وحتى إذا بقيت الغوطة قرب دمشق خارج سيطرة النظام، فذلك لن يغير شيئا في المعادلة السورية، مثلما أن سيطرة نظام الأسد على غالبية سورية لن يغير شيئا، والمعارضة، ومنذ سنوات خرجت من كونها مصدر خطر على النظام، بعد أن تحوّلت المسألة السورية برمتها إلى شأن إقليمي دولي.
قبل سنوات من عملية اجتياح الغوطة، جرى إخراج المعارضة السورية من معادلة الصراع في سورية، بتوافقٍ ضمني بين عواصم القرار الدولي، وتم تجميد وضعها السياسي، ولم يصر إلى تطويره إلى درجة اعتمادها ممثلاً نهائيا للشعب السوري، وبالتالي التنسيق معها لترتيب السياقات ولزوميات إدارة المراحل المقبلة.
وبالتزامن، جرى تجميد وضعها العسكري، وتحديد سقف فعاليتها، بحيث لا يتجاوز عملها إطار المناوشة في سياق تراجعي، بدأ في حمص ولم ينتهِ بعد، وتحوّلت مع الزمن إلى مجموعات حراسةٍ لمناطق مشتتة من دون رؤية إستراتيجية.
ليس ما جرى مؤامرةً دولية، على ما يحلو لبعضهم تصويره، لكنه تطبيق لتقديرات دوائر القرار في مراكز القرار الدولية بضرورة إيجاد توازن معين في بيئةٍ يملك عنها أصحاب تلك التقديرات تصوراتٍ نمطية وقوالب معرفية جاهزة، بعضها تشكّل من مرحلة الاستعمار وبعضها الآخر من تجارب قريبة في المنطقة.
هي في الأغلب خلطةٌ من الخوف من سيطرة الإسلامويين على السلطة والقلق بشأن مصير الأقليات والرعب على مصير إسرائيل وسواها، وحصل أن الثورة، وبالمعطيات التي صدرتها، عملت على ترسيخ تلك الرؤى والتصورات، وإزاحة كل ما من شأنه ترجيح بدائل تصورية عنها.
هذا الكلام أصبح الآن من تاريخ الحدث السوري، بيد أنه لم يجد في الوسط أطرافا قادرة على وعيه. والغالب أن الأمور كانت قد خرجت عن قدرة أي طرفٍ على تعديله، وخصوصا أنه لم يتأخر الوقت طويلا قبل أن يجد اللاعبون أنفسهم يدورون في فلك قوى إقليمية ودولية، سيطرت على الملعب، وبدأت بتصميم اللعبة بما يتطابق ومصالحها.
على ذلك، يصح بدرجة كبيرة ربط اللعبة بإدارة دولية، والتوازن المشار إليه هنا ليس سوى توازنٍ بين هذه القوى، لأن اللاعبين المحليين استنزفوا ولم يعد بإمكان أي منهما، لا من حيث القدرة ولا من حيث الموارد، على إدارة البلاد السورية.
بيد أن ذلك وضع سورية في مأزق خطير، ذلك أن الأطراف الدولية، لا اليوم ولا في المستقبل القريب، كان، أو سيكون، لديها مقاربة موحّدة لإخراج سورية من الأزمة، وبدلاً من إدارة الأزمة، وصولاً إلى إنتاج تسويات تضع حداً للصراع، دخلت أطراف اللعبة جميعها في صراعاتٍ مع اللاعبين المحليين، كناية عن الصراع فيما بينها، كما ترجمت صراعاتها على شكل نزاعاتٍ على مناطق جغرافية، بعينها لأغراض إستراتيجية او اقتصادية.
وهذا ما يجعل الإدارة الدولية والإقليمية لسورية مختلفة عن أي تجربةٍ سابقةٍ شبيهة بهذه الحالة، سواء في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، أو في الجزيرة الكورية، منتصف خمسينيات القرن الماضي، حيث إن إدارة هاتين المنطقتين خضعت لتوافقات وتفاهمات حدّدت من خلالها أطراف اللعبة، أميركا والاتحاد السوفييتي، مجال سيطرة كل طرف وحدودها، وكان جدار برلين شاهداً على هذا التوافق.
في سورية، لا تزال المسألة قيد التشكّل، ولم يجر بعد توضيح المجالات، وثمّة تداخلات تبرز المشكلات بشأنها بين حين وآخر، وقد تحوّلت إلى عناوين لصراعات محتملة، مثل مناطق شرق الفرات، وبعضها دخل في طور ترتيبات الحرب، كما في جنوب سورية، حيث تنذر هذه المنطقة بإمكانية حصول تطورات خطيرة على مستوى حرب إقليمية.
يعني ذلك أن الأزمة السورية تنتظرها جولات من الصراع، لتحديد مواقع أطراف اللعبة وحدودها، وتنطوي كل جولة من هذه الصراعات على إمكانية تحويل مواقع جديدة "مدن وأرياف" إلى قائمة الدمار المفتوحة. وأن سورية تحولت إلى ساحة حروب مفتوحة، وكل منطقة مؤهلة لنوع من الصراعات ولاعبين مختلفين، فصراع الجنوب ليس بالضرورة أن يؤثر في صراع الشمال، والعكس صحيح.
صحيح أن الصراع المباشر بين روسيا وأميركا ممنوع، أو أنه تحت السيطرة، غير أن ذلك لا يمكن الارتكاز عليه منطلقا لصناعة التسوية في سورية. وبالعكس، فإن ترجمات التوافق على عدم الصراع بين اللاعبين الكبار نجدها في حروب الإبادة التي تشنها روسيا في الغوطة الشرقية وفي إدلب وأرياف حماة، على اعتبار أن هذه المناطق تدخل في حيز حصتها السورية حيث لا توجد قواعد لعبة تحدّد طبيعة السلوك الروسي سوى ما تحدّده روسيا نفسها.
لن تغير سيطرة منظومة الأسد شيئاً مهماً في وضع سورية، لأن الأسد ومنظومته ليسا أكثر من واجهة، تستثمر روسيا وإيران دموية هذه المنظومة، لمواجهة خصومهما الدوليين والإقليميين، في عملية ليست أكثر من عملية إبادة، يطلقون عليها مسمياتٍ من نوع صراع أو إدارة أزمة!
وليس مصادفةً ولا مبالغةً اعتبار مندوبي مجلس الأمن أن سورية باتت عاراً على المجلس، ليس لما تشكّله من إخفاق في عمله والمؤسسات الدولية، وإنما للانحطاط الذي وصل إليه العقل السياسي المعاصر، حينما قبِل أن يتحوّل شعبٌ برمته إلى مجرد مجال لاختبار فعالية الأسلحة وقياس قدرة النظام الدولي على استيعاب السياسات المارقة لأعضائه، وتصوير ذلك على أنه إدارة عمليات التوازن في هذا النظام.
لا شك أن الأكراد هم أكثر الأطراف قلقا وتحسبا لما يمكن أن يقدم عليه الأمريكييون من خطوات قد تفضي لانسحاب قواتهم من المناطق الكردية شمال سوريا، فهم في هذه الحالة سيصبحون مضطرين للتنازل عن قدر كبير من استقلالية حكمهم الذاتي وطموحهم الانفصالي، لصالح الطرف الإقليمي الأقوى الذي سيستفيد من الغياب الأمريكي.
البعض يتحدث عن أن هذا الانسحاب الأمريكي، إن تم، سيكون لمصلحة تركيا، البعض الآخر يقول إنه هدف لروسيا وإيران. وإذا أردنا استعراض فرص وحظوظ الطرفين فعلينا بداية أن نستعيد الحالة الأكثر مماثلة في تقاسم النفوذ بين أطراف الصراع في الجغرافيا الأقرب، العراق، فالعراق شهد انسحابا للقوات الأمريكية منذ نحو ستة أعوام، وبلا شك أن القوى التي ظلت تهيمن على السلطة هناك، هي القوى الشيعية الموالية لإيران في المناطق العربية، والقوى الكردية القومية في كردستان العراق، وظل التأثير الإيراني هو الأقوى في العراق بعد الانسحاب الأمريكي، دون أن ينافسها أحد من الدول العربية المجاورة والإقليمية، وإذا وصلنا للحالة الأكثر تشابها والأقرب زمنيا، وهي النزاع الذي احتدم حول كركوك قبل أشهر، فإنها تماثل إلى حد كبير الوضع في شمال سوريا، فالأطراف المتنازعة حول كركوك هي نفسها، قوى كردية، قوات شيعية وحكومية موالية لإيران في بغداد، وجود تركي خجول في معسكر بعشيقة، وقوات أمريكية محدودة، وتنظيم «الدولة» الذي أبعد وهمش في جيوب صحراوية بأطراف كركوك وجبال حمرين، وعرب سنة في كركوك وجارتها الحويجة تتقاذفهم الأطراف كلها. أما النتيجة فكانت لصالح قوات الحكومة والمندوب السامي لإيران في العراق، قاسم سليماني. ولاحظنا التواطؤ والتعاون بين إيران وحكومة بغداد من جهة، وبين الطرف الكردي الذي سحبته طهران لجانبها وهو حزب الطالباني.
صحيح أن الأمريكيين لم يكن تواجدهم في كردستان بالثقل العسكري ذاته كما هو عليه الحال في شمال سوريا، لكنهم أيضا انسحبوا سياسيا من أزمة كركرك بدون القدرة على التأثير فيها، وهو مشهد مماثل لما يمكن أن يؤول إليه التأثير الأمريكي شمال سوريا في اللحظة التي سينسحبون فيها عسكريا من المناطق الكردية.
إذا أتينا للوضع في شمال سوريا فقد يكون الحزب الكردي الجديد الذي أثيرت أنباء عن تشكيله في شمال سوريا والذي يقال إنه يحض على التعاون مع العراق دون توضيحات بالقصد من ذلك، ما هو إلا خطوة تمهيدية أمريكية، لإرساء وضع ما في شمال سوريا، بعيدا عن النظام السوري، وهي محاولة لا يبدو أنها تقف على قدمين، تذكرنا بمحاولات واشنطن تدعيم سلطة حليفيها اياد علاوي وأحمد الجلبي في العراق مقابل نظرائهم الشيعة الموالين لإيران، قبل أن تبعدهم إيران إلى الهامش، فالنظام السوري، ما زال يحتفظ حتى الآن بمربع أمني في عاصمة الأكراد القامشلي، وإيران وكذلك النظام، لديهم علاقات قديمة بعدة أجنحة كردية شمال سوريا، كالمقربة من طالباني خصوصا. ولا ننسى أن زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله اوجلان لجأ لنظام الأسد قبل أن يضطر الأخير لإبعاده خوفا من تهديدات أنقرة.
