بوتين يتهاون بالأسلحة الكيماوية ويقوّض القانون الدولي
يختزل اللجوء إلى الأسلحة الكيماوية في سورية مساعي روسيا إلى تقويض معايير القانون الدولي استراتيجياً وسياسياً ورمزياً. ولا ريب في أن التوسل السياسي بـ «خطوط حمر» هو شكل خطر من الردع. ولا ترتجى فائدة من الوقوف موقف المتفرج إثر توعد من يستخدم الأسلحة الكيماوية المحظورة. وإذا أودت الأسلحة هذه بحياة ضحايا، تولت مجموعة متعددة الأطراف تحديد المسؤول عن الهجوم على نحو ما تعرف معاهدة حظر الأسلحة الكيماوية. ولكن منذ تشرين الثاني (نوفمبر) 2017، أي منذ أجهضت روسيا تجديد ولاية لجنة التحقيق المشتركة من طريق حق النقض (الفيتو)، يُفتقر إلى آلية تحقيق مشتركة في الأمم المتحدة. وترمي تحقيقات منظمة حظر الأسلحة الكيماوية فحسب إلى تحديد الوقائع وليس المسؤوليات.
وفي بريطانيا، استخدم غاز نوفيتشوك في الهجوم على العميل الروسي السابق، سيرغي سكريبال وابنته. والغاز هذا سام عصبياً- فهو يصيب الجهاز العصبي المركزي- وهو من الجيل الرابع للغازات، وهو غير مدرج في الجدول الأول من فهرس المنتجات الكيماوية في معاهدة حظر الأسلحة الكيماوية. والغاز هذا ابتُكر في السبعينات والثمانينات في الاتحاد السوفياتي. ولذا، كان يسيراً على البريطانيين تحديد الجهة الواقفة وراء الهجوم واتهام الروس بعملية التسميم. ولكن إثر انهيار الاتحاد السوفياتي، واستقلال جمهورياته، انتشر بعض مخزونه الكيماوي العسكري، وتشتت. ولم تسجل أمكنة حفظ الغاز هذا وكمياته. وعليه، إثبات اللجوء إلى الغاز هذا عسير.
ووثق الدكتور فيل ميرزايانوف، اللاجئ إلى الولايات المتحدة، كميات هذا الغاز وأمكنة إنتاجه، على أشكاله المختلفة. ولكن المعلومات غير وافية عن المسألة. ولا يملك الخبراء في العلوم البت في مسألة سكريبال: فبنية الغاز الكيماوية غامضة. وغاز نوفيتشوك محظور ولو لم يدرج على لائحة منظمة حظر الأسلحة الكيماوية مثل غيره من الأسلحة الكيماوية. وعلى سبيل المثل، حين استخدم الكلور في سورية برزت الأسئلة نفسها. فالكلور نفسه غير محظور، ولكن حين يُتوسل به عسكرياً يتحول إلى سلاح كيماوي. وعلى رغم أن غاز نوفيتشوك غير مدرج في قائمة المنظمة هذه، استخدامه محظور.
ومنذ إقرار معاهدة حظر الأسلحة الكيماوية في 1997، برزت صورة واضحة عما تملكه الدول من ترسانات. فروسيا انضمت إلى المعاهدة، والتزمت جدول تدمير مخزونها من الأسلحة الكيماوية. وهي دمرت 39967 طناً من المخزون هذا، أي مجمل المخزون (100 في المئة). ولكن الروس لم يصرحوا يوماً عن حيازتهم غاز نوفيتشوك. واحتفى المجتمع الدولي بنزع سلاحها الكيماوي في لاهاي في تشرين الثاني (نوفمبر) 2017. ولكننا لا نعرف عن الغاز هذا غير ما سرب في التسعينات. وتاجر بعض علماء الكيمياء بمثل هذه المواد، فباع بعضهم طائفة أوم اليابانية مواد كيماوية. ولا أحد يعرف الكميات التي بيعت في السوق السوداء. وهذه السوق موجودة ولكن لا نعرف عنها الكثير، على خلاف الكوريين الشماليين، وهم أدرى بشعابها. والأغلب على الظن أنهم يمدون هذه السوق بالـ «سلع الكيماوية»، وهذا ما أثبتته التقارير الأخيرة الصادرة عن مجلس الأمن.
