وواجب على كل قائد أو زعيم، بل ذهب إلى حد توجيه الدعوة إلى كل قادة العالم كي ينبروا مثله للدفاع عن مصالح بلادهم بالطريقة التي يرونها مناسبة.
واستناداً إلى هذا المنطق الغريب، سمح ترامب لنفسه بتوجيه تهديد مباشر لدولة عضو في الأمم المتحدة من فوق منبر الجمعية العامة نفسها، معلناً أنه «لن يتردّد في محو كوريا الشمالية من الوجود إن هي حاولت المساس بمصالح الولايات المتحدة أو أيّ من حلفائها»، ناسياً أو متناسياً أن إعلاء شأن «السيادة المطلقة» من دون ربط التصرفات السيادية للدول باحترام قواعد القانون الدولي، يتناقض كلياً مع متطلبات الأمن الجماعي، ويعدّ دعوة إلى الفوضى واعتماد قانون الغاب.
أما خطاب نتانياهو فعكس «نشوة القوة المزيفة»، وحمل رسالة مفادها أن إسرائيل أصبحت دولة عظمى، وعلى العالم أن يتعامل معها على هذا الأساس، حيث راح يتحدّث مطولاً عن «تحوّل جوهري طرأ على مكانة إسرائيل في العالم»، مستشهداً بزياراته التي «غطت القارات الست»، وذلك للمرة الأولى في تاريخ الدولة التي اعتبرها «أمة الابتكار»، ولديها الكثير مما يمكن أن تقدّمه للعالم في مختلف المجالات. وحرص نتانياهو، علاوة على تلك النبرة الاستعلائية التي تلامس حدّ العنصرية، على أن يشيد بزيارتين تاريخيتين لإسرائيل هذا العام، الأولى قام بها الرئيس الأميركي ترامب الذي أدرج تلك الدولة ضمن جولته الخارجية الأولى، والثانية قام بها مودي، رئيس وزراء الهند، حيث لم يسبق لأي رئيس وزراء هندي أن زار إسرائيل من قبل. ولم تفته الإشارة إلى أن ترامب «بوقوفه أمام جبل الهيكل وملامسته أحجاره القديمة لامس قلوب الشعب اليهودي الذي عاش على هذه الأرض ألف عام». غير أنه نسيَ، أو بالأحرى تناسى، أن تفوّق إسرائيل لم يقم إلا على أنقاض شعب اقتلعته من أرضه وأجبرت من بقي منه على العيش في كنف نظام فصل عنصري، باعتراف الأمم المتحدة نفسها.
كثيرة هي الخطابات «المتشددة» التي ألقيت في الجمعية العامة هذا العام، غير أن أياً منها لم يعكس شعوراً بغرور «القوة الحمقاء» مثلما عكس خطاب ترامب، أو بنشوة «القوة الزائفة» مثلما عكس خطاب نتانياهو، لكن الأمر المؤكد أنهما عكسا معاً درجة المتانة التي وصلت إليها العلاقات الأميركية- الإسرائيلية، والتي لا يدانيها نمط آخر في تاريخ العلاقات الدولية. فإذا أضفنا إلى ما سبق، أن علاقة الولايات المتحدة بحلفائها التقليديين الآخرين في المنطقة، كتركيا والسعودية ومصر، لم تكن على هذا القدر من الاهتزاز وعدم اليقين مثلما هي عليه الآن، لتأكد لنا أن المنطقة مقدمة على تحولات هائلة، قد تقود إلى رسم خرائط جديدة بمجرد الانتهاء من القضاء على «داعش»، وذلك وفق ما تمليه المصالح الأميركية الإسرائيلية أولاً وقبل كل شيء، وهو الأمر الذي تدرك إدارة ترامب أنه يستحيل أن يتم في ظل بقاء واستمرار القيادات الحالية لكل من إيران و «حزب الله».
صحيح أن تهديدات ترامب لكوريا الشمالية بدت أعنف، غير أن الفرق كبير جداً بين التهديدات «اللفظية»، ومنها التهديد الموجَّه إلى كوريا الشمالية، والتهديدات «الفعلية»، أي القابلة للترجمة إلى برنامج عمل ميداني وإلى واقع الأرض، وفي مقدمها التهديد الموجه إلى إيران. فالتهديد الموجَّه إلى كوريا الشمالية سيصطدم حتماً بحائط صد صيني- روسي، أما التهديد الموجَّه إلى إيران فلن يصطدم بأي رادع، ومن المؤكد أن إسرائيل ستلقي بكل ثقلها وراءه، خصوصاً بعد أن ضمنت تأييد عدد لا يستهان به من الدول العربية التي باتت تعتقد أن إيران أصبحت تشكل مصدر التهديد الرئيس لأمن المنطقة ككل. لذا لا أستبعد أن يكون قرار الحرب قد اتُّخذ من حيث المبدأ، وأن العد التنازلي سيبدأ فور الانتهاء من الحرب على «داعش»، وبالتالي لم يتبقّ سوى التوقيت وطريقة الإخراج وعملية التهيئة والإعداد للمسرحين الدولي والإقليمي. بل لا أستبعد أن يكون إصرار بارزاني على إجراء استفتاء حول انفصال أكراد العراق، بدعم كامل من حكومة نتانياهو، جزءاً من عملية التهيئة هذه.
فهل سينجح المخطط الأميركي- الإسرائيلي لتغيير النظام الإيراني وتصفية «حزب الله»؟ أشك كثيراً، وأعتقد أن مِن مصلحة الدول العربية أن تنأى بنفسها تماماً عن هذا المخطط وألا تنساق وراء الدعوات المطالبة بالتحالف مع إسرائيل تحت أي ذريعة، ليس فقط لأنه تحالف غير مبرر، وإنما غير مشروع أيضاً. وعلى العرب أن يبذلوا بعض الجهد لإعادة قراءة ما جرى للمنطقة وفيها خلال نصف القرن المنصرم، لأنهم لو فعلوا فسيصبحون على يقين بأن التحالف مع إسرائيل لن يكون فقط رهاناً على حصان خاسر حتماً، وإنما خطوة حاسمة على طريق تفكيك العالم العربي كله لمصلحة إسرائيل وبرعاية أميركية.
أنهى الاجتماع السادس لمسار أستانة تحديد مناطق النفوذ في سورية، باستثناء التحديد الدقيق لوضع مدن شمال سورية وشرقها؛ طبعاً هناك تسريبات تقول إن المناطق التي فيها أغلبية كردية ستخضع لسيطرة أميركية وكذلك شرق الفرات وغربه من حصة الروس وحلفائهم، والمناطق الواقعة تحت سيطرة النظام ذاته ستكون من حصة روسيا وإيران. إدلب مشمولة إذاً ضمن مناطق النفوذ، وهذا معلنٌ قبل الاجتماع السادس. عقدةُ سيطرة جبهة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقا) لم تحلّ بعد، على الرغم من كل المحاولات التي بذلتها دول إقليمية، لتجنيب المدينة من دمارٍ يُشبه بقية مدن سورية، ويعطي للحركة ذاتها مخرجاً يمنع سحقها بالكامل. أنهى مسار أستانة استقلالية المدينة، وأصبحت تحت سيطرته، وترافق هذا الأمر بانفكاك عدد كبير للتنظيمات المتحالفة مع جبهة فتح الشام ضمن هيئة تحرير الشام، بل إن قياديين مثل مصلح العلياني وأبو صالح طحان وعبد الله المحيسني خرجوا من الجبهة. ودلالة هذا الأمر واضحة، وهي أن المعطيات الإقليمية والدولية تغيرت، ولا بد من ملاقاتها قبل السحق وخسارة كل شيء.
كل المحاولات مع جبهة النصرة، والتي لاقتها بتغيير اسمها إلى جبهة فتح الشام فقط، لم تُفهمُها أن الحرب في سورية تكاد تضع أوزارها، وأن الممكن الوحيد أمامها هو أن تصبح حركة سوريةً ووطنيةً، وتتحالف مع بقية الفصائل السورية والعمل ضمن خيارات التدخل الدولي لإنهاء الحرب، أي ضمن خيار أستانة أو جنيف، أو ضمن مؤسساتٍ مثل الهيئة العليا للمفاوضات وسوى ذلك. إذاً لم يعد ممكناً التغريد خارج السرب، فالروس بالتحديد هم من أنقذ النظام، والأميركان متحالفون معهم، وهناك قرارات دولية تقول إن جبهة النصرة تنظيمٌ إرهابيٌّ، وموفد الولايات المتحدة إلى سورية، مايكل راتني، يكرّر في بياناته أن جبهة النصرة ومهما غيّرت اسمها فهي جبهة النصرة، وسيُسحق كل من يتحالف معها.
ناورت "فتح الشام" منذ سيطرتها على إدلب في سبتمبر/ أيلول 2015، فتارةً أقامت "جيش الفتح"، ثم شكلت هيئة تحرير الشام، وحاولت التعاون مع الفصائل في السيطرة على إدلب، وأقامت إدارةً مدنية تُشبه "مجلس محافظة"، ووزعت المسؤوليات فيها مع بقية الفصائل، وكلما حوصرت تناور، حتى وصلت أخيراً بدفع بعض قياداتها والمقرّبين منها إلى عقد المؤتمر السوري العام، والذي ستنبثق عنه حكومة في إدلب، وليست مرتبطة بالحكومة المؤقتة للمعارضة، وحشدت من أجل ذلك كل طاقاتها لإفشال قرارات مسار أستانة، ولسحب الغطاء من تحت الفصائل المشاركة فيه، ولم تكتفِ بذلك، بل أعلنت معركة حماة "يا عباد الله اثبتوا" في 19 سبتمبر/ أيلول، فارضة المشاركة على بعض الفصائل الضعيفة والموجودة في مناطق "معركتها"، مثل جيش العزة والنصر، وتريد من ذلك كله ابتزاز الفصائل تلك، وإعادة الفصائل التي انفكّت عنها، والتي تزيد عن ستة، وهي كثيرة العدد (حركة نور الدين، وجيش الأحرار، وكتائب ريف حماة، وقوات النخبة..)؛ إعادتها بحجة محاربة النظام "الكافر"، وطبعاً لن تشترك تلك الفصائل، وبالتالي تصبح الحرب واقعة بين جبهة تحرير الشام وتلك الفصائل وكل الفصائل التي سحقتها "النصرة" وآخرها "أحرار الشام"، وبالتوافق مع تركيا وروسيا، وربما دول أخرى.