لذلك فإن النظام وإيران قد يكررون ما فعلوه في كركوك، باجتذاب تلك الأطراف الكردية لجانبهم، وعقد تسوية تقضي ببسط سيطرة دمشق على المناطق الكردية شمال سوريا، وقبلها بالطبع انسحاب كردي لصالح النظام من دير الزور والرقة العربيتين. ولا تبدو وحدات حماية الشعب الكردية ومن ورائها الـ «بي كي كي» تمانع بشدة هذا المصير إذا اضطرت له وخيرت بشأنه، بين سيطرة دمشق أو سيطرة من أنقرة! وهذا الموقف هو ما صرحت به وحدات حماية الشعب الكردية أكثر من مره، خصوصا عندما يجدون أنهم بين نارين، دمشق أو أنقرة، فيصرحون بأنهم جزء من «الدولة السورية» ويدعون قوات النظام للدخول. كل هذه الحسابات المحلية والإقليمية التي ذكرناها، تتسق مع سياسة القطب الدولي روسيا، التي ترغب أولا بإبعاد الأمريكيين، وثانيا بأن يكون البديل هو النظام السوري، وهو الطرف الأقرب لها بلا شك من تركيا.
ومن هنا فإن حظوظ تركيا تبدو ضعيفة في الاستفادة من الخروج الأمريكي، إن تم قريبا، فلا ننسى أن تركيا تدخلت في شمال سوريا مرتين، واحدة بتوافق أمريكي في درع الفرات ووفرت أمريكا حينها غطاء جويا لهذه العملية، وثانية في عفرين بغطاء روسي. وإذا انسحب الأمريكيون فمن المستبعد أن يمهدوا الطريق لتركيا محلهم لأن هذا ببساطة ضد رغبة حلفائهم الأكراد، وتبدو منبج التي تتحدث انقرة عن ضرورة استعادتها منذ عامين، المثال الأبسط على الرفض الأمريكي لدخول تركي في مناطق تهيمن عليها القوى الكردية. صحيح أن الأتراك سيديرون ظهورهم للأمريكيين ويستغلون انسحابهم ويقبلون على التنسيق مع موسكو على اعتبار أنها قد تؤمن مصالحهم بإبعاد الأكراد وهذا صحيح، ولكنها قد لا تمنحهم موطىء قدم في الفراغ الأمريكي شمال سوريا، فقد يصدمون مجددا، بأن الروس سيفضلون دمشق عليهم، وقد لا تعارض أنقرة هذا الخيار لأنه يحقق مصلحتها أيضا في تهميش السلطة الكردية وتهشيم الطموح الانفصالي الكردي على الحدود التركية الجنوبية.
العدو الخارجي ضرورة استراتيجية أقرّها ماكيافيلي في كتابه الشهير «الأمير»، وقد نصح فيه أحد الحكام الإيطاليين المحليين وقتها بأن يصنع عدواً خارجياً، إذا لم يكن لديه عدو، لأنه لا يمكن توحيد الشعب إلا في ظل وجود خطر خارجي. ومنذ ذلك الحين، والدول تصنع أعداءها أو سعيدة بخصومها، إما كي تعمل على توحيد شعوبها داخلياً، أو كي تبتز الشعوب التي تحكمها وتوجه أنظارها إلى الخارج، خاصة عندما تكون تلك الأنظمة الحاكمة تعاني من مشاكل وأزمات داخلية تهدد حكمها. وكلنا يتذكر العبارة العربية الشهيرة التي أطلقها نظام الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر: «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة». وكان يقصد طبعاً المعركة مع إسرائيل. وبموجب ذلك الشعار القذر، تمت مصادرة الحريات وترسيخ حكم الاستخبارات والمكتب الثاني، وتركيع الشعب بحجة أن البلد يواجه حرباً وعدواً خارجياً لا بد من تسخير كل شيء لمواجهته. وقد استخدم الكثير من الأنظمة العربية ذلك الشعار، فيما بعد للأهداف نفسها، فقد فرض النظام السوري قوانين الطوارئ منذ ستينيات القرن الماضي بحجة وجود عدو خارجي يتطلب تعطيل كل القوانين العادية والحكم بموجب قوانين استثنائية.
وقد سخر الشاعر المصري الراحل أحمد فؤاد نجم من شعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» لكثرة ما استخدمته الأنظمة العسكرية زوراً وبهتاناً عندما قال: «ألو ألو يا همبكة، لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، هرشت مخي، هيّا فين المعركة».
طبعاً لا أحد هنا ينكر أن إسرائيل كانت ومازالت تشكل خطراً على جيرانها العرب، ولا بد من تذكير الشعوب بذلك العدو، لكن الأنظمة العربية الديكتاتورية بالغت في استغلال العدو الخارجي لأغراض لا علاقة لها أبداً بالعدو. ولا يمكن أن ننسى أن الأنظمة الغربية ممثلة بأمريكا وأوروبا أيضاً استغلت الخطر السوفياتي الشيوعي لعقود وعقود على مدى سنوات الحرب الباردة التي استمرت حتى سقوط الكتلة الشيوعية في بداية ثمانينيات القرن الماضي.
ونجح الإعلام الغربي الأسطوري في شيطنة الشيوعية وتصويرها على أنها عدو يجب على كل الشعوب الغربية أن تقف صفاً واحداً ضده. وفعلاً ظلت الشعوب الغربية متحدة في وجه الاتحاد السوفياتي والخطر الأحمر حتى انهار الاتحاد.
ماذا تفعل الأنظمة الغربية عندما انهار الاتحاد السوفياتي وزال الخطر الشيوعي الذي كان بمثابة بعبع بالنسبة للبلدان الغربية على مدى عقود وعقود؟ وجدتها، وجدتها، بدأ الإعلام الغربي يضخّم الخطر الأخضر، ألا وهو الخطر الإسلامي، وشاهدنا كيف أصبح تنظيم القاعدة الشغل الشاغل للإعلام الغربي على مدى أكثر من عقدين من الزمن. وصارت الشعوب الغربية تنظر إلى الإسلاميين على أنهم الخطر الجديد الذي حل محل الخطر الشيوعي. وعلى الرغم من ظهور داعش واستغلاله كبعبع جديد لفترة من الزمن، إلا أن الخطر الداعشي بدأ يتلاشى من الإعلام الغربي شيئاً فشيئاً، إلا إذا احتاجوه لاحقاً وأحيوه لتمرير بعض المخططات الجديدة. ماذا يفعل الغرب بعد أن أصبح الخطر الإسلامي ضعيفاً، لا بد من تصنيع أو إيجاد عدو خارجي جديد على الطريقة الماكيافيلية. وبما أن روسيا بقيادة بوتين بدأت تظهر على الساحة الدولية وتنافس الغرب في أكثر من ساحة، فقد وجدت المؤسسات الحاكمة في روسيا الجديدة خطراً قد يرقى إلى عدو خارجي يجب تحشيد الشعوب ضده من جديد. بالأمس كان الاتحاد السوفياتي، واليوم الاتحاد الروسي، ولا تتفاجأوا إذا ما بدأت شيطنة الصين لاحقاً بعد أن أصبحت تنافس أمريكا ذاتها في إجمالي الناتج المحلي.
لا أحد ينكر أن روسيا الجديدة أقرب إلى الدولة المارقة منها إلى الاتحاد السوفياتي السابق الذي كان فعلاً يشكل تهديداً وجودياً للغرب، إلا أن قوتها بدأت دون أدنى شك تتصاعد شيئاً فشيئاً، ولا بد من الاحتراس منها مبكراً، لهذا بدأ الغرب يعمل على شيطنتها وتخويف الشعوب من خطرها. ولا ننسى أن مؤسسة الأمن القومي القريبة جداً من الدولة العميقة في أمريكا ما زالت تنظر إلى روسيا نفس النظرة التي كانت تنظرها إلى الاتحاد السوفياتي السابق رغم انهيار الاتحاد وزوال خطره. ولو سألت كبار المستشارين والمسؤولين في الأمن القومي الأمريكي لقالوا لك إن روسيا البوتينية نسخة شيطانية جديدة عن الاتحاد السوفياتي، ولا بد من مواجهتها، بينما نرى أن البيت الأبيض يرى أن العدو الجديد لأمريكا الذي يجب البدء بالتركيز عليه هي الصين. وبغض النظر من هو العدو الأكثر خطورة على أمريكا، فإن الخلاف بين البيت الأبيض والأمن القومي على ماهية ذلك العدو يؤكد على أن أمريكا لا تستطيع العيش بدون عدو خارجي حتى لو صنعته بنفسها كما فعلت مع الجماعات الإسلامية. ولا ننسى أيضاً أن الروس أنفسهم عادوا للعزف على الاسطوانة القديمة ذاتها في عقيدتهم العسكرية الجديدة التي وقعها بوتين قبل سنتين، فقد اعتبرت الوثيقة الجديدة أن العدو الرئيسي لروسيا هي أمريكا. بعبارة أخرى، فإن روسيا بدورها بدأت تشيطن العدو الغربي من جديد لتوحيد الروس داخلياً ضد عدو خارجي.
هل يمكن إذاً أن نعتبر هذا العقاب الأمريكي الأوروبي الجماعي لروسيا وطرد أكثر من مائة وأربعين دبلوماسياً روسياً من أكثر من ستة عشر بلداً تأديباً لروسيا على محاولتها تسميم جاسوس روسي في بريطانيا، هل يمكن أن نعتبره صافرة البداية لإعلان روسيا عدواً جديداً للغرب؟ الروس أنفسهم يخشون من عودة الحرب الباردة بثوب آخر. هل تكون روسيا العدو الجديد للغرب لعقود قادمة؟ لننتظر ونر.
ما أن أعلن المرشد الإيراني، علي خامنئي، أن بلاده "لن تسمح بأي تدخل أجنبي في سورية"، حتى أكد الرئيس، حسن روحاني، تمسكها بما أسماه "الأمن الإقليمي"، القائم في نظره على: اعتبار سورية جزءا من إيران، تهدد ثورته الأمن الإقليمي، وبالتالي الدولي الذي يعادل، في هذا الفهم، انفراد نظامه بسورية، واعتبار أي وضع آخر تدخلا أجنبيا لن تقبله. هل يشمل الرفض روسيا التي غزت سورية عسكريا، وتعمل للانفراد بالسيطرة عليها؟ وتركيا التي تنشر جيشها شمالها؟ وأميركا التي تحتل 28% من مساحتها؟ ما الذي سيبقى من سورية، إن كانت إيران تريد حقا الانفراد بها، وطرد هذه القوى منها، أو العكس، إن كانت هي تريد إخراج إيران منها؟
يبدو أن "الأمن الإقليمي" لا يتحقق من دون انتشار إيران خارج حدودها، ووضع يدها على جوارها، باعتباره خدمة للأمن والسلام الدوليين، تتفق مع القانون الدولي، وتحصن البلدان التي تحتلها إيران ضد الصراعات الدولية، وإن حولتها إلى مستعمرات إيرانية، وأفقدت شعوبها الحق في الحرية والاستقلال، فإن قاومت هددت مقاومتها "الأمن الإقليمي"، وغدت شعوبا إرهابية كشعب سورية الذي ينتهك القانون الدولي، ويمارس الإرهاب بثورته، الخارجة عن مألوف الثورات، ولا بد أن تتحمل المسؤولية عن انخراط قوى عديدة في الصراعات التي ترتبت عليها، واضطرت الحرس الثوري وجيش طهران إلى غزوها، لحمايتها ومنع انفراد الأجانب بها، وليس لأي سبب آخر.
