
بين فوضى الجنوب ونيران الطائفية: من يجرّ السويداء إلى حافة الحرب؟
في محافظة السويداء وعلى تخومها، حيث تختلط رائحة البارود مع نسمات ربيع الجنوب، ترتفع سحب دخان عالية مع رائحة الطائفية النتنة التي تكاد تخنق الأرجاء، مع وجود مستنشقين قد ألفوا هذه الرائحة، ويعملون على ترويجها بشكل فج.
طرقات الشوارع تقطّعت، وحواجز مسلّحة ارتجالية نُصبت من دون قانون، فيما سيارات صغيرة تمرّ مسرعة، تحمل رجالًا بملابس مدنية وأسلحة متنوعة، تُطلق النار كما لو أن الأرض قد لفظت نظامها وانقلبت إلى شريعة الغاب.
في هذه الفوضى، لم يكن المشهد صراعًا بسيطًا بين عصابات أو ثأرًا عشائريًا عاديًا، بل بدأت ملامح مشروع أعمق تتشكّل:
مشروع فتنة طائفية يُراد له أن يشطر مجتمع الجنوب السوري بين دروز وسنّة، ليفتح باب الدم على مصراعيه، ويحوّل السويداء إلى ساحة خراب جديدة.
لم تكن النار وحدها هي الخطر، بل كانت الأصابع الخفية التي تلهبها، فمن إيران التي تسعى لإبقاء الجنوب خزانًا لفوضاها، إلى إسرائيل التي تحاول تقديم نفسها كحامية لـ"أقليات"، مرورًا بحكومة دمشق الجديدة، التي فشلت بسياساتها في كسب ثقة السويداء المنقسمة على نفسها.
هكذا، وبين فوهة البندقية وخطاب الكراهية، يجد الجنوب السوري نفسه أمام لحظة حرجة لم يشهد مثيلها منذ أكثر من قرن.
جرمانا وصحنايا: الوجه الدموي لخطاب الفتنة
بينما كانت أصوات الفتنة تُشحذ في مجالس السياسة والدين على أطراف الجنوب، انفجرت نتائجها على الأرض في أشد صورها قسوة، في جرمانا وصحنايا، حيث حملت شوارع المدينتين في ريف دمشق رائحة الدم والبارود مجددًا.
في جرمانا، مساء الاثنين 28 نيسان 2025، انفجرت أزمة طائفية على خلفية تسجيل صوتي مسيء للنبي محمد، نُسب إلى أحد مشايخ الطائفة الدرزية. رغم نفي الشيخ المعني لاحقًا، وتأكيده أن التسجيل مفبرك، فإن النيران كانت قد اشتعلت.
تظاهرات غاضبة اجتاحت الشوارع، شعارات طائفية متطرفة علت، وسرعان ما انزلق المشهد إلى اشتباكات مسلحة بالرشاشات والقذائف المحمولة والهاون، والتي قُتل فيها عدد من المدنيين وعدد من الأطراف المتصارعة ، وسط حالة هلع وانهيار تام للثقة بين السكان.
وفي ظل الانفلات، شنّت عناصر مسلحة هجومًا على المدينة، فتفجّرت اشتباكات عنيفة مع القوى الأمنية والمجموعات المحلية، ما أدى إلى سقوط قتلى وجرحى، واضطرت السلطات إلى فرض الطوق الأمني.
وفي أشرفية صحنايا، فجر اليوم الأربعاء، قالت مصادر في الأمن العام السوري إن مجموعات خارجة عن القانون من داخل المنطقة نفسها هاجمت حاجزًا أمنيًا، ما أدى إلى إصابة ثلاثة عناصر من الأمن، قبل أن تنتشر تلك المجموعات في الأراضي الزراعية وتفتح النار على السيارات والمارة.
ووفق المصدر نفسه، فقد استهدفت إحدى هذه المجموعات سيارة قادمة من درعا، ما أدى إلى مقتل ستة أشخاص، في هجوم وُصف بأنه منعطف خطير في مسار الفوضى التي تعيشها المنطقة.
وكانت مصادر محلية قد تحدثت في البداية عن أن الاشتباكات ناتجة عن هجوم خارجي على البلدة، وهو ما نفته الإخبارية السورية التي نقلت الرواية الرسمية، مؤكدة أن المجموعات المهاجمة خرجت من داخل أشرفية صحنايا نفسها، وليس من خارجها.
كل ذلك يجري وسط مشهد يزداد تعقيدًا، فالأطراف المتقاتلة تُعلن الدفاع عن الكرامة والمجتمع، وأيضًا عن الدين والمقدسات، لكن المدنيين هم من يدفع الثمن دائمًا، والخطابات الطائفية تُطلق كالرصاص، لكنها لا تصيب إلا جسد التعايش نفسه.
