قبل خمسة أيام خرج زعيم «داعش» في تسجيلٍ عبر وسائل إعلام التنظيم، ليطلق، بالمصطلح الكلاسيكي وبمناسبة حرب الموصل: «نداء النفير» أو «الاستنفار العام». في القسم الأول من التسجيل حثّ أنصاره على الصمود، ودعاهم إلى الاستقتال في مواجهة المهاجمين، وأمَّلهم بالنصر والعزّة، أو بالشهادة (إحدى الحسنييْن). لكنه في القسم الثاني، وعندما كان المطلوب تحديد الأعداء الذين يكون على التنظيم الاستماتة في مواجهتهم، مضى باتجاه تركيا والسعودية، باعتبارهما العدوَّ المستهدَف، وليس إيران مثلاً أو الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» المتأيرن. قال إنه سيحوّل أرض تركيا إلى دار حرب، وإنّ المملكة ليست حقيقةً بحماية الحرمين والإسلام، لأنها تُعادي «دولة داعش» وتقاتلها!
لقد استغرب كثيرون هجمة البغدادي المفاجئة على الدولتين السنيتين الكبيرتين بالمنطقة، والسكوت عن إيران؛ بل إنّ كلامه على المملكة، يشبه الكلام الإيراني شبهًا كبيرًا. أما بالنسبة لتركيا؛ فإنّ الأميركيين والروس والإيرانيين ومنذ عام 2014 يتهمون تركيا بمخامرة «داعش»، والتسهيل لعناصره وجرحاه بالمرور ذهابًا وإيابًا. وهو الأمر الذي دفع الروس عندما كانوا مختلفين مع تركيا، للقول إن داعشًا صناعة تركية. بينما أقبل الأميركيون على دعم الأكراد في سوريا لمقاتلة «داعش» بدلاً من الاستعانة بتركيا. ولا يزال الخلاف بين الطرفين قائمًا بعد التدخل التركي المتأخر فيما بين جرابلس والباب.. ومنبج. ولقد عاد الأميركيون أخيرًا فآثروا الأكراد بشرف محاصرة مدينة الرقة واقتحامها، وهذا سببٌ جديدٌ للخلاف التركي مع الولايات المتحدة وحلفائها!
قال لي أستاذ ألماني مختص بشؤون الشرق الأوسط على أثر سماعه البغدادي: «أنتم في محنةٍ بالفعل، فالولايات المتحدة تعتبر المملكة إسلاميةً أكثر من اللازم، و(داعش) يعتبرها إسلاميةً أقل من اللازم. والولايات المتحدة تعتبر تركيا أقل التزاما بمقاتلة (داعش)، والبغدادي يعتبرها العدو الرئيسي لـ(داعش) قبل إيران!».
لقد تناسل «داعش» عن «القاعدة» عبر تطوراتٍ متعرجة ومعقَّدة. وهو، مثل «القاعدة»، انشقاقٌ بداخل الإسلام. وقد قلتُ مرارًا في الدراسات والمقالات الصحافية إنّ الانشقاق إنما ينعكف على أصله الذي انشقّ عنه، ويرمي لإزالته والحلول محلَّه. وهذا يصح في الدين كما صحَّ في الحركات الحزبية والآيديولوجية. فعندما اختلف الصينيون مع السوفيات في أواخر الستينات، أقبلوا على التآمر مع الولايات المتحدة ضد أولئك التحريفيين! كان ماو تسي تونغ يتحدث عن أميركا الإمبريالية باعتبارها نمرًا من ورق، فلمّا اختلف مع الروس على مناطق النفوذ والموارد والمصالح الواقعة بين الطرفين أو بجوارهما؛ صار الروسي هو العدو الرئيسي، وصار الصراع على من يقود الحركة الشيوعية العالمية، إلى حدّ إقبال الصين على دعم ألبانيا الشيوعية المتشددة في وجه التحريفيين الروس!
وبحسب توماس هيغهامر؛ فإنّ بن لادن والظواهري كانا مختلفين في إيثار مجاهدة العدو البعيد أم العدو القريب. ويعتقد هيغهامر أنّ بن لادن هو الذي أخّر مواجهة العدو القريب. لكننا لو تأملنا ما بعد عام 2001، بل وما قبله، لوجدنا أنّ الأمر كان متوازيًا أو مختلطًا. وقد سمعتُ وقرأتُ لـ«القاعدة الأولى» وللزرقاوي ولمفتي «داعش»، وعلى مدى عشر سنوات، كلامًا يقول إن مجاهدة المرتدّين أولى من مجاهدة الكفار والفجار!
نحن مختلفون مع «داعش» حول ثوابت الإسلام، ومختلفون معه بشأن التعامل مع الناس، ومختلفون معه بشأن المصالح والأولويات. فـ«داعش» خرج على ديننا، وكفّر سائر الناس، ومضى لقتلهم وقتالهم. وكنا نسخر من دعاة «حزب التحرير» عندما يسألنا أحد عوامهم: أي الفروض أوجَب؛ الصلاة أم إقامة الخلافة؟! فإذا بـ«داعش» يجعل من «الخلافة» ركنًا من أركان الدين! وكنا نأخذ على الإيرانيين إنشاء التنظيمات الطائفية القاتلة؛ فإذا بـ«داعش» ينشئُ تنظيمًا لا همَّ له غير تقليد الإيرانيين والمتأيرنين في قتلنا وتهجيرنا. ثم ما المصلحة أو المصالح الضرورية للأمة والدين من وراء إقامة سلطةٍ مسخ في المناطق السنية المغلوبة على أمرها في سوريا والعراق، بحيث تصبح هدفًا ليس للأسديين والمالكيين والإيرانيين والأفغان فقط؛ بل وللأميركان والروس والفرنسيين والبريطانيين؟! سمعتُ معلقيْن على إحدى الفضائيات يتجادلان فيمن هجَّر وقتل أكثر من السنة بالعراق؛ «داعش» أم الموالك والإيرانيون والمتأيرنون. وظلا يتضاربان بالأرقام إلى أن ذكر أحدهما سوريا، فانقلب الملفّ لصالح «داعش»، لأن الأسد والإيرانيين والروس قتلوا نصف مليون، وهجّروا اثني عشر مليونًا!
أما الأتراك، فإنهم حاولوا طويلاً ألا يصطدموا بـ«داعش»، وأخذ ذلك عليهم كثيرون، ليس من الدوليين فقط؛ بل ومن العرب والمسلمين. لكنّ داعشًا عندما جرى التضييق عليه على الحدود، انصرف للتفجير في تركيا، وتراجع بسرعة أمام الأكراد بحيث صاروا هم و«داعش» على الحدود التركية، واستعجلوا في إقامة الكيان الكردي، وهو كابوس تركيا الأكثر اسودادًا. ولذلك تدخلت تركيا أخيرًا ضد «داعش» وضد الأكراد، ولولا الإذن الروسي (في مقابل ماذا؟!) لما جرؤت تركيا على التدخل رغم المعارضة الأميركية (!). فكيف تصبح تركيا العدو الرئيسي لـ«داعش»، الذي ينسحب من المناطق التي يهاجمها الأكراد بدعمٍ من طيران التحالف؟! ولو أنّ تركيا تدخلت قبل ثلاثة أعوام كما انتوت، لما ظهر «داعش» ولا ساد الأكراد، ولا نجحت إدارة أوباما في لعبة القط والفأر مع إيران وفي سوريا والعراق!
إنّ الذي أزعمه أنّ مشكلتنا نحن العرب مع «داعش» تتناول الدين والدولة. بينما مشكلة الأتراك معه إنما تتعلق بآيين الدولة، وبالسياسات الاستراتيجية بالمنطقة، ومن ضمنها التنافُس مع إيران. وقد كانت «القاعدة» واضحةً، واليوم «داعش»، في أنّ أعداءهم الرئيسيين هم المملكة والعرب بعامة؛ لكنهم تأخروا حتى اعتبروا تركيا ضمن الأعداء الرئيسيين. وقد كان منطقيًا أن يتلاقى العرب والترك تلاقيًا استراتيجيًا منذ عشر سنوات على الأقل. لكنّ إردوغان آثر صداقة بشار الأسد وخامنئي منذ عام 2004. وعندما راقب حركات الاضطراب العربي عام 2011، راهن على الإخوان المسلمين، وما تحالف مع الخليجيين، إلاّ قطر. وها هم الإيرانيون، وها هم الداعشيون، يعتبرون المملكة وتركيا عدوين لدودين. وهكذا، فإنّ الداعشيين والإيرانيين كادوا يتوحدون في تحديد أعدائهم، لولا أنّ الإيرانيين لا يبحثون عن أصدقاء وحلفاء؛ بل عن عملاء ومرتزقة يستخدمونهم. وقد فعلوا ذلك مع «القاعدة» طويلاً، وها هم يفعلون الشيء نفسه مع «داعش». وقد قال زعيم حركة «النجباء» الشيعية المتأيرنة إنهم يريدون «الثأر» من الموصل وغيرها. وقد مكّنهم «داعش» من ذلك بإنهاك تلك المناطق التي جاء لإنقاذها من الموالك والمماليك الإيرانيين، وها هم الإيرانيون وميليشياتهم يستخدمون الأميركيين في ضرب «داعش»، ويأتون بعدهم للقتل والتهجير بعد أن انتهى توظيفه. ثم ها هو «داعش» يكشف عن أعدائه الحقيقيين: المملكة وتركيا، لأن معهما شرعية الدين، وشرعية الدولة، أما شرعية «داعش» فإنها شرعية قطع الرؤوس وبقر البطون والإحراق، واستعباد النساء واستحياء الأطفال. لقد استجار بكم البعض هربًا من الاستنزاف، فعرضتموهم للقتل والتهجير، وها هم يكادون يتعرضون للإبادة بسبب انصرافكم عن الدفاع عنهم إلى مقاتلة السعودية وتركيا:
المستجير بعمرٍو عند كربته
كالمستجير من الرمضاء بالنارِ
لا ننكر أننا على صعيد المعارضة السورية سمعنا من هيلاري وعوداً أفضل مما سمعنا من ترامب، لكن تجربتنا مع الإدارة الديموقراطية لم تكن تجعلنا نطمئن إلى الوعود، ولن ينسى العالم أن أوباما أسرف كثيراً في ترديد تصريحه الشهير «على الأسد أن يرحل»، لكن ما فعله في الواقع هو تمكين بقاء الأسد، وتقديم دعم خفي للتنظيمات الإرهابية «داعش» ومشتقاتها بالصمت عليها حتى تكبر وتتمدد! وهي التي حاربت الشعب ووجهت أسلحتها ضد المعارضة الوطنية وجيشها الحر. كما أن إصرار الولايات المتحدة على حظر تسليح الجيش الحر بمضادات الطيران جعل سماء سوريا تمطر وابلاً من القنابل المحرمة والصواريخ التي أبادت الحياة وقتلت البشر، دون أية قدرة على مقاومتها، وهذا ما جعل ملايين السوريين يهربون نازحين بحثاً عن مكان آمن، وقد قتل عشرات الآلاف منهم غرقاً في البحار. كما رفضت الولايات المتحدة إقامة منطقة آمنة تتيح للمدنيين أماناً، وتوقف تدفق الهجرة التي تحولت إلى مشكلة دولية.
وليس سراً أن الولايات المتحدة كانت تدير الصراع، وتدعي أنها تدير مسار الحل السياسي، وقد لبينا دعوتها ودعوة أصدقاء سوريا إلى مؤتمر الرياض في مثل هذا التوقيت من العام الماضي، وعقدنا مع ممثلي الدول التي أطلق عليها اسم «أصدقاء سوريا» عشرات اللقاءات، ووجدنا أن الوزير كيري يريد فقط أن نسافر إلى جنيف وأن نسجل حضوراً. وحين كنا نعلن إصرارنا على تنفيذ القرار 2254، وبخاصة البنود التي حدد القرار كونها مرحلة بناء الثقة وما فوق التفاوض (فك الحصار، إيصال المساعدات، حماية المدنيين، إطلاق سراح المعتقلين وبخاصة النساء والأطفال)، كنا نواجه أجوبة غير منطقية من مثل (ناقشوا ذلك في جنيف)، وكان الهدف تحويل مفاوضات الحل السياسي إلى استجداء لدخول قافلة مساعدات (بعضها يصل فارغاً، وأغلبها يمضي إلى النظام، وبعضها تعرض لهجوم الطيران، كما حدث في أورم الكبرى)! ووجدنا أنفسنا كمن يلاحق وهماً في سيل من التصريحات المتوافقة والمتناقضة في مسلسل (لافروف- كيري)، حتى إن المبعوث «راتني» صارت مهمته ترقيع تصريحات كيري، بينما قال المبعوث الدولي دي مستورا: «نحتاج إلى معجزة إلهية».
لم يكن يغيب عنا أن الضامن الحقيقي لبقاء النظام وتفكيك المعارضة هو هذا الموقف الأميركي الذي فوض بقتل السوريين باسم مكافحة الإرهاب، وطالما رددنا قول أبي الطيب المتنبي «ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى.. عدواً له ما من صداقته بدُّ».
