
الإخوان المسلمون في سوريا يطرحون "وثيقة العيش المشترك" لبناء دولة وطنية عادلة
قدّمت "جماعة الإخوان المسلمين في سوريا"، وثيقة شاملة بعنوان "وثيقة العيش المشترك في سورية"، تضمنت رؤية فكرية وسياسية واجتماعية تهدف إلى بناء مجتمع سوري موحد بعد عقود من الاستبداد والانقسام، وإلى إرساء قواعد التعايش بين مختلف المكونات الدينية والعرقية والثقافية على قاعدة المواطنة المتساوية واحترام الكرامة الإنسانية.
تمهيد: الواقع السوري وأهمية العيش المشترك
جاء في مقدمة الوثيقة أن سوريا شهدت في العقود الأخيرة مآسي كبرى، تمثلت في انتهاك الحقوق وإهدار الكرامة الإنسانية، إلى أن شاء الله أن يسقط نظام الطاغية بشار الأسد، لتبدأ مرحلة جديدة من تاريخ البلاد عنوانها الحرية وبناء الدولة والمجتمع على أسس العدالة والكرامة.
وأوضحت الوثيقة أن سوريا، بحكم موقعها الجغرافي وتعدد ديانات أبنائها وأعراقهم، تحمل رسالة إنسانية فريدة جعلت منها عبر التاريخ وطناً للتنوع والتسامح، مؤكدة أن الثابت في مسيرتها كان دائماً وحدة المجتمع حول القيم الإنسانية والمصالح الوطنية المشتركة.
وأشارت الجماعة إلى أن الدساتير السورية منذ مطلع القرن الماضي كانت تراعي خصوصية المكونات الدينية والاجتماعية، فخصّصت مجالات محددة للدين والأحوال الشخصية، بينما جعلت كل ما عدا ذلك مساحة وطنية مشتركة، وهو ما شكّل عامل استقرار للدولة والمجتمع.
ورأت الوثيقة أن ما تحتاجه سوريا اليوم هو نموذج للعيش المشترك لا يقصي أحداً ولا يسمح لأي مكون بالاستقواء بالخارج، بل يقوم على الحوار والرضا المتبادل والسعي إلى سلم أهلي مستدام ومجتمع مستقر، معتبرة أن هذه المهمة تقع على عاتق أهل الوعي والعقل من أبناء الوطن.
وأوضحت أن قيمة العيش المشترك تواجه تحديات كبيرة نتيجة حكم ديكتاتوري استمر ستة عقود، زرع الخوف والانقسام في المجتمع السوري، مما أدى إلى انتشار خطاب الكراهية والانقسام المجتمعي، وهو ما يهدد مستقبل السلم الأهلي إن لم يُتدارك بالحوار والعقلانية.
وأكدت الوثيقة أن هدفها مخاطبة جميع السوريين من مختلف الانتماءات لتقديم تصور متكامل حول الأسس الضرورية لبناء العيش المشترك، وتعزيز التفاهم والسلام بين مختلف أبناء الوطن، واستعادة صورة سوريا المشرقة التي شوهها نظام الاستبداد، في سبيل ترك إرثٍ لأجيالٍ تعيش في وطنٍ آمن موحد قائم على العدالة والمساواة.
الأسس الشرعية للعيش المشترك
استندت جماعة الإخوان المسلمين في رؤيتها إلى مرجعيات قرآنية أبرزها قول الله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) [الحجرات: 13]، وقوله تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) [الممتحنة: 8].
وبيّنت الوثيقة أن هاتين الآيتين تؤسسان لمبدأ وحدة الأصل الإنساني، وأن الناس جميعاً أسرة واحدة متكافئة في الكرامة، وأن معيار التفاضل بينهم هو التقوى فقط، لا الدين ولا العرق ولا اللغة. كما أوضحت أن التعامل مع غير المسلمين في المجتمع يجب أن يقوم على البرّ والعدل والاحترام المتبادل.
وحددت الوثيقة القيم الأساسية للعيش المشترك في الإسلام كما يلي:
- الاعتراف بالآخر واحترامه: وهو أصل شرعي واجتماعي لا يمكن تجاوزه، فبدون هذا الاعتراف لا يمكن للمسلم أن يبرّ الآخرين المختلفين معه في المجتمع.
- الأخلاق: إذ أكدت أن الأخلاق الإسلامية تحكم سلوك المسلم مع الموافق والمخالف على حد سواء، مستشهدة بسلوك النبي الكريم مع المشركين واليهود.
- العدالة: وهي القيمة العليا التي تقوم عليها المجتمعات، إذ أرسل الله الرسل لإقامتها بين الناس، فهي المعيار الذي يساوي بين الحقوق والواجبات، ويشمل حتى التعامل مع الأعداء.
- التعاون: لأن المجتمع لا يمكن أن يقوم من دون تعاون أبنائه على البرّ والتقوى، وهو تعاون يمتد إلى المختلفين دينياً أو سياسياً متى كان لتحقيق الخير العام.