ليس التدخل العسكري الإيراني المباشر في العراق وسورية ولبنان واليمن، وغير المباشر في بلدان عربية أخرى، عدواناً استعمارياً تقوم به دولة أجنبية، بل هو تحرك داخل مجال إيران السيادي، هدفه حماية الأمن الإقليمي. لذلك، تنتظر طهران أن يدعم العالم دورها في اليمن، ويساند فتوى المرشد حول إلزام حزب الله بالقتال ضد شعب سورية التكفيري، ومبادرة حسن نصر الله بشأن إيصال "دواعش" عرسال اللبنانية بحافلات مكيفة، ترفرف عليها أعلام حزبه الصفراء إلى مدينة دير الزور في أقصى الشرق السوري، ويرحب بجهود قناصة الحرس الثوري الذين أرسلوا إلى دمشق قبل أسابيع من ثورتها، وقتلوا عشرات الآلاف من مواطنيها المطالبين بالحرية والإصلاح، ويحيي تضحيات حرس طهران، وهم يدافعون عن مرقد زينب في ضاحية دمشق الجنوبية التي كانت ستسبى طوال نيف وألف وأربعة عام، لو لم يبادر حزب الله إلى احتلال المكان. ويساند تطييف نظام العراق السياسي، وتغيير بنيته السكانية ودمجه في نظام فارس الأمني، وسيطرة حزب الله على دولة لبنان ومجتمعه. في أوضاع عبثية، هذه ملامحها، يتعهد روحاني بحرمان هذه البلدان مما سطت إيران عليه: استقلالها وسيادتها، ويعلن تصميمه على مقاتلة شعوبها والقضاء عليها، وطردها من أوطانها، بالتعاون مع حاكم محلي هنا، أو أقلية داخلية متعاونة هناك.
لا ينتهك ملالي إيران سيادة الدول باحتلالها، ولا يدوسون حقوق مواطنيها بقتلهم، ولا يتناقض قيامهم باستعمار شعب آخر مع تنصيب أنفسهم ناطقين باسمه ومدافعين عنه. ومن يستمع إلى تصريحات خامنئي وروحاني يعتقد أنهما مفوضان ساميان، كلفتهما الأمم المتحدة بتولي شؤون السوريين وإدارتها بالنيابة عنهم.
هذا زمن عودة إلى نوعٍ من أحط أنواع الاستعمار وأشرسها، يتولاه ملالي يعتبرون كل ما يصدر عنهم إلهيا، على الرغم من أن ممارساتهم تجافي كل ما هو إنساني وحر في تراث الإنسانية وتاريخها، وتناهض يقظة تاريخية تعيشها شعوب منطقتنا، مدارها حرية إنسانها وحقوق مواطنها. هذا النمط من الاستعمار المذهبي سيقضي على منطقتنا وشعوبها، إذا لم يتحد العالم، ويبادر للقضاء عليه.
يخطئ كل من يتصور، أنه كان بالإمكان، أن تنتصر الغوطة الشرقية في الحرب، التي شنت عليها في الأسابيع الأخيرة. فثمة معطيات واقعية، تؤشر إلى ما صار إليه وضع الغوطة، التي لم يبقَ منها إلا جزر، تقاوم الهجوم الكاسح الذي تنفذه قوة واسعة من نظام الأسد وإيران مدعومة بالطيران الحربي الروسي.
الأساس العسكري للحرب الأخيرة، هو اختلال ميزان القوى لصالح النظام وحلفائه الذي يسجل تفوقاً كاسحاً للحلف بين أبرز تجلياته اختلال يتعلق بالعدد والتسليح والذخائر والإمكانات الاحتياطية ومنها الإمداد بالموارد البشرية والمادية، بل إن اختلال موازين القوى، يدعمه اختلال سياسي في البيئة المحيطة بطرفي الصراع، والذي يبين أن التشكيلات المسلحة في الغوطة، كانت وحيدة، ليس من سند لها في المستويات الداخلية والإقليمية والدولية، فيما كان تحالف نظام الأسد المحلي/ الإقليمي والدولي مدعوماً من أنصار له علناً وسراً من جهة، ومن جهة أخرى مسكوت عن أهدافه وجرائمه من أغلبية الدول ومن منظمات دولية وإقليمية ومن الرأي العام الذي لم يفعل شيئاً إزاء حرب إبادة الغوطة ببشرها وبكل مظاهر الحياة فيها.
للأسباب السابقة، يبدو ما حصل في الغوطة أمراً متوقعاً، ومرتقباً حدوثه، خاصة أن الغوطة محاصرة من خمس سنوات، وذات مساحة محدودة، وفيها عدد قليل من مقاتلين لديهم قدرات تسليحية قليلة في السلاح والذخيرة، وتكاد خطوط إمدادهم البشري والمادي تكون مغلقة، ولا حلفاء وداعمين حقيقيين لهم، فيما المجتمع الدولي والرأي العام مشغولان بهاجس «محاربة الإرهاب».
وإذا كانت كل المعطيات السابقة ليست جديدة، فإن الحرب على الغوطة بنتائجها الحالية، كان يمكن أن تنفذ في وقت سابق، لكنها لم تتم، وجرى اختيار الوقت الحالي لتنفيذها، وهذا هو الأمر الجوهري الذي يفترض أن نتوقف عنده للاستفادة منه في حروب مقبلة، سيشنها تحالف النظام في وقت قريب في أرياف حمص وحماة وصولاً إلى حرب في إدلب، لا تبدو بعيدة زمنياً.
إن الأهم في حرب النظام وحلفائه على الغوطة، يكمن في ثلاثة عوامل؛ أولها الحاجة إلى حسم الصراع في محيط دمشق الأقرب، واسترجاع سلطة النظام على منطقة الأقرب فيها لا يتجاوز بعده عن قلب دمشق ثلاثة كيلومترات، وأعني حي جوبر الدمشقي، وأبعدها عشرون كيلومتراً في الهيجانة على تخوم البادية، الأمر الذي سيحسم سيطرة نظام الأسد وحلفائه على دمشق ومحيطها، وجعله في مكانة أفضل في مؤشرات استقرار النظام وقوته.
والعامل الثاني الاستفادة من التداعيات السلبية، التي رسمتها تجربة سيطرة التشكيلات المسلحة على مناطق الغوطة من جهة وعلى دمشق من جهة أخرى، حيث أثبتت في هذه التجربة عجزها عن إدارة موحدة ومتماسكة، تلبي حتى الحدود الدنيا من حاجة السكان، بل الأمر كان أسوأ وخصوصاً لجهة غياب أي برنامج عمل موحد تنموي/ نهضوي، واستبدال عملية إحكام القبضة على المجتمع وفعالياته المدنية والثورية به وسط ميل نحو التطرف والتشدد، والانخراط في تنافس وتقاتل بين التشكيلات المسلحة وداخلها، وكله يضاف إلى فكرة قصف أحياء العاصمة دمشق، التي التقطها النظام، وأخذ يمارسها بوحشية شديدة، كما دعت حاجته لتأليب الدمشقيين والرأي العام ضد الغوطة وتشكيلاتها ممهداً للحرب على الغوطة وتدميرها وقتل وترحيل الباقين من سكانها.
العامل الثالث، هو اختبار موقف المجتمع الدولي والرأي العام العالمي من حرب إجرامية محدودة، تستخدم فيها كل الأسلحة والذخائر الممنوعة بما فيها الأسلحة الكيماوية والنابالم، وارتكاب جرائم الإبادة والمجازر الجماعية، وصولاً إلى تهجير الناجين من الحرب إلى مناطق ستكون هدفاً لاحقاً لحروب أكثر اتساعاً ودموية على نحو ما يتوقع أن تكون عليه الحرب في أرياف حمص وحماة، وفي إدلب.
وكما هو واضح، فإن الحرب على الغوطة، ليست مجرد حرب، بل هي تجربة للنظام وحلفائه، وهي أيضاً نهاية تجربة في منطقة من أهم المناطق التي خرجت مبكراً عن سيطرة النظام، وفي كل الحالات، فإنها ينبغي أن توضع على طاولة قراءة وتدقيق واستخلاص من جانب المعارضة السورية، وخصوصاً التشكيلات المسلحة الموجودة في المناطق التي ما زالت خارج سيطرة النظام سواء في الجنوب أو في الوسط والشمال.
تمر البلدان العربية الثلاثة: سوريا والعراق ولبنان، بمرحلة انتقالية خطيرة تتزايد خلالها الأخطار على وحدتها وهويتها ومستقبلها بمقادير تفوق الأهوال التي تعرضت لها في السنوات الست الماضية.
فسوريا في نزاعها الداخلي الطويل بين النظام وخصومه المتعددين، تصل إلى وضع تقاسم وتقسيم بين إيران وتركيا وقوات النظام وميليشياته، والقسم المنفصل في شرق الفرات، والذي يسيطر فيه الأكراد وتشرف عليه وتحميه القوات الأمريكية؛ بينما يشرف على الأقسام الثلاثة الأُولى الروس بقواعدهم وطيرانهم وميليشياتهم أيضا. وتبقى منطقتان، منطقة إدلب وجوارها، والتي تسود فيها التنظيمات المسلَّحة، ولا يزال المهجَّرون يتدفقون عليها، وتضغط عليها قوات النظام والإيرانيون والروس، ومنطقة جنوب دمشق والممتدة إلى الحدود الأردنية والعراقية والأُخرى الإسرائيلية، والإدارة فيها خليطٌ من التنظيمات المسلَّحة، والجهات المتهادنة مع الأردن أو النظام أو إسرائيل. وبعد الانتهاء من الغوطة الشرقية بالحصار والقتل والتهجير، يُنتظر أن تصبح منطقتا إدلب وجنوب دمشق، هما الهدفين للنظام وميليشياته وللإيرانيين وميليشياتهم. ففي إدلب التي تضاعف عدد سكانها ثلاثة أضعاف بالتهجير المنتهج إليها، ستكون الحجة للهجوم عليها أنّ فيها تنظيمات متطرفة. أما في الجنوب فستكونُ الحجة إضافة إلى وجود المتطرفين، إرادة مضايقة إسرائيل من جهة، وأمريكا في الجهات المحاذية للحدود العراقية على أطراف البادية وفيها قواعد أمريكية في امتدادها نحو شرق الفرات من الجهة الأُخرى.
ما مآلاتُ الوضع في سوريا في الشهور القادمة من عام 2018؟ مع تصاعد التوتر بين الولايات المتحدة وروسيا في كل مكان وبخاصة في سوريا؛ فإنه من المنتظر أن يزدادَ التحالُف الروسي مع إيران وتركيا في سوريا بالذات. ولذلك يكون من المتوقَّع أولا أن تتهدَّد إدلب والمناطق المجاورة لها لجهتي حلب وحمص. وسيُعهد إلى تركيا التحرش بمناطق الحماية الأمريكية؛ في حين يمضي النظام والإيرانيون يحميهم الطيران الروسي باتجاه دواخل إدلب بعد أطرافها. والمعروف أنه في كل منطقة تتقدم نحوها قوات النظام؛ فإنّ الإيرانيين يكونون هم الموجودين فيها مع ميليشياتهم المعروفة من لبنان والعراق وأفغانستان وباكستان، كما يحدث الآن في الغوطة، وسيحدث في إدلب وما وراءها باتجاه الحدود العراقية.