في هذا الوقت، تقدمت تركيا بآليات عسكرية عديدة، إلى الحدود مع إدلب، وهي تتعاون بالتأكيد مع الفصائل المنفكة و"أحرار الشام" والفصائل التي استولت جبهة النصرة على مناطقها، بحجة أنها تتعاون مع أميركا. عدا ذلك، كان رد فعل روسيا على المعركة قيام طيرانها بتدمير واسع لمرافق حيوية كثيرة من مشافٍ ومدارس وأفران في ريف حماة وإدلب؛ وتقول العوامل السابقة بشيء واحد، أن الفصائل المحلية أصبحت مستعدة للتعاون مع "الشيطان" ضد فتح الشام، وأن الأهالي أيضاً أصبحوا مستعدين لكل الخيارات، للتخلص من "طغاة ومستبدين جدد باسم الدين" كهؤلاء.
إذاً، لن تنجح جبهة النصرة في محاولاتها البراغماتية الغبية، فهي لا تعادي فقط "بلدان الكفر" والنظام، وكذلك المعارضة والأهالي، وأيضاً لا تستجيب للدول الإقليمية، وبالتالي الحرب التي تضع أوزارها لن تترك "فتح الشام: إلا جثة مثل "داعش". وقد فهمت الفصائل هذا الدرس جيداً، والتي أُجبرت، ولأسبابٍ شتى، على الدخول إلى مساري أستانة وجنيف.
في مسار أستانة، ليست فقط الحركات الجهادية، مثل "داعش" وجبهة النصرة، ستخسر، بل وكل السوريين؛ فإذا كانت هاتان المذكورتان مثلا قد استخدمتا كأوراق للتدخل الدولي، عبر ائتلاف أميركا والتدخل الروسي وكل أشكال التدخل، فإن مجريات الأوضاع قادت إلى انتهاء قوى الثورة وكذلك النظام. أقصد أن سورية، بوضعيتها الراهنة وعبر الجهاديين، أصبحت دولة مُحتلة، وفيها مناطق نفوذ لدول إقليمية، وسيتم تشكيل نظام سياسي قادم يخدم هذه المعطيات. وبالتالي، مسار أستانة ونهاية جبهة النصرة و"داعش" هي بمعنى ما نهاية كاملة لسورية القديمة.
كانت الثورة تريد حياة أفضل؛ ساعد الجهاديون النظام من أجل التخلص منها. منعت قوة الثورة الجهاديين والنظام من السيطرة الكاملة، فكان التدخل الخارجي وتدمير سورية. لم تنته معركة السوريين بعد، فما تتشكل عليه سورية حالياً يقول باحتمال تجدد حركات جهادية جديدة، ولكن باندلاع حرب عصاباتٍ كذلك. وفي كل الأحوال، يقول الدرس السوري إنّه يجب محاكمة النظام والمعارضة على التفريط بأهداف الثورة من أجل سورية أفضل، وضرورة تشكيل حركات سياسية وطنية جديدة، ترفض كل الأسباب التي أوصلت سورية إلى ما هي عليه حالياً.
ستغرق سورية الغارقة بالأزمات أكثر فأكثر فيها، وأكذوبة إعادة الإعمار المتداولة في الأخبار تمّ الحديث عما يشبهها في العراق ولبنان وأفغانستان؛ الدول الأخيرة هذه مثال أمامنا، وبالتالي ما سيُخرج سورية من كوارثها هو الحركات الوطنية، أي في نهاية الحرب والتشكيلات الجهادية سيكون أمام السوريين مهمة إعادة تشكيل سورية الجديدة، وهذا غير ممكن من دون تلك الحركات.
تتمتع الفصائل بشتى أنواعها استراتيجية صلبة بـ "العجز" حيث تستطيع أن تمتص جميع الصدمات و ترى أنهر الدم تطال كل شيء حتى عوائلهم، وهي تعرض على استراتيجية "العجز".
اليوم الانفجار الروسي على إدلب رغم كل محاولات التحييد، والتي دفع مقابل لها الكثير من الولاءات و الانتماء، نجد عشرات الفصائل تختفي عن الساحة وان ظهرت ببيان خجول يندد ويتوعد بالمهول.
في الاقتحامات و الهجوم يوجد تكتيك الإلهاء و تحويل أنظار المدافع لجهة بغية إنقاذ حليف من نيران أو إتاحة المجال للهجوم، وهو ذات التكتيك الواجب اتباعها هنا، وهو فتح النيران من مناطق جرداء وتوجيه الحملة على تلك المنطقة، ولو تكفلت هذه الخطوة تخفيف صاروخ واحد عن مدني، ندعي أن كل ما نفعله نصرة و دفاعا وفداء له.
في حين تنتظر هذه الفصائل هدوء الجبهات أو ارتكاب حماقة ضيقة، لتنطلق صليات الرد على ما لديهم من بنك للأهداف، لتعيد من جديد إشعال فتيل الانتقام.
لا مكان للسلاح و الذخائر بين القبور التي تفتح في كل منطقة حضرية في هذا الوقت، في الشمال السوري، كما أنه لا مكان لفصائل ظهرت عجز في الرد او التخفيف، او حتى نقصا في الفدائية.
إنها ثورة خرجت لأولئك الذي يشهدون أبنائهم بين ركام المنازل، الأبناء الذين نضحي ليكون مستقبلهم أفضل.
استقبال الرئيس إيمانويل ماكرون وزوجته بريجيت الرئيس اللبناني ميشال عون وزوجته ناديا، كان لافتاً بالحفاوة الفرنسية والتقدير والود للبنان الذي تبقى له مكانة خاصة في قلوب الفرنسيين. وأحاط الرئيس الفرنسي الشاب المدعوين إلى عشاء الدولة من لبنانيين وفرنسيين بود ودفء، حتى أن الرئيس الفرنسي تأخر مع ضيوفه متجاوباً مع طلبات كثيرين لالتقاط الصور معه. وكان لافتاً أن ماكرون أصر على القول إن زيارة الدولة للرئيس اللبناني هي الأولى من هذا النوع في بداية عهده كرئيس.
ويرمز الاستقبال إلى العلاقة التاريخية بين البلدين التي أشار إليها الرئيس عون، إلا أنه كان هناك اختلاف واضح بين نظرتي الرئيسين إلى اللجوء السوري في لبنان، فاعتبر عون أن معظم أماكن سورية أصبحت آمنة الآن بعد أن استعاد بشار الأسد معظم المدن فيها، وأنه ينبغي إعادة اللاجئين السوريين إليها، في حين أن ماكرون اعتبر أن عودتهم مرتبطة بحل سلمي لسورية تحاول فرنسا بذل الجهود لتحريكه.
لا شك في أن الرئيس الفرنسي مدرك العبء الذي يمثله اللجوء السوري لكل من لبنان والأردن، فيما الرئيس عون يتخوف من أن الأوروبيين والعالم يسعون إلى توطين اللاجئين السوريين في لبنان. وهو خوف شرعي ولو أن طلب عودتهم الآن قبل الغد إلى بلدهم أمر غير واقعي، فكيف يعودون وهم فروا من وحشية بشار الأسد الذي قصفهم ونعتهم بالإرهابيين ودمّر منازلهم وشرّد أولادهم.
ويقول أحد المقربين من عون إن الرئيس اللبناني يخشى من أن إنشاء المدارس للاجئين وإعطاء المساعدات لهم قد تتحول إلى توطين. إن منطق رفض تعليمهم وإدخالهم المدارس أخطر من التوطين إذ إن مستقبل أجيال من النازحين يتحول إلى قنبلة موقوتة لسورية ولبنان معاً حتى وإن عادوا إلى بلدهم. النازحون الذين أتوا إلى لبنان لم يغادروا بلدهم بسبب «داعش» بل بسبب بشار الأسد. وفرنسا لا تسعى إلى توطينهم بل إلى مساعدة لبنان على تحمُّل العبء. وباريس تختلف في تحليلها للوضع في سورية مع الرئيس عون. فالقيادة الفرنسية تعتبر أن الأسد مسرور جداً لمغادرة السنّة من بلده لأن ذلك يغيِّر توازن الديموغرافيا السورية ويعطيه الفرصة لإعادة تركيب البلد سياسياً كما يشاء بطريقة أسهل. وقال الأسد مرات عدة إن الذين غادروا البلد ذهبوا من منطق الثورة على بلدهم. والأسد يعمل على قانون انتخابي يتيح فقط للذين يقيمون في البلد منذ سنتين التصويت، ما يعني أنه يستبعد النازحين واللاجئين من عملية التصويت.