ربما هذا ما دفعني إلى أن أقول مرات على قنوات التلفزة إنني أفضل أن يأتي ترامب على مبدأ «إن خيراً فخير، وإن شراً فشر»، ولم يتبق لدى السوريين الكثير مما يخسرونه.
نأمل أن يكون ترامب بعلنية مواقفه أكثر وضوحاً، ونحن نبحث عن حل عادل لقضيتنا رسمنا رؤيتنا الدقيقة له وأعلنا عنها في مؤتمر لندن وفي الجمعية العامة للأمم المتحدة، ويعلم ترامب- كما يعلم بوتين قبله- أن تحقيق الانتقال السياسي يعني بدء مرحلة لا وجود فيها لمن ثار الشعب ضد استبدادهم وظلمهم وضد ما ارتكبوا من جرائم إبادة. وأما من لم تتلوث يداه بدم السوريين فقد رحبنا بالتشاركية معه لبناء دولة مدنية ديموقراطية. وقد سمعنا ترامب يتحدث عن حلم أميركا، وبحسب مسؤوليتها كدولة عظمى يجب أن يمتد هذا الحلم القائم على الحرية والديموقراطية، ليشمل الدفاع عن حريات الشعوب وعن حقوقها في الحياة الكريمة، وليس في الدفاع عن آخر وأسوأ الديكتاتوريات في العالم.
تعد مراجعة التجربة السياسية، والقصد من ذلك المراجعة النقدية، من أهم العمليات التي يفترض بالحركات السياسية القيام بها، في المحطات المختلفة، سواء في المؤتمرات الدورية، أو في سياق العمل اليومي. إلا أن غالبية حركاتنا السياسية، كما نعلم، لم تختبر هذه المراجعات يوماً، بل إنها، كما بينت التجربة، تستنكر أي ملاحظة حول مواقفها، وتأنف أي موقف نقدي لسياساتها وممارساتها، بل إنها قد تعتبر ذلك جزءاً من عملية معادية لاستهدافها، أو لإضعافها.
لذا فإن حركاتنا السياسية بمعظمها للأسف تظن أنها مخلدة، وتمتلك الحقيقة، بل إنها تعتقد أن شعاراتها وخطاباتها تعد من البديهيات واليقينيات، أي فوق النقاش، بدل أن تشجع على عملية التفكير، وبالأخص التفكير النقدي، لذلك فليس غريباً أن نجد أغلب الجماعات الحزبية بمثابة جماعات مغلقة تتمحور حول بعضها، مثل العائلات والعشائر والطوائف، وتلتف حول حركاتها السياسية، في تماه مع الأنظمة الاستبدادية التي ترى أن الشعب مجرد جماهير ليس لها إلا أن تهزج بشعارات القائد، أو الحزب القائد.
في مواجهة هذا الوضع، من المفيد أن يدخل في إدراكات المنتمين للحركات السياسية، وحتى بعض المعارضين والمثقفين (ومنهم طبعاً الصحافيون) اللامنتمين لأية حركات، أن السياسة تعني المشاركة السياسية، وحرية الرأي والتعبير والتظاهر، وتالياً النقد، وفي أساسه النقد الذاتي، لأن أية حركات سياسية لا تواجه ذاتها ولا تنتقد تجربتها، هي حركات لا تستحق الحياة، إذ إنها تبدو غير واثقة من نفسها، ولا حتى من مسيرتها، فضلاً عن أن ذلك يعني أنها فقدت حيويتها، وقدرتها على التطور والتجديد.
كانت هذه مقدمة ضرورية للتطرق إلى نقد المعارضة السورية ونقد نقدها، إذ واجهتني في نقدي للمعارضة، في المقالات التي كتبتها في هذه الجريدة (وفي غيرها،) بعض المواقف التي أخذت أو استكثرت علي نقدي للمعارضة، بحكم أنني في موقع نائب رئيس «الائتلاف الوطني»، وقد فات هذا البعض أنني مواطنة سورية، قبل أن أكون في هذا الموقع أو ذاك، لذا فمن البديهي أن يكون لي أيضاً موقفي النقدي من المعارضة وكياناتها السياسية وشعاراتها وطرق عملها، علماً أنني حتى قبل أن أكون في أي كيان في المعارضة فأنا كاتبة وإعلامية منذ أكثر من عقدين.
ما أقصده أنه سواء كنا في حزب ما، أو في حركة سياسية ما، لا ينبغي لنا أن نلغي عقولنا، أو أن نلغي ملكة التفكير، بخاصة التفكير النقدي لدينا، وإذا كنا كذلك فما الذي سنضيفه، في هذه الحال، الى الثورة، أو الى عملية التغيير في سورية؟
جاء النقد لمقالاتي النقدية من بعض المنتمين للكيان السياسي ذاته الذي أنتمي إليه (الائتلاف)، ظناً منهم أن هذه الملاحظات ينبغي أن تطرح في الإطار، ما يذكرنا بالأحزاب الشمولية، التي تأنف التغيير وتمنع النقد، وتتحدث عن الالتزام بالأطر، وعدم نشر الغسيل «الوسخ» في الخارج، وهذا يعني تحويل الأحزاب والحركات السياسية الى حركات لزعيم أو لقائد أو لفئة، وتحريم التفكير، والتربية على إلغاء العقل. لكن المفاجأة الأكبر بالنسبة إلي أن مثل هذا النقد جاء من بعض المعارضين، من غير المنتمين لحركة سياسية، إذ استكبر علي هذا البعض نقدي لمؤسسة أنا أنتمي لها، أو لأن لي موقعاً قيادياً فيها، وهذا كلام خاطئ وقاصر، إذ إن نقدي للمعارضة هو جزء من انتمائي للثورة السورية، وجزء من تعبيري عن موقفي كإنسانة وككاتبة، والشجاعة هنا أن أنتقد الإطار الذي أشتغل فيه، بمعنى أنني أحاول أن أنقل أفكاري إلى الفضاء العام، إيماناً مني بالمشاركة السياسية، وبحق الجميع في الاطلاع، ولوضع تجربتنا في موقع الفحص والمساءلة، وأيضاً لتشكيل حالة ضغط شعبية، من خلال توسيع قاعدة الرأي العام التي تشجع على التغيير والتطوير.
طبعاً من حق أي كان أن يفترض أن الموقف الصحيح هو الاستقالة، لكن السؤال الذي يطرح نفسه، في ظروفنا السورية المعقدة: ماذا بعد الاستقالة؟ أو ما هو البديل؟ ثم لماذا لا يكون الأصح أن أستمر في حالة الانتقاد والضغط وصوغ الرأي العام لتطوير الكيان السياسي الذي أشتغل فيه، أو لتهيئة الأوضاع لخلق بديل مناسب له في الظروف المواتية؟ وما أريد أن أنوه به هنا هو أن موقفي من «الائتلاف» ليس جديداً إذ هو قديم، وقبل أن أشغل موقعي كنائب للرئيس في هيئته القيادية، وهذا ما تمكن ملاحظته من هذه المقابلة التلفزيونية المخصّصة لنقد «الائتلاف»، والمسجلة قبل عامين ((https://www.youtube.com/watch?v=0mKG1uJ0fVA)
أود أن أقول إنني أتصرف وفق قناعتي بضرورة إشراك أوسع قطاع من السوريين، وأوسع قطاع من أوساط المعارضة في الرأي، لا سيما الذين يشعرون أن كيانات ومؤسسات المعارضة هي لهم، وتعبر عنهم، ويفترض أن تمثل كفاحهم، بما لها وما عليها، وهذا هو معنى المشاركة السياسية. كما أنني أعتبر أن عملية النقد جزء من العملية الثورية، وجزء من عملية التغيير، أي تغيير وتطوير الأفكار، وهذه مسؤولية كل كاتب ومثقف ضمن الأطر السياسية أو خارجها، وهذه مهمة لا يستهان بها لأنها تسهم في زيادة الضغط على المؤسسات والكيانات السياسية لإصلاح ذاتها وتقويم أدائها وتطوير أوضاعها. أما المراجعات الداخلية فقد تستخدم كوسيلة فقط لصراعات ومنافسات التكتلات داخل الجسم المعارض، وبالتالي كسب أصوات انتخابية تغير في الأسماء أو في الشكل من دون تغيير في المضمون أو الأفكار وأشكال العمل.
على ذلك، فقد كان النقد الذي مارسه كتاب من داخل هذه المؤسسات كميشيل كيلو وفايز سارة، مثلاً، إضافة إلى كتاب من خارج هذه المؤسسات كياسين الحاج صالح وسلامة كيلة وجمال خاشقجي وماجد كيالي وعبد الوهاب بدرخان وعمر قدور وغيرهم، وسيلتنا لإلزام هذه المؤسسات ومنها «الائتلاف»، والضغط عليها، لإصلاح أوضاعها الداخلية، وتوسيع دائرة تمثيل فئات الشعب وإيلاء اهتمام أكبر لقضايا السوريين داخل بلدنا وخارجه. ويأتي بين خطوات الإصلاح توسعة تمثيل المرأة، التي فشل «الائتلاف» بتحقيقها ثلاث سنوات متتالية، ما يفترض مساندتها حتى ولو لم تحقق كل المعايير المطلوبة، لأنها خطوة بالاتجاه الصحيح. المشكلة أنه بدلاً من ذلك فاجأنا البعض بالأحكام المسبقة والمتسرعة عليها بالفشل تارة وبأنها مجرد أدوات تزيينية (ماكياج)، من دون إعطائها فرصة التعبير عن نفسها. والمؤسف أن يكون هذا البعض طالب مراراً بالتوسعة، لكنه عند إنجازها قلل من شأنها بدل الحضّ على تطويرها، كي تكون المرأة شريكاً فاعلاً في صناعة القرار سواء الآن أو في المرحلة الانتقالية، وخلال صياغة كل وثائق سورية التي نريد، كالدولة الديموقراطية التعددية، دولة المواطنين الأحرار المتساوين.
لم يكن صحافيون أميركيون وبريطانيون يدركون أن إعلامهم كان مضلِّلاً للرأي العام، في شأن الأزمة السورية، الى أن أُتيحت لهم فرصة مقابلة رئيس النظام بشار الأسد. وقد بدوا، وفقاً لما نشروه، كأنهم تعرّفوا أخيراً الى «الحقيقة» من فم القاتل مباشرة، وقد كان حريصاً على أن يصحّح مفاهيمهم، مروّجاً عبرهم للمرّة الألف رواية أن كل مَن يقاتله هو «إرهابي» بالضرورة، حتى الذين قضوا تعذيباً في سجونه وصوّرهم «قيصر» قبل أن ينشقّ ويغادر سورية. كانت لدى الأسد أخبار كثيرة يكشفها للمرّة الأولى أمام هؤلاء الإعلاميّين، إذ علموا منه مثلاً، أنه ينوي البقاء في منصبه حتى انتهاء ولايته سنة 2021، وأنه «الرئيس» لكنه «ليس مسؤولاً شخصياً» عما حصل في سورية ولسورية. من المسؤول إذاً؟ «إنها الولايات المتحدة»... ماذا عن إيران وميليشياتها، ماذا عن روسيا؟ لا الأسد تحدّث عن حليفَيه، ولا ضيوفه ألحّوا في السؤال، لذلك قالوا أنهم قابلوا رجلاً «مطمئناً»، حتى أنه لم يهاجم تركيا والسعودية كعادته، بل ترك ذلك لـ «أبو بكر البغدادي» الذي بدا كمن يبثّ، قبيل سقوط «خلافته» في الموصل، كلمة أُعدّت له في طهران.
كان ذلك اللقاء بكل تفاصيله من أسوأ لحظات الصحافة، تحديداً في نقطتين: الأولى، أنه أتاح للأسد أن يسخّف اتهامه بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وأن يستخدم فائضاً من السفسطة لردّ الاتهامات الى دول الغرب وإعلامه بأنهما يميّزان بين «جرائم إرهاب» (يقترفها تنظيم «داعش») و «جرائم الحرب» (يقترفها النظام باعتباره «الدولة»)، في حين أنه لا يرى سوى إرهابيين في مواجهة أنصاره. كان الأسد واثقاً بأن الإعلاميين الأجانب الذين يخاطبهم تناسوا أو تجاهلوا مثله عشرات المجازر التي نفّذتها قواته قبل ظهور «الإرهاب الداعشي» الذي لم يعد الغرب يرى سواه في سورية. كان واثقاً أيضاً بأن هؤلاء الإعلاميين جاؤوا للاستماع إليه أكثر مما جاؤوا لطرح أسئلة تشتبه بدور للنظام وحليفه الإيراني في تمكين «داعش» من السيطرة والانتشار، بل إن استخدام السلاح الكيماوي، وهو جريمة حرب مثبتة، لم يستحق أي تنويه على رغم تأكيدات التحقيق الدولي الذي تتعامل معه روسيا بكل ديماغوجيتها لتمييعه ومنع مجلس الأمن من إدانة نظام الأسد.
