الجنوب السوري.. مرحلة جديدة
حصلت ثلاثة تطورات أخيرا، تفيد بأن ثمة صفقة تمت بشكل مضمر بين موسكو وواشنطن حيال مصير الجنوب السوري. الأول، لجوء النظام إلى سياسة البراميل المتفجرة في الجنوب، بعد توقفه عن ذلك قرابة العام، ما يعني أن ما يجري يتجاوز حدود الضغط العسكري على المعارضة إلى حدود السيطرة الكاملة على ريف درعا الشرقي، ومن ثم الريف الشمالي الغربي. الثاني، الدخول العسكري الروسي في المعركة، حيث شنت روسيا غاراتٍ على مناطق تسيطر عليها فصائل المعارضة، في سابقة هي الأولى منذ إعلان الجنوب ضمن مناطق خفض التوتر في يوليو/ تموز من العام الماضي، وجاء هذا التطور غداة إعلان السفير الروسي في لبنان أن النظام سيستعيد الجنوب، بدعم من روسيا. الثالث، تغير اللهجة الأميركية حيال ما يجري في الجنوب، فبعيد بياني الخارجية الأميركية في 25 مايو/ أيار و14 يونيو/ حزيران الجاري اللذين وجهت فيهما واشنطن تحذيرات للنظام من مغبة خرق اتفاق الجنوب، جاءت الرسالة الأميركية أخيرا إلى فصائل المعارضة، لتعكس تراجعا واضحا، فقد أبلغت واشنطن الفصائل بألا تبني قراراتها على افتراض أو توقع تدخل الولايات المتحدة عسكريا في الجنوب، لمساعدتها على التصدي للهجوم الذي يشنه النظام، وكأن هذه الرسالة بمثابة ضغط أميركي على المعارضة، للقبول بتسوية تحقق جزءا من أهداف المعارضة، بدلا من عمليةٍ عسكريةٍ تقضي نهائيا عليها.
ليس معروفا بعد ما إذا كان قد اتخذ القرار على المستوى الدولي باعتماد صيغة الغوطة الشرقية في كامل الجنوب، أم أن ثمّة ترتيبات تشابه عملية المصالحات التي اتبعها النظام، خصوصا في مدينة درعا وجنوبها، وفقا للطريقة الروسية، بناء على تفاهمات أولية طرحت قبل أسابيع (تسليم فصائل المعارضة الأسلحة الخفيفة والثقيلة، تحويل جزء من الفصائل إلى قوات محلية بإمرة النظام، وانتشار الشرطة العسكرية الروسية في مناطق المصالحة).
وإذا كان القرار الأميركي ـ الروسي قد اتخذ على ضرورة إخراج الجنوب السوري من معادلة الصراع، فإن شكل الترتيبات النهائية غير معروف، بانتظار ظهور نتيجة اللقاء الذي يجريه مستشار الأمن القومي الأميركي، جون بولتون، مع المسؤولين الروس، وبانتظار زيارة وزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، موسكو، والتي تشير إلى وجود خلافات بين عمّان وواشنطن حيال مصير الجنوب، بعدما وضعت الأخيرة المعارضة، وربما الأردن، في فخ تصريحاتها السابقة في الأشهر الثلاثة الماضية، في ما يبدو محاولة أردنية لممارسة الضغط من أجل تمرير سيناريو المصالحات، خصوصا في مدينة درعا.
الواضح أن النظام سيسيطر على كامل ريف درعا الشرقي، والغربي لاحقا، وعلى كامل مناطق الجنوب الغربي، وإقامة منطقة عازلة موازية لخط الهدنة في الجولان المحتل، وإعادة العمل باتفاقية الفصل بين القوات السورية ـ الإسرائيلية لعام 1974، بما في ذلك إعادة نشر قوات الأمم المتحدة لمراقبة فضّ الاشتباك (أندوف). كما أنه سيسيطر على معبر نصيب الحدودي، وهو هدف يتماشى مع الرغبة الأردنية التي تتأرجح بين مستويين: ضرورة فتح المعبر تحت سيادة دمشق، وعدم حصول معارك كبيرة تحرج عمان التي أقفلت الحدود أمام عمليات النزوح.
في كل الأحوال، تعتبر صفقة الجنوب بين الولايات المتحدة وروسيا جزءا من استراتيجية قديمة متفق عليها، بدأت قبل ولادة مسار أستانة، فقد كان المطلوب أولا وقف القتال بين النظام والمعارضة للتفرغ لقتال تنظيم الدولة الإسلامية، وعندها تنتهي مهمة مناطق خفض التوتر التي لم يبق منها سوى إدلب التي يبدو أنها ستأخذ مصير سابقاتها في الجنوب والغوطة الشرقية، سواء عبر تركيا أو عبر النظام وروسيا.
تبين أحداث الغوطة الشرقية وأحداث الجنوب الجارية أن المقاربة الأميركية ـ الروسية تقوم على إبقاء الجغرافيا السورية ضمن ثلاث قوى، النظام وقوات سورية الديمقراطية (قسد) وفصائل المعارضة، بشرط أن توجد الأخيرة في بقعة جغرافية موحدة، وتخضع لهيمنة تركيا. وتؤكد هذه التطورات ما ذهب إليه التقرير الثاني لمؤسسة راند "خطة سلام من أجل سورية"، في يونيو/ حزيران 2016، أن واشنطن تخلت عن أهدافها المتعدّدة، مثل ضرورة الانتقال إلى نظام ديمقراطي وضرورة إنهاء الوجود الإيراني، لصالح ضرورة إنهاء الحرب ووقف نزيف الدم، وإنهاء عمليات اللجوء، والحد من التطرّف الذي يولده الصراع الدائر.
ووفقا للمسارات العسكرية الحاصلة هذا العام، فإن الصفقة الأميركية الكبرى مع روسيا ستكون على المستوى السياسي، بعد تفريغ المعارضة من قوتها العسكرية، فلم يعد المطلوب إسقاط النظام، وإنما إعادة إنتاجه بشكل جديد، مع ما يتطلبه ذلك من إعادة إنتاج للمعارضة نفسها، كي تكون انعكاسا للوقائع المقبلة.