والخطر الأكبر ليس في عدد الضحايا، بل في التحول التدريجي لعقلية الحرب الداخلية، التي بدأت تجد لنفسها مساحات شرعية ومبررات في عقول الغاضبين، وهامشًا مفتوحًا من التسليح والخطاب العنيف، يهدد بجعل كل حادث فردي فتنة شاملة، وكل صوت شاذ عنوانًا للانتقام الجماعي.
وفي اجتماع طارئ عُقد بعد التصعيد، شارك ممثلو الحكومة وشخصيات أهلية ودينية، وخرجوا ببنود تهدئة، منها:
• ضمان حركة المرور بين دمشق والسويداء.
• تعويض المتضررين.
• التوقف عن التجييش الإعلامي.
لكن ذلك لم يكن أكثر من محاولة إسعاف أولية في جبهة تنزف؛ إذ أظهرت هذه التطورات الأخيرة، بشكل لا لبس فيه، أن خطاب الطائفية حين يُروّج، لا يبقى على الورق، بل يترجم في ساحات معارك محلية، ضحاياها أبرياء لا علاقة لهم بالمتحدثين ولا بالمُفتنين.
والمفارقة أن الفوضى نفسها باتت تُستخدم مبررًا لمزيد من القتل: فمن قُتلوا على يد العصابات، يُبرَّر الانتقام منهم بسبب فتنة مزعومة، ومن هاجموا المدن، يُصوَّرون كمدافعين عن المقدسات، بينما الضحية النهائية دائمًا هي السلم الأهلي.
إسرائيل تدخل على الخط وتشن غارة جوية
اللافت أن قريتي الثعلة والدور في ريف السويداء شهدتا في التوقيت نفسه أصوات إطلاق نار كثيف وتحليق طائرات مسيرة تابعة للجيش الإسرائيلي، ما يوحي بوجود مخطط منسق لزعزعة الأمن في خط الجنوب – ريف دمشق – السويداء في لحظة واحدة.
وأعلنت إسرائيل، اليوم الأربعاء، أنها نفذت هجمات ضد مجموعات قالت إنها كانت تعمل على مهاجمة الدروز جنوبي العاصمة السورية دمشق.
وقال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو: "الجيش نفذ ضربة تحذيرية ضد متطرفين حاولوا الاعتداء على الدروز في صحنايا جنوب دمشق".
كما نقلت إذاعة الجيش الإسرائيلي عن وزير الدفاع يسرائيل كاتس قوله: "هاجمنا مجموعة متطرفة كانت تعمل على مهاجمة الدروز في جنوب دمشق"، وأضافت الإذاعة في بيان: "إسرائيل تؤكد التزامها العميق بحماية الدروز في سوريا".
كما لفت إلى أن "إسرائيل وجّهت تحذيرًا شديدًا للنظام السوري وطالبته بمنع الاعتداءات على الدروز". من جانبه، قال وزير الطاقة الإسرائيلي وعضو المجلس الأمني المصغر إيلي كوهين: "لن نقف مكتوفي الأيدي إزاء من يحاول المساس بالدروز في سوريا".
سقوط الأسد… وبداية المواجهة مع دمشق الجديدة
لم يكن يوم الثامن من كانون الأول/ديسمبر 2024 يومًا عابرًا في تاريخ سوريا؛ فمع انهيار نظام بشار الأسد وسقوط العاصمة دمشق بيد قوى المعارضة، تنفّست معظم المناطق الصعداء، اعتقادًا أن صفحةً داميةً قد طُويت.
لكن في جبل العرب، في السويداء، بدأت تظهر ملامح مختلفة تمامًا؛ فهناك تشكيلات جديدة بدأت تتكوّن، وانقسامات واضحة بين فصائل السويداء، وصراعات بين شيوخ العقل الذين يحكمون الطائفة الدرزية.
ومع ولادة حكومة جديدة برئاسة أحمد الشرع، سرعان ما انكشفت الهوة العميقة بين دمشق والسويداء، حيث وجدت حكومة الشرع نفسها تحاور أكثر من جهة وفصيل، كلٌّ له أجندة وتوجهات مختلفة عن الآخر، وبعضها أصلاً رفض التحاور مع دمشق، مثل المجلس العسكري الذي تشكّل بعد سقوط الأسد.
"لا وفاق ولا توافق مع حكومة متطرفة بكل معنى الكلمة"، هكذا لخص الزعيم الروحي لطائفة المسلمين الموحدين الدروز، الشيخ حكمت الهجري، موقفه من الحكومة الجديدة.
في لقاء مصور مع فعاليات اجتماعية، أعلن الشيخ الهجري أن هذه الحكومة "مطلوبة للعدالة الدولية"، محذرًا أبناء طائفته من الانجرار وراء "بيع الكرامة والتاريخ" بالالتحاق بها.
لم تكن مجرد كلمات غاضبة؛ بل كانت بيان قطيعة كاملة مع دمشق الجديدة، وهو ما أظهرته تصرفات الهجري اللاحقة وقطيعته الكاملة مع مسؤولي دمشق وعدم لقائه أيًّا منهم. وهو ما يراه كثيرون استقواءً بإسرائيل، التي أكدت أنها ستحمي الطائفة الدرزية من حكومة دمشق.
