
ماذا تعني عودة سوريا إلى نظام «سويفت»؟ المال يعود من الطريق الرسمي
خلال الأسابيع الأخيرة تغيّر شيء جوهري في الطريقة التي يمكن أن يدخل بها المال إلى سوريا ويخرج منها. الولايات المتحدة أنهت البرنامج الشامل السابق للعقوبات، والاتحاد الأوروبي خفّف قيوده، والبنوك بدأت تتعامل مع سوريا مجددًا عبر شبكة «سويفت».
في منتصف يونيو/حزيران أُنجز أول تحويل مصرفي مباشر من بنك سوري إلى بنك أوروبي، وهو خبر صغير بحجمه، كبير بمعناه: الخط عاد يرنّ، والباب الرسمي للمال فُتح بعد سنوات من الانقطاع.
ما هي «سويفت | Swift » ؟
«سويفت» ببساطة ليست بنكًا يحمل الأموال في حقيبة. هي أشبه ببريد سريع وفائق الأمان بين البنوك حول العالم. عندما ترسل مالًا لشخص في الخارج، لا تسافر الأوراق النقدية، بل يذهب “أمر الدفع” برسالة مشفّرة من بنكك إلى بنك الشخص الآخر. طالما أن البنوك على الشبكة ومعها أذونات الاتصال فيما بينها، تتم العملية بسرعة ووضوح. الفرق بين وجود «سويفت» وعدمها يشبه الفرق بين طريق سريع مضاء ومراقب بالكاميرات، ودرْب ترابي جانبي لا تعرف من يمرّ فيه.
ماذا يتغيّر للتجار وأصحاب الشركات؟
ما الذي يتغيّر على أرض الواقع؟ أولًا بالنسبة للأُسر والمغتربين، تصبح الحوالات عبر البنك خيارًا منطقيًا من جديد. بدل أن يمر المال عبر وسطاء في السوق الموازية، يمكن أن يذهب رسميًا إلى حسابات داخل سوريا. هذا يعني عادة مصاريف أقل، ووقتًا أقصر، ووصلات تحويل يمكن تتبّعها، ورسائل تأكيد تصل في اليوم نفسه أو خلال أيام قليلة. ومع كل بنك أجنبي يفتح قناة مراسلة جديدة مع بنك سوري، يتحسّن السعر والسرعة أكثر.
بالنسبة للتجّار وأصحاب الشركات، فالعودة إلى «سويفت» تعني عودة أدوات كانوا يفتقدونها: أهمها “الاعتماد المستندي”، وهو ببساطة تعهّد من البنك للبائع في الخارج أن أمواله مضمونة إذا سلّم البضاعة المتفق عليها. بهذه الطريقة لا يدفع التاجر السوري كامل الثمن مقدّمًا ولا يغامر بوصول الشحنة، ولا يطالب البائع الأجنبي بضمانات معقّدة. تتوزع المخاطر بشكل عادل، وتتحوّل الصفقات من مغامرات فردية إلى عمليات تجارية طبيعية. هذا يفتح الباب لتأمين مواد أولية وقطع غيار وسلع أساسية بجودة أفضل وكلفة أقل لأنك لم تعد “زبونًا عالي المخاطر”.
المستثمرون أيضًا ينظرون إلى «سويفت» كشرط أول لجدّية أي سوق. لا يضع أحدٌ أمواله في بلد لا يعرف كيف يُدخلها ويُخرج أرباحه منه. ومع القنوات المصرفية الرسمية يعود التقييم بالأرقام لا بالتخمين. صحيح أنّ أوائل العائدين غالبًا هم أصحاب الأعمال الصغيرة والمتوسطة الذين يعرفون السوق، لكن الصورة اليوم لا تقف عند هذا الحد؛ فالإعلانات الخليجية الأخيرة تتحدّث عن حِزم بمليارات الدولارات في البنية التحتية والعقار والطاقة والمرافئ، ما يخلق طلبًا كبيرًا على سلاسل توريد محلية ويُخفّض “علاوة الخوف” لدى رأس المال الأجنبي. بعضها ما زال على شكل مذكرات تفاهم سيجتاز مراحل تدقيق وتمويل قبل أن يصير عقودًا نافذة، لكن الاتجاه واضح: المشاريع الكبرى تفتح الطريق، والمشاريع المتوسطة والصغيرة تملؤه حركةً وفرصًا.