النقطة الأخرى تتعلّق بالتغيير الديموغرافي الذي أصبح واضحاً أن الأسد يعتمده لضمان مستقبله وإدامة وجود حليفه الإيراني في سورية. فالعبارة التي مرّت في تقرير «نيويورك تايمز» نسبت الى الأسد القول بأن «النسيج الاجتماعي أصبح أفضل مما كان سابقاً». وتفسير ذلك أن سياسة الحصارات التجويعية هي التي أتاحت التطهير المذهبي الذي أدّى بدوره الى «تنقية» النسيج الاجتماعي في مناطق لم يبلغها «داعش» ولا أي تنظيم إرهابي معروف، وأن الأسد يعتبر إخلاء أي مدينة وبلدة من سكانها «انتصاراً» حقيقياً، فيما يتولّى الروس والإيرانيون من جهة والأميركيون من جهة أخرى، محاربة الإرهاب الذي كان له ولحليفه الإيراني الدور الأكبر في تصنيعه واجتذابه، سواء لتعزيز «شرعية» النظام أو لإضفاء «شرعية» على التدخل الإيراني. ففي الأعوام الثلاثة الأولى من الأزمة، كان التركيز على «المؤامرة الكونية»، وبعدها تحوّل الى «محاربة التكفيريين». بل إن ما يفسّر التغيير الديموغرافي هو ببساطة ما يتوارد الى أهالي داريا والمعظمية والزبداني وغيرها من مدن الغوطة، وهم في «المنفى» الإدلبي، من أن شيعةً عراقيين ولبنانيين وأفغاناً استُقدموا للسكن في ما تبقّى من منازل كانت لهم.
كان هذا اللقاء مع صحافيين أجانب مختلفاً عن لقاءات سابقة، إذ واكب مؤتمراً نظمته «الجمعية البريطانية - السورية» التي يرأسها والد زوجة الأسد، بهدف البدء بتلميع النظام ورئيسه استناداً الى أنه باقٍ في منصبه وأن الدولة والحكومة موجودتان ويحسن التعامل معهما بالنسبة الى المستقبل. هذه هي الرسالة التي أراد الأسد إطلاقها، وتولّى وزير خارجيته وليد المعلم صياغتها بأن «من شأن الغرب أن يعيد التفكير في سياساته»، وإذا فعل فإن حكومة النظام سترحب بذلك وإنْ كانت لا تتوقع تعاوناً من جانب الولايات المتحدة. غير أن النظام يتطلّع الى تعاون غربي معه باعتبار أنه حقّق «الانتصار» أو اقترب منه، ولذلك يحسن أن يبدأ التفكير والتخطيط لـ «ما بعد الانتصار». ولدعم هذا التوجّه، قال الأسد: «حتى اللحظة، لا يزال لدينا حوار من خلال قنوات مختلفة، حتى مع الولايات المتحدة، لكن هذا لا يعني التخلي عن سيادتنا وتحويل سورية إلى دولة دمية». كان الأفضل أن يسأل حليفتيه روسيا وإيران عما تعتقدانه في شأن «الدولة الدمية»، وكذلك عما آلت إليه «الدولة» و «الحكومة» وحتى المؤسسة العسكرية. بل كان الأفضل أن يسأل على الأقل العسكريين الأكثر موالاةً له عما يعتقدونه في شأن «السيادة»، خصوصاً أنه حوّل ضباطه وجنوده الى منسّقين وعاملين تحت الإمرتين الروسية والإيرانية، وجعلهم حتى في مناطق النظام تحت رحمة ميليشيات محلّية يتنازعها الروس والإيرانيون كسباً لولائها وتعاونها معهم.
ينطلق الأسد في فهمه الأزمة السورية، من أن الولايات المتحدة أرادت تغيير نظامه لأنه «لا يتناسب مع معاييرها»، وطالما أن هذا الهدف لم يتحقّق فلا يعني ذلك سوى أنه انتصر، بدليل أنه لا يزال في منصبه، تماماً كما اعتبر صدام حسين أنه انتصر في حرب الخليج الثانية (1991) لمجرّد أنه ونظامه بقيا على رغم الدمار الكبير للعراق. وبالتالي، يراهن الأسد على أن الغرب سيذعن للواقع، وسيستأنف العمل معه بـ «معاييره». المفارقة أنه قد لا يكون مخطئاً، فهناك في الغرب مَن هو مستعد لبيع القيم التي يدّعي الدفاع عنها لقاء الأوهام التي يعرضها الأسد عليه، وعلى رأسها أن الإرهاب ومحاربته كافيان لمحو جرائم النظام ونسيانها، وأن وجود «دولة الأسد» يقدّم السيناريو الأفضل بديلاً من الفوضى العارمة في حال سقوطها. ثم إنه يلوّح بـ «تغييرات سياسية» وبـ «عهد جديد من الانفتاح والشفافية والحوار»، بعد الانتصار. أي أنه كان «مضطراً» لإسقاط أكثر من مليون سوري بين قتيل ومعوّق ولجعل أكثر من نصف الشعب بين مهجّر في الداخل ولاجئ في الخارج ليصبح جاهزاً للتغيير (متخلّصاً من ثلث الشعب السوري) وللحوار (مع ذاته) وللانفتاح بإسكان لبنانيين وعراقيين وأفغاناً في بيوت السوريين الذين شرّدهم.
ربما يستند الأسد في توقعاته الغربية، الى ما أسداه من خدمات ينتظر أن يُكافأ عليها، ويمكن إجمالها في ثلاث:
أولاً، إنه يعلم يقيناً أن واشنطن لم تسعَ يوماً الى إسقاطه، بل إنها بذلت كل ما تستطيعه لمنع المعارضة من تشكيل تهديد حقيقي له أو لنظامه، سواء في تفاهمات كيري - لافروف أو في تفاهمات كيري - ظريف أو في تفاهمات أميركا - إسرائيل التي ألحّت فيها الأخيرة على حماية النظام وعدم تسليح المعارضة طالما أن الأسد يقوم بما يتوجب عليه حتى من دون أن يُطلب منه، بدءاً بتحويل الأزمة الى مواجهة مع الإرهاب، مروراً بتوريط إيران و «حزب الله» اللبناني واستنزافهما، ووصولاً الى توريط روسيا.
ثانياً، إن الأسد قدّم الى أميركا وإسرائيل هدية استراتيجية لا تقدّر بثمن، إذ استطاع في نظرهما أن يقدّم نموذجاً «عربياً» إجرامياً قلّد من جهة صدام حسين وتخطّاه بقدرته على نسج تحالفات تمكّنه من البقاء، كما قدّم من جهة أخرى كل المسوّغات اللازمة لـ «شرعنة» الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية أو على الأقل لإضعاف قضية الشعب الفلسطيني سواء بالنسبة الى حقوقه المشروعة أو لاعتبارها القضية العربية المركزية.
وثالثاً، إن مساهمة الأسد في إضعاف سورية الى حدّ تفكيكها، تمثّل للأميركيين والإسرائيليين ذروة توقعاتهم الاستراتيجية، إذ إنها تتيح لهم مراجعة خرائط الشرق الأوسط وإعادة تخليق العالم العربي وعلاقاته وتحالفاته. فالسقوط السوري والدور الإيراني فيه يقدّمان فرصاً لمدّ الاضطراب الى دول أخرى، واستغلال الصراع العربي - الإيراني لتعميم الاضطراب في المنطقة. ولعل هذا ما يشار إليه اليوم بـ «الموجة الثانية» من «الربيع العربي»، وإذا حصلت فلن تكون لها هذه المرة أي علاقة بطموحات الشعوب.
خلال السنوات الخمس من الحرب السورية، مرت ظروف كثيرة بدت وكأنها ستكون محورية، لكن في الواقع كانت فرصها المحورية قليلة. للمراقب من الخارج، كانت الحرب السورية مستنقعًا سوريًا، من يدخل إليه يتورط.
في الأشهر الماضية جرى تحول كبير في الساحة العسكرية السورية، ويبدو أن اللحظة الحاسمة تقترب. هذا لا يعني أن الحرب تشارف على نهايتها، إنما معركة كبرى تلوح في الأفق. معركة حلب سوف تكون محورية. منذ منتصف الشهر الماضي، يركز كل الذين استثمروا في هذه الحرب على هذه المدينة، التي أصبحت رمزًا لكل طرف. ففي 18 أكتوبر (تشرين الأول) تعرضت روسيا وحلفاؤها السوريون لضغوط من أجل التوقف عن الضربات الجوية على حلب، حيث قالت الحكومات الغربية إن تلك الغارات تقتل أعدادًا كبيرة من المدنيين، وهذا ما نفته موسكو رغم كثرة الضحايا.
لكن وقف الغارات الجوية لم يمنع الروس من توسيع وجودهم العسكري في البحر الأبيض المتوسط، فدفعوا بالسفن الحربية نحو سوريا، للروس الآن نحو 10 سفن بحرية قبالة الساحل السوري، وخلال الأسابيع الماضية أبحرت 8 سفن بحرية بقيادة حاملة الطائرات الروسية الوحيدة «الأدميرال كوزينتسوف». تدخل «كوزينتسوف» منطقة الشرق الأوسط وعلى متنها 15 طائرة مقاتلة، و10 طائرات هليكوبتر هجومية، وهذه إشارات لافتة للخطوات الروسية في «الحملة السورية».
من ناحية أخرى، وعلى الرغم من محاولات الفصائل المسلحة تحقيق تقدم على الأرض، فإن هناك احتمالاً كبيرًا بأن الروس وحلفاءهم السوريين سيؤمنون السيطرة الكاملة على حلب، قبل تنصيب الرئيس الأميركي الجديد. ومن المرجح أن ترفض موسكو أي محاولات من إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما أو من غيرها من اللاعبين الدوليين «المذعورين»، مثل الاتحاد الأوروبي، للتخفيف من حدة الأزمة. من هنا، فإن مستقبل سوريا سيكون مشكلة ستواجهها من اليوم الأول رئاسة دونالد ترامب.
يتمتع النظام السوري بميزة عسكرية مكَّنته من تحقيق إنجازات في الأسابيع الأخيرة. ومن الواضح أن روسيا وإيران وجميع حلفاء نظام بشار الأسد يستعدون لتكثيف الضغط على المعارضة المسلحة، لذلك، وفي ظل المناخ الحالي، تكتسب معركة حلب أهمية خاصة بالنسبة إلى النظام وحلفائه، لأنهم يدركون أن هزيمة تلك المعارضة ستحقق لهم مكتسبات تكتيكية واستراتيجية. إن السيطرة على حلب (في حين لا يزال يسيطر على دمشق ويتقدم في ضواحيها) تعني أن نظام الأسد حصّن قبضته مرة أخرى على المناطق الأساسية في غرب سوريا، بحيث يحصر المعارضين في إدلب فيحقق منطقة متلاصقة ومترابطة تحت سيطرته.
بقدر ما تعني هذه الإنجازات من الناحية المادية بالنسبة إلى سيطرة النظام، فإن هناك أيضًا تأثيرًا نفسيًا إن كان بالنسبة إلى المعارضة أو إلى النظام ومن يدعمه، وأيضًا بالنسبة إلى المجموعة الدولية التي عليها في نهاية المطاف أن تتعامل مع مجموعة مختلفة من القوى على أرض المعركة السياسية السورية، ومع ذلك كله لن يستطيع النظام التغلب على المعارضة في هذه المناطق، وسوف يحتاج إلى استثمار كثير من الموارد للحفاظ على هذه الإنجازات والاستفادة منها، وستكون قدرته على بسط سيطرته على مناطق أخرى محدودة بسبب القيود على الأرض.
معسكر المعارضة في حلب يقاتل، ويحاول الاستيلاء على غرب حلب، لكن ليس هناك أي احتمال حقيقي بأن الذين يقاتلون النظام قادرون على التمسك بحلب على المدى الطويل. بالنسبة إليهم، الحد الأقصى الذي يتطلعون إليه في هذه المعركة هو إنهاك النظام وشده مع حلفائه إلى معارك طويلة ودموية مع حماية أحيائهم المحاصرة. هذه الاستراتيجية تحقق لهم كسبًا، وتقوي موقفهم في المفاوضات النهائية حول مستقبل سوريا. هذا هو الهدف في أذهانهم، كما يتم لعب هذه اللعبة على المستوى الدولي.
