
رسالة عتب تفتح ملف "القُرباط في سوريا": حضور قديم وهوية تبحث عن اعتراف
تداول نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي، مقطع فيديو مسجل من قبل شاب ينتمي لـ مكون أو عوائل مايعرف بـ "القرباط" إحدى المكونات المنتشرة في عدة محافظات سورية، يحمل الفيديو رسالة عتب على أبناء الشعب السوري، حيال النظرة الدونية التي يتم التعامل فيها مع أبناء "القرباط" والتنمر وطبيعة التعاطي والتعامل معهم في حال عرف عن نفسه بهذا الانتماء.
الفيديو المتداول على بساطته يحمل رسالة عميقة وقوية، من شاب حاول أن يثبت ويؤكد هويته، ولاينكر أصله أو منشأه أو انتمائه، مؤكداً على التمسك بهذه الهوية البشرية التي ولد ونشأ وترعرع فيها بين جميع المكونات العرقية والأثنية والطائفية وغيرها في سوريا، لهم دور وحضور رغم التهميش الذي يعيشونه بسبب قلة أعدادهم، وعدم الاعتراف الرسمي بانتمائهم.
هذا الفيديو المتداول، دفعنا في فريق التحرير للبحث والتعميق أكثر في هذا المكون أو الفئة الأصيلة من فئات ومكونات الشعب السوري، نعيش معهم ويعيشون بيننا، وتربطهم علاقات قوية مع محيطهم وجوارهم في عموم مناطق سوريا، لهم طقوسهم وعاداتهم وتقاليدهم التي نشأوا عليها وكبروا يحملونا، لم يخجلوا بها أو يتخلوا عنها، رغم كل النظرة التي تعتريهم من باقي مكونات الشعب حيث يذكر انهم من "القرباط".
- من هم القُرباط في سوريا ..؟
يُشكّل "القُرباط" أو ما يُعرف محليًا بالغجر، إحدى أكثر الفئات الاجتماعية غموضًا وتهميشًا في سوريا، على الرغم من وجودهم المتجذّر في النسيج الشعبي السوري منذ قرون، ورغم قلّة الدراسات الموثقة عنهم، فإن حضورهم الثقافي والاجتماعي ظل قائمًا، وإنْ بقي في الهامش، بفعل ظروف تاريخية وسياسية معقّدة، امتدت من الحقبة العثمانية إلى عهد النظام البعثي، وصولاً إلى التحولات الكبرى التي أفرزتها الثورة السورية.
القُرباط هو المصطلح المحلي المستخدم في سوريا للإشارة إلى جماعات الغجر، الذين يُعرفون عالميًا باسم "الروما (Roma)" وهم جماعة ذات أصول غير عربية، تتميز بثقافتها الخاصة، وأنماط عيشها المتنقلة تقليديًا، واعتمادها على مهن هامشية ترتبط بالموسيقى، والرقص، والحدادة، وتجارة المواشي، وإصلاح الأدوات.
في اللغة الشعبية السورية، يُستخدم لفظ "القرباطي" أحيانًا بنبرة سلبية أو ساخرة، تعبيرًا عن التهميش الاجتماعي الذي تعرضوا له، رغم أن الكثير منهم يحاولون اليوم الاندماج الكامل في المجتمع والابتعاد عن هذه الصورة النمطية.
- المنشأ التاريخي والقوميّة الأصلية:
تشير الدراسات الأنثروبولوجية واللغوية إلى أن أصل الغجر يعود إلى شمال "الهند"، وتحديدًا إلى مناطق البنجاب وراجستان، حيث بدأت موجات هجرتهم الكبرى بين القرنين التاسع والحادي عشر ميلادي، باتجاه فارس، ثم الأناضول، ومنها إلى بلاد الشام، فإلى أوروبا.
وصلت هذه الجماعات إلى سوريا قبل مئات السنين، خاصة في ظل التنقل المفتوح خلال الحكم العثماني، واستقر بعضهم في أطراف المدن الكبرى، بينما حافظ آخرون على نمط حياة متنقل في البوادي والمناطق الريفية.
من الناحية القومية، لا يُصنّف القرباط ضمن أي من القوميات التقليدية (العربية، الكردية، التركمانية)، بل يُنظر إليهم كجماعة "غجرية مستقلة الهوية"، تنتمي إلى العرق الهندو-آري. ومع ذلك، فإن أغلبهم اليوم يتحدثون العربية ويتماهون مع الثقافة المحلية، مع احتفاظهم بلهجة غجرية خاصة تُعرف بـ"الكرباتية".