وإذا كان المشهد الذي يتطور إلى هذه الآفاق المسدودة لسوريا وعلى سوريا؛ فإنه أفظع وقد يكون أخطَر على العراق ولبنان. فالسلطات فيهما، وقد سادهما استقرارٌ هشّ، خاضعة، من خلال التسويات شبه السياسية، لإيران والميليشيات الموالية لها أو الخاضعة في البلدين. وهناك مرحلة انتقالية جديدة للبلدين وفي البلدين الآن من خلال الانتخابات البرلمانية التي تجري فيهما في شهر مايو (أيار) القادم. إذ تأملُ إيران أن ينجح فيها حلفاؤها العراقيون، فلا يعود لمعارضيها الشيعة والسنة صوتٌ يمكن رفْعُه. السنة ازدادوا ضعفا وتهجَّر ثلثهم بالحروب على «داعش» وعليهم، والأكراد ما عادوا قوة خارج مناطقهم. أما في مناطقهم فهم منقسمون إلى طالبانيين موالين لإيران، وبارزانيين ما عاد لهم حلفاء بعد أن تخلّى عنهم الأمريكيون وتخلّى عنهم أردوغان. وصحيح أنّ هناك انقساما في الدواخل الشيعية، لكنّ الإيرانيين شديدو التغلغُل في كل النواحي والجهات والأوساط. هناك ضغوطٌ الآن لإخراج الأمريكيين من العراق، ودعواتٌ لكي تحكم العراقَ من جديد الأكثريةُ الشيعية. وفي حين يصمتُ العبادي عن الوجود الأمريكي، اضطُرّ إلى رفع الصوت ضد فكرة الأكثرية، ولصالح التوافُق، إذ إنّ العراق لا يمكن حكمه إلاّ بالتوافق، الذي يكون للجميع مصلحة فيه، وليس لفريق دون فريق. إنما وكما سبق القول؛ فإنه ما استطاع استعادة نوع من التوازن مع الأكراد، والقوة الانتخابية للسنة ازدادت ضعفا وزُهدا في التصويت، بحيث لا تستطيع دعمه بحقّ رغم توافقيته المعلنة. وعلى سبيل المثال؛ فإنه وبعد المذابح والتهجير والتخريب والنهب في المناطق السنية، عمد القضاءُ العراقي الآن وقبل الانتخابات إلى مصادرة أملاك عدة آلاف من العراقيين بحجة تطبيق قانون اجتثاث «البعث»؛ علما بأنّ نصف تلك الملكيات وقعت بين عامي 2003 و2005 بأيدي مسؤولين وجماعات وميليشيات شيعية، ولا تستطيع الحكومة بالفعل أن تستعيد تلك الأملاك ممن سيطروا عليها، فما الحاجة إلى إثارة هذه المسألة الآن، إلاّ إذا كانت تزهيد السنة في التصويت والتبكيت!
ورغم ذلك كلِّه؛ فإنّ الآمالَ المعقودة على إحداث توازُن من نوع ما في المشهد العراقي، بعكس حالة لبنان الذي يمضي بعيدا باتجاه المحور الإيراني. فعلى الأقلّ هناك قانون انتخابات في العراق يتّسم ببعض الطبيعية والمسؤولية، والأمر على العكس من ذلك تماما في لبنان. فقبل عدة أشهر اصطنع البرلمان اللبناني قانونا عجيبا غريبا خضع لمصالح فريقين رئيسيين في التسوية السياسية التي قام عليها العهد والحكومة الحالية هما التيار الوطني الحر و«حزب الله». تمثلت مصلحة التيار الوطني الحر (برئاسة الوزير جبران باسيل، صهر رئيس البلاد) في فصل المسيحيين عن المسلمين في معظم المناطق اللبنانية في طريقة تشكيل الدوائر. وتمثلت مصلحة «حزب الله» و«حركة أمل» في حصر التمثيل الشيعي بهما، وضمّ الأقليات المسيحية والسنية في مناطق سطوتهم إلى لوائحهم؛ بحيث يطمحون لأن يكون لديهم إضافة للـ27 شيعيا، نحو 20 مسيحيا وسنيا، فيصبحون وحدهم مع التابعين لهم مباشرة نحو ثلث مجلس النواب (عدد أعضائه 128). وأُضيفت إلى القانون العتيد: النسْبية والصوت التفضيلي، ليزداد خصوم الفريق الشيعي ومنافسوه تَشرذُما بكثرة اللوائح من الشبان الطامحين والمهمشين، بحيث لا يعود هناك فريقٌ رئيسٌ لدى السنة الذين لا يشبه تيارهم الرئيس (تيار المستقبل) الأحزاب الصارمة المسيطرة على محازبيها، شأنَ الآخرين في اللعبة الانتخابية، وبحيث يصبح التنافس ليس بين اللوائح المختلفة، بل داخل كل لائحة (بسبب الصوت التفضيلي بالذات!).
«حزب الله» وحلفاؤه مسيطرون على المرفأ والمطار ومؤسسات الدولة والجيش من سنوات. وللتيار الوطني الحر (الفريق الرئيسي عند المسيحيين) سيطرة تالية لسيطرة الحزب، دعمها في عهد الحكومة الحالية بحجة استرجاع حقوق المسيحيين من السُّنة بالذات. وحجة رئيس الحكومة في تقبل ذلك كلّه، حفظ الاستقرار، ومحاباة حليفه الرئيس عون، وأنّ هذه الحكومة هي في النهاية حكومة تسوية، والتسوية تتطلب تنازُلات، لكنها حتى الآن من طرف واحد. إنما لماذا وافق رئيس الحكومة إضافة إلى ذلك كلّه على قانون الإضعاف الانتخابي هذا؟
إنّ أهداف التيار الوطني الحر محلّية وترمي لاستعادة العصبية المسيحية. أما أهداف «حزب الله» وحلفائه، فتقصد إلى أن يحصلوا مع حلفائهم على أكثرية في مجلس النواب، تدعم «شرعية» سلاح الحزب، وتتيح إصدار قوانين قد تُحوِّل هوية لبنان ونظامه. وقبل أيام قال أمين عام الحزب لوفد إيراني إنّ لبنان في الأصل فيه كثرة شيعية، وإنما تحول كثيرون منهم بسبب الاستضعاف في الماضي فصاروا مسيحيين أو سنة. أما الآن فالشيعة في ذروة قوتهم في لبنان والمنطقة، بسبب السياسات المباركة للولي الفقيه! والمعروف أنه بسبب التضييق الدولي والعربي على الحزب واعتباره تنظيما إرهابيا؛ فإن تمثيله في البرلمان والحكومة لا يعكس في نظره قوته الحقيقية، أما الآن فقد بدأت أصواتٌ ترتفع بأنه لن يقبل في حكومة ما بعد الانتخاب إلاّ وزارات رئيسية؛ فكيف ستتعامل الدول مع وزير للخارجية أو المالية أو الداخلية أو الدفاع من الحزب؟
سوريا العربية مهدَّدة في انتمائها وديموغرافيتها ووحدتها. والعراق مهدَّدٌ في انتمائه وديموغرافيته واستمرار وتنامي التوتر والتطرف فيه. ولبنان الطائفي أصلا مهدَّدٌ بسبب اصطناع غلبتين أو عصبيتين شيعية ومسيحية؛ تُستنسَخ فيه بقوة الغلبة قوانين انتخابية تزوّر إرادة الناخبين لإنتاج نظام لا يُشبههُ ولا يمثّله أبدا! فيا للعرب!
كانت إعادة انتخاب فلاديمير بوتين رئيسا لروسيا -للمرة الرابعة- أمرا مسلما به؛ فمن المؤكد أن الكرملين كان وراء حشو صناديق الاقتراع بأوراق الانتخاب، وغيرها من الإجراءات للتحقق من أن بوتين قد حصل على ما لا يقل عن 70% من الأصوات في جميع المناطق.
ولكن حتى بدون مثل تلك الخدع؛ فإن بوتين كان سينتصر على أي حال، مستغلا موجة تصاعد النزعة القومية التي نشأت بعد قراره بضم شبه جزيرة القرم سنة 2014.
إن الأقل قابلية للتنبؤ -مقارنة بنتيجة الانتخابات- هو الأجندة السياسية لبوتين خلال السنوات الست القادمة؛ فالاقتصاد الروسي يُظهر بعض إشارات التحسن، ولكن النمو لا يزال أضعف بكثير من سنوات الازدهار خلال الأعوام الأولى من حكم بوتين، وفي الوقت نفسه يزداد الانقسام الدبلوماسي بين روسيا والغرب.
لقد قام بوتين بتشكيل فرق متنافسة من الاقتصاديين لصياغة مقترحات تتعلق بسياساته للسنوات القادمة، ولكن القليل من المراقبين يتوقعون أن تتبع ذلك إصلاحات حقيقية؛ فالتوقعات الطويلة المدى للاقتصاد ستبقى متواضعة طالما أن الدولة الأمنية تُحكم قبضتها على النشاط التجاري والمجتمع في روسيا.
إن من الصعب كذلك تصور كيف يمكن لروسيا تحسين اقتصادها بدون أن تحسن أولا علاقاتها مع الغرب. إن الاستثمارات اللازمة لتعزيز النمو معطلة بسبب القدرة الروسية المحدودة على الوصول للتقنيات الرئيسية والأسواق المالية العالمية، وبسبب العقوبات المفروضة على الشركات الروسية والأوليغارشية المقربة من بوتين.
يبدو أن بوتين كان يعتقد أن ردة الفعل الغربية لعدوانه في أوكرانيا ستكون قصيرة المدى، كما كان عليه الحال بعد التدخل العسكري في جورجيا سنة 2008، وعندما اتضح عدم صحة ذلك وأصحبت العقوبات الغربية مؤلمة بشكل متزايد، بدأ الكرملين يسعى لتعزيز فرص الاستثمار والتجارة مع الصين.
لكن آمال الكرملين بتعزيز الشراكة مع الصين تحطمت عندما قام الرئيس الصيني تشي جين بينغ بدعوة الرئيس الأميركي دونالد ترمب لعشاء دولة داخل المدينة المحرمة في بكين، وهو شرف لم يحظ به على الإطلاق أي زعيم سوفياتي أو روسي. كما أن احتمالية حصول علاقات أكثر دفئا مع أميركا ذهبت أدراج الرياح، بسب قضية التدخل الروسي في الانتخابات الأميركية سنة 2016.
لقد فشل الكرملين كذلك في توقع الأحداث بأوكرانيا؛ فرغم الغارات الروسية على شرق أوكرانيا، فإن الحكومة الأكرانية لم تنهر، بل -على العكس من ذلك- تمكنت من تطبيق إصلاحات، وتوصلت إلى اتفاقية شراكة مع الاتحاد الأوروبي.
وأخيرا في سوريا؛ فقد أعلن بوتين "إنجاز المهمة" مرارا وتكرارا، ولكن لا يزال المرتزقة الروس يقتلون على الأرض، وفي الواقع تمكنت روسيا من اختبار معدات عسكرية جديدة خلال دعمها لنظام الرئيس السوري بشار الأسد، ولكن لا تلوح في الأفق حتى الآن أي احتمالية لتحقيق السلام والاستقرار.
رغم محاولة بوتين إعطاء الشعور بالثقة في خطابه السنوي للمجلس الفدرالي هذا الشهر؛ فإنه لم يتمكن من إخفاء مخاوفه المستقبلية، فمثلا وعده بالنمو الاقتصادي كان مألوفا، ولكنه كان أكثر وضوحا -بكثير من المعتاد- في تحذيره من أن روسيا قد تتراجع خلف البلدان الأخرى.