فعلى الصعيد الدولي، واجه الأسطول الروسي عرقلة أوروبية عندما منعت الحكومة الإسبانية السفن المتوجهة إلى سوريا من الرسو في موانئها على البحر المتوسط للتزود بالوقود أو بالإمدادات الأخرى. وقال سيرغي شويغو وزير الدفاع الروسي، الأسبوع الماضي، إن هذا الرفض لم يؤثر على المهمة البحرية، لكن هذا يعكس وبلا شك التوتر الحالي بين القوى العظمى، فمنذ انهيار وقف إطلاق النار القصير الأمد، فشلت تلك القوى في إعادة إحيائه، ويتضاءل احتمال التوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار، وإلى استئناف العملية السياسية في سوريا، وتقول القوى العظمى إنها «تكافح» من أجل استئناف المفاوضات. وبدا شويغو مصابًا بخيبة عندما قال في الأول من هذا الشهر: «إن احتمالات البدء في عملية تفاوض والعودة إلى الحياة السلمية في سوريا تأجلت إلى أجل غير مسمى».
قد يكون بشار الأسد الوحيد غير المهتم بالحل السياسي، كما قال لصحيفة «صنداي تايمز»، يوم الأحد الماضي، إلا أن معظم اللاعبين الخارجيين لا يزالون مهتمين بالتوصل إلى حل سياسي للصراع في سوريا، لكن الحوار المتعلق بالحل يواجه طريقًا مسدودًا لأن مستقبل الأسد وراء ذلك. وفي حين يستمر هذا الجمود، وتركز الأطراف جهودها على القتال، فإن التعاون الوثيق بين الأطراف المؤيدة للنظام مثل روسيا وإيران سيتكثف، كون الأهداف مشتركة.
ومع ذلك، وعلى المدى البعيد، إذا ما عادت المفاوضات السياسية وتم إحراز تقدم كبير، فمن المرجح أن تتعمق الخلافات في الرأي لدى الأطراف الموالية للنظام. وفي حين أنه ليس لدى النظام السوري أي استعداد للمساومة على مستقبل بشار الأسد، فإن هذا لا يعني أن موسكو وطهران تشعران بالالتزام نفسه. وتذكر تحليلات أمنية أنه في حين أن العاصمتين تدعمان حاليًا نظام الأسد، فإن هذا الدعم لا يعني أنهما تريان أن استمرار سيطرته أمر لا مفر منه، بل إنهما ترغبان في الحفاظ على نظام سيخدم مصالحهما في سوريا، وبالتالي من المرجح أن توافقا على التخلي عنه في حال التسوية السياسية المناسبة التي تسمح لهما بمعبر للخروج من الأزمة الراهنة.
عودة إلى معركة حلب، تُظهِر أنها ستشكل تحديًا للشاغل الجديد للبيت الأبيض، فإذا قرر أنه لا خيار أمامه سوى البحث عن حل دبلوماسي في سوريا وفقًا للشروط الروسية، فإنه سيلحق ضررًا كبيرًا، في وقت مبكر جدًا، بمصداقية إدارته على الصعيد العالمي. أيضًا، إذا اختار الرد بكل قوة فقد تكون النتائج مزيدًا من الموت في سوريا، وخلافًا عميقًا مع موسكو قد يثقل على الدبلوماسية الأميركية لسنوات مقبلة.
بعض المعلقين يخشون من أن النزاع الدبلوماسي الحالي مع روسيا يخرج عن السيطرة. الأسبوع الماضي قال الجنرال البريطاني المتقاعد ديفيد ريتشاردز: «إن السبيل الوحيد لتخفيف الأزمة الإنسانية في حلب هو السماح للأسد بأن يكسب ويكسب بسرعة، ثم العمل مع روسيا للقضاء على ما يسمى (الدولة الإسلامية) في أماكن أخرى من سوريا».
دونالد ترامب اعتبر، الشهر الماضي، أن حلب سقطت، وهذا يعني أنه لن يلتفت إلى المعارضة، وربما قد يساعد على تجنب كارثة هناك بإقناع روسيا بالدفع إلى حل سلمي. على كل، فإن الإدارة الجديدة ستتجنب مواجهة مفتوحة مع روسيا في سوريا كي لا تقع في مستنقع شبيه بالمستنقع العراقي، وقد تعتمد توجه إدارة الرئيس ريتشارد نيكسون بالنسبة إلى فيتنام، بأن تهدد علنيًا بعمل عسكري في سوريا ضد روسيا، في حين ترسل سرًا إلى موسكو ودمشق بأنها على استعداد للتوصل إلى صفقة، إنما بعد أن تستعرض أمام العالم قوتها العسكرية.
إدارة أميركية برئاسة ترامب قد تحسب أنه يمكن لها أن تعتمد خدعة نيكسون في سوريا: على المدى القصير استعراض قوة عسكرية قبل السماح لدمشق بدعم روسي بأن تجنح إلى مفاوضات سلمية مع كل أطراف المعارضة السورية. وقد تعمد إلى ذلك من دون تردد، لأن الرأي العام الأميركي لا يمكن أن يكون انتخبها من أجل إيجاد حل سلمي في سوريا، أو من أجل التدخل عسكريًا هناك.
في أعقاب اللقاء المطول الذي جمع، في أنقرة، رئيس هيئة الأركان التركي، خلوصي أكار، ونظيره الأميركي، جوزيف دانفورد، وهو الاجتماع الثاني بينهما في أقل من شهر، اكتفت القيادات السياسة التركية بإعلان إبلاغها الضيف الأميركي بخطورة التنسيق الحاصل بين إدارته وحزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) المصنّف إرهابياً في تركيا. لكن التفاصيل حول طبيعة التفاهم الثنائي بعد أربع ساعات ونصف من المفاوضات، كشف عنها دانفورد، وأوجزها بما يلي:
تعزيز التنسيق القائم بين تركيا والتحالف الدولي على المدى الطويل، بهدف القضاء على تنظيم داعش في مدينة الرقة. تأكيد أن قوات تحرير الرقة يجب أن تكون من العرب السنّة، وليس من الأكراد، وأن الطرفين توصلا إلى قناعةٍ بشأن العمل المتواصل باتجاه إيجاد المكون الصحيح من القوات لعملية عملية تحرير الرقة. الاتفاق على أن لا تكون قوات سورية الديمقراطية التي تشكل الوحدات الكردية غالبيتها هي التي تدخل مدينة الرقة في الهجوم النهائي، وأن "قوات سورية الديمقراطية" لن تتدخل في إدارة شؤون المدينة.
وقال دانفورد إنّ زيارته أنقرة كانت مثمرة وبنّاءة، وأنه اتفق مع الأتراك على كيفية تخليص الرقة من داعش، وطريقة إدارة هذه المحافظة، على المدى البعيد، عقب تحريرها، لكن الجانب التركي يتعامل بحذر في الحديث عن التفاهم الذي تم، تحسباً لارتكاب أي خطأ، قد يحسب عليه في موقفه حيال حزب الاتحاد الديمقراطي، وسياسته السورية، خصوصاً وهو يستمع إلى الناطق باسم "قوات سورية الديموقراطية"، طلال سلو، يقول إنهم اتفقوا، بشكل نهائي، مع التحالف الدولي، على عدم وجود أي دور لتركيا، أو للفصائل المسلحة المتعاونة معها، في عملية تحرير الرقة.
الواضح، على ضوء المواقف الأميركية أخيراً، أن تركيا حصلت على ما تريد من ضماناتٍ أميركية، تطلق يدها في شمال سورية، لإكمال عملية درع الفرات، وقطع الطريق على محاولة الربط بين جرابلس وعفرين، في اتجاه دمج الكانتونات الكردية ببعضها. كما أنها (تركيا) حسمت، كما تشاء، مسألة دخول الجيش السوري الحر إلى منبج، وإعادة مقاتلي الحزب الديموقراطي الكردي إلى شرق نهر الفرات. وحصلت على الضوء الأخضر الأميركي، لتسريع عملية إخراج قوات "داعش" من مدينة الباب. والمضي في خطة وضع أسس المنطقة الآمنة، وتسهيل عودة اللاجئين السوريين إلى أراضيهم.
ويقول وزير الخارجية التركي، مولود شاووش أوغلو، إن إرسال قوات حزب الاتحاد الديمقراطي إلى الرقة، وهي التي لا تستمع إلى ما تقوله واشنطن في موضوع انسحابها من منبج، يفتح الطريق أمام أزمة أكبر في العلاقات التركية الأميركية، إذ لا تلتزم الوحدات الكردية، شريكة واشنطن وحليفتها، لا تلتزم بتعهداتها أمام الإدارة الأميركية نفسها، عندما ترى أنقرة أن ما تقوله الولايات المتحدة يعرقل مشروعها وخططها في شمال سورية. فأي نوع من التفاهمات هو؟ هل هو اتفاق خطي، أم شفهي محمي بوعود شخصية متبادلة بين القيادات العسكرية، ولا يلزم القيادات السياسية في البلدين، خصوصاً وأن أميركا تناقش المرحلة الانتقالية السياسية والدستورية الجديدة، ولا يمكن لإدارة أوباما أن تدخل في اتفاقية من هذا النوع قبيل المغادرة.
حلم أنصار المشروع الكردي في شمال سورية ممن ما زالوا يصفون أنفسهم بأنهم قوميون عرب دفعهم إلى الوقوف بارتباك أمام اللقاء العسكري التركي ـ الأميركي المطول الذي "أثار الفضول"، حول ما إذا كان الأميركيون يُخطّطون لصفقةٍ، بخصوص تسهيل الوصول التركي إلى مدينة الباب، في مقابل "تمهيد الطريق أمام الوحدات الكردية للوصول إلى الرقة"، مراهنين على أن من غير المستبعد أن يأتي دور الجيش السوري في إحدى هاتين المرحلتين، لدخول الرقة. فجاءهم الجواب من قائد الأركان الأميركي الذي قال إن تركيا عند موقفها في رفض أي دور لحزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي)، وتعترض على المشاركة في أية عملية يكون الحزب جزءاً منها. وإن أنقرة التي تحولت، مع انطلاق عمليتها العسكرية في شمال سورية، إلى مناور أساسي هناك، لم تقدم لحليفها الأميركي أية ضمانات يريدها، في إطار تنسيق ثنائي، تنضم إليه القوات الكردية لإطلاق عملية طرد داعش من الرقة.
يبدو أن التفاهم التركي الأميركي الأهم كان حول موضوع البحث عن قيادة قوات عربية سنية، تقود معركة الدخول إلى الرقة، تطرح معها سيناريو قديماً جديداً، وهو فتح الطريق أمام قوات "الجيش السوري الحر" للدخول إلى المدينة، بدعم ورعاية أميركيتين، ما يعني تضييقَ الخناق على قوات صالح مسلم (زعيم الاتحاد الديمقراطي)، ومحاصرته سياسياً وجغرافياً، أكثر فأكثر عبر الجنوب هذه المرّة، فهل تَستسلم الإدارة الأميركية لسيناريو تدمير حليفها المحلي الوحيد في سورية الذي جهّزته لدورٍ كبير هناك؟
لا يمكن تجاهل بعض الحقائق على هامش الاتفاق بين أكار ودانفورد أيضاً: مسألة إطلاق يد الجيش السوري الحرّ في الرقة، وإيصاله إليها بعد معركة الباب تحتاج إلى اصطفاف واسع للمعارضة السورية في الداخل والخارج وراءه، واللاعب الأول المعني هو الجيش الحر نفسه، المطالب بالتحرّك نحو صناعة المشهد السياسي والعسكري الجديد في سورية. كشف نجاح عملية درع الفرات وتقدمها اليومي نحو الباب عن فشل الطرح الأميركي أنّ قوات حماية الشعب الكردية هي الوحيدة التي تقاتل "داعش"، وأنها بمفردها القادرة على دحره. و"داعش" ستقاتل في الرقة (إذا ما قرّرت القتال)، ليس من أجل الانتصار والبقاء في المدينة، بل من أجل تأجيج الخلافات بين القوى والأطراف المحلية والإقليمية.
ويقول وزير الدفاع التركي، فكري إيشيق، إنّ جيش بلاده سيتقدم إلى كلّ مكان ضروري لحماية الأمن التركي. تركيا تواصل حشد مئات من القطع الحربية الثقيلة على حدودها مع سورية والعراق، لأنها تعرف أن الحرب المعلنة ضد داعش قد تتحوّل إلى مواجهات عرقية دينية، تهدد الديمغرافيا والجغرافيا، ليس في البلدين فقط، بل داخل تركيا نفسها التي تقول إنّها أفشلت مشروع صالح مسلم في شمال سورية، لكنه لا يزال يساوم بعضهم على دمج نفط شمال سورية بشمال العراق، بعد توجيه الضربة القاضية لرئيس إقليم كردستان العراق، مسعود البرزاني، والعمل على حماية مشروع الفدراليات، ليكون لأكراد المنطقة حصتهم فيها.
ستبقى مشكلة تركيا الأهم في محاولة مفاوضة واشنطن وموسكو في الوقت نفسه على ملفات إقليمية كثيرة، قد تنعكس عليها، وتتركها خارج المعادلات، إذا ما أخطأت في التقدير والمخاطرة. لكن، يبدو أن الرئيس التركي قبل المغامرة والتحدي والإصغاء إلى ما تقوله موسكو أيضاً التي قدمت أكثر من خدمة للأتراك في الآونة الأخيرة. وكان رئيس الوزراء التركي، بن علي يلدريم، قد دعا إلى عدم الاستغراب إن حصلت تطوّرات مهمة في الأزمة السورية في الأشهر الستة المقبلة.