- الاختلاف سنّة كونية: فالله خلق الناس متنوعين في ألسنتهم وأديانهم وثقافاتهم، وهذا التنوع يجب أن يكون أساساً للتعارف والتعاون لا للصراع، وهو ما دعا الإسلام إلى تحويله إلى جسر للحوار وبناء الحضارة المشتركة.
- التعاقد: وأوضحت الوثيقة أن صحيفة المدينة التي وضعها الرسول ﷺ تعدّ النموذج التاريخي الأول للتعاقد المجتمعي الذي ينظم علاقة المكونات المختلفة في إطار العدالة والمواطنة، وهو ما يشكل المرجعية لأي عقد وطني جامع في سوريا المستقبل.
دور الدولة في ترسيخ العيش المشترك
أكدت الوثيقة أن من واجب الدولة السورية الجديدة تأمين الإطار القانوني الذي يحمي كل مكونات النسيج السوري، ويكفل الأمن والعدالة الاجتماعية والاقتصادية، ويعزز سياسات المواطنة وحقوق الإنسان.
ودعت إلى إطلاق مبادرات وطنية للحوار والسلم الأهلي على المستويات المحلية والمركزية، لبناء تفاهم مشترك بين السوريين، وإشراك الإدارات المحلية في صنع القرارات التي تؤثر في حياتهم، كما طالبت الوثيقة ببناء شراكات بين مؤسسات الدولة ومنظمات المجتمع المدني لتشجيع التنوع الثقافي، واختيار مناهج تعليمية تُرسخ قيم التسامح والحرية والوعي الوطني.
أدوار المجتمع المدني في دعم التعايش
تناولت الوثيقة دور منظمات المجتمع المدني في ترسيخ الهوية الوطنية السورية، معتبرة أن هذه المنظمات قادرة على التأثير أكثر من مؤسسات الدولة بسبب قربها من الناس، ودعت إلى إطلاق مبادرات حوار وطني لتعزيز التفاهم بين مكونات المجتمع، وتوعية الأسر ومؤسسات التربية على غرس القيم الأخلاقية في نفوس الأطفال منذ الصغر، والتصدي لثقافة العنف والفتنة، وتنظيم حملات إعلامية وفنية لنشر قيم التعايش.
كما أكدت أهمية المبادرات التي تبني الثقة وتحدّ من العزلة والانغلاق، وتُعزز الأخوة الإنسانية والأخلاق النبيلة، وتشجع على التعاون الاجتماعي من أجل بناء وطنٍ واحد يتسع للجميع.
معايير بناء الدولة الجديدة وقيمها
عرضت الوثيقة مجموعة من القيم والمعايير التي يجب أن تحكم الدولة السورية بعد التحول السياسي، منها:
- قيام الدولة على نظام ديمقراطي تعددي يقوم على المواطنة وسيادة القانون وفصل السلطات.
- ضمان حرية الاعتقاد والممارسة الدينية وتجريم خطاب الكراهية والتحريض على العنف.
- مشاركة جميع السوريين في الحياة السياسية على أساس الكفاءة والمساواة.
- تمكين المرأة والشباب في المجالات السياسية والاجتماعية.
- حصر السلاح بيد الدولة وإخضاع الجيش للرقابة البرلمانية والقضائية.
- تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية المتوازنة بين جميع المناطق.
- تكريس مبدأ أن الإنسانية أسرة واحدة وأن الأخوة بين البشر أصل ثابت.
- ضمان المساواة بين المواطنين في الكرامة والحقوق والواجبات.
- حماية الأفراد من العقاب الجماعي أو الانتقام، وتجريم الظلم أياً كان مصدره.
- كفالة حرية التنقل وحق المشاركة في تقرير مستقبل البلاد.
خاتمة: نحو مجتمع متصالح ومتكامل
اختتمت الجماعة وثيقتها بالتأكيد على أن العيش المشترك ضرورة وطنية وأخلاقية، وأن بناء مجتمع متماسك يتطلب تجاوز موروث الكراهية والأحكام المسبقة التي خلّفها نظام الاستبداد، داعيةً إلى إطلاق مشروع وطني جامع يتجاوز الانقسامات ويعيد الثقة بين السوريين.
وأشارت إلى أن المجتمعات الحديثة تمر بظروف مضطربة، مما يجعل مهمة تحقيق التعايش أكثر تعقيداً، لكنها ممكنة من خلال التعاون والالتزام بالقانون والسلوك الحضاري الذي يرفض التعصب والاستعلاء.
وختمت الوثيقة بالتأكيد على أن بناء العيش المشترك لا يقوم على التسامح اللفظي وحده، بل على الالتزام الحقيقي بالحقوق والواجبات، في ظل دولة عادلة تحمي الجميع وتضمن لهم الحرية والمساواة، مؤكدة أن هذا هو الطريق إلى سوريا جديدة، حرة، متصالحة مع نفسها ومع العالم.