مطالبة الرئيس اللبناني بإعادة اللاجئين السوريين اليوم تطرح أيضاً السؤال عن كيفية تصوره لذلك. هل يطردهم بالقوة؟ أو يستعد «حزب الله» للقيام بمثل هذه المهمة عبر العودة إلى التطبيع مع بشار الأسد؟ أعلن الوزير جبران باسيل أن لقاءه وليد المعلم في نيويورك كان مرتبطاً بقضية اللاجئين. هل يعني ذلك أن «حزب الله» يريد إجبار الحكومة اللبنانية على التطبيع مع نظام بشار الأسد من خلال قضية النازحين؟ إنه مسعى خطير في شأن نازحين لا يمكنهم العيش في ظل نظام يعتبرهم إرهابيين وقواته تعذّبهم وتقتلهم. واللجوء السوري إلى لبنان ما كان لولا وجود بشار الأسد على رأس السلطة السورية، فمعاناة لبنان وسورية من نظام الأسد الأب والابن لم تتوقف منذ السبعينات عندما تسلم حافظ الأسد الحكم وحتى اليوم مع رئيس أقل براعة وذكاء من والده، ولو أن الوحشية كانت دائماً طابع الحكم.
وكانت لافتة ملاحظة ماكرون في خطابه في معهد العالم العربي عندما افتتح مع عون معرض مسيحيي الشرق عندما قال: «إن الدفاع عن مسيحيي الشرق ليس دفاعاً عن بشار الأسد». واعتبار ماكرون أن غياب حل سياسي حقيقي في سورية يمنع عودة اللاجئين إلى بلدهم الآن، لا يمثل سعياً إلى توطينهم مثلما يفكر البعض في لبنان، وأظهرت فرنسا في هذا الاستقبال حسن نياتها للبنان.
العلاقة بين روسيا والولايات المتحدة دخلت مرحلة صراع صامت. هذا على الأقل ما تشهد عليه الأرض السورية. كان التعايش المضطرب بين الدولتين توصل الى اتفاق معلن في شأن الجنوب الغربي لسورية لتحييد الأردن وإسرائيل عن الصراع الداخلي، وإلى شبه اتفاق غير معلن على «الحدود» في الرقّة ودير الزور. الأول جاء في سياق الترويج الروسي لـ «مناطق خفض التصعيد»، فيما خضع الآخر لظروف محاربة تنظيم «داعش». وفي الحالين كان الاهتمام الأميركي مركّزاً على الحدّ من التمدّد الإيراني، ومنع فتح الحدود أمام تنقّل الميليشيات بين سورية والعراق.
لهذه الغاية كان لا بدّ من تعاون روسيا، ويبدو أنها تلتزم به في الجنوب الغربي وتحاول ما أمكنها إرضاء إسرائيل بما في ذلك الصمت حيال الغارات الجويّة المتكرّرة على مواقع ومستودعات أو مصانع صواريخ لإيران و «حزب الله»، أما في الرقّة فسبق للروس أن احتجّوا بشدة على إسقاط طائرة للنظام السوري قبل إغارتها على «قوات سورية الديموقراطية» (قسد)، لكن الاحتجاج تحوّل في دير الزور الى قصف جوّي لهذه القوات التابعة للقيادة الأميركية وتحذير شديد اللهجة بعد إطلاق نار على قوات النظام. وقد حصل الاحتكاك بين الطرفين على أثر عبور «قوات النظام»، وهي كالعادة إيرانية في غالبيتها، الى شرق الفرات، إذ كان ثمة اعتقاد بأن محافظة دير الزور قسمت الى «شرق أميركي» و «غرب روسي» بتفاهم بين الدولتين.
غير أن مسار المعركة ضد «داعش» ربما اقنع الروس بأن ذلك «التفاهم» ليس عملياً، فالأفضلية لمن يحرز تقدماً على الأرض ضد التنظيم، بمعزل عن تقاسم المناطق. نتيجة لذلك رفع الإيرانيون علمهم في دير الزور، على رغم أن عشائرها ترفضهم مقدار رفضها «داعش»، ولم يعد ممكناً للأميركيين أن يتحكّموا بمعارك استكمال استعادة المناطق الأخرى وصولاً الى معبر البوكمال السوري المقابل للقائم العراقي، أي أن الإيرانيين في صدد تحقيق هدفهم الاستراتيجي بفتح الطريق من طهران الى بيروت، فما خسروه في الجنوب الغربي يعوّضونه في الشمال الشرقي. ما كان ذلك ليحصل لولا موافقة روسية باتت الآن تلقائية، والأسباب ثلاثة: أولاً، أن موسكو ترى فرصة متاحة لإثبات دورها في محاربة الإرهاب في استرجاع للأهداف المعلنة لتدخّلها في سورية. ثانياً، أنها تفضّل الحفاظ على شراكتها مع طهران بعدما نفد صبرها في انتظار مكاسب من التعامل مع ادارة دونالد ترامب، وبغية إقامة نوع من التوازن مع الامتيازات التي منحتها الى إسرائيل. وثالثاً، لأن موسكو تعزّز تعاونها مع إيران وتركيا سعياً الى تأسيس حالٍ من المنافسة للولايات المتحدة لوراثة دورها في محاربة الإرهاب، وربما تتطلّع الى أن تشكّل نهاية سيطرة «داعش» بداية انسحاب أميركي من المنطقة.
إذا كانت «مناطق خفض التصعيد» هندسة روسية لتصفية أي معارضة مسلحة لنظام بشار الأسد تمهيداً لخفض التوقّعات من أي حل سياسي وصولاً الى تصفية المعارضة السياسية، فيبدو أن هندسة «نهاية داعش» تُركت لإيران التي قطعت شوطاً في تدبير انكفاء التنظيم لاستخدامه في ضربات مستهدَفَة أو لتنشيطه ووضعه في خدمة الشراكة الروسية - الإيرانية في سورية والعراق وعموم المنطقة. كثيرون من الذين شاركوا في اجتماعات آستانة لا يخفون، بعيداً من أضواء الغعلام، أن الروس وحدهم يصدّقون أن خطة «مناطق خفض التصعيد» فاعلة بل حاسمة، حتى شركاؤهم لم يصدّقوا، لكن بحثهم عن مصالحهم دفعهم الى الانخراط في اللعبة، الأتراك لأنهم يعانون سلبيةً تلامس حدّ العداء من جانب «الحليف الأميركي»، والإيرانيون لأن الدور الروسي ساعدهم في إشهار دورهم و «شرعنته» كما في تركيز وجودهم في سورية من دون أن يمسّ بالخطط الاستراتيجية لنفوذهم.
قبل أسبوعين تداول سوريون موالون ومعارضون بكثرة رسماً كاريكاتورياً لـ «نيويورك تايمز» أظهر الأسد فوق جبل من الركام وإلى جانبه الرئيس الروسي يرفع يد الأسد عالياً ويشير اليه بإصبعه قائلاً: «الرابح يأخذ كل شيء»... لكن «الرابح» الحقيقي هو فلاديمير بوتين. فالانطباع المتزايد حالياً في أوساط السوريين كافةً أن روسيا ما بعد آستانة غير روسيا ما قبلها، وما لا يقوله الموالون قاله المعارضون منذ بداية التدخّل: إنه الاحتلال الروسي. فهو يوضّح ملامحه أكثر فأكثر، وقد رصد تحقيق لصحيفة «لوموند» توسّع الحضور الروسي من استخباراتيين «في كل مكان»، الى «خبراء» جبهة القتال ضد «داعش» الى مراقبين شيشانيين وأوسيتيين على حدود «مناطق خفض التصعيد». ويضيف مَن يُعَرّفون بأنهم «رجال أعمال النظام» أن روسيا فتحت اعتمادات لإطلاق ورشات للإعمار والبنية التحتية، وبما أنهم حققوا أرباحاً من اقتصاد الحرب والتسهيلات التي منحت اليهم فقد دُعُوا الى التعاون مع المسعى الروسي، لكنهم غير مقتنعين بأن هناك فرصاً استثمارية حقيقية أو حتى مجالات للكسب.
ترافق ذلك مع رسائل تلقتها الدول الأوروبية، وحتى البنك الدولي، بأن لا حاجة اليها في مشاريع إعادة الإعمار. لذلك عاد «الأسد المجرم» فقفز فجأة الى خطاب الرئيس الفرنسي على منبر الأمم المتحدة، فيما تسلّم القضاء الألماني قسماً من وثائق «قيصر» التي تدين النظام السوري في ما يُعتبر بداية محاكمة لمجرمي التعذيب. يُعزى ذلك الى أن اتصالات الأوروبيين مع بوتين دفعتهم الى التنازل بقبول حل سياسي يُبقي الأسد في الحكم، ثم وجدوا أن موسكو تسعى الى ابتزازهم بملف إعادة الإعمار على رغم أنها لا تملك فيه خيارات كثيرة، بل إن المطلوب منهم أن يساهموا في تعويم الأسد دولياً وتطبيع العلاقات مع نظامه ورفع العقوبات عنه، طالما أن الروس أمّنوا له الانتصار عسكرياً في الحرب ويعملون لتأمين انتصاره سياسياً. غير أن تقويم موسكو لانجازاتها، ووفقاً لمفاهيمها وخططها، ومصالحها طبعاً، لا يتطابق بالضرورة مع تقويم الأطراف الأخرى وتوقّعاتها لمصالحها. صحيح أن الحسابات الغربية في سورية لا تتشابه مع التي نشأت في أوكرانيا، لكن الاعتراف لبوتين بانتصاره هنا يضعف المواجهة معه هناك.