وكان كلام يلدريم قبل زيارة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، روسيا ولقائه نظيره فلاديمير بوتين، ومناقشة الأزمة السورية معه. وفيما تحدث يلدريم عن مفاجأة محتمَلة في سورية، فإن القوات الكردية تواصل، بالتنسيق مع الإدارة الأميركية، السيطرة على مزيد من الأراضي شرقاً وشمالاً، فأيّ مشروعٍ سيفوز، بعدما تعثّر التفاهم الأميركي الروسي في سورية؟
فاز مرشح الحزب الجمهوري، دونالد ترامب، في الانتخابات الرئاسية الأميركية، ليصبح الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة، وجاء فوزه تاريخياً، ومخالفاً لمعظم التوقعات واستطلاعات الرأي، ومسجلاً سابقةً، تتمثل في وصول شخص من خارج المؤسسة الحزبية الأميركية، لأول مرّة، إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة، بعد سباق انتخابي محموم، حظي باهتمام ومتابعة الملايين، حتى كاد مشهد الانتخابات الأميركية يحتكر المتابعة الإعلامية، وخصوصاً في منطقتنا العربية، نظراً لأن نتيجتها ستترك آثاراً على مسار الأوضاع فيها، وعلى ملفاتها الساخنة الكثيرة التي يتوقف مآلها، إلى حدّ بعيد، وخلال السنوات المقبلة، على طريقة تعامل الإدارة الجديدة معها.
ويأتي فوز ترامب بعد حملة انتخابية، تميزت بحدّتها وبخروجها عن المألوف والتقليدي، استخدمت فيها كل الوسائل المتاحة والممكنة لدى كل من هيلاري كلينتون التي تنافست على أمل أن تصبح أول سيدة في منصب الرئاسة، في وجه دونالد ترامب القادم من عالم المال والأعمال، والبعيد عن مزاولة السياسة بالشكل الحزبي التقليدي، الأمر الذي كشف خللاً كبيراً في الحزبية الأميركية، فيما بدت العملية الانتخابية وكأنها صراع محموم، وصلت فيه حمّى المنافسة إلى حدّ جعل كلاً منهما يستند إلى رؤيةٍ تسعى إلى الانتصار بأي ثمن، من خلال النيل من الخصم، بدءاً من تناول تاريخه الشخصي، وتناول سيرته، وصولاً إلى نبش أسراره والحفر في ماضيه.
ويجسّد وصول ترامب إلى البيت الأبيض ظاهرة، ويثير مخاوف وتوجسات، وسيكون له أثره الواسع على مناطق كثيرة من العالم، وخصوصاً منطقتنا العربية وملفاتها الساخنة، وعلى العلاقات الأميركية الروسية وسياسات واشنطن في العالم، حيث بنى ترامب ملامح سياساته على انتقاد سياسات هيلاري كلينتون ورفضها، بوصفها استمراراً لعهد الرئيس باراك أوباما الذي لم يسلم من انتقادات ترامب الكثيرة له، في مقابل الإشادة بمواقف الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، والإعجاب بها، غير أن أي رئيس أميركي لم يكن صاحب صلاحيات مطلقة، إذ على الرغم من أهمية دوره كفرد، إلا أن المؤسسات التقليدية الحاكمة، ومراكز رسم الاستراتيجيات والسياسات وصنعها، ستلتف عليه وتقيده بجملةٍ من الضوابط والمحدّدات، كونها تمثل قوىً مدنية وعسكرية واستخباراتية مؤثرة داخل الإدارة وخارجها.
وليس مبالغاً فيه القول إن فوز ترامب قد يغيّر المستقبل السياسي للولايات المتحدة وتوازناتها الاجتماعية، نظراً لأنه جاء وسط انقساماتٍ اجتماعية مهمة، بنيت على نزعات عنصرية وطبقية، وأسهمت في إحداث تغيّراتٍ في الخريطة الانتخابية التقليدية. لكن السؤال في هذا المجال: كيف سيتعامل السيد ترامب وإدارته مع ملفات منطقتنا الملتهبة في كل من سورية والعراق وليبيا واليمن وسواها، حيث ستكون هذه الملفات من أهم القضايا والتحدّيات التي ستواجه الإدارة الأميركية الجديدة، مع أن من المبكّر التكهن بكيفية التعامل مع ملفات المنطقة، وعلينا الانتظار لأشهر، إلا أن هذه الكيفية ستكون، على الأغلب، مختلفة كلياً عن تعامل الإدارة الأميركية السابقة، على الرغم من الضبابية التي تميزت بها مواقف ترامب في حملته الانتخابية، وهي مواقف وصفت بالاعتباطية، إلى جانب بهلوانية الأداء، لكنها بنيت على كراهية الآخر والعنصرية حيال المسلمين والملوَنين الأفارقة والأميركيين اللاتينيين والآسيويين الذين هدّد بطرد عشرة ملايين مهاجر غير قانوني منهم، وحرمانهم من العيش في الولايات المتحدة.
وإذا كانت هذه الانتخابات الرئاسية الأميركية قد كشفت انقساماً كبيراً في المجتمع الأميركي، امتد إلى مختلف تفاصيل هذا المجتمع، ونسيجه الاجتماعي، وبدا في صورة خلافات وصراعات، إلا أن ذلك يشير إلى تغير شعبي عميق حدث في المجتمع الأميركي، وبشكل لم تتمكّن معه هيلاري كلينتون من أن تصبح الرئيسة التي يلتئم حولها الأميركيون، كونها افتقدت الجاذبية والشعبية، إضافة إلى أن قسماً كبيراً منهم لم يثق بها، واعتبرها صناعة المؤسسة الحاكمة، وخصوصاً الشركات الكبرى المدنية والعسكرية، وبالتالي، فإن أميركا المنقسمة على نفسها ستزداد عداءً في ما بينها، مع فوز دونالد ترامب، المرشح الجمهوري رغم أنف الجمهوريين.
غير أن ترامب يمثل ظاهرةً نامية جديدة، تمثل الرجل الأميركي الأبيض الذي بنى خطابه على كراهية الآخر، والاحتجاج على وضع الولايات المتحدة الراهن، ويمكن تسمية هذه الظاهرة الجديدة، الترامبية (نسبة إلى ترامب)، وهي ليست وحيدة في العالم، إنما تحاكي ظاهرة صعود النزعات اليمينية المتطرّفة في أوروبا، والتي تجسّد إيديولوجيتها أحزاب اليمين وتياراته في بلدان أوروبية عديدة، لكن الظاهرة الترامبية هي الأكثر وضوحاً وصفاقةً، مقارنة بالنموذج الذي ينمو وينتشر بسرعة في بلدان الاتحاد الأوروبي التي أضحت فيها أحزاب اليمين تنمو وتعتاش على خطاب العداء للآخر، وخصوصاً العربي الإسلامي، وراحت تراكم مكاسبها الانتخابية على حساب معاناته، ليبلغ هذا الخطاب ذروته في خطاب ترامب العدائي خلال حملته الانتخابية.
وإذا كانت الظاهرة الترامبية ستلقي بأثرها العميق على الديمقراطية التمثيلية الأميركية، إلا أن هناك مخاوف وتوجسات من إرهاصاتها وتأثيراتها، على الرغم من أن دونالد ترامب لجأ في خطاب الفوز (أو الانتصار) إلى لهجةٍ تصالحية، ربما بناءً على نصائح مساعديه، لكي يخفي هوسه بعداء الآخر، وإلى القول إنه سيسعى إلى "تحقيق شراكاتٍ، وليس صراعات، مع دول العالم"، كي يخفف من المخاوف حيال مواقفه من المسائل الدولية، والتي بناها على مبدأ تصنيفٍ، يرجعها إلى ثنائية الأبيض والأسود، وما يستتبع ذلك من تفكيك ما هو قائم في النظام الدولي الراهن، وإعادة صياغتها وفق رؤيةٍ شعبويةٍ، بدءاً من العلاقة مع الأعضاء في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، والعلاقة مع الأمم المتحدة، بذريعة التخفف من الأعباء المالية، وصولاً إلى علاقاته مع دول الخليج العربي ودول أميركا اللاتينية وغيرها، ولعل إعجابه بشخصية الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، يرجع بالأساس إلى القاسم الشعبوي بينهما، الأمر الذي قد تكون له انعكاسات خطيرة من خلال إطلاق يد بوتين في الملف السوري، وزيادة التغول الروسي في الدم السوري. لكن في المقابل، لم يكن النهج الذي اتبعه باراك أوباما حيال الكارثة السورية في صالح الشعب السوري وثورته، وخصوصاً بعد أن ارتكب النظام مجزرة الكيماوي، حيث عملت إدارة أوباما على إدارة الصراع في سورية وعليها، بما يطيل أمده، مع العمل على إطالة أمد حكم الأسد وبقائه في السلطة، في تركيزها على أولوية محاربة الإرهاب، متمثلاً بإرهاب تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وجبهة فتح الشام (جبهة النصرة سابقاً)، غاضّة النظر على إرهاب النظام ومليشيات ملالي إيران وروسيا، إضافة إلى عدم سماحها لأي قوة إقليمية بتزويد مسلحي المعارضة السورية بأي سلاحٍ نوعي، وخصوصاً مضادات الطيران. والأدهى من ذلك أن إدارة أوباما حاولت تحويل وجهة صراع السوريين مع النظام، وإلحاقه في الحرب الدولية التي تخوضها ضد ما تسميه "الإرهاب"، الأمر الذي أفضى إلى تعاميها وعدم اكتراثها بالقتل والتدمير، وبطموحات ثورة السوريين في الخلاص من الظلم الاستبداد.
قد يكون من المبكّر استشراف النهج الذي سيتبعه دونالد ترامب حيال الصراع في سورية وسواها، لأن الأمر لا يتعلق بالمواقف خلال الحملة الانتخابية التي عادة ما تتغيّر، بعد وصول المرشح إلى منصب الرئاسة، بل يتعلق بالإدارة التي سيختار الرئيس الجديد أعضاءها في البيت الأبيض والبنتاغون والخارجية ومختلف الإدارات. ولكن، هناك توجس من أن ندخل مرحلة جديدة في الشكل، لكنها، من حيث المضمون، مشابهة سابقتها، خصوصاً أن ترامب وعد بأن تكون أولويته هي "التخلص من داعش"، قبل الحديث عن سورية، واعتبر مصير الأسد ثانوياً.
فاز "ترامب"، وأذهل المحللين، وفاجئ استطلاعات الرأي، وراحت الأقلام تعتصر المداد لتفسر هذه النتيجة غير المتوقعة، وتوالت ردود الأفعال ما بين مندّد ومرحّب، لكن على كل الأحوال فقد أضحت رئاسته للولايات المتحدة أمراً واقعاً، ولذا فلا عجب ان اهتمت كثير من الحكومات والشعوب بهذا الحدث، نظراً لما قد يترتب عليه من تغير في سياسة أكبر وأقوى دولة في العالم، بالموازين الدولية.
ما يهمنا في الموضوع هو تخوّف كثير من الشعوب، ومنها الشعب السوري، من تصريحات "ترامب" التي رافقت حملته الانتخابية، والتي حفلت بالتهديد والوعيد بتغيير السياسات الأمريكية تجاه الحلفاء، وإلغاء الاتفاقيات، والتخلي عن الالتزامات.
ونحن هنا لسنا في صدد قراءة تفاؤلية مثالية لوصول "ترامب" للحكم، فهذا مستبعد وغير واقعي، لكننا أيضاً لسنا في طور الاستسلام للقراءة اليائسة البائسة التي صدّقت كل ما تم ترويجه خلال الحملة الانتخابية، عن مشاريع "ترامب" لما بعد الفوز، مما يمكن أن يقضي على ثورتنا، ويهدم آمال شعوبنا العربية والإسلامية.
المتابع للحملات الانتخابية عادة، يرى الفارق الشاسع بين ما يتم إطلاقه من وعود، وبين ما يتم تحقيقه من إنجازات، وكثيراً ما تغنى المرشحون بمشاريع وإنجازات تبهر الناخبين، تبين فيما بعد أنها أحلام سيقت لكسب الأصوات.
لكن اللافت هذه المرة في تصريحات "ترامب" أنه أضاف للوعود التقليدية التي تتحدث عن تحسين ظروف العمل، وخفض نسبة البطالة، وتحسين صورة البلاد، وزيادة الدخل وغيرها، تصريحات أثارت الجدل والتخوف عند كثير من الدول والشعوب، منها داخلية تتعلق بمنع دخول المسلمين إلى بلاده، وبناء جدار عازل على حدود الولايات المتحدة مع المكسيك، لمنع وصول أي مهاجر إلى الولايات المتحدة، وترحيل المهاجرين غير الشرعيين، ومنها ما يتعلق بالسياسة الخارجية كجعل دول الخليج العربي تدفع أموالا مقابل تقديم الحماية الأمريكية لها، والقضاء على حزب الله اللبناني، والتهديد بإلغاء الاتفاق النووي مع إيران وغير ذلك.