تصريحات الهجري، بحسب مراقبين ونشطاء، تتسم بشكل عام بالفوقية، وأنه المتحكم الوحيد بالسويداء، منصبًا نفسه الحاكم الرسمي في المحافظة، مهددًا الكثير من الفصائل والجهات المدنية من التعامل مع دمشق من دون موافقته وعلمه، مؤكدًا أن الكلمة الأخيرة هي له، وذلك حسب تسريبات صوتية عديدة لقيادات عسكرية تابعة له توضح ذلك.
بدو السويداء… بين فوضى البادية ومشروع الشيطنة الطائفية
لطالما شكّل بدو السويداء جزءًا من النسيج الاجتماعي للجنوب السوري؛ فهم جماعات عربية سنية تعايشوا لعقود مع جيرانهم الدروز، تشاركوا كل شيء، وارتبطوا بعلاقات مصاهرة وانصهار وقرابة كبيرة.
غير أن الانهيار الأمني الذي أعقب سقوط نظام الأسد لم يترك أحدًا في مأمن من فوضى السلاح والانفلات، خاصة مع توجّه جميع الأطراف لحمل السلاح لحماية مناطقها، واستغلال العصابات الإجرامية وضعاف النفوس والطائفيين لذلك.
وفي هذا الفراغ القاتل، برزت عصابات إجرامية، اتخذت من المناطق الحدودية الشرقية ملاذًا، تعمل في تهريب المخدرات والسلاح والخطف والقتل؛ عصابات لم تميّز بين ضحية وأخرى، ولم تكتفِ بالإضرار بجيرانهم الدروز، بل امتدت جرائمهم أيضًا إلى أبناء عشائرهم من المدنيين البدو أنفسهم.
وعلى الطرف الآخر، عملت فصائل من الطائفة الدرزية على شيطنة البدو جميعهم، وسلكت السلوك ذاته بالخطف والقتل.
ورغم أن هذه العصابات تمثل شريحة محدودة خارجة عن القانون، فإن بعض الأصوات المتطرفة داخل المجتمعين الدرزي والبدوي، وجدت في هذه الفوضى ذريعةً لإعادة رسم الصراع بصيغة طائفية.
"السنة يهاجموننا والبدو يهددون كياننا"، " الدروز يقتلوننا ويحاصروننا"... ترددت مثل هذه العبارات في المجالس، ممهدةً لتحويل المواجهة مع عصابات محدودة إلى مشروع شيطنة جماعي، يستهدف آلاف المدنيين الأبرياء لمجرد انتمائهم المذهبي أو العشائري.
هكذا، بدلاً من أن تبقى المواجهة مع عصابات تخريب واشخاص مرضى بالطائفية، بدأت ملامح خطر أكبر تتبلور:
خطر انزلاق الجنوب إلى حرب أهلية مفتوحة، يذكيها خطاب الكراهية، ويجد من يغذيه من خلف الحدود: إيران وإسرائيل.
إلى أين تتجه السويداء؟
لم تعد الأسئلة في السويداء والجنوب السوري عمومًا اليوم تدور حول من بدأ إطلاق النار، أو من أطلق أول إساءة؛ بل باتت أكبر وأخطر:
هل ما يجري هو مجرد فوضى عابرة، أم أننا أمام مشروع تفكيك ممنهج؟
هل تملك القوى المحلية زمام قرارها، أم باتت رهينة رسائل إقليمية تُكتب بحبر الطائرات المسيّرة وتصريحات العواصم المتربصة؟.
السويداء تقف اليوم أمام مفترق طرق حاد: إما الانجراف نحو نموذج الحرب الأهلية اللبنانية بكل أدواتها الطائفية، التي تنتهي بتقاسم الموت لا السلطة؛ وإما صياغة مشروع وطني، تُعيد فيه السويداء تعريف نفسها لا كقلعة مغلقة، ولا كمظلة طائفية، بل كجزء حيّ وواعٍ من مستقبل سوري يبحث عن ذاته.
لكن الشرط الأول لأي حل يبدأ من كسر احتكار الصوت الواحد داخل كل طائفة؛ فلا الهجري يمثل كل الدروز، ولا الرئيس السوري أحمد الشرع يمثل السنة وحدهم، ولا الشعارات الدينية تمنح أحدًا تفويضًا بالقتل.
الطريق لا يزال مفتوحًا، لكنه يضيق سريعًا؛ والفتنة لا تحتاج أكثر من رصاصة واحدة خاطئة، أو فتوى واحدة مسمومة، لتشتعل على الجميع.
وفي هذا الجنوب المضطرب والمجنون، تبدو الحاجة اليوم ماسة إلى صوت العقل أكثر من أي وقت مضى.