عملياً، بلغ الروس كما بلغ نظام الأسد والإيرانيون قبلهم، لحظة الحقيقة التي ينبغي أن يقرّروا فيها اذا كان اختزال الانتفاضة الشعبية السورية بالحسم العسكري صالحٌ لإنتاج حل سياسي يناسب السوريين والأهداف التي طرحتها انتفاضتهم، وهذا جوهر الأزمة، أم أنهم يبحثون عن حلٍّ يلبي مصالحهم. فالمعطيات الراهنة لا تشير الى حلّ قريب أو الى حلّ يمكن أن ينهي الأزمة. ليس أدلّ الى ذلك من إشارة سيرغي لافروف في نيويورك الى «ضرورة انسحاب القوات الموجودة في سورية في شكل غير شرعي فوراً بعد الانتهاء من عملية القضاء على الإرهابيين فيها». وهذا يشمل بالنسبة الى روسيا التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة و «القوات الخاصة لعدد كبير من الدول»، ولا ينطبق على إيران «لأن بقاء الجهات التي تمّت دعوتها من جانب الحكومة السورية ستقرّره القيادة السورية نتيجةً للعملية السياسية». وهي العملية التي تريد موسكو التحكّم من خلال التحكّم بمَن يمثّل المعارضة في جنيف وكيف يفاوض عنها.
بالنسبة الى لاعبين كثر في سورية، باتت خريطة «مناطق خفض التصعيد» مسودة لخريطة مناطق النفوذ، أما المعارضون السوريون، عسكريين مشاركين في آستانة أو سياسيين مفاوضين في جنيف، فيتخوّفون من كونها خريطة أولية لتقسيم سورية. العسكريون أحبطهم نهج التدمير والإبادة وكانوا أول مَن استشعر الاحتلال الروسي ومفاعيله، والسياسيون أحبطهم الخذلان الدولي والاستسلام لآلة القتل الروسية وكانوا أول من لمس التخلّي الأميركي عن قضيتهم بعد اختزالها بالإرهاب، وليسوا وحدهم من لا يعرفون نيات الولايات المتحدة، فلافروف يعتقد أن لديها أهدافاً أخرى في سورية «لا نعرفها حتى الآن» وقد تتضح «عندما تتمُّ هزيمة داعش وجبهة النصرة». من الواضح أن موسكو لا تربط أبداً بين بقاء الأسد والوجود الإيراني وبين استمرار الإرهاب وتولّي إيران إعادة تدويره، إلّا اذا كانت تطلق رسالة الى واشنطن بأنها جاهزة للمساومة في سورية وعليها.
في تقدير موقف تحت عنوان «سياسة فرض الاستقرار الروسية... حصاد القوة المفرطة» (مركز جسور للدراسات: 14/9/2017) قراءة ملفقة للدور الروسي في الصراع في سورية وعليها.
انطلق التقدير من مقدمات خطيرة مثل «استخدامها [روسيا] القوة المفرطة في بداية تدخلها كان ضمن رؤية سياسية متكاملة»، وهذه «مكّنتها من تحقيق ما فشل النظام وداعموه الإيرانيون في تحقيقه في أربع سنوات»، نجاحها في «تفكيك المعادلة السورية» و «إعادة ترتيب أجزاء اللوحة المفككة» و «بناء علاقات مع مختلف الفاعلين على الساحة السورية، من المحليين والإقليميين، ولم تحصر شراكاتها في المعركة مع إيران والنظام السوري». و «نقلت الجانب الإيراني إلى طرف هامشي في معادلة المعسكر المؤيد للنظام، ثمّ تولّت تحييد بقية الفاعلين المنافسين للنظام، سواء على المستوى الدولي والإقليمي، أو حتى على المستوى الفصائلي». و «إلى جانب التعامل مع الفاعلين المعارضين للنظام، قامت روسيا بعملية طويلة المدى لإعادة تشكيل النظام ذاته، ليكون قابلاً للتعامل مع شكل الحل السياسي الذي تُريده، وفرضت تغيّرات اجتماعية وسياسية في المناطق التي يُسيطر عليها النظام، وأعادت تكوين الصورة الذهنية لدى السكان عن الوجود الروسي».
تفتقر هذه المقدمات/ الاستنتاجات إلى الدقة والموضوعية وتغرق في رؤية تجميلية للعنف المفرط والوحشية المدمرة التي اتبعتها روسيا في حملتها ضد معارضي النظام بربطها بهدف سياسي سامٍ: الحفاظ على الدولة السورية، وهذا، مع ما فيها من مغالطات وتعسف، قاد إلى وقوع التقدير في أخطاء فادحة إن لجهة قراءة الوقائع أم تقويم المواقف.
قال التقدير: «استطاعت روسيا منذ الربع الأخير من عام 2016 إعادة إنتاج صورتها لدى المعارضة في داخل سورية، حيث تحوّلت إلى وسيط وضامن، وأصبحت المعارضة- وحاضنتها الشعبية- ترفض القبول بأي اتفاق ما لم يكن بضمانة الطرف الروسي، وأضحى وجود الشرطة العسكرية الروسية في أي منطقة سبباً كافياً لشعور السكان بالأمان». في تجاهل تام للسياق الذي حصل فيه قبول فصائل معارضة التفاوض مع روسيا والمشاركة في محادثات آستانة، ومن دون إشارة إلى دور تركيا في ذلك، والى حضورها(الفصائل) الشكلي في هذه المحادثات وقيام روسيا وإيران وتركيا بصياغة اتفاقات والتوقيع عليها بمعزل عنها، وعن وفد النظام كذلك، ولكنه عاد وناقض نفسه حين قال: «ومن المعتقد أن مؤسسات المعارضة السياسية ومعظم شخوصها ينطلقون في مواقفهم من الوجود الروسي(تعتبره احتلالاً لابدّ من انتهائه) من رغبات في تحقيق شعبية لدى جمهور المعارضة».
لم يكتف التقدير بمغالطاته على صعيد الدور الروسي مع المعارضة وحواضنها الاجتماعية بل راح يروج لممارسات لا تمت للواقع بصلة حيث زعم التالي: «وعمل الروس على نشر الشعور بالاستقرار لدى السكان، حيث عملوا على رفع الحواجز الأمنية في كل مناطق سيطرة النظام، وهي الحواجز التي كانت منتشرة في شكل كبير جداً في كل المناطق، كما اختفت الميليشيات من مناطق سيطرة النظام، وتم تحديد أدوار ما بقي منها». وأضاف: «وانخفض عدد الاعتقالات السياسيّة في شكل كبير، كما حصل انفتاح على تراخيص منظمات المجتمع المدني في شكل كبير، على رغم محدودية قدراتها على التأثير السياسي. وقامت أفرع الأمن السياسي وأمن الدولة في النصف الثاني من عام 2017 بضغطٍ روسي باستدعاء معارضين ونشطاء معروفين في مختلف مناطق سيطرة النظام في شكل ودّي، بطريقة مشابهة لسلوك هذه الأجهزة في 2001-2002، ودعت هؤلاء المعارضين لتفعيل العمل السياسي المعارض». فلا الحواجز رفعت، رفع بعضها وأعيد ثانية بعد أيام، ولا الاعتقالات تراجعت، ولا الانفتاح السياسي على نشطاء حصل.
بعد هذه المغالطات الشنيعة، يطرح التقدير سؤالاً مركزياً: ماذا تريد روسيا في سورية؟ ويقدم إجابة غريبة وصادمة «تُظهر المعطيات السياسية أن روسيا لا تتمسّك بالأسد كشخص»، و «تتمسك بالمقابل بوجود نظام قوي في دمشق يحفظ المصالح الروسية بعيدة المدى في سورية»، و «تُدرك روسيا أن الحفاظ على الدولة السورية يقتضي إشراك أكبر عدد من الفاعلين، بمن فيهم المعارضون للأسد من غير الراغبين بتغيير شكل الدولة، وتحييد الفاعلين الرافضين الحل السياسي، في نظام هجين لا يوجد فيه منتصر»، و «ترغب روسيا في تحجيم النفوذ الإيراني في سورية، وإعادة القوة الإيرانية إلى داخل الحدود الجغرافية الإيرانية»، «ويعني تحجيم الدور الإيراني بالضرورة تقليص حجم حزب الله السياسي والعسكري في لبنان والمنطقة، وهو ما تسعى له روسيا». وختم إجابته بقوله: «يعتقد أن روسيا ستستمر في وجودها في سورية لمدى طويل، من أجل تحقيق دورين أساسيين، أحدهما سياسي وآخر ديموغرافي. الدور الأول، بصفتها قوة كبرى تحمي مصالحها بالوصول إلى المياه الدافئة، ويتمثل في ضمان حماية منطقة جغرافية متصلة قابلة للحياة، وهو ما تسميه بـ «سورية الفاعلة»، أو تمكن تسميتها بـ «سورية الصغرى»، والدور الديموغرافي (وصفه بدور ديموغرافي غير مفهوم) لروسيا بصفتها قوة مسيحية أرثوذكسية تحاول تحقيق حلمها التاريخي بوجودها بثقلها الديني في المنطقة منذ الإمبراطورية العثمانية، ويتمثل في خلق دولة أقليات نخبوية ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً، ومثالاً لتعايش المكونات معاً».
لم يحصل ما يثبت توجه روسيا «لإعادة القوة الإيرانية إلى داخل الجغرافية الإيرانية»، ولا العمل على «تقليص حجم حزب الله السياسي والعسكري في لبنان والمنطقة»، ثم كيف يتسق الحفاظ على الدولة السورية ووجود نظام قوي في دمشق يحفظ المصالح الروسية بعيدة المدى في سورية، ألا تتعارض التبعية مع السيادة التي هي جوهر الدولة؟
وقد كان لافتاً تجاهل التقدير للولايات المتحدة الأميركية ودورها في سورية ونشرها قوات على الأراضي السورية وإقامتها قواعد ثابتة (8 قواعد) ومفاوضاتها مع روسيا حول الحل في سورية، وتأثير ذلك في مستقبل سورية والدور الروسي فيها، وإطلاقه وصف «أزمة» على ما يجرى في سورية (وردت هكذا 3 مرات).
