
النساء الأرامل: جرح إنساني مفتوح فاقمته الحرب بعد فقدان المعيل
أفرزت الحرب السورية واحدة من أكثر الأزمات الإنسانية قسوة، تمثّلت في تصاعد ظاهرة ترمّل النساء، بعدما خلّف الصراع المستمر آلاف الضحايا من الرجال، ما بين من سقطوا في المعارك، أو قُتلوا جراء القصف، أو اختفوا تحت التعذيب والاعتقال أو في ظروف غامضة لا يزال مصيرهم مجهولاً.
ووجدت آلاف النساء أنفسهن في مواجهة واقع جديد وقاسٍ، محمّلات بأعباء مضاعفة نفسياً واجتماعياً ومادياً، بعد غياب المعيل وتحولّهن إلى المسؤولات الوحيدات عن إعالة أسرهن.
في مخيم للأرامل قرب أطمة بريف إدلب الشمالي، تحكي "أم عبد الله"، 46 عاماً، تفاصيل حياتها بعد فقدان زوجها في إحدى معارك الثورة: "منذ عشر سنوات وأنا أتحمل مسؤولية خمسة أطفال وحدي، لم أكن أعرف في السابق سوى رعاية المنزل، أما اليوم فأنا مسؤولة عن كل شيء. إنها مسؤولية مرهقة، لكن لا خيار أمامي سوى الصبر".
فرضت ظروف النزوح وغياب الأمان على النساء الأرامل واقعاً معقداً، يتراوح بين تدبير السكن، وتوفير الطعام والدواء، وتربية الأطفال.
وتفاوتت أماكن إقامتهن بعد النزوح بحسب القدرة المادية والدعم المتوفر؛ فبعضهن استقر في مخيمات قريبة من مناطقهن الأصلية، وأخريات لجأن إلى مجمعات خصصت لاحتضان الأرامل، فيما فضلت قلة منهن التوجه نحو البلدات والقرى.
"أم عبدو"، أرملة من ريف إدلب تبلغ من العمر 50 عاماً، تسرد ما عاشته عند نزوحها: "حين اضطررنا للفرار من قريتنا، لم أتمكن من أخذ شيء من المنزل، لم يكن لدي من يساعدني أو يذهب ليحمل أغراضنا وسط الخطر، ولو كان زوجي على قيد الحياة، لكنّا خسرنا أقل بكثير".
مع اشتداد الأوضاع المعيشية، اضطرت الكثير من الأرامل إلى العمل في مهن شاقة لا تتناسب مع أوضاعهن الصحية أو الاجتماعية، "سناء المحمد"، 37 عاماً، نازحة من ريف حلب تقيم في مجمع للأرامل قرب سرمدا، بدأت العمل مستخدمة في مكتب تابع لمنظمة إغاثية.
وتقول سناء: "أعمل من الثامنة صباحاً حتى الثالثة ظهراً، أقوم بأعمال التنظيف وتحضير الضيافة للموظفين، ثم أعود لرعاية أطفالي. يومي مزدحم بالمهام، لكن لا مجال للتوقف".
في حالات أخرى، اضطرت النساء إلى العمل في الزراعة، أو في أعمال يدوية مرهقة، أو كمندوبات مبيعات بدخل زهيد، بحثاً عن لقمة العيش في ظل غياب أي دعم كافٍ.
أعباء نفسية واجتماعية
يشرح براء الجمعة، الباحث المتخصص في الصحة النفسية والدعم الاجتماعي، الأثر العميق الذي يتركه فقدان الزوج على المرأة السورية قائلاً: "المرأة الأرملة لم تفقد فقط شريك حياتها، بل فقدت الحماية الاجتماعية والسند النفسي والاعتراف المجتمعي بحقها في الحياة. أصبحت تتحمل مسؤوليات الأسرة بالكامل في وقت لا يقدّم لها المجتمع الكثير".
وأضاف في تصريح لشبكة "شام": "مع تكدّس الأدوار، يبدأ الانهاك النفسي بالظهور بصمت؛ من الشعور الدائم بالذنب، إلى الانطفاء الداخلي، والتوتر الزائد، وضعف الاهتمام بالنفس. كلها مؤشرات على أزمة نفسية مزمنة تتطلّب عناية حقيقية".
ويرى "الجمعة"، أن الدعم يجب أن يبدأ من الواقع لا من التنظير، من خلال رؤية الأرملة كإنسانة قوية وقادرة، وتوفير بيئة اجتماعية داعمة تشمل أقاربها وجيرانها، كما يشدد على ضرورة إنشاء مشاريع صغيرة مرنة، تساعد النساء على توفير دخل مستقر دون إهمال واجباتهن الأسرية، إلى جانب ضرورة إتاحة خدمات دعم نفسي عملي، بلغات ومفردات مفهومة، بعيدة عن الوصم أو التعقيد.
الحاجة إلى تمكين فعلي
في خضم ما خلّفته الحرب من مآسٍ، أثبتت النساء الأرامل في سوريا قدرة استثنائية على التحمل ومواجهة المحن، رغم الإمكانات المحدودة وضغط الأدوار، ومع أن التحديات لا تزال جسيمة، فإن المبادرات الهادفة إلى التمكين الاقتصادي والدعم النفسي والمجتمعي تمثل بارقة أمل، وخطوة ضرورية على طريق طويل نحو الاستقرار.
خلاصة القول، إن المرأة التي فقدت كل شيء، لا تنتظر عطفاً ولا شفقة، بل فرصاً حقيقية تليق بكرامتها، وتعيد لها القدرة على بناء ما تهدّم. وفي وطن أنهكته الحرب، فإن إعادة بناء الإنسان لا تقل أهمية عن إعادة إعمار الحجر.