وبالنظر إلى ما تتطلبه هذه التصريحات كي تصبح واقعاً ملموساً، فإن المنطق يرى فيها تصادماً وتناقضاً واضحاً، فلا يمكن لأي دولة أن تحسّن صورتها في العالم عن طريق إذلال الدول الأخرى والانتقاص منها والتعالي عليها، كما لا يمكن التخلي عن التحالفات والشراكات التي هي سمة الدول المتطورة ورأسمال دخلها القومي، ولا يمكن الدخول في صراع مع إيران دون التحالف مع الدول العربية، والخليجية منها خاصة، التي يتم تهديدها بدفع أموال لحمايتها، كما أن أعادة عظمة أمريكا لا يكون بترك المجال لروسيا كي تعيد أمجادها في العالم على حساب نفوذ أمريكا.
كما أن هذه السياسات المفصلية لا يمكن أن تكون متروكة لأي رئيس منتخب في دولة مؤسسات، إنما تساهم في صناعتها مؤسسات وهيئات مهمةٌ مثل: مجلس العلاقات الخارجية ومجلس الأمن القومي والبنتاغون والمخابرات ومجموعات الضغط وغيرها..
وعليه فيمكن لنا قراءة هذه التصريحات على أنها استعراضات انتخابية، سرعان ما ستصطدم بالواقع، لتبدأ بالتلاشي والتغير، ولا يبقى منها إلا ما هو مقرر في ثوابت السياسة الأمريكية المعروفة، مع بعض التعديلات المتضمنة لقرارات قد تكون مؤجلة لم يمتلك سلفه القوة لإنجازها في آخر ولايته.
وقد بدأت بوادر هذا التغير عقب فوزه مباشرة، فقد ظهر في خطاب الفوز مختلفاً عن الخطابات السابقة، حيث خلا خطابه من العنصرية والتهديدات، كما تم مسح كلامه الخاص بمنع المسلمين من دخول أمريكا، فيما برر مستشاره "وليد فارس" تلك التصريحات السابقة، بأنها قد فُهمت بشكل خاطئ، فهو قد قصد منع دخول الجهاديين والتكفيريين.
ولن يكون الملف السوري مختلفاً عن الملفات الأخرى، فالمتابع للتصريحات التي أطلقها بشأن الملف السوري، يرى فيها تطميناً للأسد بأنه لن يشن حرباً عليه، وأنه سيركز جهوده على محاربة تنظيم الدولة، كما أنه قدم انفتاحاً ملحوظاً تجاه روسيا حليفة الأسد، والتي تقدم له دعماً كبيراً عبر غطائها الجوي الذي يتركز على قصف الفصائل الثورية.
لكن في ذات الوقت يرى فيها تهديداً لإيران، وحزب الله اللبناني حلفاء الأسد أيضاً، والذين يقدمون له الدعم الكبير بالميليشيات الطائفية التي تقاتل على الأرض ضد الثوار.
فيما يضيف موافقته ودعمه لإنشاء منطقة آمنة في سورية، تتحمل الدول الخليجية وألمانيا تكلفتها، لحماية اللاجئين.
لكن من المرجح أن يكون "ترامب" منشغلاً في المراحل الأولى من توليه الرئاسة للملفات الداخلية، وألا يحدث فارقاً كبيراً في إدارة الملفات الخارجية، التي تتحكم فيها وزارة الدفاع والأمن القومي.
ويمكن لنا أن نقرأ ذلك في تصريحات وليد فارس مستشار "ترامب" التي قال فيها: "إن موقف الإدارة الأمريكية الجديدة من حزب الله لن يختلف عن موقف الإدارة الحالية، وأضاف :"لنكن واقعيين، ترامب لن يعمل من يومه الأول من عهده على الملف اللبناني، ولكن سيعمل على تسليط الضوء على الشرق الأوسط وعلى لبنان وسورية".
لكن هذا الانشغال هو غاية ما يطمح إليه "بوتين" من أجل المضي في تصعيده تجاه فصائل الثورة السورية، خاصة في مدينة حلب، مستغلاً انصراف الإعلام والرأي العام الدولي، لمتابعة نتائج ما أفرزه فوز "ترامب" في الانتخابات، ومستفيداً من وعود تحسين العلاقات مع أمريكا التي كان يرى في إدارتها السابقة شريكاً غير متعاون في القضاء على الإرهاب الذي يشمل فصائل الثورة في نظره.
يرى بعض السوريين أن فوز "كلينتون" ربما يكون الأفضل، نظراً لتصريحاتها ضد الأسد، وانتقادها لتعاطي "أوباما" اللين معه، لكن في ذات الوقت تصطدم أمنياتهم بواقع مغاير، حيث لم تقدم هذه الإدارة عبر "أوباما" و "كلينتون" أي دعم حقيقي لصالح الثورة، فهي من منعت إقامة المنطقة العازلة، وحالت دون تزويد الثوار بالأسلحة النوعية المضادة للطائرات، وعلى الرغم من تصريحاتها المتكررة عن فقدان الأسد للشرعية، والخطوط الحمراء المتكررة له، فإنها لم تطبق على الأرض سوى إعطائه المهلة تلو الأخرى للتمادي في قتل السوريين، رغم تجاوزه كل تلك الخطوط الحمراء بما فيها استخدام الكيماوي.
مما يجعل غالبية السوريين غير مهتمين لفوز "ترامب" أو "كلينتون" فهم يرون فيهما السيء والأسوأ، ولعل عبارة: "فاز أبو لهب وخسرت حمالة الحطب" هي أكثر ما يعبر عن إحباط الشعب من نتائج هذه الانتخابات على كلا الحالتين.
الخلاصة: من المبكر الحديث عن تغير جذري في سياسة الولايات المتحدة الأمريكية تجاه سورية، بعد فوز "ترامب"، لأن تصريحاته التي أطلقها ضمن حملته الانتخابية تفتقد إلى الواقعية، وليس بمقدوره أن يتجاوز فيها ما يتعارض مع السياسات العامة لأمريكا، وما يقرره الكونغرس ووزارة الدفاع ومجلس الأمن القومي وغيرهم من صانعي القرار الأمريكي وراسمي سياساته الخارجية، لذا فإن هذه التصريحات ستكون عرضة لكثير من التغيير والتعديل والتصويب، كما أنه إن نفذها كاملة فإنها ستكون مضرّة بالثورة من وجه إطلاق يد روسيا بشكل أكبر في سورية، ومفيدة من وجه آخر بكفّ يد إيران وحزب الله عن مؤازرة النظام.
يبقى أن نذكّر أن هذا الشعب السوري، قد وطّن نفسه منذ بداية الثورة، على كل الاحتمالات، وعاين الخذلان الدولي والتآمر عليه بأبشع صوره، لذا فلن تضيف له هذه الحادثة "فوز ترامب" كثير قلق، لكن التحدي هو أن تنجح القيادات العسكرية والنخب السياسية بالوصول إلى الجسم الثوري المنشود، الذي يضم القيادة العسكرية والسياسية الواحدة، التي يمكن من خلالها مخاطبة العالم بشكل يليق بتضحيات هذا الشعب الثائر، وأن تنجح الفصائل بتغيير الواقع الميداني بشكل عاجل بما يغير طريقة التعاطي الدولي معها، وفي هذا الإطار لا بد لها من توثيق التعاون مع الدول الداعمة للثورة وعلى رأسها تركيا وقطر والسعودية، حيث لن يمكن لأي إدارة أمريكية أن تفرّط بعلاقتها بهذه الدول التي تشكل ثقلاً لا يمكن تجاوزه في أي قرار يتعلق بسورية.
بعد بدء الحملة العراقية الكبيرة لإعادة السيطرة على مدينة الموصل، أعلنت قوات «سوريا الديمقراطية» (وهي جهة مؤلفة بشكل رئيسي من أكراد موالين لحزب «الاتحاد الديمقراطي» ومدعومة من أمريكا) أنها بدأت قبل أيام حملة موازية في سوريا للسيطرة على مدينة الرقّة، المدينة الكبرى الثانية الخاضعة لحكم تنظيم «الدولة الإسلامية» منذ نيسان (ابريل) 2013، وهي خطوة تعلن القوى المشاركة فيها أن هدفها هو القضاء على التنظيم المتطرف في معقليه الأساسيين.
وخلال هذا الوقت الذي تنشغل فيه قوّات التحالف الغربيّ بالتعامل مع ما تعتبره الخطر الأساسي عليها تتحضّر قوّات روسيّة كبيرة جوّية وبرّية تمّ تدعيمها بقوّة ناريّة بحرية، مع حشود كبيرة من حلفائها في النظام السوري والميليشيات الشيعية التابعة لإيران، لهجوم فاصل للسيطرة على مدينة حلب وقد أعطت يوم الجمعة المقبل كموعد نهائي لخروج عناصر المعارضة السورية قبل بدء هجومها الأخير المذكور بينما تنخرط قوات النظام وحلفاؤه عملياً في صراع لانتزاع الأراضي التي حررتها المعارضة مؤخرا.
بين هذه المعارك الثلاث قواسم مشتركة، ومنها أن هذه القوى الكبرى التي تقود هذه المعارك تسعى لتقرير مصير المنطقة العربية بمعزل عن مصالح شعوبها (وبالأحرى بالضد من مصالح شعوبها)، وأنها تستخدم القوى المتنازعة الموجودة على الأرض لتنفيذ أجنداتها أوّلاً.
على اختلافها الظاهري، فإن هذه القوى العالمية متفقة على بقاء الأنظمة العربية التي كانت سبباً في كل هذه الكوارث الحاصلة حاليّاً، والخلاف، في الوضع السوري تحديداً، صار يدور حول فترة بقاء بشار الأسد، حيث تريد روسيا ان تثبّته في موقعه رغم مسؤوليته عن الدمار الهائل الذي تعرض له البلد، بينما تريد الادارة الحالية للولايات المتحدة الأمريكية أن يخرج من السلطة بعد فترة معينة يتّفق عليها، ومن المتوقع أن يزول هذا الخلاف وأن يتجه بقوة لصالح وجهة النظر الروسية في حال فاز المرشح الجمهوري دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة الأمريكية اليوم.
يتعلق الخلاف المعلن بين موسكو وواشنطن حول التعاطي مع حلب بمفاعيل أسلوب روسيا ـ النظام السوري والحلفاء المحسوبين على إيران في تدمير المدينة على رؤوس ساكنيها على طريقة غروزني الشيشانية.
تتوقع واشنطن أن يؤدي عدد القتلى والنازحين الكبير لغضب حلفائها من الدول العربية والإسلامية، وخصوصا منها تلك التي انعكس عليها الاستعصاء السوري بعبء اللاجئين الكبير واحساس شعوبها كافة بالمظلومية، ومخاطر تصاعد التطرف، وتضاف إلى كل ذلك الكلفة السياسية العالمية للتخلّي النهائي عن السوريين (وقبلهم العراقيين) ومشروعهم السياسي للخلاص من الطغيان الذي دفعوا ثمنه مئات آلاف القتلى وملايين اللاجئين وعشرات المدن التي تحوّلت إلى أنقاض، وهي كلفة ستكون باهظة على العالم أجمع لأنها ستعني انتهاء الأمل بالتغيير في العالم العربي واستتباب الأمور لإسرائيل التي ستستفرد بالفلسطينيين، ولإيران التي ستفرض نفوذها الطائفيّ على المشرق، وللطغاة الذين سيعتبرون الاتفاق الروسي ـ الأمريكي رخصة بالاستفحال في حكم الشعوب بالنار والحديد.
إضافة إلى كل ذلك، فليس من المستبعد، على ضوء الخطّ الذي تنتهجه أمريكا في العراق وسوريا أن يتم تأسيس دويلة كرديّة جديدة بين سوريا والعراق يسيطر عليها حزب العمال الكردستاني من جبال قنديل العراقية أو من داخل تركيا، كقاعدة خلفية للضغط على تركيا، كما للتأثير على دول المنطقة وتشكيل جسر آخر يربط شرق آسيا بالبحر المتوسط عبر إسرائيل، وحصول تغييرات ديمغرافية كبيرة نتيجة لجوء ونزوح ملايين العرب السنّة من مدنهم ومناطقهم، وهو أمر يتشكل بوضوح في كل المدن والقرى المغلوبة على امرها والمهجر سكانها في العراق وسوريا.
في مناسبات عديدة سابقة، وبصيغ كثيرة ذات معنى واحد، أفصح قادة إيران، على مختلف مراتبهم السياسية والعسكرية، عن أطماعهم التوسعية في المشرق العربي، وأعربوا مراراً عن أشواقهم الإمبراطورية، باستعادة ممتلكات فارس، العقارية منها والتاريخية، في الديار العربية المستباحة، ناهيك عن تحقيق زعامتهم العالم الإسلامي، ضمن خطة عمل متدرجة، تبلغ حداً جنونياً بالسيطرة على أقدس المقدسات الإسلامية في مكة المكرمة والمدينة المنورة، وتحويلها إلى مزارات شيعية.