يبقى أن نسأل هل وقع التقدير في كل تلك المغالطات والاستنتاجات الفجة بسبب حَوَل سياسي أصاب معديه أم تبريراً لموقف تركيا وتعاونها مع روسيا (مقر المركز في تركيا له فرعان في اسطنبول وغازي عنتاب)، أم على خلفية سعي جماعة «الإخوان المسلمين»، التي تمتلك المركز وتديره، لكسب ود روسيا من أجل دور ما في سورية.
عقدة بان كي مون كانت أنه بدأ حياته لاجئاً بسبب الحرب الكورية في الخمسينات؛ ولهذا لم يرَ يوماً أي غضاضة، في أن يتحوّل اللجوء حقاً مكتسباً للتوطين والحصول على هوية البلد المضيف، وعلى هذا وضع فذلكة لتبرير نظريته، التي كررها دائماً بقول إن إعادة توطين اللاجئين السوريين في دول الجوار يفيد هؤلاء اللاجئين كما يفيد الدول التي تستضيفهم؛ لجهة أنهم يمكن أن يشكلوا عنصر إنتاج إضافياً في المجتمع!
لكن من الغريب أن يتحدث الرئيس دونالد ترمب عن توطين اللاجئين في الدول المجاورة، رغم معرفته بأن حركة اللجوء من شأنها في النهاية التأسيس لخلق الاضطرابات والمشاكل في دول الجوار التي يتحدث عنها، وخصوصاً في بلد مثل لبنان الذي تجاوزت نسبة اللجوء السوري فيه 40% من عدد سكانه، أي ما يوازي نسبياً دخول 150 مليون لاجئ مكسيكي إلى أميركا، هذا في الوقت الذي بدأ ترمب يبني جداراً سيكلف 28 مليار دولار، لمنع وصول اللاجئين من المكسيك، ويلوّح يومياً بنيته طرد 20 مليوناً لا يملكون وثائق إقامة شرعية في الولايات المتحدة!
إذا كان ترمب يقصد التوطين المؤقت ريثما يتوفر الحل السياسي في سوريا، الذي يساعد على عودة هؤلاء إلى بلدهم المدمّر، حيث لا منازل ولا أعمال، فضروري أن نتذكر أن معالجة هذا الأمر قد يتطلب في النهاية عشر سنوات على الأقل، وأن هناك خمسة ملايين سوري في الدول المجاورة، منهم مليونان في لبنان، ليس في وسع هذه الدول أن تتحمل أوزارهم في الاقتصاد والأعمال والصحة والتعليم.
في 30 يناير (كانون الثاني) من عام 2013 استضافت الكويت المؤتمر الأول للمانحين للاجئين السوريين، وقد حَضَرتُ هذا المؤتمر واستمعت إلى بان كي مون يخاطب اللاجئين السوريين بقوله «أنتم لستم وحدكم، العالم برمته إلى جانبكم في هذه الأزمة، سنواصل صمودنا إلى جانبكم إلى حين إخراج سوريا من براثن الأزمة، وإلى حين إنقاذ الشعب السوري».
ترهات طبعاً، ليس لأن العالم لم ولن يقف إلى جانب الشعب السوري، بل لأنه وقف يتفرّج عليه وهو يغرق يومياً وحتى هذه الساعة في دمائه ودمار بلاده، ولأن هذا العالم لم يفِ بربع ما تكفل بتقديمه من الدعم والمساعدات للدول المضيفة.
بان كي مون ذهب إلى بيته وأنطونيو غوتيريش الذي خلفه، كان يومها المسؤول الدولي لشؤون اللاجئين وقدم تقريراً مسهباً في مؤتمر الكويت عن أوضاعهم، لكنه بقي بمثابة صرخة في البرية الدولية، ولن يتمكن الآن من أن يعالج فاصلة في أزمة اللجوء التي تؤسس بالتالي لسلسلة من المشاكل والانفجارات التي تفاقمها الدعوة إلى توطين اللاجئين في دول الجوار، بدلاً من العمل لتأسيس قاعدة تعاون جاد وحازم ومسؤول مع روسيا والمجتمع الدولي لحل الأزمة السورية، وخصوصاً أن الحرب كادت تنهي تنظيم داعش.
بداية أبريل (نيسان) الماضي أطلق الرئيس سعد الحريري في مؤتمر بروكسل وعلى مسامع 70 وزيراً للخارجية من دول العالم، صرخة لبنان الذي بات يواجه خطراً متزايداً قد يعرّضه لهزات داخلية، بسبب وضعه الاقتصادي الذي لم يعد قادراً على تحمّل الأعباء الثقيلة والمدمرة التي فاقمها هذا العدد من اللاجئين، وهو ما رفع الخسائر التي تكبدها إلى ما يزيد على عشرة مليارات دولار، في حين لم تفِ الدول المانحة بأكثر من 37% من المبالغ التي قررتها لدعمه.
صرخة الحريري كانت مطالبة دول العالم بأن تتحمل مسؤولياتها السياسية والإنسانية والقانونية والأخلاقية، لجهة دعم لبنان بمبلغ المليارات العشرة، لكن على شكل هبات وقروض ميسّرة لإطلاق ورشة تنمية تستطيع منع انهياره تحت أعباء اللجوء، لكن كما ضاع صراخ بان كي مون في مسلسل مؤتمرات المانحين ضاعت صرخة سعد الحريري.
في أي حال، من الضروري أن نتذكّر أن الدعوة إلى توطين اللاجئين ستصيب اللاجئين الفلسطينيين في لبنان والدول الأخرى، بما يعني استطراداً إسقاط «حق العودة» ونسف الحل السياسي العادل للقضية الفلسطينية، ويأتي هذا مع تصريحات الرئيس الأميركي التي توحي بإمكان التوصل إلى حل لها في خلال سنة على أبعد حد، فهل من المستبعد أن صيغة التوطين التي تناولت السوريين، يمكن أن تنسحب على اللاجئين الفلسطينيين، وأي حل يمكن أن ينجح في ظل هذا؟
كان من المثير أن يأتي كلام ترمب عن توطين السوريين في دول الجوار متزامناً مع بدعة التعجيز، أو بالأحرى التهجير النهائي، التي ابتدعها النظام السوري، حيث تغرق وزارتا العدل والداخلية في حكومة الأسد في اجتماعات هدفها كما أُعلن، وضع الأسس الفنية والعلمية لتنفيذ اقتراح إجراء فحوصات البصمة الوراثية (DNA) على الذين هربوا للتحقق من أنهم سوريون عندما يعودون إلى سوريا!
الدكتور حسين نوفل، رئيس قسم الطب الشرعي في جامعة دمشق، يقول هناك حاجة لإثبات نسب السوريين الفارين، وأن عدد هؤلاء مليونان غادروا سوريا وهم في عمر الـ14 وصاروا الآن في عمر الـ20، وأن عملية التحقُق وإنجاز الفحص الوراثي تحتاج إلى أربع سنوات، لكن ماذا مثلاً عن الـ170 ألفاً من الأطفال السوريين الذين وُلدوا في الأعوام الماضية في مخيمات اللجوء في لبنان ويرفض النظام السوري تسجيلهم وإعطاءهم هويات، ولا يمكن أن يمنحهم لبنان جنسيته، وهذه مشكلة فوق طوفان من المشاكل!
التوطين في دول الجوار يناسب الأسد الذي تحدث في خطابه نهاية أغسطس (آب) الماضي عن أن الحرب التي مرت بها سوريا «جعلتنا نكسب مجتمعاً صحياً متجانساً»، وهو ما فهمه الكثيرون بأنه يحرص على ألا يبقى في البلاد إلا أنصاره أو حلفاؤه، وكل ذلك في ظل الأنباء المتواترة عن عمليات واسعة لتغيير ديموغرافي تجعل من دمشق وسط زنار شيعي تديره إيران.
حديث الأسد عن «المجتمع المتجانس» وجد فيه الكثيرون محاولة لإضفاء الشرعية على عمليات التغيير الديموغرافي التي شملت المناطق التي كانت معاقل للمعارضة؛ ولهذا يقول المعارضون إن النظام يسعى بكل الوسائل إلى صنع «غربال بشري» يستعمله لمنع معارضيه وعائلاتهم الذين فروا بسبب الحرب من العودة إلى بلادهم.
وفي السياق، نقلت الوكالات قبل أيام عن عميد في الجيش السوري يدعى عصام زهر الدين رسالة إلى اللاجئين تقول: «إلى من هرب، ومن فرّ من سوريا إلى أي بلد آخر، أرجوك لا ترجع لأنه إذا سامحتك الدولة، فنحن عهداً لن ننسى ولن نسامح… نصيحة من هذه الذقن أن لا يرجع أحد منكم»!
في الوقت الذي تعقد فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة دورتها الثانية والسبعين، تبقى إيران على حالها المعتاد، حيث يلوح التهديد النووي في الأفق. ولا تزال إيران ترتكب انتهاكات جسيمة في مجال حقوق الإنسان، وتبقى الدولة الرائدة في رعاية الإرهاب. وبعد عامين من توقيع خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA)، والمعروفة أيضاً باسم الاتفاق النووي الإيراني، وقبل أسابيع من إصدار المصادقة عليها، لا تزال تطفو على السطح الأدلة المتعلقة بممارسات إيران الشائنة، وكذلك التساؤلات حول فاعلية خطة العمل الشاملة.
