
تقرير: تجميد المساعدات الأميركية يعرقل تحقيق العدالة في سوريا ويهدد جهود توثيق جرائم الحرب
في تقرير مطوّل نشره موقع "الجزيرة نت"، كُشف النقاب عن تداعيات قرار إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب بقطع المساعدات الخارجية، الأمر الذي وجه ضربة قاسية لجهود توثيق جرائم الحرب في سوريا، وأربك عمل منظمات إنسانية وحقوقية محورية لطالما لعبت دوراً أساسياً في مسار العدالة والمساءلة خلال السنوات الماضية.
منظمات تحت التهديد: العدالة في مهب التقشف
شملت آثار القرار منظمات بارزة على غرار الدفاع المدني السوري "الخوذ البيضاء"، والشبكة السورية لحقوق الإنسان، والآلية الدولية المحايدة والمستقلة، إضافة إلى جهات أخرى اعتمدت لسنوات على التمويل الأميركي المباشر وغير المباشر، عبر الوكالة الأميركية للتنمية الدولية أو عبر برامج دولية متخصصة.
وبحسب تحليل حديث صادر عن منتدى المنظمات غير الحكومية العاملة في شمال سوريا، فإن الولايات المتحدة شكّلت أكبر جهة مانحة للاستجابة الإنسانية في سوريا عام 2024 بنسبة تمويل بلغت 24.6%، ما جعل تعليق مساعداتها بمثابة انتكاسة كبرى. ويُقدّر عدد الأشخاص الذين توقفت عنهم المساعدات نتيجة ذلك بأكثر من 1.2 مليون إنسان.
الخوذ البيضاء: استجابة الطوارئ على المحك
فاروق حبيب، نائب مدير "الخوذ البيضاء"، أوضح أن التمويل الأميركي يشكل ما يقارب 27% من موازنة المنظمة، وأن إلغاء عقد بقيمة 30 مليون دولار في فبراير 2023 أثر بشكل مباشر على قدرة فرق الطوارئ على الاستجابة للكوارث والبحث عن المفقودين والتعامل مع المقابر الجماعية، خصوصاً في مرحلة ما بعد سقوط النظام.
الشبكة السورية لحقوق الإنسان: آلاف الوثائق بلا استكمال
من جهته، أكد فضل عبد الغني، مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، أن قرار وقف التمويل عطّل مشاريع تحليل بيانات ضخمة، وأوقف توظيف باحثين جدد كانوا سيعملون على ملفات تحتوي آلاف الوثائق المرتبطة بالمعتقلين والمختفين قسرياً. وكانت الشبكة تطمح إلى فتح مكتب جديد في دمشق للمرة الأولى منذ انطلاق الثورة، إلا أن قرار التجميد أجهض هذه الخطط.
منظمات نسوية أيضاً في دائرة التأثير
"النساء الآن من أجل التنمية" واحدة من المنظمات المتضررة، حيث علّقت جميع برامجها الخاصة بدعم ضحايا الاختفاء القسري، وتشمل مبادرات كانت تشرف عليها بالتعاون مع كيانات مثل رابطة عائلات قيصر، وعائلات من أجل الحرية، ورابطة معتقلي سجن صيدنايا.
توقيت سياسي يزيد التعقيد
ورغم أن قرار وقف المساعدات لم يقتصر على سوريا، بل شمل نحو 5800 منظمة دولياً، فإن توقيته في السياق السوري كان الأكثر إرباكاً، نظراً للمرحلة الانتقالية الحساسة التي تمر بها البلاد بعد الإطاحة ببشار الأسد في ديسمبر 2024. فالملف السوري حالياً لا يقتصر على الإغاثة، بل بات يتمحور حول بناء مؤسسات العدالة وكشف الحقائق.
ستيفن راب: المهمة هائلة والمخاطر كبيرة
السفير الأميركي السابق المعني بجرائم الحرب، ستيفن راب، قال في تصريحات لإذاعة صوت أميركا: "ما نواجهه في سوريا هو بداية العدالة الانتقالية، والمهمة هائلة"، مشيراً إلى أن تعليق التمويل يعقّد عملية جمع الأدلة البيولوجية والشهادات اللازمة لتحديد هوية الضحايا.
البدائل المحتملة: تنويع التمويل وبناء الشراكات
وسط هذه التحديات، يقترح خبراء حزمة بدائل لتجاوز الأزمة، أبرزها تنويع مصادر التمويل، وبناء شراكات مع الاتحاد الأوروبي وكندا، وإنشاء صندوق دولي مستقل بإشراف أممي لدعم مشاريع العدالة والمساءلة. كما دعا علاء الدين آل رشي، مدير المركز التعليمي لحقوق الإنسان في ألمانيا، إلى تدريب الكوادر السورية على تقنيات التوثيق بما يقلل الاعتماد على الخبرات الخارجية المكلفة.
العودة إلى تقاليد البرجوازية الوطنية
فضل عبد الغني ناشد رجال الأعمال السوريين في المهجر العودة إلى ما وصفه بـ"روح الخمسينيات"، حين كانت البرجوازية السورية تموّل أنشطة ذات بعد وطني ومجتمعي، بما في ذلك دعم مؤسسات مدنية ناشئة، وهو نمط تمويل بات ضرورة وجودية في ظل تقلبات السياسة الدولية.
ألمانيا تدعم المسار البديل
تجدر الإشارة إلى أن ألمانيا أعلنت نهاية عام 2024 تخصيص 60 مليون يورو لدعم مشاريع في سوريا، بينها 7 ملايين لمنظمات غير حكومية، في رسالة سياسية بديلة عن الانسحاب الأميركي، تؤكد استمرار الالتزام الأوروبي تجاه سوريا.
صرخة للإنقاذ: العدالة لا تحتمل التأجيل
وسط تراجع الدعم، وتوقف مشاريع رئيسية، وإغلاق مكاتب، يخشى مراقبون أن تؤدي هذه الانتكاسة إلى ضياع فرص تاريخية لمحاسبة المجرمين وكشف الحقيقة. وفي ظل وجود أكثر من 130 ألف مفقود، فإن التأخير في إنصاف الضحايا ليس مجرد تأخير إداري، بل تقويض لمسار العدالة ذاته، وتهديد لمستقبل سوريا التي تحاول النهوض من ركامها.