ولا يعوز الباحث بذل جهد كبير، ليقف بنفسه على جوهر النوايا الإيرانية التي دخلت في طور التحقق العملي، منذ الغزو الأميركي للعراق عام 2003، وما أسفر عنه من خلل فادح في ميزان القوى الإقليمية، ومن ثم تسليم العراق على طبقٍ من فضةٍ لدولة الولي الفقيه الذي صار رب البيت في بلاد الرافدين، على الرغم من بعض الحضور الأميركي الموظف في خدمة المدّ الإيراني، بمنطق المجريات السياسية والعسكرية القائمة على الأرض.
وفيما كان آيات الله يملون أنفسهم، جهاراً نهاراً، على مفاصل الدولة في العراق، ويحوّلونها إلى مجرد دولةٍ على الورق، جاءت التطورات السورية المتفاقمة منذ أزيد من خمس سنوات، لتعطي المد الإيراني قوة زخم جديدة، وتمنح مشروع بعث الإمبراطورية البائدة فرصة أخرى متاحة، كي تبسط طهران يدها على ثاني أهم دولة عربية في الجناح الآسيوي، وتعطي لصلة قرابتها الملتبسة مع حاكم دمشق مضموناً مذهبياً على رؤوس الأشهاد.
ولعل آخر تجليات هذا المشروع التوسعي الذي يسابق نفسه بنفسه، خشية وقوع متغيراتٍ ليست في الحسبان، هو السعي إلى فتح ممر جغرافي عريض (خط حرير معاصر) يصل بين شمالي غربي العراق وشمال شرق سورية، ومنه إلى البحر الأبيض المتوسط، على نحو يُحدث ترابطاً أرضياً ممتداً من طهران وقم إلى بغداد ودمشق، ومنها إلى بيروت، وربما غزة فيما بعد، بكل ما يعنيه هذا الامتداد من عبثٍ بالخرائط والديمغرافيا والتوازنات التي تواصل انهياراتها المدوية.
على خلفية هذه النوايا الإيرانية التي لم تعد مضمرة، سارع قادة الحشد الشعبي الشيعي العراقي، وهم في طريقهم إلى مدينة تلعفر المحاددة بادية الشام، إلى الإعلان عن عزمهم التوجه من هناك إلى الرقة وحلب بعد الانتهاء من حرب الموصل، ترجمة لنداء رجل إيران الأول في العراق، نوري المالكي: قادمون يا موصل، ويا حلب، ويا يمن، في إشارةٍ، لا تنقصها الصراحة الفظة، إلى خطة إيران التوسعية، وأهدافها في السيطرة على البر والممرات البحرية، وإجراء ما يلزم من هندسةٍ سكانيةٍ بأبعاد مذهبيةٍ بحتة.
بكلام آخر، يقول لسان حال إيران، يقول بلغة غير أعجمية: العراق وسورية جبهة واحدة، وبعد أن دخل العراق في معدة الولي الفقيه الواسعة، جاء دور سورية، وآن أوان ابتلاعها كلقمة واحدة، ما إن يتم التخلص من بعض أشواكها الصلدة، أي حسم المعركة في حلب، مقدمةً لا بد منها لكسب الحرب في سورية كلها، ومن ثم حمل روسيا على مغادرة بلاد الشام، عندما تضع الحرب أوزارها، وتفقد موسكو كل مبرّرات وجودها الجوي في جغرافيا تمسك الأيدي الإيرانية فيها بالزمام، وتقبض على قيادتها السياسية بإحكام.
ومع أن هناك تحدّياتٍ موضوعية، يصعب على إيران جبهها في المدى المنظور، فإن نظام الملالي يملك، من دون ريب، نفساً طويلاً، طول نفس حائكي السجاد التبريزي، فلا يبدو في عجلةٍ من أمره، لتحقيق مشروعه بعيد المدى، طالما أنه يستميل، بسهولةٍ مفرطةٍ، أفئدة قادة الأقليات الشيعية المنتشرة في أغلبية بلدان المشرق العربي، ويدفع بالرعاع أمامه، وينجح في تقويض الدول من داخلها، ويستنزفها من الداخل، من دون أن يطلق عليها بنفسه طلقة واحدة، تماماً على نحو ما يجري في اليمن منذ نحو عشرين شهراً.
ومن مفارقاتٍ فارقة في هذه المرحلة، لا يعتمد المشروع التوسعي الإيراني فقط على الأقليات المذهبية المنتشرة في العالم العربي، للتحقق تدريجياً، وإنما يعتمد أيضاَ على مصادفاتٍ تاريخية نادرة، لتسريع إنفاذ السهام الإيرانية المسمومة في الجسد العربي المثخن بالجراح، في مقدمتها تكالب الغرب والشرق ضد شعوب هذه المنطقة على خلفية الحرب ضد الإرهاب الذي بات المبرّر الموضوعي لكل هذه التدخلات والاجتياحات والحروب، الجارية حصراً في المدن والمناطق السنية.
وفي التحليل الأخير، كل غارةٍ جويةٍ، أو طلقة مدفعية، تقصف بها أميركا تنظيم الدولة الإسلامية في الموصل أو الرقة أو الأنبار، وكل صاروخ غير ذكي تستهدف به روسيا قوى المعارضة السورية المسلحة في حلب وإدلب وحمص، يصبان معاً لصالح مشروع إيران، المتربصة كالضبع، بما يتبقى من أطراف فريسة شبعت منها الكواسر، وعافتها نفوس الضواري الجائعة، وذلك على نحو ما ينطق به الحال في سورية والعراق، اللذين تراهما طهران امتداداً طبيعياً لها، أو قل مجرد جبهةٍ واحدةٍ بقوة الأمر الواقع.
غير أنه إذا كان صحيحاً أن الرياح لا تزال تهب بصورة مواتيةٍ لأشرعة السفينة الإيرانية حتى هذه اللحظة، فمن الصحيح أيضاً أن البحار في هذه المنطقة عميقة جداً، ومليئة بالحوّامات المائية المستترة، أي أن على إيران أن تفرغ، وحلفاؤها الموضوعيون، تماماً من مهمة القضاء على تنظيم الدولة، الذي سيظلّ كالذئب متربصاً على طريق حريرها إلى البحر المتوسط، وأن تقهر الثورة السورية التي لا سبيل إلى القضاء عليها في المدى المنظور، وأن تأمن جانب تركيا المتحفزة لاقتطاع حصتها على التخوم، بما يقطع صلة الوصل الإيرانية المشتهاة هذه، ناهيك عن ضرورة تفريغ خزان العراق من عنفه الدهري الفائض عن حدوده الجغرافية.
منذ أكثر من عام والأطراف الراعية والداعمة للنظام السوري تعتبر معركة حلب معركتها الحاسمة. هذا ما أكدّه الروس والإيرانيون وأتباعهم بأقوالهم وأفعالهم التي ترجمت واقعاً على الأرض عبر قصف المستشفيات والمدارس والأحياء السكنية. وهدف هؤلاء من معركة حلب فرض الاستسلام على المدافعين عن المدينة، وعلى السوريين جميعاً.
ومع أن الحجة الروسية في هذا المجال تقوم على زعم مفاده صعوبة التمييز بين الإرهابيين والمعتدلين من المقاتلين، تؤكد الوقائع والقرائن أن تلامذة حلب ومرضاها وأطفالها ونساءها كلهم ارهابيون في المنظور الروسي، طالما أنهم يعارضون حكم بشار الأسد. فالهدف هو ارغام السوريين على القبول بالحل الروسي الذي ينص صراحة على إبقاء نظام بشار، وتحميل الشعب السوري مسؤولية كل القتل والتدمير الذي ساد في سورية على مدى نحو ستة أعوام.
ولعله من نافل القول أن نذكر هنا أن ما تتعرض له حلب من تدمير لعمرانها، وقتل وتهجير لناسها، ما كان له أن يكون لولا الموقف الأميركي الانسحابي السلبي، الذي اكتفى بالهرولة وراء سراب الحل السياسي مع الروس، الذين كانوا قد حزموا أمرهم إلى جانب النظام مع اللحظة الأولى لانطلاقة الثورة، بل حتى في المرحلة التي سبقتها.
فقد أثّر الموقف الأميركي هذا في الموقف التركي، حتى وجد صنّاعه أنفسهم من دون أي دعم أو سند من جانب حلفائهم الأطلسيين في مواجهة الروس الذين وجدوا طرق المنطقة سالكة أمامهم، فاستغلّوا الفرصة لعرض قدراتهم العسكرية، وذلك بهدف اثبات الوجود كقوة دولية عظمى، والدخول مع دول المنطقة في صفقات تجارية تعقدها معهم هذه الأخيرة من باب دفع الشر، والاستعداد للتحدّيات الجديدة.
والأمر الذي يستوقف أكثر من غيره في الموضوع السوري هو التوافق الأميركي - الروسي على أمور ثلاثة محورية هي:
أولاً - غض النظر عن الوجود الإيراني والميليشيات المسلحة المرتبطة به في سورية.
ثانياً- اعتبار محاربة الإرهاب أولوية من دون البحث عن المقدمات التي مهّدت لهذا الإرهاب، وسوّقته، وبنت عليه.
ثالثاً- اعتماد الموقف الضبابي من موضوع مستقبل بشار الأسد السياسي.
هذا على رغم صدور جملة تصريحات أميركية تحاول إظهار التمايز عن الموقف الروسي، ولكنها هي الأخرى عائمة، هلامية، لا تشكّل أرضية لموقف صلب واضح المعالم، يمكن أن يؤخذ في الحسبان.
ومع الإعلان عن التوافق الروسي - الأميركي بعد اللقاء الماراتوني بين كيري ولافروف في 9 أيلول (سبتمبر) المنصرم بخصوص إعلان الهدنة في حلب، وإدخال المساعدات الإنسانية، كان من الواضح وجود نَفَس ارتيابي لدى العسكريين والأمنيين الأميركيين في شأن حدود صدقية الروس، وإمكانية التعاون الاستخباراتي والعسكري معهم. وقد ثبتت مشروعية تلك الهواجس بعد إقدام الروس على قصف المستشفيات وقوافل المساعدات والأحياء السكنية بعنف وحقد لافتين.
حلب ليست مدينة عادية تدخل دائرة النسيان بعد تدميرها وتجاوزها. فقد امتلكت عبر مختلف العصور التاريخية القديمة منها والوسيطة والحديثة دوراً محورياً في التحالفات والحروب والانتصارات. كما كانت مدينة التجارة والصناعة. وهي العاصمة الاقتصادية لسورية كلها، والعاصمة الفعلية للشمال السوري.
ويخطئ كثيراً كل من يتجاهل دور حلب في تاريخ المشرق، ورمزيتها الاستثنائية لدى شعوب المنطقة بعامة، والشعب السوري على وجه التخصيص. وأي تغيير فعلي لوضعية المدينة وهويتها عبر السيطرة العسكرية عليها، يُفهم منه وجود إرادة دولية - إقليمية بإحداث تغييرات كبرى في المنطقة.
النظام الإيراني يريد حسم الأمور سريعاً، لأنه يعتبر أن لحظته التاريخية قد حلت، وعليه استغلالها قبل فوات الأوان. ولكن يبدو أن الأمر ليس كذلك بالنسبة إلى الروس. فهم، على رغم اندفاعهم الصلف، يدركون أن إسقاط حلب بقوة القصف الإستراتيجي سيضعهم أمام مأزق كبير يتمثّل في الخيارين الصعبين:
هل سيتولون بأنفسهم إدارة المدينة؟ وهذا ما سيكلّفهم الكثير، ويستنزف طاقاتهم بمستويات لا يتحملونها.
أم سيسلّمون المدينة إلى الإيرانيين تحت يافطة النظام السوري المعترف به دولياً؟ وحيئذٍ يكونون قد أسسوا لشرخ إقليمي غير مسبوق في تاريخ المنطقة الحديث، شرخ ستكون له تداعيات كبرى على المستويين الإقليمي والدولي.
فتركيا لا يمكن لها في ظل أي ظرف، وتحت وطأة أي ضغط أن تقبل بحزام إيراني قد يمتد من الموصل إلى حلب، ويكون حاجزاً بينها وبين العالم العربي، وباعثاً على زعزعة استقرارها الداخلي عبر استغلال الورقة المذهبية التي أثبتت قوتها في العديد من دول المنطقة.
والسعودية، ومعها الدول الخليجية والأردن، ستجد نفسها قد طُوقت بحزام إيراني من كل الجهات، الأمر الذي ستكون له انعكاسات مهدّدة على دواخلها. كما أن الولايات المتحدة ستكون في موقع المجرَّد من كل أوراقه الإقليمية، إذ سيصبح مفتاح المنطقة الأساس بيد النظام الإيراني، صاحب المشروع الإمبراطوري الحالم.