منذ تأسيسها في عام 2008، تعمل منظمة متحدين ضد إيران النووية UANI على ضمان أن تظل قضية إيران وطموحاتها النووية في مقدمة كل مناقشة للسياسة الخارجية. وتعهدت UANI، التي ولدت من قيادة السفير الراحل ريتشارد هولبروك والسفير دنيس روس وأنا، بوقف إيران عن تحقيق طموحاتها النووية، ومنع الكيانات الأخرى من دعم النظام بمساعدة اقتصادية ومالية.
الأسبوع الماضي، استضافت UANI مؤتمرها السنوي الثاني بشأن إيران، والذي دعت إليه تشكيلة متميزة من القادة الأجانب الحاليين والسابقين، والمشرعين والخبراء عن الشؤون الإيرانية لدراسة البيئة السياسية والاقتصادية منذ توقيع الاتفاق في 2015، مع التركيز على دور النظام في المنطقة، وعلاقته بكوريا الشمالية ومستقبل سياسة إيران في إدارة ترمب.
في يناير (كانون الثاني) من عام 2016، أشاد الرئيس أوباما بإبرام الصفقة مع إيران واعداً بأن «المنطقة والولايات المتحدة والعالم سيكونون أكثر أمناً». بعد ذلك بعامين تقريباً، ومع ذلك، تشير أدلة واضحة إلى أنَّ أيَّ أمل في تحقيق هذا الوعد قد تلاشى.
وعلاوة على ذلك، فإن وضع خطة العمل الشاملة المشتركة بشأن إيران يثير شكوكاً أكثر من أي وقت مضى. وخلال كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا الأسبوع، وصف الرئيس ترمب الاتفاق بأنه «إحراج» للولايات المتحدة. وعلى الرغم من أن الرئيس حسن روحاني نفى أن تكون بلاده أول من ينتهك الاتفاق في خطابه يوم الأربعاء، فإن المجتمع الدولي شهد أن إيران تنتهك بشكل متكرر روح الاتفاق، وخصوصاً قرار الأمم المتحدة رقم 2231 الذي ينص على الاتفاق.
وكما هو مكتوب، فإن الاتفاق الإيراني ليس سوى إجراء مؤقت بدلاً من التوصل إلى حل دائم للتهديد الذي يشكله البرنامج النووي للنظام. وتعني أحكام الاتفاق الواردة في خطة العمل الشاملة أن أربع سنوات من الآن، أي في عام 2021، ستتمكن إيران من نقل الأسلحة التقليدية دون أية قيود من الأمم المتحدة. بالإضافة، وبحلول عام 2024، سيتم رفع العقوبات الدولية عن برنامج الصواريخ الباليستية الإيرانية. وخلال عقد من الزمن، ستكون إيران حرة في استئناف تخصيب اليورانيوم على نطاق صناعي وإعادة معالجة البلوتونيوم.
وفي الوقت نفسه، حققت إيران بالفعل فوائد لا يستهان بها من خلال هذه الصفقة. فمع رفع العقوبات من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وضعت إيران يدها مجدداً على 100 مليار دولار أو أكثر كانت على صورة أصول مجمدة سابقاً، ومن المتوقع أن يرفع الاتحاد الأوروبي عقوبات أخرى في السنوات المقبلة. ويقوم النظام باستخدام هذه الأموال لتعزيز قواته العسكرية والأمنية، بالإضافة إلى زيادة دعمه للوكلاء الخطرين في جميع أنحاء المنطقة.
وفي رسالة موجهة إلى الكونغرس في أبريل (نيسان) 2017، شدد وزير الخارجية ريكس تيلرسون على أن «إيران لا تزال الراعي الرئيسي للإرهاب، من خلال كثير من المنصات والأساليب». وفي أفغانستان، النظام الإيراني متهم بتوفير الأسلحة والمعدات العسكرية لمقاتلي «طالبان». وفي لبنان وفلسطين، تمول إيران حزب الله وحماس ومنظمات إرهابية أخرى. وفي سوريا، تقدم إيران الدعم المباشر إلى الديكتاتور بشار الأسد، مع استمرار الحرب الأهلية المدمرة هناك والسماح باستمرار الأعمال الوحشية ضد المدنيين.
وكما قال وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس: «في كل مكان تنظرون إليه، إذا وجدت مشكلة في المنطقة، تجد (هناك) إيران».
وتمتد مشاركة إيران في أنشطة مزعجة تتجاوز حدود المنطقة. فمنذ وضع اللمسات الأخيرة على خطة العمل الشاملة، قام النظام باختبار ما لا يقل عن 16 صاروخاً باليستياً، والاشتباه في تقديمه المساعدة لبرنامج الصواريخ النووية لكوريا الشمالية. وفي وقت سابق من هذا الشهر أعلنت وزارة الخارجية والكومنولث البريطانية أنها تحقق فيما إذا كانت «الدول النووية الحالية والسابقة» ساعدت كوريا الشمالية على تطوير تكنولوجيا الأسلحة النووية. وأفيد بأن إيران كانت على رأس قائمة البلدان المشتبه بقيامها بذلك.
وهناك موضوع دائم استمر طوال الاجتماعات المتعاقبة للأمم المتحدة وهو المشكلة التي يطرحها النظام الإيراني المتطرف والمزعزع للاستقرار. والاتفاقات المعيبة ليست الحل. ويجب أن يعمل مجتمع الأمم المسؤولة في نيويورك على إيجاد حلول تعالج هذا التهديد بصورة حقيقية.
الاتفاق النووي الضعيف الذي تبنته الإدارة الأميركية السابقة ووقعته مع إيران، مسؤول جزئياً عن اندفاع كوريا الشمالية في تطوير برنامجها النووي. فقد كوفئت إيران بـ150 مليار دولار، في صفقة رد أموال من زمن الشاه مع أرباحها، ومُنحت عقوداً ضخمة لتطوير قدراتها التقنية والتصنيعية، وأُلغي معظم العقوبات الدولية عليها.
كوريا الشمالية المحاصرة اختارت أن تبتز العالم أيضاً، لأنها تراه تجارة مربحة. وكما كانت إيران تهدد بحرق إسرائيل، فكوريا الشمالية، هي الأخرى، تهدد اليوم اليابان. تجربتها الصاروخية النووية الثانية قبل أسبوعين، أُطلقت، وبنجاح، فوق سماء اليابان. ولَم يعد هناك شك في خطر كوريا الشمالية.
صارت واشنطن أمام خيارين؛ إما أن تمنح رئيس كوريا الشمالية كيم جونغ أون اتفاقاً مماثلاً لما حصلت عليه حكومة طهران، أو أن تنقض الاتفاق مع الإيرانيين وتطرح أفكاراً تجرد قدرات البلدين النووية. مندوبة واشنطن لدى الأمم المتحدة، نيكي هايلي في ندوة معهد «إنتربرايز»، ربطت بين الخطرين. تقول محذرة من أن الاتفاق النووي مع إيران، إن بقي دون تغيير، قد يتيح لطهران تشكيل التهديد نفسه الذي تشكله كوريا الشمالية. فهل ستستطيع الإدارة الأميركية الحالية نقض الاتفاق الذي وقعته والدول الغربية مع إيران قبل عامين؟ حتى السفيرة هايلي لا تقول بالتخلي الكامل، لكنها تدعو لتصحيح الاتفاق بما لا يدع لنظام آية الله مجالاً لتطوير قدرات نووية عسكرية في الخفاء، ويربط الاتفاق بسلوك إيران في المنطقة بعد أن توغلت قواتها وميليشياتها تقاتل في عدد من الدول لفرض نفوذها.
الوقت الفاصل قصير حتى يقرر الرئيس الأميركي دونالد ترمب موقفه... بقي أسبوعان، تقريباً، حيث يتعين عليه أن يبلغ الكونغرس أن إيران ملتزمة ببنود الاتفاق أم لا. إن قال لا، حينها سيعيد الكونغرس العقوبات، وإن أعيدت فعلاً؛ فإن إيران تقول مهددة إنها ستَعدّ الاتفاق «لاغياً»، وستعود للتخصيب العالي واستئناف مشروعها النووي العسكري.
الدول الخليجية والإقليمية كمتفرجة، لا تملك القدرة على منع نظام إيران، ولا إلغاء الاتفاق. ووجهة النظر الخليجية منذ البداية أن الاتفاق المشروع جيد من حيث المبدأ، لكن الاتفاق الموقّع سيئ. فهو يؤجل «النووي العسكري» ولا يلغيه، ورفع العقوبات ليس مشروطاً بوقف نشاطاتها العسكرية العدائية. وفي حال نجحت إيران خلال السنوات القليلة المقبلة في السيطرة، أو الهيمنة، على دول رئيسية مثل العراق وسوريا، فإن قدرة طهران ستتضاعف لفرض مشروعها النووي العسكري ولا يصبح للاتفاق النووي قيمة كبيرة، وسيصبح صعباً على المجتمع الدولي فرض عقوبات عليها لضخامة تأثيرها ونفوذها.
إيران تراقب، لأن ما سيفعله ترمب بكوريا الشمالية هو رسالة لها أيضاً. ترمب ليس أوباما، لن يرسل لها هدايا، ولن يسكت عن إهاناتها، على الأقل هذا تقديري للوضع.
بات غـرب آسيا أكبر ملاعب الصراع بين كبار لاعبي العالم وصغاره، وبين آخرين ارتقوا بسرعة لافتة إلى مراتب إقليمية عالية. ملاعب الصراع منفصلة ومتصلة في آن. تمتّد من الشواطئ الشرقية للبحر الابيض المتوسط إلى الشواطئ الغربية لبحر قزوين، ومن الشواطئ الجنوبية للبحر الاسود إلى الشواطئ الشمالية لبحر العرب.