ماذا ستفعل المصارف السورية عمليًا؟
داخل القطاع المصرفي نفسه، ستسابق البنوك السورية الوقت لترتيب أمورها: إعادة تفعيل رموزها على شبكة «سويفت»، توقيع أذونات التراسل مع بنوكٍ مقابلة في الخارج، وفتح حسابات لتسوية المدفوعات بعملات أساسية. وهناك خطوة تقنية لا غنى عنها يمكن تبسيطها كالتالي: شبكة «سويفت» تطلب من البنوك حول العالم الانتقال إلى “لغة رسائل” أحدث اسمها ISO 20022 عند إرسال أوامر الدفع عبر الحدود. تخيّلها كتحديث كبير لتطبيق الرسائل في هاتفك؛ إن لم تُثبّت التحديث قد تصل الرسائل ناقصة أو تتأخر. ابتداءً من 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2025 ستُرسل هذه الأوامر باللغة الجديدة فقط، لذلك ستنجز البنوك السورية هذا التحديث لتسير تحويلاتها بسلاسة مع بقية العالم. وللتقريب كمثال، البنوك الأردنية سبقت إلى ذلك ضمن تحديثات يقودها البنك المركزي الأردني ومنظومة المدفوعات الوطنية؛ لذا عندما يحين الموعد العالمي تمرّ تحويلاتها الخارجية طبيعيًا لأنها تتحدث بالفعل “اللغة” التي يعتمدها العالم، أما البنوك السورية عليها مهمّتان معًا، وهي إعادة بناء “خطوط الاتصال” مع العالم وتحديث أنظمتها بعد نوفمبر.
هل انتهت القيود تمامًا وما هو الأثر؟
هل يعني هذا أن كل القيود سقطت؟ لا. ما انتهى هو السقف الكبير القديم الذي كان يمنع التعاملات بالجملة. بقيت قيود موجّهة على أسماء وكيانات محددة، وبقيت بنوك في العالم تريد أن “تتأكد خطوة خطوة” قبل فتح تعامل واسع. وهذا طبيعي؛ فالمصارف عمومًا تتحرك بحذر وتختبر عمليات صغيرة ثم تكبرها. أيضًا، هناك ملفات سياسية منفصلة لا تزال قيد المراجعة في واشنطن وعواصم أخرى، وهذا يجعل المسار تدريجيًا لا فوريًا.
رغم ذلك، سيظهر الأثر اليومي على مراحل لا بضغطة زر. في البداية تميل الحوالات العائلية إلى العبور عبر عدد محدود من البنوك التي فُتحت لها قنوات مراسلة فعلًا، فتصل إلى الحسابات المحلية بطريقة أوضح وأقل كلفة من الوسطاء. ومع كل خطوة جديدة في إعادة الربط—ومنها تحديث لغة الرسائل بين البنوك—تعود صفقات الاستيراد الصغيرة إلى مسارٍ مرتب بدل الدفع المسبق المرهق، وتنجح شركات محلية للمرة الأولى في شراء معدات حديثة لأنها حصلت على خطاب ضمان محترم من بنكها، وعندها تتحسّن ثقة الناس بالبنوك لأنهم يرون تحويلات تُنجَز وسلعًا تدخل عبر القنوات النظامية.
عودة «سويفت» لا تفيد الأسر والتجّار فقط؛ إنها شرط بنيوي لتدفق الاستثمارات الخليجية المعلَنة في البنية التحتية والطاقة والعقار. ما دام التمويل يمر عبر بنوك مراسلة ويُصرف على دفعات، تصبح شبكة الدفعات الرسمية ضرورةً لا ترفًا. ومع كل عقد كبير ينتقل من مذكرة تفاهم إلى تنفيذ، يمتد الأثر إلى آلاف الشركات المحلية التي تُنفذ الأشغال وتورّد المواد وتوظّف الناس.
الخلاصة أن عودة سوريا إلى «سويفت» لا تعني عصًا سحرية تغيّر الاقتصاد بين يوم وليلة، لكنها تعني عودة الطريق الرسمي للمال. وكلما مرّت عبر هذا الطريق تحويلات وتجارب ناجحة أكثر، زادت شهية البنوك الأجنبية على التعامل، وتراجعت كلفة التجارة والحوالات، واقتربت المشاريع من الورق إلى الواقع. الفرق بين سنوات العزلة واليوم يمكن تلخيصه بجملة واحدة: لم نعد مضطرّين لاستخدام الدروب الجانبية، فباب الطريق السريع فُتح، والكرة الآن في ملعب المصارف والشركات لاستغلاله بحكمة.