
من شرعنة الفساد إلى محاربته.. الرشوة والتهريب من "عرف" إلى "خطيئة تستوجب الفصل"
بينما كنت أتصفح هاتفي، استوقفني قرار صادر عن إدارة الأمن العام في محافظة دير الزور، مؤرخ في 11 نيسان الجاري، يقضي بفصل عدد من الموظفين على خلفية تورطهم في قضايا رشوة وتهريب دخان إلى أحد الموقوفين.
لم أُكمل قراءته حينها، إذ قاطعني بكاء طفلي، لكن ما إن هدأت الأجواء حتى عدت أتأمل القرار، وأتساءل عن حجم الجرم المرتكب، فلوهلة، لم يخطر ببالي أن الرشوة والتهريب، اللذين كانا ركنين ثابتين في عهد النظام السابق، أصبحا اليوم سبباً مباشراً للإقالة والعقوبة.
عهد الأسد: الفساد "مُقنن" ومسميات الرشوة مغلّفة بالمجاملات
لطالما كانت الرشوة في ظل نظام بشار الأسد ومن قبله والده، ممارسة راسخة ومتداولة بعبارات مخففة، تبريرية، تُغلف البشاعة بمسميات براقة: "فنجان قهوة"، "عربون محبة"، "إكرامية"، "هدية"... وكلها كانت مبررات ضرورية لأي مواطن يحتاج معاملة رسمية، أو يسعى للحصول على توقيع، أو تأجيل خدمة عسكرية، أو حتى مجرد تسيير إجراء قانوني بسيط.
ولم يكن المواطن يجهل الآلية، بل كان مضطراً للخضوع، متألماً من الذلّ الكامن خلف كل زيارة لمؤسسة حكومية، حيث ترتبط سرعة الإنجاز أو حتى مجرد الاهتمام بمعاملته بقدر ما يقدّمه من مال. من يملك يدفع ويكمل طريقه، ومن لا يملك، تُهمل أوراقه في الأدراج المنسية، ولا يسمع له صوت.
الرشوة والتهريب.. ثقافة ممنهجة لا جريمة معزولة
الفساد لم يكن سلوكاً فردياً في مناطق النظام، بل كان منظومة قائمة بحد ذاتها، مشرعنة وغير خفية. حتى عمليات التهريب، سواء داخل البلاد أو عبر الحدود، كانت تتم بعلم وحماية من سلطات الأمن وأذرع النظام العسكرية، ولا سيما في السجون، حيث تحوّل تهريب السجائر والمخدرات إلى تجارة مربحة يشرف عليها ضباط ومتنفذون.
لم تكن الحدود الحمراء موجودة في قاموس النظام. فتقارير دولية، بينها تحقيق لمجلة "دير شبيغل" الألمانية، كشفت عن تورّط النظام السوري السابق في تجارة مخدرات تخطت عائداتها السنوية 5.7 مليار دولار، بمشاركة وحدات عسكرية وشبكات مقربة من رأس النظام.
النتيجة: سوريا في صدارة مؤشر الفساد العالمي
بحسب تقرير لمركز الحوار السوري، حلّت سوريا في المرتبة 174 من أصل 180 دولة على مؤشر الفساد العالمي عام 2023، لتكون بين أكثر الدول فساداً في العالم. التقرير أشار إلى أن هذا الواقع لم يكن نتاج الحرب فقط، بل نتيجة سياسة ممنهجة بدأت منذ عهد حافظ الأسد، حين تم تأسيس شبكة فساد تسرطنت في مفاصل الدولة والمجتمع، وشملت جميع القطاعات: القضاء، الأمن، الاقتصاد، والإدارة العامة، وحتى قبل الثورة، كانت سوريا تحتل مرتبة متأخرة في مؤشر الشفافية، ما يعكس عمق المعضلة وتشعبها.
دولة ما بعد الأسد: قطع مع الماضي وفتح بوابة الإصلاح
في 8 كانون الأول 2025، انهار النظام القائم، وفرّ بشار الأسد إلى خارج البلاد. ومع بدء مرحلة الانتقال السياسي، بدأت الدولة السورية الجديدة في ترسيخ مفهوم العدالة الإدارية، ومحاسبة الفاسدين دون تمييز، وفرض ضوابط حازمة ضد مظاهر الانحراف المالي والإداري.
وقرار فصل الموظفين في دير الزور على خلفية الرشوة وتهريب الدخان، لم يكن مجرد إجراء تأديبي، بل رسالة رمزية قوية بأن ما كان مألوفاً أصبح اليوم مرفوضاً ومجرّماً، وأن التهاون مع المال العام لم يعد مقبولاً في سوريا الجديدة.
القادم أفضل.. بشهادة المواطن
ما بثه القرار في نفوس الناس لم يكن فقط ارتياحاً لمحاسبة المخالفين، بل بارقة أمل بأن صفحة الماضي قد طُويت، وأن مفاهيم النزاهة بدأت تتجذّر في مؤسسات الدولة. فبعد عقود من الإهانة المقنّعة تحت عنوان "إكرامية"، بات الموظف الذي يتلقى رشوة يُفصل، والمخالف يُساءل، والمواطن يشعر لأول مرة أن كرامته تُصان بالقانون لا بالمحاباة.