لقد لاحظ بوتين أن "سرعة التقدم التقني تتسارع بشكل كبير، وأولئك الذين يتمكنون من ركوب هذه الموجة التقنية سيتقدمون بعيدا للإمام، بينما سيغرق أولئك الذين يفشلون في تحقيق ذلك في هذه الموجة". وإن مما لا شك فيه أن روسيا اليوم تتعرض لخطر الغرق.
لقد خصص بوتين معظم خطابه (السنوي) لتقديم عرض متعدد الوسائط للأسلحة الإستراتيجية المعقدة الجديدة: الصواريخ البالستية العابرة للقارات والثقيلة جدا، والأسلحة الهجومية الإستراتيجية التي تفوق بشكل كبير على سرعة الصوت، وطوربيدات مستقبلية ضخمة تعمل تحت الماء، وصواريخ كروز تعمل بالطاقة النووية بمدى غير محدد.
ولكن في محاولته إثبات أن روسيا بإمكانها التغلب على أي إجراءات دفاعية إستراتيجية جديدة قد تضعها الولايات المتحدة؛ فشل بوتين في إخفاء مخاوفه من أن الترسانة النووية الروسية الإستراتيجية قد تصبح غير ذات أهمية.
وباستثناء الترسانة النووية الروسية، وسلطة الفيتو التي تتمتع بها كعضو دائم في مجلس الأمن الدولي؛ فإن الأساس الذي يقوم عليه نفوذها الإستراتيجي ضعيف، وحتى مع الأخذ بعين الاعتبار للفروق في القوة الشرائية، فإن الاقتصاد الروسي يقترب من حجم الاقتصاد الإيطالي.
وإذا كان بوتين جادا فيما يتعلق باستدامة سباق التسلح الإستراتيجي مع الولايات المتحدة؛ فإنه يجب عليه عمل تضحيات إستراتيجية تتعلق بقطاعات اقتصادية مهمة أخرى وخفض مستوى معيشة الروس العاديين.
من جانب آخر؛ كان بوتين منفتحا مؤخرا على فكرة نشر بعثة من الأمم المتحدة لحفظ السلام في منطقة دونباس الأوكرانية، ومن الممكن أن عرض الوسائط الذي قام به كان يهدف للتركيز على الحاجة إلى الحد من الأسلحة الإستراتيجية وفتح حوار. إن كان هذا صحيحا فإنه قد اختار طريقة غريبة لنقل رسالته.
حتى لو أراد بوتين فتح حوار مع الغرب؛ فإنه لا أحد يستطيع أن يتجاهل الهجوم بغاز الأعصاب على العميل الروسي المزدوج السابق سيرغي سكريبال وابنته في سالزبري بإنجلترا هذا الشهر.
وكما حصل في هجوم البولونيوم سنة 2006 الذي قتل المنشق الروسي والجاسوس السابق ألكسندر ليتفينكو؛ فإن الحكومة البريطانية خلصت إلى نتيجة مفادها أن الكرملين أمر بالعملية ضد سكريبال وابنته.
من الممكن أن لدى الوكالات الأمنية الروسية "رخصة لقتل" المنشقين بأي طرق معقدة يختارونها. ولكن مثل هجوم البولونيوم قبل عقد؛ فإن الاستخدام لأول مرة لغاز الأعصاب المعقد نوفيشوك لم يمر مرور الكرام.
ذلك أن الكرملين يلجأ اليوم إلى ترسانته الفجة من الأكاذيب والمعلومات المضللة لمحاولة إخفاء الآثار التي قد تدل عليه، ولكن من الواضح أن أي نظام يقتل ويكذب ليس شريكا مرغوبا فيه في مجالات التعاون.
لكن هذا لا يعني أن المحادثات الجادة بين الولايات المتحدة وروسيا قد أصبحت أقل أهمية، فكلا البلدين يعمل على تحديث ترسانته النووية، وهناك خطر حقيقي في أن التقنيات الجديدة قد تحد من إجراءات التحكم في الأسلحة، وهي إجراءات قائمة منذ أمد بعيد؛ أو تجعلها غير مهمة لأنه قد عفا عليها الزمن.
إن مستقبل فترة حكم بوتين الجديدة غير مؤكد بالمرة، ولكن الإصلاحات الداخلية من غير المرجح أن تحصل، وقيام الكرملين بإطلاق العنان لقواه الأمنية خارج البلاد قوّض إمكانية التصالح مع الغرب.
وبينما سيشكل أي سباق جديد للتسلح خطرا كبيرا على روسيا وعلى الجميع؛ فإنه من شبه المؤكد أنه سيؤدي إلى دمار روسيا، كما سيشهد على ذلك آخر قادة الاتحاد السوفياتي.
يبدو أن حرب الإبادة التي شنها الروس والإيرانيون ونظام بشار الأسد ضد ساكني غوطة دمشق الشرقية؛ قد أفضت إلى إجبار فصائل المعارضة المسلحة فيها على توقيع اتفاقات التهجير القسري، التي تهدف إلى إفراغ مناطق سيطرة المعارضة من المسلحين، ومن ساكنيها الذين هم الحاضنة الشعبية للثورة السورية التي انطلقت منذ سبع سنوات.
اكتمال صراع النفوذ
ويأتي ذلك استكمالاً لمخطط التغيير الديموغرافي الهادف إلى تفريغ مناطق النفوذ الروسية والإيرانية من المسلحين والمدنيين، في وقت انتقل فيه الصراع على سوريا إلى مرحلة اكتمال وتثبيت مناطق النفوذ بين القوى الدولية والإقليمية الخائضة في الدم السوري.
كما سيطر شبح التقسيم المجسد على الأرض والذي حذر منه المبعوث الأممي الخاص إلى سوريا ستيفان دي ميستورا، مكتفياً بوصفه بالأمر الكارثي على سوريا والمنطقة برمتها، في وقت فشل فيه المجتمع الدوليعن فعل أي شيء بشأن وقف حرب الإبادة المستمرة منذ سبع سنوات ضد غالبية السوريين.
وتحاول كل من روسيا الاتحادية وإيران وأميركا وتركيا وسواها توسيع مناطق نفوذها وتثبيتها ووضع خطوط حمر حولها، حيث تسعى أميركا إلى تثبيت نفوذها بعد إعلان إستراتيجيتها الجديدة في سوريا، الهادفة إلى إنشاء دويلة أو كيان انفصالي في منطقة الجزيرة السورية.
وذلك عبر إعلانها العمل على تشكيل جيش مؤلف من 30 ألف مقاتل، قوامه الأساسي عناصر مليشيات "وحدات حماية الشعب" (YPG) التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) الذراع السورية لحزب العمال الكردستاني (PKK). وسينتشر هذا الجيش على طول الحدود مع تركيا والعراق وعلى الضفة الشرقية لنهر الفرات، إلى جانب إنشائها قاعدة "التنف" جنوب شرقي سوريا، وقواعد ومطارات عسكرية شماليها.
وبالنسبة لروسيا فإنها تسيطر على منطقة الساحل السوري بدءا من اللاذقية ووصولاً إلى حمص ودمشق، وقد أقامت فيها قواعد عسكرية بحرية وبرية ومطارات، وثبتت وجودها العسكري باتفاقية مذلة أبرمتها مع النظام السوري، تقرّ بتحول القوات العسكرية الروسية إلى قوة احتلال شبه دائم في سوريا.
أما إيران فقد ضمنت الطريق الممتد من طهران إلى بيروت مروراً ببغداد ودمشق، وثبتت نفوذها في مدينة البوكمال بالبادية السورية وعلى طول المنطقة الممتدة من دمشق إلى بيروت، وتنشر في سوريا أكثر من 70 ألف مرتزق من مليشيات حزب الله اللبناني والمليشيات العراقية والأفغانية، هذا فضلاً عن قواعد ومصانع أسلحة، وضباط ومقاتلين من الحرس الثوري الإيراني وسواهم.
واقع التقسيم الجغرافي
يجد الناظر في خريطة سوريا اليوم أنها لم تعد في واقع الحال المجسد كما كانت عليه قبل 2011، بل باتت مقسمة إلى مناطق نفوذ دولية وإقليمية ومحلية، تفصل بينها حدود طبيعية مثل نهر الفرات أو اصطناعية مثل سكة القطار بمحافظة إدلب، إذ إن المنطقة شرق السكة تختلف القوى المسيطرة عليها عن تلك التي في غربها، الأمر الذي يشي بأن التقسيم والتفتيت لم يعد كلاماً نظرياً.
ويصعب القول إن سوريا ستعود كما كانت حسبما يتصور بعضهم، فالتقسيم الذي بات واقعاً مجسداً قد ينتج دويلات، وبالتالي فليست هناك في المدى المنظور والمتوسط أي وحدة لسوريا، لا أرضاً ولا شعباً؛ خاصة في ظل انعدام أي مؤشرات للاتفاق على حل سياسي قريب.
ويبدو أن الحديث المبكر عن سوريا المفيدة (سوريا النظام) وسوريا الأخرى غير المفيدة، لم يعد صالحاً اليوم؛ إذ حتى سوريا المفيدة ليست واحدة وموحدة، بل يتقاسمها محتلان: روسي وإيراني، وتتقاذفها مليشيات من مختلف الجنسيات والنعرات.
وإذا أمعنا النظر إلى سوريا المفيدة -أو سوريا النظام- فسنجد أنها ليست متجانسة كما زعم النظام الأسدي، الذي تحول إلى مجرد عصابات ومليشيات وهيكليات صورية؛ فالمنطقة الممتدة من محافظة اللاذقية مروراً بطرطوس وحمص وبانياس، هي منطقة نفوذ روسي توجد فيها القواعد الروسية البحرية والبرية وشبكة دفاع جوي روسية.
ولا سلطة لأحد على أي عسكري روسي أو مدني يوجد فيها سوى سلطة قيصر الكرملين المخدوع بنفسه، والذي لا يحاسب فيها حتى وإن ارتكب أبشع الجرائم بحق السوريين، وذلك بعد أن "شرعن" الساسة الروس وجود أساطيلهم وقواتهم وجنودهم فيها باتفاقية مذلة مع سلطة الأسد اللاشرعية لمدة 49 سنة على الأقل.
كما أن العاصمة دمشق والمناطق الممتدة حولها -وصولاً إلى الحدود اللبنانية- هي منطقة نفوذ إيرانية، لا تتوقف عند هذا الحد بل إن الطريق الواصل من طهران إلى بيروت -مروراً ببغداد ودمشق- بات سالكاً لكل القوافل العسكرية الإيرانية، ولا سلطة لأحد على المليشيات الإيرانية سوى جنرالات وقادة النظام الإيراني.
أما منطقة شرقي الفرات -أو الجزيرة السورية- التي تمتاز بثرواتها الطبيعية، حيث تقع معظم حقول النفط والغاز وكانت تشكل غلّة سوريا الزراعية، وتمثل ما يمكن تسميته "سوريا الغنية"؛ فهي منطقة نفوذ أميركية بامتياز.