ملاعب الصراع في غرب آسيا مكتظة بلاعبين كثر اقليميين: عرب، وصهاينة، وترك، وكرد، وفرس. إلى هؤلاء، ثمة لاعبان كبيران دوليان: الولايات المتحدة وروسيا الإتحادية، يشاركهما أحياناً لاعب بريطاني وآخر فرنسي، ويراقب «المباريات» من بعيد لاعب دولي مقتدر: الصين.
لكلٍّ من هؤلاء اللاعبين «لعبته»، بمعنى قضيته الخاصة، لكنه يشارك الآخرين في ألعابهم وألاعيبهم. اولى القضايا هي قضية العرب المزمنة، بما هي صراع من اجل الإستقلال والحرية والوحدة والنهضة. غير انه، بتدخلاتِ كبار لاعبي اوروبا وامريكا، استطاع الصهاينة مشاركة سائر اللاعبين المباريات المحتدمة منذ النصف الاول للقرن العشرين.
في هذه «اللعبة» تحديداً، ازداد مع احتدام الصراع عدد اللاعبين الاقليميين من ترك وفرس. كما حاول لاعبون كرد التسلل إلى الملعبين العراقي والسوري لانتزاع ادوار لهم بغية تنظيم لعبتهم الخاصة.
اقوى اللاعبين واخطرهم واكثرهم خرقاً لقواعد الصراع هو اللاعب الامريكي، ذلك انه تمكّن بعد الحرب العالمية الثانية من ازاحة اللاعبين البريطاني والفرنسي وانتزاع الكثير من ادوارهما. اللافت انه كان دائماً داعماً ومناصراً لللاعب الصهيوني في كل المباريات التي جرت على ملاعب الصراع. كما انه استفاد من خروج اللاعب الروسي بضعَ سنوات، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، لكن، بعودة اللاعب الروسي بكامل لياقته البدنية إلى ملاعب الصراع، انحسر دور اللاعب الامريكي بشكل ملحوظ وتبدّى ذلك في نتائج المباريات التي جرت، وما زالت تجري، من عام 2011 فصاعداً.
إذا ما ترجمنا هذه اللوحة الرمزية إلى وقائع سياسية وميدانية لخرجنا بصورة واقعية للوضع القائم في غرب آسيا على النحو الآتي:
أولى قضايا الصراع حاليّاً تلك المحتدمة بين الولايات المتحدة وإيران، ذلك أن واشنطن تستشعر، بقلق، تنامي قوة ايران، عسكرياً وسياسياً ، ما حملها تحت ضغط «اسرائيل» من جهة، والكونغرس من جهة اخرى، على التهويل بإلغاء الاتفاق النووي المعقود بين ايران ودول كبرى ست ومصادَق عليه في مجلس الامن، ظنّاً منها أن ذلك قد يُقنع ايران بالموافقة على تعديله. غير أن طهران رفضت التعديل وهددت بردٍّ حازم على واشنطن اذا ما قامت بإلغاء الاتفاق. الواقع أن جميع الدول الموقعة على الاتفاق ومعظم أطراف المجتمع الدولي تؤيده ما قد يؤدي إلى احد احتمالين: إبقاؤه على ما هو عليه، أو قيام الكونغرس الامريكي بتشديد العقوبات على ايران إرضاءً لـِ»اسرائيل». كلٌّ من هذين الاحتمالين يُضعف الولايات المتحدة ويصنّفها الخاسر الاكبر في الصراع.
ثانيةُ قضايا الصراع الحرب في سوريا وعليها، ذلك أن الولايات المتحدة، بالتواطؤ مع «اسرائيل»وبعض دول الخليج، قامت بدعم تنظيمات إرهابية ناشطة في العراق وسوريا بالمال والسلاح والرجال ما مكّنها من السيطرة، في بعض المراحل، على ثلثي مساحة العراق وأكثر من نصف مساحة سوريا. غير أن بقاء الجيش السوري متماسكاً واندفاع حزب الله إلى مساندته كما روسيا في مرحلة لاحقة، كسر هجمة الإرهابيين واخرج فصائلهم من معظم المناطق التي وقعت تحت سيطرتهم.
في العراق، أعيد تنظيم الجيش وجرى دعمه بفصائل «الحشد الشعبي» ما أدى إلى تحرير الموصل ومناطق اخرى واسعة كانت وقعت تحت سيطرة تنظيمات الإرهاب. هذه الهزيمة المدوّية للإرهاب تشكّل هزيمة للمشروع الامريكي- الصهيوني الهادف إلى تفكيك الدول العربية المحيطة بالكيان الصهيوني إلى جمهوريات موز قائمة على اساس قبلي او مذهبي او إثني. كما هي هزيمة لتركيا التي حاولت، في ظل اردوغان، إحياء هيمنة عثمانية ذاوية على المشرق العربي تحت راية الاخوان المسلمين الذين يوالون اقليمياً حزب العدالة والتنمية الاردوغاني.
ثالثةُ قضايا الصراع محاولة بعض قيادات الكرد استغلال انشغال دول الاقليم بحربها على الإرهاب، بغية إحياء مطلب الكرد التاريخي بإقامة دولة مستقلة تجمع شعوبهم في تركيا والعراق وسوريا وايران. اللافت أن الولايات المتحدة، بالتواطؤ مع «اسرائيل»، دعمت مباشرةً ومداورةً الكرد الانفصاليين في اطار مشروعها الرامي إلى تفكيك محيطها العربي إلى جمهوريات موزٍ هزيلة ومتناحرة. غير أن نهوض حكومتي سوريا والعراق، بالتعاون مع قوى المقاومة العربية المدعومة من ايران، إلى مواجهة الإرهاب التكفيري عطّل جهود الكرد الانفصاليين أو كاد وحمل تركيا على وقف دعمها لـِ»داعش» والتنسيق بجديّة اكثر مع كلٍ من روسيا وايران حليفتيّ سوريا في مواجهة الارهاب. مع ذلك فإن قضية الكرد الانفصاليين لم تنتهِ بعد لأن الولايات المتحدة و»اسرائيل» تثابران على دعم الكرد الانفصاليين في سوريا والعراق (وحتى في تركيا وايران) بغية تحويل غرب آسيا، على المدى الطويل، إلى موزاييك حيّ من الكيانات القبلية والمذهبية والإثنية المتمايزة والمتناحرة.
رابعةُ القضايا هي قضية فلسطين التاريخية التي فقدت مركزيتها في حياة العرب والمسلمين، جرّاء صراعات الاطراف الفلسطينية، من جهة ودعم الولايات المتحدة اللامتناهي لـِ»اسرائيل» وللقوى المحلية العربية المتعاونة معها من جهة اخرى. في هذا السياق، تحاول ادارة ترامب تدوير زوايا التباين بين «اسرائيل ومنظمة التحرير ( برئاسة محمود عباس) على نحوٍ يؤدي إلى «منح « الفلسطينيين «دولة» أشبه ما تكون بكانتون بلدي بحكم ذاتي منزوع السلاح ومرتبط بالاقتصاد الإسرائيلي، على أن يتمّ ذلك كله في إطار ترتيبٍ أوسع يقضي بمصالحة الدول العربية المحافظة مع «اسرائيل» وتطبيع العلاقات بينها وبين سائر الدول العربية الرافضة توقيع معاهدة سلام معها. لا أفق لمبادرة ادارة ترامب هذه، خصوصاً بعدما تمكّنت سوريا والعراق من تجاوز خطر الإرهاب الداعشي، وبالتالي مباشرة إرهاصٍ بنهوض عروبي جديد مقاوم للكيان الصهيوني وحلفائه.
خامسةُ القضايا هي قضية التخلف العربي الذي أنجب، من بين مواليد قميئة كثيرة، الإسلام السلفي المتطرف، الذي أنجب بدوره الإرهاب التكفيري المتوحش. غني عن البيان أن التخلف قضية مزمنة متعددة الجوانب ولا جدوى من مواجهتها إلا بحركة عروبية نهضوية، ثقافية واجتماعية وسياسية، تقودها طلائع مقاومة مدنية وميدانية بنَفَس طويل على مستوى القارة العربية برمتها.
هذا على المدى الطويل. أما على المدى القصير والمتوسط فلا بدّ من اضطلاع قوى المقاومة العربية الحيّة في كلٍّ من سوريا والعراق بمهمة إطلاق حركة سياسية نهضوية لبناء دولة «سوراقيا» المدنية الديمقراطية الاتحادية بغية النهوض بمهمتين تاريخيتين: مواجهة الكيان الصهيوني العنصري النووي، ومقاومة الإرهاب التكفيري المتحالف مع امريكا و»اسرائيل».
المقاومة هي المبتدأ والخبر.
حقّقت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل نصراً جديداً في الانتخابات التشريعية الألمانية يضمن لها تشكيل حكومة للمرة الرابعة رغم أن نتيجة حزبها تراجعت 9 نقاط عن نتيجتها السابقة (41٪ من الأصوات) في الانتخابات السابقة عام 2013، ولكن هذه النتيجة لن تستطيع تجاوز آثار صعود حزب «البديل»، وما يستثير دخوله كممثّل لاتجاه اليمين المتطرّف إلى البرلمان لأول مرة منذ 60 عاماً من ذكريات أليمة لألمانيا وأوروبا والعالم عبر استعادة سنوات ثلاثينيات القرن الماضي التي جاءت بالنازيين وزعيمهم أدولف هتلر إلى السلطة.
