
أرامل المفقودين والشهداء: نساء سلبتهن الحرب واحتملن ما لا يُحتمل
في عام 2013، سافر زوج فاطمة عبد الكريم من قريتهم الصغيرة في ريف إدلب إلى العاصمة دمشق لقضاء أمرٍ عائلي، لكنه لم يعد. اختفى فجأة، ولم يصل منه خبر. بقيت فاطمة، المعلمة الشابة، مسؤولة عن ثلاثة أطفال: ولدين وبنت. صلّت كثيراً، بكت طويلاً، ودعت كثيراً، وبقيت تنتظر أن تفتح لها السماء باباً نحو المعجزة.
عائلة زوجها وقفت إلى جانبها، مدّت يدها لها، وساندتها في تربية الأطفال. عملت فاطمة كمدرّسة كي تعيل أبناءها، واستمرت في الحياة رغم الألم والانتظار. بعد سنوات، ومع تغير خريطة السيطرة، وفي أحد المراكز المخصصة لتوثيق أسماء الضحايا، تبيّن أن زوجها قُتل في فترة قريبة من اختفائه. لم يعد لها ما تنتظره سوى العيش من أجل أطفالها.
وحدهن في الميدان
ما عاشته فاطمة يشبه ما مرت به آلاف النساء السوريات اللواتي خطفت الحرب منهن أزواجهن، وتركنهن على قارعة الحياة بمفردهن، يواجهن ظروفاً اجتماعية واقتصادية ونفسية غاية في القسوة. تجاوز عدد المختفين قسراً في سوريا 112 ألف شخص، بحسب تصريحات رئيس "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" فضل عبد الغني في لقاء إعلامي، وذلك رغم عمليات الإفراج المحدودة التي شهدتها بعض السجون.
إلى جانب ذلك، قُتل آلاف المدنيين نتيجة القصف الذي نفذته قوات المجرم بشار الأسد والمعارك التي اندلعت بين مختلف أطراف النزاع. وراء كل رقم من هذه الأرقام المؤلمة حكاية إنسانية: أرملة ترملت، أطفال تيتموا، أو منزل فقد معيله… حكايات موجعة تشهد على ثمن باهظ دفعته العائلات السورية في حرب لم تنتهِ آثارها بعد.
أم علاء: من حلب إلى كفر لوسين
توفي زوج أم علاء إثر قصف جوي في مدينة حلب، لترث هي مسؤولية أربعة أطفال. اضطرت الأسرة للنزوح إلى مناطق شمالي غربي سوريا نحو قرية كفر لوسين في شمال غرب سوريا، وهناك حصلت على شقة ضمن مخيم خُصص للأرامل. تعمل الآن كمستخدمة في مدرسة قريبة لتؤمّن الحد الأدنى من احتياجات أسرتها. عمرها اليوم 47 عاماً، وكل همها أن تُربي الأطفال وأن تراهم بصورة جيدة في المستقبل.
أم عبد الرحمن: رحلة من الجنوب إلى أطمة
كانت أم عبد الرحمن تعيش في ريف إدلب الجنوبي حين قُتل زوجها في معركة عام 2014. لتصبح المسؤولة الوحيدة عن أطفال صغار، في قرية بدأت تنهار تحت وطأة القصف، لتفر بعدها إلى مخيم للأرامل في مدينة أطمة. في هذا المخيم، تبدأ مرحلة جديدة من التحديات: تأمين الطعام، الحماية، التعليم. استطاعت ابنتها الكبرى أن تجد عملاً لتخفف عن كاهل والدتها بعضاً من العبء.
ابتسام العبد الله: بين الفقد والتضييق
رحلة أخرى عنوانها الغياب الطويل والمصير المجهول. في عام 2012، فُقد زوج ابتسام العبد الله على طريق سفره إلى لبنان. بقيت وحدها مع أربعة أطفال، وانقلبت حياتها رأساً على عقب. لم تعانِ فقط من غياب المعيل، بل من تدخلات عائلة زوجها التي حاولت فرض وصايتها على حياتها اليومية.
هربت إلى تركيا بطريقة غير نظامية، بحثاً عن مساحة من الحرية والأمان. كانت تغبط زوجات الشهداء لأنهن يعرفن مصير أزواجهن، بينما هنّ كن يغبطنها لأنها ما زالت تملك أملاً في رؤيته… حتى جاء اليوم الذي عرفت فيه الحقيقة. زوجها كان بين أسماء الضحايا الموثقة بعد التحرير.
الزواج بعد الفقد: خيار شخصي بين الرفض والقبول
تفاوتت ردود فعل الأرامل بين من اختارت الزواج مجدداً بحثاً عن دعم واستقرار، وبين من قررت أن تكرّس حياتها لتربية أطفالها فقط. الأمر ليس سهلاً، فالقرار يتأثر بالمجتمع، بالأهل، بالأطفال، وبالظروف الاقتصادية والنفسية. إحدى القصص لفتاة تبلغ من العمر 20 عاماً، تزوجت في سن الخامسة عشرة من مقاتل، ثم اختفى بعد أشهر من الزواج بينما كانت حاملاً.
صبرت، ربت طفلها بمفردها، وما زالت تقيم في أحد المخيمات مع والدتها الأرملة في مخيم تابع لكفرلوسين، بعد ثلاث سنوات من غياب زوجها طلقته عن طريق المحكمة وقررت أن تتزوج لأن أقاربها أقنعوها بأنها ما تزال صغيرة ويجب أن تتزوج.
مخيمات الأرامل: خصوصية مؤلمة
في شمال غرب سوريا، خُصصت عدد من المخيمات للسيدات الأرامل وأطفالهن، منها في أطمة وكفر لوسين وقاح وقاح وغيرها. توفر هذه المخيمات حداً من الأمان المجتمعي، لكن يبقى هناك تحديات والتي تختلف من مخيم لآخر، منها: ندرة الدعم، غياب الخدمات الأساسية، الاكتظاظ، صعوبة الوضع المادي.
الأرامل في هذه الأماكن لا يحملن فقط صفة "زوجة شهيد" أو "زوجة مفقود"، بل يُنظر إليهن أحيانًا كعبء أو كنساء ضعيفات بحاجة لحماية دائمة، ما يفاقم من مشاعر العزلة والخذلان.
تقول فاطمة عبد الكريم (46) عاما، وهي تنظر في صور أولادها الثلاثة: "كنت أبحث عنه في الوجوه، في الأخبار، في الليل حين أغمض عيني... الآن فقط عرفت أنني لم أكن أبحث عنه، بل عني أنا، عن قوتي التي كنت أجهلها." هكذا هن أرامل الحرب: أقوى من العاصفة، وأحن من الأمهات، يختصرن الحكاية في صبرٍ نادر، وشجاعة لا تُروى إلا بالدموع.