وتمتد هذه المنطقة شمالاً من الحدود مع تركيا، وشرقاً من الحدود مع العراقية، وتصل جنوباً إلى مدينة الرقة ومشارف دير الزور، إلى جانب منطقة المثلث الحدودي ما بين سوريا والعراق والأردن التي توجد فيها قاعدة التنف، التي تؤمن الهيمنة على منطقة البادية السورية الغنية باليورانيوم والفوسفات وسواهما.
وفي شمال سوريا الغربي تقع منطقة "درع الفرات" التي تمتد من مدينة جرابلس وصولاً إلى بلدة الراعي ومدينة الباب، وهي مناطق نفوذ تركية، لكنها لم تكن كافية بالنسبة لطموحات القادة الأتراك، وكان عليهم انتظار التفاهم مع الروس والأميركان لتستكمل قواتهم في عملية "غصن الزيتون" ما بدأته في "درع الفرات" التي توقفت على أبواب منبج، التي منع الأميركان والروس أنقرة من التقدم باتجاهها حين أطلقت "درع الفرات".
تبدل معادلات الصراع
تغير الوضع كثيراً بعد الاستدارة التركية نحو روسيا؛ إذ بعد اكتمال عملية "غصن الزيتون" بالسيطرة على منطقة عفرين، وانسحاب مقاتلي كل من حزب العمال الكردستاني وفرعه السوري حزب الاتحاد الديمقراطي، لم يكتفِ المسؤولون الأتراك بتوعدهم في منبج فقط، بل راحوا يتوعدون بطردهم من عين العرب وتل أبيض وصولاً إلى الحسكة والقامشلي أيضاً.
غير أن العملية التركية في عفرين وسواها لم تكن لتحصل لولا تفاهمات تركية منفصلة مع الأميركان والروس، لتحجيم حزب العمال الكردستاني وتفرعاته في سوريا.
وبعكس ما كان معلناً من طرف الإدارة الأميركية؛ فإن اقتراب الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) من نهايتها اقترن بتغير كبير في الإستراتيجية الأميركية في سوريا، إذ عوضاً من أن تعلن الولايات المتحدة انتهاء مهمة قواتها بالمنطقة، قرّرت البقاء فيها وربطت انسحابها بالتوصل إلى حل سياسي في سوريا.
وقامت واشنطن بالتحضير لوجود عسكري طويل الأمد في منطقة شرق نهر الفرات، والحديث عن جعلها نموذجاً يشابه نموذج برلين الغربية عبر عزمها على البدء في إعادة إعمارها وجعلها نموذجا مستقبليا يُحتذى.
ويبدو أن هذا التغير في الإستراتيجية الأميركية في سوريا حفز كل طرف -من الأطراف الخائضة في الدم السوري- لكي يرد على ذلك بالعمل على تأمين مناطق نفوذه وتثبيتها، وهذا ما جعل الروس والإيرانيين يتملصون من "اتفاقات مناطق خفض التصعيد"، التي كانت تهدف إلى تجميد القتال وتبريد الجبهات، والتحول إلى قضم هذه المناطق واحدة تلو الأخرى.
وبالتالي؛ فليس مستبعداً -بعد تأمين السيطرة على غوطة دمشق الشرقية- الانتقال إلى درعا وريف حماة وإدلب، بغية تأمين مناطق النفوذ الروسية والإيرانية، وذلك تحسباً لتغير معادلات الصراع على سوريا بين مختلف الأطراف.
ورغم ذلك كله؛ فإن الوضع في سوريا متحرك ومتغير، ولا استقرار فيه لأي قوة محتلة، نظراً لاختلاف مصالح وإستراتيجيات القوى الدولية المتصارعة، إذ إن قطبيْ الصراع الأساسيين هما روسيا وأميركا اللتان تشكلان ضابطيْ إيقاع الصراع على الأرض، وتحت مظلتيهما يحاول الإيرانيون والأتراك مدّ نفوذهما.
لكن الثابت في معادلات الصراع هو أن الخاسر الوحيد هو سوريا والشعب السوري، إذ تمكنت كل من روسيا وأميركا من إخراج السوريين جميعاً من معادلة الصراع، وباتوا بعيدين كل البعد عن التأثير في تقرير مصيرهم ومستقبل بلادهم، وتحولوا إلى مجرد أدوات للصراع الكارثي الدائر.
قرأت باهتمام ما كتبه وزير خارجية جمهورية إيران الإسلامية محمد جواد ظريف في موقع الجزيرة نت تحت عنوان: "إيران وجيرانها العرب.. ما الذي يجمعنا؟" ومن يقرأ مقال الوزير ظريف يتأكد أنه يروج -كما يقول المثل المعروف- لبضاعة بالية مغلفة بورق جديد.
لطالما كرر الإيرانيون منذ عقود هذه المقولة حول التعاون والعمل المشترك والمصالح المشتركة وتشكيل نظام أمن إقليمي بعيدا عن أطماع ومشاريع القوى الكبرى التي تحملها إيران وقبلها عراق صدام حسين مسؤولية الكوارث والمآسي التي تعيشها المنطقة.
لكن ترويج الوزير ظريف لهذه الأفكار لا يُقنع أحدا، لأنها تفتقد للمصداقية وتناقض سجل إيران الزاخر بعكس ما يقوله ويروج له الوزير في عامه الخامس؛ حيث زادت عزلة إيران المأزومة في محيطها الخليجي والعربي وحتى الإسلامي لفقدان نظامها للنموذج الناجح الذي يمكن أن يقنع الآخرين بقوة إيران الناعمة.
شعبية إيران اليوم في محيطها الخليجي والعربي في أدنى مستوياتها بسبب ما يشاهده العربي العادي من توغلها وتدخلها الفج في الدول والحواضر والمدن العربية في العراق وسوريا ولبنان واليمن ومن خلاياها الإرهابية والتجسسية في الكويت والبحرين والسعودية والإمارات.
ما كان ملفتا في مقال وخطاب الوزير ظريف تأكيده مد يد إيران للعرب مجددا وأنها لا تناور في خيار كهذا لأنه خيارها الإستراتيجي، وأن الخلاف مع العرب لا يفسد للود قضية. إن الجمهورية الإسلامية الإيرانية تصبو -في اقتراحاتها للهندسة الإقليمية الجديدة- إلى تحقيق المصالح المشتركة لجميع دول المنطقة بغض النظر عن الخلافات والاختلافات.
من يقرأ ما كتبه وزير الخارجية الإيراني يظن أنه يتكلم عن نظام يحترم سيادة الدول ولا يتدخل في شؤونها ولا يملك مشروع توسع وهيمنة على المنطقة ولا يصدر الطائفية والمليشيات الطائفية ولا يفاخر أركان نظامه من المؤسسة الدينية والحرس الثوري ونواب في مجلس الشورى بأنهم يسيطرون عن طريق أذرعهم وحلفائهم على أربع عواصم عربية هي بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء، وأن حدود إيران وصلت للمرة الأولى منذ عهد الإمبراطورية الفارسية قبل 1500 عاما إلى البحر المتوسط. وكما فاخر علي يونسي مستشار الرئيس حسن روحاني المعتدل أن إيران أصبحت إمبراطورية وعاصمتها بغداد!
تطورت نظريات النظام الإيراني المتعلقة بقيادة العالم الإسلامي سواء عبر نظرية "القومية الإسلامية" أو عبر نظرية "تصدير الثورة" أو "نظرية أم القرى". وهذه النظريات والفكر العقائدي للنظام موثق في الدستور بنصرة "المستضعفين" دون تحديد من هم هؤلاء المستضعفون ومذهبهم.. وكان ذلك واضحا في دعم النظام في إيران والمرشد الأعلى لجميع انتفاضات الربيع العربي منذ عام 2011، في تونس ومصر واليمن وحتى -كما ادعوا- في البحرين، ولكن في سوريا كانت مؤامرة وليست حراكا أو ثورة.
وفي هذا السياق نذكر ما تنبأ به يحي صفوي مساعد وكبير مستشاري المرشد الأعلى في نوفمبر/تشرين الثاني 2016 بأنه "ستُشكل حكومة إسلامية عالمية مركزها إيران نتيجة التراجع الأميركي على الصعيدين السياسي والعسكري!".
هذا الفكر الخطير يهمش القوى العربية والإسلامية ويضع إيران في مركز وقيادة العالم الإسلامي، وهو فكر لا يخضع الولاء فيه للوطن، مستمد من "نظرية أم القرى" التي قدمها محمد جواد لاريجاني، والتي تُنظر لتحويل إيران إلى مركز الإسلام العالمي وتشكيل أمة إسلامية وصهر وتوحيد الشعوب بشكل عابر للحدود والجغرافيا، على أن تكون (الأمة) تحت قيادة ولي الفقيه وتصبح إيران مركز العالم الإسلامي. وهنا تلتقي نظرية أم القرى مع نظرية تصدير الثورة.
ويتوافق هذا التنظير مع تصدير إيران للثورة والسعي للهيمنة والتمدد وتدريب وتسليح مليشيات تحضرها وتسلحها إيران من باكستان وأفغانستان والعراق ولبنان ليقاتلوا في العراق من أجل حماية نظام يفتك بشعبه في سوريا ويقوم بتهجير مذهبي و"ترنسفير" ممنهج في الغوطة والشرقية وقبلها في الزبداني والقصير وحمص وحماة وحلب وغيرها. ويتفقد قاسم سليماني قائد فيلق القدس في الحرس الثوري قواته والمليشيات التي تقاتل تحت لواء إيران في سوريا والحشد الشعبي في العراق.
لهذا السبب شدد الأمير محمد بن سلمان عندما كان وليا لولي العهد في مايو/أيار 2017 "على عدم وجود نقاط للتفاهم مع النظام الإيراني القائم على أيديولوجية متطرفة، منصوص عليها في دستوره ووصية الخميني، بأنه يجب السيطرة على مسلمي العالم الإسلامي.. نحن الهدف الرئيسي للنظام الإيراني، وهو الوصول إلى قبلة المسلمين، ولن ننتظر حتى تصبح المعركة في السعودية، بل نعمل على أن تكون المعركة لديهم في إيران."
معضلة إيران أنها بعد نحو 39 عاما من الثورة لم تحسم أمرها ولم تتحول إلى جمهورية أو دولة طبيعية يمكن التعايش معها بشكل طبيعي كما تتعامل الدول مع بعضها البعض؛ فهي ما زالت تتحرك بفكر ثوري منصوص عليه في الدستور الإيراني، ولديها حرس ثوري عبارة عن دولة داخل دولة، تنفق عليه أكثر من 6 مليارات دولار سنويا.. بل تسعى لاستنساخ حرس ثوري آخر في العراق ممثلا بالحشد الشعبي، وكذلك لاستنساخ حزب الله آخر في اليمن من الحوثيين على حدود السعودية وعمان.
الواقع أننا نعيش في حرب باردة بين معظم أركان الطرف العربي وإيران وصلت لقطع العلاقات الدبلوماسية بين المغرب والسودان من جهة وإيران، أما على مستوى الجوار الخليجي الإيراني فقد قُطعت العلاقات الدبلوماسية مع إيران بعد الاعتداء على مبنى السفارة السعودية والقنصلية السعودية في مشهد في يناير/كانون الثاني 2016.