ورغم اختلاف السياقات التاريخية، وأن الأغلبية الكبرى من الألمان صوّتوا لأحزاب معتدلة، فإن حصول الحزب المتطرّف على 94 مقعداً، ونيله المركز الثالث في ترتيب الأحزاب، وتحوّله من كيان هامشيّ إلى جزء من الماكينة السياسية التشريعية القادرة على الضغط على الحكومات والسلطات، كل هذا يعني أن هذه الظاهرة ستكون، ولوقت طويل، جزءاً من التاريخ السياسي لأوروبا والعالم، وخصوصاً حين نضعه في سياق صعود الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى سدّة السلطة، ونجاح أنصار الانفصال عن أوروبا في بريطانيا بالفوز في استفتاء حزيران/يونيو العام الماضي، والمخاوف التي اجتاحت أوروبا مع إمكانيات صعود «الجبهة الوطنية» وزعيمتها مارين لوبان في فرنسا، وكذلك حزب «الحرية» وزعيمه في هولندا غيرت فيلدرز (وتجلّياتها المشابهة في أنحاء القارة وخارجها).
إضافة إلى رفض هذه الاتجاهات للاتحاد الأوروبي، فإن ميولها الاجتماعية والسياسية العنصرية وجدت هدفاً كبيراً آخر غير اليهود (الذين كانوا موضوع الكراهية الرئيسي لهذه الاتجاهات خلال القرن الماضي) هو المسلمون، وقد فاقم هذه المسألة، في ألمانيا خصوصاً، قرار ميركل بفتح الحدود أمام فيض اللاجئين عام 2015، ما أدّى إلى دخول نحو مليون لاجئ معظمهم من سوريا والعراق، إلى البلاد، وهذه كانت العتلة التي رفعت من شعبيّة حزبي «البديل» (الذي فاز بـ12.6٪ من أصوات الناخبين) و«الديمقراطي الحرّ» (10.7٪ من الأصوات) المعارضين بشدة للهجرة.
ورغم التراجع الذي لحق بحزبها «الديمقراطي المسيحي»، وإقرارها بمسؤوليتها عن حالة الاستقطاب الحالية في البلاد فقد كررت ميركل أمس موقفها من قرار فتح الباب للاجئين واعتبرت أن القرارات الأساسية التي اتخذتها سليمة وأنها مسؤولة عنها.
بنت ميركل قرارها المذكور على عمودين متساندين، الأول يتعلّق برؤية استراتيجية للاقتصاد والاجتماع الألمانيين، واللذين يتجهان خلال العقود المقبلة نحو عجز متزايد في عدد السكان الشبان القادرين على قيادة عجلة الاقتصاد ودفع الدماء الطازجة في المجتمع، والثاني يرتبط بمبادئها السياسية وبتاريخها الشخصي الذي وضع مقاربة بين كوارث النزوح والآلام التي تعرض لها الشعب الألماني ونظائرها لدى الشعوب الأخرى.
إضافة إلى تأثير هذه الدعامات الاقتصادية ـ السياسية ـ الاجتماعية والأخلاقية لقرار ميركل في التاريخ المعاصر والمقبل لألمانيا، فإن له أيضاً أثره التاريخيّ في حفظ مصداقية وشرعيّة المبادئ الإنسانية لأوروبا، وكذلك في تخفيف التوترات السياسية والحضارية التي تعتاش عليها التيارات العنصرية في الغرب، وكل من الأنظمة الاستبدادية والتيارات السلفيّة المسلحة في الشرق.
انتصار ميركل، ولو كان مطعّما بالمرارة ومخترقاً بصعود تيارات الفاشية العنصرية، هو انتصار للخطّ العقلاني والإنساني الأوروبي أمام ذئاب العنصرية والاستبداد والتطرف في الغرب والشرق.
لا شك أن التاريخ سيذكر أن سيرجي لافروف وزير الخارجية الروسي الحالي وجون كيري وزير الخارجية الأمريكي الأسبق في عهد باراك أوباما شكّلا ثنائياً شهيراً لسنوات، فقد كانا أنشط وزيرين دوليين في الأزمة السورية، وقد اجتمعا عشرات لا بل مئات المرات، وكانا يقودان عملياً فريقي الصراع السوري، لافروف كان بمثابة المتحدث الرسمي باسم النظام السوري، بينما كان جون كيري يمثل بطريقة ما قوى المعارضة السورية مع الاعتراف طبعاً أن الجانب الروسي كان أصدق وأوثق في تحالفه مع نظام الأسد من الجانب الأمريكي مع المعارضة. ومن كثرة ما التقى لافروف بكيري أصبح هذا الثنائي أشبه بتوم أند جيري بطلي المسلسل الكرتوني الشهير، إلى حد أن البعض قال ذات يوم ساخراً: « ونحن صغار كنا نشاهد توم أند جيري، وعندما كبرنا صرنا نشاهد لافروف أند كيري».
لكن على عكس توم أند جيري اللذين ارتبطا في أذهان العالم بالصراع الأبدي بين القط والفأر، فإن الجميع كان ينظر إلى لافروف وكيري نظرة ريبة وشك، فعلى الرغم من أنهما يمثلان قوتين متصارعتين نظرياً، إلا أنهما كانا في نظر الكثيرين نسخة عن الثنائي الفرنسي البريطاني الشهير سايكس وبيكو اللذين قسّما العالم العربي إلى اثنتين وعشرين دولة عبر الاتفاقية التاريخية الشهيرة المعروفة باسميهما. وقد شك الكثيرون بأن الروس والأمريكيين رغم صراعهما على مناطق النفوذ في العالم، إلا أنهما كانا متفقين على تقاسم النفوذ بسلاسة فيما بينهما في سوريا تحديداً. وقد كان مؤيدو النظام السوري نفسه المتحالفون مع الروس يخشون من ذلك الثنائي الخطير كيري ـ لافروف، وكان بعضهم يعتقد أنهما يتآمران على تقسيم سوريا وغيرها في المنطقة، لا بل إن كثيرين كانوا يعتبرون كيري ولافروف بأنهما أخطر من سايكس وبيكو، لأنهما سيعيدان تقسيم العالم العربي ليس إلى دول كما فعل سايكس وبيكو البريطاني والفرنسي، بل إلى دويلات وأقاليم وطوائف وملل متناحرة.
وأتذكر ذات مرة في محادثة مع أحد مؤيدي النظام السوري أنه قال لي حرفياً: «انتظر ذات يوم تطبيق اتفاق كيري لافروف على الأرض السورية، وعندها سنكتشف أن الروس كانوا متواطئين مع الأمريكيين والإسرائيليين على سوريا وليسوا متحالفين معنا كما يبدون الآن».
لكن الآن وبعد بدأت أمريكا تخرج من المنطقة شيئاً فشيئاً، يبدو أن اتفاق كيري لافروف كان في واقع الأمر كذبة كبيرة، وكان مظهراً من مظاهر نظرية المؤامرة التي تعشش في أذهان الكثير من السوريين والعرب. ومن الواضح أن التحالف الدولي الذي شكلته أمريكا من أكثر من ستين دولة لمحاربة داعش في سوريا كان يهدف إلى مساعدة الروس والإيرانيين والنظام السوري على إعادة إحكام السيطرة على سوريا بدل تقاسم النفوذ مع الروس. وقد بدأنا نكتشف في الأيام الأخيرة أن فكرة سوريا المفيدة بدأت تتلاشى بعد أن بات الروس والإيرانيون وقوات النظام السوري تسيطر على المدن الواحدة تلو الأخرى.
لقد ظن البعض أن مدينة دير الزور التي تشكل جزءاً مهماً من الشرق السوري ستكون من نصيب أمريكا كونها غنية بالنفط والغاز. لكن الجميع تفاجأ بوصول القوات السورية وحلفائها على حين غرة إلى دير الزور. وبذلك إذا سقطت المدينة في أيدي الروس وحلفائهم، فهذا يعني سقوط فكرة سوريا المفيدة التي كانت تعني عملياً تقسيم سوريا بين القوى المتصارعة عليها. وحتى مدينة الرقة فيما لو انتزعتها القوات الكردية من أيدي الدواعش، فلن تكون من نصيب الأمريكيين ولا الأكراد، لأن الروس وقوات النظام والإيرانيين يبدون مصممين على القضاء على الميليشيات الكردية بعد الانتهاء من داعش. وقد شاهدنا في الأيام الماضية أن الطيران الروسي استهدف ما يسمى قوات سوريا الديمقراطية الكردية حسب الاتهامات الأمريكية. وهذا يعني أن اتفاق كيري لافروف الذي ظن البعض أنه يهدف إلى تقسيم سوريا كان وهماً، بدليل أن الروس يريدون السيطرة مع النظام على كامل الأرض السورية، لا بل إنهم أبدوا معارضة واضحة للاستفتاء الكردي في كردستان العراق. وقد طالب بوغدانوف نائب وزير الخارجية الروسي إسرائيل بالتوقف عن دعم الانفصال الكردي وتأييد الحقوق الكردية في سوريا والعراق، واتهمها بالنفاق قائلاً: «أليس من الأفضل أن تعطوا الفلسطينيين حقوقهم في فلسطين بدل دعم الحقوق الكردية في العراق وسوريا؟».
هذه التصريحات والمواقف الروسية على الأرض تنسف اتفاق كيري لافروف تماما وتجعله في مهب الريح، هذا إذا كان موجوداً أصلاً. ويُحسب للروس أنهم منعوا تقسيم سوريا إذا نجحوا في نهاية المطاف في الحفاظ على وحدة التراب السوري ومنع تقسيم سوريا إلى دويلات طائفية وعرقية ومذهبية.