
شهادات نسائية من ظلمة الزنازين: حين تتحول المعاناة إلى وثيقة
لم تكن السجون السورية في السنوات الماضية حكراً على الرجال، ففي خضم الثورة، كانت النساء أيضاً هناك في الزنازين المظلمة، تحت رحمة الجلادين، يتقاسمن الألم والعزلة والظلم، لكن المفاجئ – أو ربما المعجزة – أن بعض هؤلاء النسوة، ممن خضن تجربة الاعتقال السياسي بأقسى أشكاله، لم يُكسرن، بل خرجن من خلف القضبان محمّلات بشيء أثمن من الحرية: الحقيقة.
داخل جدران السجون، لم تكن المعاناة فقط في فقدان الحرية أو التعذيب الجسدي، بل في تلك التفاصيل الصغيرة التي لا يراها أحد: أم تضع مولودها، فتاة في مقتبل العمر تُحرَم من حلمها بالدراسة، امرأة مسنّة تُسأل عن ذنب ابنها. في الزنازين السورية، كانت النساء يعشن تجربة مركّبة من القهر، لا تنتهي بخروجهن، بل تبدأ بعدها رحلة أخرى: الترميم، الشهادة، والتوثيق.
عدد من الناجيات قرّرن كسر الصمت، وتحويل تجربتهن إلى شهادة حية على ما جرى خلف القضبان. بين هؤلاء كانت سحر زعتور، التي وثّقت لاحقاً مشاهد من الانتهاكات ضد النساء في المعتقلات، منها وجود أمهات مع أطفالهن، ونساء مسنات، وحتى حالات ولادة جرت داخل الزنازين. شهادتها، كسواها من شهادات معتقلات سابقات، تضع الضوء على واقع ما تزال كثيرات يعشنه في الظل.
كما سعت الفنانة سمر كوكش، وهي واحدة من الناجيات، إلى فضح ممارسات المجرم بشار الأسد، وقالت بإحدى اللقاءات الإعلامية أن قواته التي تجردت من الإنسانية والضمير، كانوا يودعون المعتقلات بمشافي الأمراض النفسية، مشيرة إلى أنها جلست مع واحدة من بينهن ولم يبدو عليها أنها تعاني من تلك الأمراض.
العمل الإعلامي كان أحد المسارات التي لجأت إليها بعض الناجيات، لا لمجرد نقل ما جرى معهن، بل للتعبير عن وجع جماعي ومُغيب. شاركن في توثيق قصص الاعتقال، التهجير، والتهميش، وساهمن في إنتاج تقارير وأفلام ومواد مكتوبة أعادت للذاكرة جزءًا مما حاول النظام دفنه في الأقبية.
بعض الناجيات لم تسنح لهن الفرصة بأن يعملن في ذلك المجال، لكن سعين لروي قصصهن عبر وسائل الإعلام لتقديم المزيد من الأدلة على إجرام الأسد، وفضحه أكثر على رؤوس الأسد، لعل الصوت يصل إلى الجهات المعنية وكل متورط ينكشف وينال ما يستحقه من العقاب.
هذه التجارب تؤكد أن الحكاية النسوية في الثورة السورية لا تقتصر على التضحيات فحسب، بل تمتد إلى الفعل، والمشاركة، وصناعة الرواية البديلة. من بين الركام، خرجت أصوات نسائية صلبة، تقول إن الذاكرة لا تُكتب بالحبر فقط، بل بالدموع، والصبر، والإصرار على أن يُروى ما كان مخطّطاً له أن يُمحى.
في النهاية، تبقى شهادة واحدة صادقة، كفيلة بفضح جريمة صمت عنها كثيرون. ومن بين ظلمة الزنازين، وُلدت عدسة الحقيقة.