- مناطق الانتشار في سوريا
يتوزع القرباط في عدة محافظات سورية، وغالبًا على هامش المدن الكبرى أو في تجمعات خاصة بهم. من أبرز مناطق انتشارهم (محافظة حلب: خاصة في مناطق مثل المرجة والأنصاري وبستان القصر - حمص: في أحياء مثل بابا عمرو والبياضة وتدمر ومحيطها - ريف دمشق: في التل والقدم وحرستا - دير الزور والبوكمال: في المناطق الريفية ومخيمات البدو - الحسكة والقامشلي: خصوصاً قرب الحدود التركية والعراقية - السويداء: في قرية "خربة القرباط" المعروفة تاريخيًا باستقرار هذه الجماعة - إدلب: في ريف سراقب الشرقي بشكل رئيس)، وغالبًا ما يعيشون في ظروف اقتصادية صعبة، وبُنى تحتية متواضعة، في مناطق توصف بـ"المُهمّشة".
- علاقتهم بالدولة والمجتمع:
في عهد النظام السوري البائد، لم يُعترف بالقرباط كجماعة ثقافية أو قومية مستقلة، ولم تُوفّر لهم أي حقوق جماعية، بل جرى تذويبهم قسرًا ضمن تصنيفات ديموغرافية غير واضحة، وفي كثير من الحالات، تُركوا خارج الأطر الرسمية كالسكن النظامي أو التوظيف في القطاع العام، ما أدى إلى بروز مهن غير رسمية شكلت النمط الاقتصادي الغالب لديهم.
على المستوى المجتمعي، واجه القرباط نظرة نمطية مليئة بالأحكام المسبقة، ما جعل الكثير منهم يسعون إلى إخفاء هويتهم الأصلية والاندماج بصمت في المجتمع السوري.
- موقفهم من الثورة السورية:
لم يكن للقرباط موقف موحّد من الثورة السورية، وذلك لأسباب عدة منها "غياب القيادة الجماعية" إذ لا يوجد لدى القرباط إطار تمثيلي واضح أو قيادة موحدة تتخذ مواقف سياسية باسم الجماعة، إضافة إلى "الحياد القسري" بسبب تهميشهم التاريخي، ابتعد الكثير منهم عن الانخراط في الصراع خشية الوقوع بين نارين.
وتميزت مشاركتهم في الثورة بـ "مشاركات فردية" في بعض المناطق، شارك شبّان من القرباط في التظاهرات، أو انضموا إلى صفوف المعارضة، خاصة في حلب وحمص، فيما اختار آخرون الانضمام إلى ميليشيات موالية للنظام بدافع الحاجة الاقتصادية أو كوسيلة لحماية الذات، لذلك، يمكن القول إن "موقف القرباط من الثورة لم يكن جماعيًا أو معلنًا، بل تباين حسب الجغرافيا والانتماء المحلي والضغوط الأمنية".
لكن الثابت أن "القراط أو الغجر" أو أي من التسميات التي تطلق عليهم، قد عانوا من مرارة النزوح والتشريد والقصف والقتل حتى، وشهدوا أحداث مروعة في مناطق إقامتهم، وأجبروا على النزوح مراراً من منطقة إلى أخرى بسبب آلة القتل التي مارسها نظام الأسد، والتي لم تميز بين كبير أو صغير أو قومية أو عرق.
- القرباط بعد الثورة وسقوط النظام:
مع سقوط نظام الأسد في ديسمبر 2025، بات المجال مفتوحًا لإعادة طرح أسئلة الهوية والمواطنة والعدالة الاجتماعية في سوريا الجديدة، ويطالب ناشطون حقوقيون اليوم بضرورة "دمج القرباط كمكوّن وطني كامل الحقوق"، من خلال الاعتراف القانوني بهم كمجتمع ثقافي مستقل، وتوفير فرص التعليم والعمل والرعاية الصحية، وحماية حقوقهم الاجتماعية والثقافية وإزالة الصور النمطية السلبية.
في النهاية، رغم أنهم ظلّوا لعقود "مواطنين منسيين"، إلا أن القرباط يشكّلون جزءاً أصيلاً من الفسيفساء السورية، وتاريخهم العميق، وثقافتهم الغنية، واستحقاقهم الإنساني في الكرامة والعدالة، تضعهم أمام فرصة جديدة في سوريا ما بعد الثورة، للمطالبة بالاعتراف، والمساواة، والانتماء الحقيقي إلى وطن يتسع للجميع.