وربما أخفى الروس غاز نوفيتشوك الفعّال ليستخدموه حين تدعو الحاجة. فروسيا ماهرة في التحايل على المبادئ والمعايير، على رغم أن البلد هذا، إلى الولايات المتحدة، كان من أكبر منتجي الأسلحة الكيماوية، ويُفترض أنه دمر مخزونه من السلاح هذا. فنظام الرئيس بوتين يلهو بمعاهدة الأسلحة الكيماوية ومبدأ الحظر، ويستخف بالأسلحة الكيماوية حين يعرقل عمل المفتشين ويحول دون تحديد المسؤوليات. ولا أعتقد أن عرقلته عمل المفتشين وليدة صدفة أو اعتباطية، بل هي من بنات قرار عمدي يرمي إلى تحدي منصة أمن دولي ركنها مبادئ جامعة وعامة ترسم وجه العلاقات بين الدول وتحتكم إلى القانون الدولي ومعاييره. وأشار تقرير صدر في آذار (مارس) المنصرم عن العقوبات على كوريا الشمالية، إلى أوجه تعاون سري بينها وبين سورية، كيماوي وعسكري.
ويظهر فلادمير بوتين منذ ضم القرم إلى بلاده في 2014، أنه لا يقيم وزناً للقوانين الدولية وتعدد الأقطاب وما تقتضيه الديموقراطيات العالمية الكبرى. وهذا لا لبس فيه في موقف الكرملين من معاهدة القوات التقليدية في أوروبا، شأن موقفه من معاهدة القوى النووية الوسيطة. وهذا بائن في شحّ تعاونه في مجلس الأمن في الأزمة الكورية الشمالية، وفي العرقلة الروسية الدورية في الملف السوري. والسعي الروسي إلى العرقلة متماسك وبعيد من الارتجال. فهو يأتلف من استفزاز مزمن على حدود ما هو مشروع. فالنظام الروسي يمتحن الأنظمة الديموقراطية الليبرالية. ولم يفت روسيا أن «الخطوط الحمر» التي رسمها رعاة النظام الدولي هي خطوط برتقالية اللون شاحبة ويبهت لونها أكثر فأكثر من عام إلى عام. وفي مثل هذه الظروف، لا رادع يحمل على الامتناع.
على رغم أن معاهدة الأسلحة الكيماوية جامعة وعامة- 192 دولة صادقت عليها- وأنها حازت جائزة نوبل للسلام في 2013، تلجأ الدول إلى مثل هذه الأسلحة أكثر فأكثر. وهي أداة رعب وإرهاب، وفي الغوطة استخدمت سلاحاً تكتيكياً. فاللجوء إلى السلاح الكيماوي في موازين دمشق شأن موسكو وبيونغيانغ، والأخيرة لم توقع على المعاهدة، يقوض المعايير وسلطانها، ويقوض على وجه التحديد بنية الأمن الدولي الأنجع في العالم. ومعاهدة حظر الأسلحة الكيماوية ليست رمزية فحسب، بل معاهدة حظر، وهي لا تميز بين الدول التي حازت الأسلحة هذه وتلك التي لا تملكها. وفي سبيل الحفاظ على مكانته صمام أمان الأمن الدولي، لا مناص من تهديد القانون الدولي باللجوء إلى القوة حين ينتهك حظر أسلحة الدمار الشامل. وحين تخفق الحلول الاستباقية مثل الحظر ونزع السلاح ومنع الانتشار، ترجح كفة اللجوء إلى القوة أحادياً، على نحو ما فعلت إسرائيل في 1981 حين بادرت إلى تدمير المفاعل النووي العراقي أو في 2007 حين دمرت منشأة نووية سورية في الكبر. والتهاون اليوم مع الأسلحة الكيماوية قد يؤدي في المستقبل القريب إلى تهاون أكثر خطورة في استخدام النووي العسكري.