إشكالية إدلب
ثمة شعور عميق بالمظلومية عند سكان محافظة إدلب، فقد حرمت هذه المحافظة التي تزيد مساحتها على 6 آلاف كم مربع، من التنمية على مدى القرن العشرين، وهي البوابة الكبرى في الشمال إلى تركيا وأوروبا، ورغم انصراف السكان فيها إلى الزراعة واشتهارها بشجرة الزيتون المباركة فإن أجيال الشباب المتدفقة التي انصرفت إلى الجامعات، وشكلت ثروة من الكوادر البشرية لم تجد مستقبلاً رغداً في بلدها، ولم تستطع الحكومات المتلاحقة منذ الستينيات أن تنجز مشاريع تواكب حراك الشباب، وتستوعب طاقاتهم، وكثير منهم أشاح بوجهه عن الحزب الحاكم، كما أن الشعب في إدلب عامة لم يتفاعل مع عهود «البعث» مما جعل قادة النظام يكنون كراهية غير معلنة لإدلب التي بقيت مهمشة، وقد تمكن عقلاؤها من تجنيبها اقتحام النظام لها في مأساة الثمانينيات، لكن النظام اقتحم جسر الشغور وارتكب فيها مجزرة مشهودة.
ومن المحتمل أن يصر النظام اليوم على استرداد جسر الشغور بالقوة، لأن هذه المدينة العريقة مجاورة لجبال اللاذقية التي تعتبر معقل قادة النظام، وتسيطر عليها (هيئة تحرير الشام - النصرة ) وربما تتمكن تركيا عبر تنسيق مع روسيا من أن تجد حلاً غير دموي لإخراج الفصائل الموسومة بالإرهاب من محافظة إدلب كلها، وأن تشكل حالة إدارية مؤقتة ريثما ينضج حل سياسي نهائي للقضية السورية.
وعلى الرغم من الاستنكار الشعبي الواسع في صفوف المعارضة والرفض الثوري الشعبي للحلول السياسية المؤقتة التي تم التوصل إليها في حوران، فإنها جنبت الجنوب دماراً مريعاً كان لا مهرب منه، ولو أن النظام التزم بالعهود لكانت منطقة الجنوب أكثر أمناً الآن، إلا أن النظام خرق الاتفاق في كثير من مناطق حوران، واعتبر المصالحات غنيمة له، فجاءت الاعتقالات المتلاحقة للناشطين المسالمين المصالحين عبر المبادرة الروسية لتفقد الناس أملهم بالأمن والاستقرار، كما أنها أجهضت أمل اللاجئين بالعودة.
وإذا كانت تقارير الأمم المتحدة تشير إلى احتمال أن يصل عدد الهاربين من الجحيم المرتقب في إدلب إلى سبعمئة ألف إنسان، فإن المتوقع حقاً أن يصل عدد النازحين إلى الحدود التركية باتجاه أوروبا إلى أكثر من مليوني إنسان باحثين عن ملجأ وأمان من حرب وحشية يستعد لها النظام ويهدد الشعب بها، ولاسيما أنه حشد أعداءه المهجرين قسرياً في إدلب منذ سنوات، ليكونوا وليمته الأخيرة.
ولقد كان من سوء حظ إدلب أن الذين ادعوا تحريرها قدموا أسوأ تجربة لحلم الناس بالحرية والكرامة، وجعلوا الشعب يحن للنباش الأول (كما يقول أهل إدلب) فانتشرت في عهد من ادعوا الإسلام حالة من الفوضى المريعة، وارتكبت جرائم فظيعة وساد فساد كبير، وصارت جرائم السرقة والخطف والقتل العشوائي مرعبة لأهل محافظة إدلب، الذين يعيشون اليوم بين نارين، فهم يخشون عودة النظام إلى حكمهم، ويدركون أنه قادم لينتقم شر انتقام ممن خرجوا ثائرين ضد ظلم أجهزة الأمن التي استبدت بهم، واعتقلت الآلاف من أبنائهم، وقتلت الآلاف منهم، ولا أمل عند أحد منهم بأن النظام قادر على تغيير سلوكه، فهو يمضي بروح العصبية الطائفية الهائجة، وليس بعقل الدولة الرصينة الباحثة عن الأمن والاستقرار، وإطفاء النار، وهم في الوقت ذاته يكرهون أولئك الغرباء الذين تدفقوا بالآلاف أيضاً حاملين شعارات القاعدة، يرتدون عباءة الإسلام وهو منهم براء، وكانت مهمتهم الوحيدة إبادة الجيش الحر، وخطف شعارات الثورة، وتقديم خطاب ديني متطرف لا يقبله العقل، فهم لم يهتموا بقيم الإسلام العظيمة في الحرية والكرامة الإنسانية، وفي بناء مجتمع السلم والتسامح، وإن انصب اهتمامهم على إطالة اللحية وارتداء عباءة أفغانية، وفرض النقاب على النساء، وصاروا أمراء حروب. وخلال هذا العام 2018 قتلوا أعداداً من الأطباء في إدلب وسرقوا البيوت وخطفوا الرجال مطالبين بالفدية، وكل ذلك يجعل أهل إدلب ينتظرون اليوم الذي تخرج فيه هذه العصابات من محافظتهم، وهم يدركون أن غالبية قادتها هم مافيات دولية، تنفذ مهمة القضاء على ثورة الشعب باسم مذاهب أهل السُنة، وتقودها إيران بشكل مفضوح، وكثير من الشباب المحليين الذين انتموا إليها بدوافع الحاجة المادية القاسية، أو بفهم بريء ساذج للدين، سينفضون عنها حين يجدون الملاذ الآمن.
ويبدو مؤلماً ألا نجد جهداً عربياً رسمياً تقوده الجامعة العربية في الحلول المقترحة لتجنيب إدلب كارثة مرتقبة، بحيث تخرج الفصائل الإرهابية منها، وتسترد كل دولة عناصرها، ويبقى «الجيش الحر» والفصائل الوطنية السورية ضامنة للأمن مع شرطة عسكرية روسية وتركية وعربية، للحفاظ على دماء ثلاثة ملايين إنسان.