
إلا السيادة الوطنية
تشكل عبارة السيادة الوطنية واحدة من المكونات الأساسية في القاموس السياسي لآخر قلاع محور المقاومة والممانعة وفق ما تصفه به أدبيات ذلك المحور الذي تتزعمه طهران، والمقصود به بطبيعة الحال نظام دمشق، والذي بات في الآونة الأخيرة يكثر من استخدام هذه العبارة بشكل مبالغ فيه، ويرفعها جدارا حصينا أمام أي مسعى مهما كان جادا للوصول إلى حل مقبول بالنسبة لكافة الأطراف، بعد أن وصلت الحالة السورية حسب آراء المراقبين والخبراء إلى طريق مسدود، وينبغي وضع حد لهذا التدهور بعد أن تعذرت الحلول العسكرية التي كانت بعض الدول الغربية والعربية تراهن عليها لإسقاط نظام قمعي لم يتورع عن استخدام كافة الوسائل للحفاظ على كرسي الحكم، وقد أسقط في طريقه تلك أكثر من نصف مليون قتيل يضاف إليهم ملايين المشردين والعالقين على الحدود.
فقد رفض بشار الأسد أن يتقاسم السلطة في وقت مبكر وعندما كان ذلك الأمر متاحا مع المعارضة على اعتبار أنه يرفض التدخل في الشؤون الداخلية لسوريا، وأنه لا يقبل أن تفرض عليه أي أجندات خارجية، وقد كرر ذلك مرارا وتكرارا وفي كل ظهور إعلامي، وخلال فترات الرفض كانت المعارضة تتحول بالنسبة له إلى عملاء ومأجورين، وهو ليس مستعدا لا لتقاسم السلطة معهم بل حتى أنه يرفض فكرة التفاوض كليا، وإن كان وافق على الذهاب إلى مؤتمر جنيف 2 مصحوبا بدعم روسي كبير، فإنه كان عازما قبل ذلك على إفشال المؤتمر، وقلب الطاولة على الجميع، إذ لا يهم من يموت من السوريين، ومقدار الدمار الذي حل بالبلد، لكن المهم هو السيادة الوطنية مرة أخرى وأخرى.
وتأسيسا عليه فإن توغل عشرات الآلاف من المقاتلين الأجانب إلى سوريا، سواء معه أم ضده، وفقدان النظام السيطرة على كافة المعابر التي تربط سوريا مع الدول المجاورة، لا ينظر إليه على أنه انتهاك للسيادة الوطنية، بل على أنه جزء من المؤامرة الكونية. هذا إن أغفلنا، أصلا، الأجواء السورية المستباحة منذ ما يزيد على عام من قبل طائرات التحالف الدولي التي تطارد تنظيم داعش الذي يسيطر على مساحات واسعة من سوريا، وهذا الأمر كذلك لا يصنف على أنه انتهاك للسيادة الوطنية.
نظام دمشق تحول إلى بيدق في يد الدب الروسي يلاعب به خصمه الأميركي على أوراق كثيرة في المنطقة وخارجها
بالإضافة إلى الخروقات الإسرائيلية المتكررة التي تستطيع الوصول إلى أي منطقة تشاؤها داخل العمق السوري. وهذا الأمر، وللأمانة، ليس جديدا فقد حدث مرات كثيرة من قبل، بدءا من استهداف معسكر لتدريب إحدى الفصائل الفلسطينية في منطقة عين الصاحب قرب العاصمة دمشق، وصولا إلى مشروع ما يعتقد أنه مفاعل نووي كانت كوريا الشمالية تساعد على بنائه في منطقة الكبر قرب دير الزور في أقصى الشرق السوري، وقد ندد النظام السوري، وقتها، بتلك الغارات الإسرائيلية التي أصابت مقتلا في كل مرة، واعتبرها خروقات عدوانية، واستطرادا، ووفقا لأحد منظري النظام، قرصنة وسفالة إسرائيلية.
وعند هذا الحد كان يكتفي النظام ويتوعد بالرد في وقت وزمان مناسبين، ولكنه وأمام مطالب السوريين بالتغيير تحوّل إلى مقاتل شرس لا يقبل العبث بالسيادة الوطنية، واستعان بمن استعان بهم من حلفائه المقربين في محوره لتدعيم سيادته المزعومة فآل القرار العسكري لهم بادئ الأمر، ثم انتقلت الملفات السياسية والاقتصادية تباعا لتوضع في أيديهم، وليكون بشار الأسد محافظا لواحدة من المحافظات الإيرانية، كما قال مهدي طانب رجل الدين الإيراني المقرب من الخامنئي، والذي اعتبر سوريا محافظة إيرانية وينبغي الدفاع عنها، ولم يعد مستغربا، والحالة هذه، أن يتحدث زعيم ميليشيا حزب الله اللبناني، الذي يعتبر رأس حربة في المشروع الإيراني، عما يحدث في سوريا وكأنه شأن من شؤون الضاحية الجنوبية لبيروت التي يحتلها حزبه.
مؤخرا تحول نظام دمشق إلى بيدق في يد الدب الروسي يلاعب به خصمه الأميركي على أوراق كثيرة في المنطقة وخارجها، وحرصا منه على ألا تخرج الأمور عن سيطرته في أجواء الفوضى التي تعيشها سوريا، فإن فلاديمير بوتين لم يتأخر عن إرسال قواته العسكرية لتكون موجودة وبكثافة داخل الأراضي السورية بعد أن كان وجودها مقتصرا على بعض القواعد العسكرية الروسية، وبعد أن كانت روسيا تكتفي بتزويد النظام بالسلاح، قررت أن تقاتل على الأرض، وأن تفرض منطقها، على اعتبار أنها تخطط للخروج منتصرة، لكن تجربتها الأفغانية تقول عكس ذلك، وما علينا سوى أن نراقب.
وعلى الرغم من هذا الانجراف الكبير والانحدار الكارثي الذي وصلت إليه الأوضاع في سوريا، وعلى كافة الأصعد، وعلى الرغم من فقدان النظام القدرة على توجيه الأوامر العسكرية لقواته التي لم يبق منها شيء فعليا، إلا أنه لا يجد مانعا، بين الحين والآخر، أن يعود ليذكر الجميع بأنه لن يفرط بـ”السيادة الوطنية”، التي تحولت إلى لازمة ضرورية ترافق مفردات المقاومة والممانعة.