وجاء ذلك بعد إعدام السعودية لمدانين سعوديين بينهم رجل الدين الشيعي نمر النمر، حيث احتجت إيران على خطوة الإعدام (ألا يمثل ذلك تدخلا في الشأن الداخلي للسعودية؟) فقطعت السعودية والبحرين علاقاتهما الدبلوماسية مع إيران، وخفضت الكويت وقطر والإمارات علاقاتها الدبلوماسية مع إيران واستدعت سفراءها من طهران.
وفي قمة منظمة التعاون الإسلامي في أبريل/نيسان 2016 في إسطنبول وفي سابقة من نوعها ندد البيان الختامي للقمة الإسلامية بإيران لتدخلها في الشأن السعودي، وهو ما دفع بالرئيس روحاني والوفد المرافق له لمغادرة قاعة الاجتماع احتجاجا.
وهكذا، فإن تصرفات إيران الخارجية لا تؤهلها لتكون نموذجا قياديا مقنعا بسبب سلوكها، ومساهمتها بقتل العرب في سوريا والعراق ودعم نظام كنظام الأسد، والتدخل في شؤون الدول العربية بشكل سافر يهدد أمن الدول والأمن القومي العربي ككل. بالإضافة إلى حقيقة أن إيران مأزومة ومقاطعة خليجيا وعربيا وإسلاميا.
ويرى كينيث كاتزمن الخبير في شؤون الخليج العربي في مركز أبحاث الكونغرس الأميركي أن "سياسة إيران الأمنية هي نتاج عوامل عديدة وأحيانا متصارعة" بين أجنحة ومؤسسات الحكم في إيران"، منها العامل الإيديولوجي للثورة الإسلامية، وتصورات إيران لتهديد النظام والدولة ومصالح إيران. كما أن إيران مصنفة من الولايات المتحدة الأميركية "الدولة الأولى الراعية للإرهاب في العالم وتدعم مليشيات مسلحة مثل حزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن ومليشيات شيعية في العراق وجماعات في البحرين، وبعض تلك المليشيات مصنفة إرهابية وقامت بأعمال إرهابية. كما تدعم إيران نظام الأسد في سوريا ولديها وجود عسكري كبير هناك." وهناك نقاش حول بناء إيران لقواعد عسكرية في سوريا.
ثم يأتي وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف ويحاول في مقاله (إيران وجيرانها العرب.. ما الذي يجمعنا؟) التسويق لتلك السياسات بقوله: "بالنسبة لجيراننا العرب ممن نتشارك وإياهم حدودا برية أو بحرية؛ فإن الأمن المشترك يقوم على الالتزام بمعايير مشتركة تكفلها مواثيق الأمم المتحدة كالسيادة، والامتناع عن التهديد باستخدام القوة، وحل الأزمات بشكل سلمي، واحترام سيادة الدولة على أراضيها وحرمة الحدود، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول".
كيف يستقيم هذا الكلام مع طرد دول خليجية مثل الكويت لدبلوماسيين إيرانيين بعدما أثبتت التحقيقات ودرجات التقاضي في المحاكم على مدى عام، دورا لدبلوماسيين إيرانيين في السفارة الإيرانية بالكويت في دعم ومساعدة الخلية الإرهابية الكويتية؟!
كيف يستقيم ما يقوله الوزير من تطمينات وبناء الثقة مع الواقع وسياسات وسلوك إيران العقائدي والتوسعي الذي يكرسه دستورها ومشروعها؟
ترسم معالم المعارك الأخيرة حدود سورية المفيدة التي سعى إليها النظام مع شريكته إيران، منذ بداية التموضعات الدولية على الأرض، وحيث يسترجع النظام آخر معاقل الفصائل المسلحة المحسوبة على المعارضة السورية في محيط دمشق، تكون الخطوط الفاصلة بين المصالح الدولية بدأت تتمظهر في شكل نفوذ، «بوضع اليد»، بين كل من الدول الأربع (إيران، روسيا، تركيا، الولايات المتحدة الأميركية)، وتتماهى حصة النظام مع الدولتين الداعمتين إيران وروسيا، بينما تذوب المعارضة في ثوب تركيا، ويتمسك أكراد سورية «بوعود غير مضمونة» من الولايات المتحدة الأميركية في شمال شرق البلاد، ويبقى مصير جنوب سورية المتاخم للحدود مع الأردن والكيان الإسرائيلي رهناً بالمفاوضات الأميركية- الروسية، ووفق المصلحة الإسرائيلية، التي ستقرر أخيراً الإفصاح عن الجهة التي سترعى أمن حدودها، للأعوام المقبلة مع مرحلة إعادة البناء طويلة الأمد، التي ستبدأ في سورية برعاية دولية محدودة على ما يبدو بدءاً من جنوب البلاد، وليس من شمالها.
ومع انتزاع الغوطة من الفصائل المسلحة وترحيل الأخيرة منها باتجاه عفرين (تحت السيطرة التركية)، كجهة لا يمكن إنكار- رمزيتها- في ظل التوافقات الثلاثية لرعاة مسار آستانة، ما ينبئ أننا أمام مرحلة استقرار لخريطة توزيع النفوذ بين الدول من جهة، وبين هذه الدول والفصائل التي تدعمها من جهة ثانية، ما يعني تقوقع الفصائل بناء على تبعيتها وإعادة رسم دورها الوظيفي، من مواجهة النظام إلى التناظر مع دوره في مناطق نفوذ الدول الداعمة لكل منهما، فبينما يستقر النظام في مناطق نفوذ إيران وروسيا، ويتحرك بناء على المساحة المتاحة له، يتم تحريك الفصائل باتجاه الأراضي التي تقع تحت النفوذ التركي في عفرين وإدلب، مما يشرح تأخر اتفاق «جيش الإسلام» أحد الفصيلين الأساسيين للمعارضة في الغوطة (غير المحسوب على تركيا) مع روسيا، بما يتعلق بوجهته ودوره الوظيفي خارج (خروجه إلى القلمون) أو داخل الغوطة بتحويله إلى «شرطة» تحت إشراف روسي ضمن اتفاق بيني غير موثوق.
ما تفرضه الوقائع الميدانية اليوم على أطراف الصراع المحلي ( المعارضة والنظام)، من انكفاء خلف الدول الداعمة لهم، وبلورة أدوارهم بما تتيحه لهم تلك الدول وفقاً لمصالحها، وانعكاساً لاتفاقاتها تارة، وخلافاتها وصراعاتها تارة أخرى، سواء على الملف السوري وطريقة إدارته، وتوجيه أدواته، أم على ملفات خارجية يتم استخدام الملف السوري كوسيلة عقاب أو ثواب، وتتغير مواقع الدول على ضفتي الصراع من خلال هذه الاصطفافات، أو مواجهتها تبعاً لموازين المصالح التي تضعها هذه الدولة أو تلك في عملياتها داخل الأرض السورية، سواء المرحلية منها أم ذات المصالح الطويلة الأمد.
فبينما تختار المعارضة القريبة من تركيا معركتها في عفرين والقادمة في منبج كأولوية لها وفقاً لإرادة أنقرة، حيث يصبح «تحرير المناطق التي تحكمها قوات كردية، أولوية سابقة على الكفاح المعلن ضد النظام السوري، رغم أن هذه الفصائل ذاتها كانت قد رفضت عرضاً أميركياً سخياً، بقيمة 500 مليون دولار عام 2015، يتلخص بتوحيد جهود الفصائل لمحاربة الإرهاب (داعش والنصرة)، معتبرة تلك الفصائل «ذاتها التي تحارب اليوم مع تركيا» أن ذلك يتجاوز مهمتها الأساسية والتي تتمحور حول محاربة النظام كأولوية لا يسبقها أي معركة أخرى، وهو الأمر الذي هيأ الفرصة للقوات الكردية لتقدم نفسها كشريك فاعل مع الولايات المتحدة الأميركية في الحرب ضد الإرهاب في شمال سورية، ما مكن تلك القوات من السيطرة على مناطق واسعة بحماية القوات الأميركية ومنها عفرين ومنبج.
وتعد تلك الاستدارة الأميركية باتجاه الاعتماد على القوات الكردية التي تعتبرها أنقرة «إرهابية»، نقطة التحول الرئيسية في الموقف التركي، الذي وجد نفسه بين فكي كماشة من جهة العداء مع روسيا إثر إسقاطه المقاتلة الروسية من نوع سوخوي عام 2015 وتبعياتها، ومواجهته مع الرغبة الأميركية وتوطين الأكراد كقوة مسيطرة في شمال شرق سورية، ما قلص خيارات تركيا لتنحصر باتجاه التقارب مع روسيا، على حساب العلاقات التركية الأميركية، وإنشاء المحور الثلاثي ( روسيا، تركيا، إيران) خلال العملية العسكرية التي شنتها روسيا ضد المعارضة في حلب، ونتجت عنها خسارة المعارضة حلب والخضوع لإرادة ما سمي مسار آستانة.
وفي الجهة المقابلة، يختار النظام معركته في الغوطة الشرقية، لتطويع محيط دمشق، وتغيير بنيته السكانية ودمج الكتلة البشرية غير السورية ضمن تعداد المقيمين في الغوطة، تحضيراً لبيئة حاضنة للوجود الإيراني كقوة حاكمة شريكة مع روسيا في سورية التي انكفأت حدودها إلى ما سمي سورية المفيدة، التي تمتد من دمشق إلى القلمون وحمص وحماة وصولاً إلى طرطوس واللاذقية وحتى الحدود مع تركيا، بينما ينتظر ما ستؤول إليه المباحثات بين موسكو وواشنطن حول درعا والحدود الأردنية.
ومن هنا يستخدم كل من القوتين الدوليتين وجوده في سورية في عمليتين متكاملتين ومنفصلتين في الآن نفسه، فحيث تعتبر إيران وجودها في سورية يضمن لها طريقاً مفتوحاً على العواصم التي تهيمن عليها من بغداد إلى بيروت مروراً بدمشق، تراهن موسكو على مبادلة الملف السوري مع الولايات المتحدة والعالم باعتراف بدورها ومكانتها كقوة عظمى، تستعيد من خلالها المكانة التي احتلها الاتحاد السوفياتي سابقاً كقطب مواز للقطب الأميركي، لضمان رفع العقوبات عنها وفك الحصار التكنولوجي وإنهاء ملف أوكرانيا والدرع الصاروخية وفتح طريق خط الغاز الذي يعيق تقدمه الوجود الأميركي في المنطقة.
وبين انتصارات النظام على أهالي الغوطة، حيث لم تعد الفصائل المنهزمة هي هدفه، وانهزامات القوات الكردية أمام القوات التركية، يكمن السؤال عن معنى الانتصارين عند النظام، الذي يستعيد بقوة روسيا وإيران سيطرته على الغوطة بينما يتناسى أن هذه الغوطة بكل مناطقها عندما ثارت ضده كانت تحت سيطرته أصلاً، ما يعني أن الهيمنة العسكرية لا تنهي الثورة الشعبية، كما أنها لم تؤسس لها بداية. والإرادة بتغيير سياسي حقيقي لا تنكفئ مع تغيير السلاح الذي يحكم المنطقة، سواء كان تابعاً للنظام، أم كسابقه للمحسوبين على المعارضة، أو الدول الداعمة لهم، وبينما يربح النظام معركة ضد شعبه، يخسر كامل سيادته أمام الهيمنة الدولية «الرباعية»، التي جعلته بالتساوي مع معارضته مجرد أداتين قابلتين للتفكيك والتغيير والسقوط لاحقاً.
من الطبيعي ألا يؤثر طرد أكثر من عشرين دولة غربية وأوروبية ديبلوماسيين روساً على خلفية اتهام موسكو بتسميم الجاسوس الروسي (لمصلحة بريطانيا) سيرغي سكريبال وابنته، على ميزان القوى بين موسكو من جهة، ودول الغرب والولايات المتحدة الأميركية، من جهة ثانية، لكن أكبر إجراء من هذا النوع في العلاقات بين الدول يؤشر إلى الانقسام الدولي الذي يتردد الخبراء في وصفه بالحرب.
كان يمكن لأزمة سكريبال أن تنحصر بين بريطانيا وروسيا لولا أن الصراع الأميركي الروسي على النفوذ في أوروبا يأخذ مداه الواسع منذ سنوات، ولولا امتداده إلى سورية والشرق الأوسط. ومن ميادينه التنافس على السيطرة على أسواق النفط والغاز، والذي اكتسب زخماً جديداً مع الاكتشافات الجديدة في الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط.
لطرد الديبلوماسيين الروس رمزيته. بعد سلخ موسكو القرم عن أوكرانيا في ردها على توسع «الناتو» نحو حديقتها الخلفية الحيوية، والرد الغربي بالعقوبات القاسية على اقتصادها، لم يجد فلاديمير بوتين سوى الميدان السوري للرد على الاستخفاف الأميركي بمصالح دولته. ومنذ 2015 لم يعد يملك سوى تلك الورقة لممارسة الحرب بالواسطة مع دول الغرب بموازاة أوراق أخرى ثانوية قياساً إلى عقيدته الردعية الجديدة بالذهاب إلى القتال حيث يعتبر أن المصالح الروسية مهددة. ينغمس بوتين أكثر فأكثر في التدخل في سورية، الميدان العسكري الوحيد المتاح له راهناً، في رده على تجاهل الغرب القوة العسكرية المتنامية لبلاده، فيساهم في إسقاط حلب تارة ويهجم على الغوطة تارة أخرى... لكنه يتعثر في تثبيت انتصاراته الميدانية بالحل السياسي، فيهرب إلى الأمام ويزداد تورطاً في المستنقع السوري ويستنزف موازنة بلاده، بعد أن خابت توقعاته بنمو في الاقتصاد للعام 2018، يعوض خسائر العقوبات. ويجبره التورط في سورية، تارة على صراع خفي مع شريكه الإيراني المتعثر اقتصاده هو الآخر، والساعي إلى تعويض استثماراته المالية في بلاد الشام بعقود إعمارية وعسكرية، ينافسه الدب الروسي عليها، وأخرى بمراعاة الحليف التركي الخائف من أن يمس تقاسم النفوذ المحتمل على الخريطة السورية مع واشنطن، إلى تهديد وحدة السلطنة. وهو مضطر لمراعاة مصالح صديقه الإسرائيلي فيغض النظر عن اختراقه الأجواء الخاضعة لسيطرته من أجل قصف الوجود الإيراني ومنع توسعه. ومضطر أيضاً للتعامل مع جموح نظام بشار الأسد نحو استعادة السيطرة بإيقاع يخالف إيقاعه، ومناوراته مع دول الغرب. هذا فضلاً عن أن عليه أن يتجنب الاصطدام المباشر بالوجود الأميركي على الأرض الذي يتوزع كما قالت موسكو نفسها على 20 قاعدة. إنه في اختصار مجبر على إدارة فوضى المصالح والنفوذ والحضور العسكري للعديد من الدول.
تندلع أزمة سكريبال في وجه الكرملين في توقيت يزيد من تعقيد الحسابات الروسية. فالتغيير في رجالات الإدارة الأميركية يعزز اتجاهات التشدد في مواجهة حليف بوتين الإيراني قبل 6 أسابيع من القرار المفترض لدونالد ترامب في شأن تجميد قبوله بالاتفاق النووي مع طهران أو مواصلة الالتزام به، وفي وقت تصعد الأخيرة من هجومها على السعودية انطلاقا من اليمن، بقصفها الأراضي السعودية بعدد غير مسبوق من الصواريخ، في وقت تجدد المملكة شراكتها مع إدارة ترامب على مواجهة التمدد الإيراني.
فيما تنتشي قاعدة حميميم الروسية بالتفوق على الغوطة، بالاستعداد لتجديد محاولاتها القضاء على حل «جنيف» للأزمة السورية عبر العودة إلى مسار «سوتشي» في القمة الروسية الإيرانية التركية بعد أيام، ينقسم الفريق الجديد في واشنطن بين منطق مواجهة الحليف الإيراني لموسكو بالحرب أو بالوسائل الاستخبارية والقوة الناعمة.
فمجيء جون بولتون إلى البيت الأبيض يرمز إلى الفريق المستعد لأي نوع من الحروب بالشراكة مع إسرائيل. لكن مجيء مايك بومبيو إلى وزارة الخارجية يرمز مع وزير الدفاع جيمس ماتيس، إلى التشدد في مواجهة التوسع الإيراني بالعقوبات والحصار والضغوط الاقتصادية ودعم الحلفاء في المنطقة، وترك إسرائيل تنفذ ضرباتها المحدودة التي لا تأخذ المنطقة إلى الحرب. وهناك من هذا الفريق من يعتقد أن تقليص نفوذ روسيا في سورية قد يكون «بتركها تنتصر» فيها وتغرق في إدارة مناطق النفوذ التي اقتطعتها مع طهران، وتواجه الحروب المتنقلة التي تغذيها واشنطن، مثلما حصل للاتحاد السوفياتي في أفغانستان. ويترك أصحاب هذا التوجه الحجج لتنفيذ ضربات محدودة في سورية معلقة، إلى أن يحين استخدامها، مثل اتهام النظام بأنه استعمل الكيماوي.
وفي الحالتين يرمي الضغط على موسكو إلى دفعها للخيار بين أن تبتعد عن طهران وبين أن تشترك معها في مواجهة الضغوط.
من كان في وسعه أن يتخيل، قبل سبع سنين، أن أهالي غوطة دمشق الذين كانت أرضهم خزان غذاء لسورية كلها، ومعقلاً لثوارها، في مواجهة المستعمرين والمستبدين على مر التاريخ، سيجدون أنفسهم مكرهين يوماً على أن يرضخوا لابتزاز شبّيحٍ ساديٍّ نذل، يعرض عليهم الهتاف بحياة طاغيةِ دمر بلادهم، وشرّد نصف شعبها، حتى يمنحهم جرعات ماءٍ لأطفالهم الناجين من مذابح براميل المتفجرات وصواريخ سكود وغاز السارين؟
ذلك، لمن لا يعرف، حدث وقع فعلاً، ووثّقته تسجيلاتٌ مصورة، يمكن لمن يشاء أن يجدها بنقرة واحدة على محرّكات البحث في شبكة الإنترنت، لكنه لم يعد، على الرغم مما يفيض به من وحشية مروعة، مجرد سلوك فريد أو شاذ أو عابر في سيرة نظام حكم بشار الأسد، كما في سيرة أنظمة حكم عربية أخرى كثيرة، نراها اليوم تتجاوز خلافاتها، لتأتلف على قاسمٍ مشتركٍ أعظم، هو منع الناس من أن يقولوا رأيهم في راهن أوطانهم ومستقبلها، ناهيك عن أن يعودوا إلى الشوارع مجدّداً، ليهتفوا مطالبين بالحرية والكرامة الإنسانية والعدل الاجتماعي. ففي مصر، مثلاً، تجرؤ محافظ مدينة البحيرة، وهي امرأة، ومهندسة، تدعى ناديا عبده، على أن تبتزّ مواطنيها بأسلوب يشبه جوهرياً ما فعله شبيحٌ برتبة نائب في البرلمان السوري، حين تعلن، في برنامج تلفزيوني، أنها ستكافئ القرى والمراكز التي ستشهد إقبالاً كبيراً على الانتخابات التي يتنافس فيها الرئيس عبد الفتاح السيسي صورياً مع أحد مؤيديه بحل المشكلات التي يعانون منها، في المياه والصرف الصحي.
عليك إذن، إن طالبت، أو حتى فكرت، بالحرية والكرامة والعدل، أن تتوقع حرمانك من الماء والغذاء والدواء. أليس هذا هو فحوى عبارة "بدكن حرية؟!" التي صرخ بها رجل أمن سوري، حين كان يسحق تحت قدميه أحد المتظاهرين في أيام ريعان الربيع العربي؟ أليس هذا هو ما يحدث كذلك في اليمن، وقد بات الملايين من أبنائه في أتون الموت جوعاً ومرضاً، ينتظرون، بعد سبع سنين، من ثورتهم السلمية، إعادة تتويج أحد ورثة الرئيس المخلوع، والمقتول لاحقاً، علي عبد الله صالح، زعيماً عليهم؟ أليس هذا هو أيضاً ما يتعرّض لها قطاع غزة، وقد صار الأعداء، ومعهم الإخوة الأعداء، يشترطون تخلي مقاومته الوطنية عن سلاحها، نظير حصول مليوني إنسان من أبنائه، على أدنى حقوق العيش الآدمي؟
ستضيق هذه المساحة بالأمثلة الفاضحة على اتخاذ "النظام الإقليمي والدولي العميق" قراراً صارماً بإجهاض الأمل قبل ولادته، وباستخدام كل وسائل التجويع والقمع والتنكيل والقتل والإبادة الجماعية، لإحداث وقائع تقول خلاصاتها إن كل محاولةٍ للتغيير في العالم العربي ستؤدي به إلى وضع أسوأ مما كان فيه. إنهم يعلنونها الآن على الملأ: هذا قدركم الأخير والنهائي الذي لا خلاص لكم منه، أيها العرب جميعاً، وإياكم أن تظنوا، لحظةً، أن قتل الملايين من شعوبكم بشتى أنواع الأسلحة الفتاكة، يمكن له أن يتساوى في معايير الغرب مع اقتراف خطيئة استخدام رذاذ قليلٍ من سلاح كيميائي، لاغتيال جاسوس على أرض أوروبية. وعليكم أن تدركوا حقيقة مكانتكم، وتقتنعوا بها، من دون أن تسألوا عن معنى أن تبادر عواصم الدول الكبرى والمتوسطة والصغرى التي صمتت دهراً على قصف بيوتكم بالصواريخ الروسية وسواها إلى تفجير أزمة دبلوماسية غير مسبوقة، مع موسكو، وطرد مئات من دبلوماسييها، للاشتباه بمحاولتها قتل شخص واحد.
هنا، أي على مرمى حجر أو قذيفة من البلدان العربية المنكوبة، تقع دولة اسمها إسرائيل. وثمّة لهذا الجوار شرطان مترابطان عضوياً، أولهما أن لا تقوم فيه قائمة لدول أخرى حقيقية. وثانيهما أن يشتري طغاة كياناتها الكرتونية وصولهم إلى مناصبهم، وبقاءهم فيها، بثمنٍ يراوح بين سفك دم المتمردين من شعوبهم قرباناً لتل أبيب ودفع مليارات الدولارات من خيرات بلادهم جزية لواشنطن.