أما أوروبا، فسيكون عليها الاستعداد لسيل جديد من اللاجئين، وربما عمليات إرهابية جديدة. هذا إلى جانب مواجهة مقبلة لمآلات تعاظم الدور الروسي، وقدرته على فرض المشاريع التوسعية، سواء بالقوة المباشرة أو عبر التهديد باستخدامها.
أما على الصعيد السوري، فلن تكون معركة حلب الكبرى، بصرف النظر عن نتائجها، المعركة الأخيرة. وإنما ستكون مدخلاً لصراع طويل بين أصحاب الأرض والحق من جهة، وروّاد مشاريع بعث العظمة المندثرة من جهة ثانية. ونظراً إلى تعارض توجهات وأهداف هذه المشاريع، وتباين خلفياتها، فإن المنطقة مقبلة على مرحلة عصيبة من الصراعات الداخلية والإقليمية التي ستكلّف شعوب المنطقة المزيد من الضحايا والموارد.
المستقبل سوداوي، ولا توجد في الأفق بوادر مشجعة توحي بإمكانية الوصول إلى نهاية النفق المظلم. وما يضفي المزيد من القتامة على المشهد بأسره، غياب الموقف الأميركي الحازم الذي يظل هو المقرر في نهاية المطاف. والخشية من استمرارية هذا الموقف في عهد الإدراة المقبلة خشية واقعية، الأمر الذي سيكون في مصلحة الاندفاع الروسي، مقابل تجميد الموقف الأوروبي الذي من الواضح أنه ليس في مقدوره بلوغ مرحلة الفعل المؤثر بمعزل عن قيادة أميركية.
ونعود إلى حلب مرة أخرى، لنؤكد الأهمية البالغة لمعركتها المقبلة. هذا مع إقرارنا بأهمية معركة الموصل أيضاً. لكن معركة حلب تظل الأهم من جهة رسم معالم الإستراتيجيات، وربما الحدود.
لا ثابت في الحدود السورية منذ مطلع القرن العشرين، فسوريا الطبيعية خسرت مناطق وولايات تعادل مساحتها الحالية بضعفين، منذ انتهاء عهد الدولة العثمانية، ودخول منطقة الشرق الأوسط مرحلة الانتداب البريطاني والفرنسي، وهو ما يطرح سؤالًا جديًّا حول مستقبل سوريا وحدودها الحالية، هل تحافظ عليها أم تتقلص ثانية، في ظل الحرب المستمرة منذ آذار 2011؟
كانت توصية رئيس الوزراء الفرنسي، أريستد بريان، في التاسع من تشرين الأول 1915، ضمن المراسلات البريطانية الفرنسية التي أدت إلى اتفاقية "سايكس بيكو"، هي "تثبيت الحدود الإدارية الحالية لسوريا، وتشتمل أرضها على ولايات أو متصرفيات القدس وبيروت ولبنان ودمشق وحلب، وفي الشمال الغربي على الجزء الكامل من ولاية أضنة الواقع جنوب طوروس".
بعد توصية بريان، خسرت سوريا القدس وبيروت وأضنة ومناطق كثيرة أخرى، تحاول عنب بلدي تسليط الضوء عليها، وتلخيص الواقع الميداني والجغرافي في سوريا، واستشراف مستقبل البلاد، في ضوء الصراع المحلي والدولي المعقد.
سوريا الطبيعية
سوريا الطبيعية، أو سوريا الكبرى، هو مصطلح جيوسياسي، أطلق على الدول التي تشكل حاليًا بلاد الشام، وهي سوريا والأردن وفلسطين ولبنان، بما فيها المناطق الخاضعة حاليًا للكيان الإسرائيلي، وتضم أيضًا المناطق الواقعة في الجنوب التركي، وأبرزها أضنة ومرسين وعنتاب ومرعش ولواء اسكندرون، وصولًا إلى ديار بكر وأورفة وماردين، وظلت هذه المناطق كتلة واحدة حتى أعلنت كلٌ من فرنسا وبريطانيا انتدابها للمنطقة عام 1920.
اتفاقيات مزّقت سوريا الكبرى
منذ عام 1916 وحتى عام 1939، عقدت اتفاقيات على أنقاض الدولة العثمانية المتلاشية، فتت سوريا الكبرى إلى أربع دول فرضت عليها صكوك الانتداب الفرنسي البريطاني، واقتطعت أقاليمها الشمالية لصالح تركيا الأتاتوركية فيما بعد.
اتفاقية سايكس بيكو 1916
في وقت كانت الحرب العالمية الأولى مستعرة بين الألمان والحلفاء، انتدبت كل من لندن وباريس (عاصمتا القرار في العالم آنذاك)، “السير مارك سايكس” ممثلًا عن بريطانيا، و”مسيو جورج بيكو” ممثل فرنسا، على اعتبارهما من أكثر دبلوماسيي البلدين حنكة وتدبيرًا.
عقب محادثات ومباحثات سرية استمرت من أواخر عام 1915 وحتى أيار 1916، خرج الرجلان باتفاقية عرضت آنذاك على روسيا القيصرية، فوافقت عليها، مقابل اتفاق تعترف فيه بريطانيا وفرنسا بحقها في ضم مناطق معينة من آسيا الصغرى بعد الحرب.
نصت اتفاقية “سايكس بيكو” على تقسيم بلاد الشام وبلاد الرافدين إلى ثلاث مناطق: العراق وتخضع للإدارة البريطانية، سوريا وتخضع للسيادة الفرنسية، فلسطين وتخضع لإدارة دولية كمقدمة لاحتلالها من قبل اليهود بعد أعوام وفقًا لـ "وعد بلفور".
تمتد الأراضي السورية الخاضعة للسلطة الفرنسية من السواحل الشرقية للبحر المتوسط وحتى مدينة الموصل، التي كانت تتبع لسوريا وفقًا للمعاهدة، كذلك فإنها تشمل الأراضي الجنوبية لتركيا حاليًا، بما فيها لواء اسكندرون، في حين تشمل الأراضي العراقية الخاضعة للسلطة البريطانية الضفاف الغربية والجنوبية للخليج العربي، بما فيها الكويت، وتمتد إلى الأردن.
استغلت الدول صاحبة القرار آنذاك المرض الذي ألم بجسم السلطنة العثمانية، فكانت المعاهدة التي رسمت الحدود بين الدول العربية، والتي نراها اليوم متزعزعة في ضوء الصراع في الشرق الأوسط، والذي ربما تنتج عنه حدود جديدة تزيد من عمق التقسيم.
معاهدة سيفر 1920
وقعت هذه المعاهدة في العاشر من آب عام 1920، في منطقة سيفر بفرنسا، بين العثمانيين والحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الأولى، وكانت بمثابة المسمار الأخير في نعش تفكك وانهيار الدولة العثمانية، إذ تضمنت تخلي الحكومة العثمانية عن جميع الأراضي التي يقطنها غير الناطقين باللغة التركية، بما فيها المنطقة العربية.
وخرجت منذ ذلك الوقت سوريا والعراق ومصر والحجاز عن التبعية للدولة العثمانية بشكل رسمي، لتكون منطلقًا لتشكيل حدود جديدة لدويلات متعددة في المنطقة.
معاهدة أنقرة 1921
لاحقًا وعقب معاهدة سيفر، وخلال حرب "الاستقلال" التي قادها مصطفى كمال أتاتورك لاستعادة هيبة تركيا، وإسقاط الحكومة العثمانية في اسطنبول، واسترجاع الأراضي التي انتدبتها بريطانيا وفرنسا واليونان وإيطاليا، وقّع في 29 تشرين الأول 1921 معاهدة "أنقرة" التي أعطت المناطق الشمالية من سوريا لحكومة أتاتورك.
وقعت المعاهدة في العاصمة التركية الحديثة أنقرة، بين فرنسا وتركيا، وأعادت ترسيم الحدود لتركيا لتمنح لها كلًا من: أضنة، العثمانية، مرعش، عنتاب، كلّس، أورفة، ماردين، ديار بكر، نصيبين، وجزيرة ابن عمر (جزرة)، بعد سلخها عن سوريا.
مؤتمر لوزان 1922- 1923
لم يؤثر هذا المؤتمر الذي استضافته مدينة لوزان السويسرية على الحدود السورية بشكل مباشر، بعدما اقتطعتها فرنسا لصالح تركيا عام 1920، إلا أنه أعطى شرعية دولية لتركيا بحدودها الحالية، بما فيها الإقليم السوري الشمالي المقتطع.
تعثّر المؤتمر الأول في تشرين الثاني 1922، والذي جاء بعد 20 يومًا على إعلان إلغاء السلطنة العثمانية، لفرض شروط بريطانية تقضي بإعلان العلمانية وحرية الملاحة المائية في المضائق وطرد السلطان العثماني وعائلته، وإعلان أنقرة تخليها عن الموصل (الغنية بالنفط).
إلا أن المؤتمر الثاني في لوزان، تشرين الثاني 1923، شهد مرونة من أنقرة وقبولها بالتوقيع على الاتفاقية التي تنازلت من خلالها عن سوريا والعراق ومصر والسودان وامتيازاتها في ليبيا، وأعطاها شكلها الحالي بحدودها البرية والبحرية بشكل تقريبي، فيما لو استثنينا لواء اسكندرون، الذي دخل ضمن أراضيها فيما بعد.
سلخ لواء اسكندرون 1939
يقع لواء اسكندرون شمال غرب سوريا على البحر الأبيض المتوسط، وتبلغ مساحته 4800 كيلومتر مربع، تبع خلال الحقبة العثمانية لولاية حلب، ويضم حاليًا عددًا من المدن والبلدات، أهمها: أنطاكية، اسكندرون، الريحانية، قراخان.
يعد لواء اسكندرون أحد أبرز القضايا الإشكالية بين سوريا وتركيا، بين عامي 1916 و1939، إذ حظيت هذه المنطقة عقب انهيار الدولة العثمانية بحكم ذاتي يتبع للحكومة السورية، وما لبث أن أعيد ربطه بالدولة السورية عام 1926، في عهد الرئيس السوري أحمد نامي.
استصدرت فرنسا قرارًا من عصبة الأمم المتحدة عام 1937، أعطى لواء اسكندرون حكمًا ذاتيًا، وربطه شكليًا بالحكومة السورية في دمشق، لكن ما لبثت أن دخلته القوات التركية عام 1938، وانسحبت فرنسا منه.
في عام 1939 أجرت تركيا استفتاءً في اللواء، أشرفت عليه فرنسا، وأظهرت نتائجه قبولًا شعبيًا بضمه رسميًا إلى تركيا، وهو ما حدث فعلًا رغم السخط العربي من هذا الإجراء والتشكيك بنتائج الاستفتاء، ومايزال حتى يومنا هذا ضمن الأراضي التركية، تحت مسمى "إقليم هاتاي".
شكّل سلخ اللواء صدمة للسوريين، فخرجت المظاهرات الغاضبة في شوارع دمشق وحلب وباقي المحافظات السورية، أطاحت بحكومة جميل مردم، وكانت سببًا مباشرًا لاستقالة الرئيس هاشم الأتاسي، وشكّلت قضيته صدامًا مباشرًا بين تركيا وسوريا طيلة عقود مضت.
"نكسة حزيران" واحتلال الجولان 1967
تقع هضبة الجولان جنوب غرب سوريا، إلى الغرب من العاصمة دمشق، وتبلغ مساحتها حوالي 1800 كيلومتر مربع، وتتبع إداريًا لمحافظة القنيطرة، قبل احتلال معظم مساحتها من قبل الكيان الإسرائيلي، في حزيران عام 1967، في حرب انتصرت فيها إسرائيل على القوات السورية والمصرية، وسميت بـ "نكسة حزيران".
حاول الجيش السوري استرجاع الجولان في حرب تشرين الأول 1973، إلا أنه فشل في ذلك، وانسحبت القوات الإسرائيلية من مساحة قدرها 60 كيلومترًا شملت مدينة القنيطرة المهدمة ومحيطها، لتبقي تل أبيب سيطرتها على ثلثي مساحة الهضبة فعليًا، وقرر الكنسيت الإسرائيلي ضم المناطق المحتلة للكيان، في قرار أحادي الجانب، صدر عام 1981.
نزحت آلاف العوائل من الجولان إلى الداخل السوري، فيما آثر نحو 40 ألف مواطن البقاء في منازلهم، وأصبحت قضية المطالبة بالجولان بعد حرب 1973 إعلامية بحتة، دون تحرك فعلي لاسترداد الأراضي المحتلة، ووسط ترجيح معارضي الأسد الأب تنازله عن هذه الرقعة الجغرافية الغنية بالمياه والأراضي الزراعية الخصبة في اتفاقيات سرية مع تل أبيب.
الثورة وواقع الحدود "المهترئة"
الحدود الحالية لسوريا
تبلغ مساحة سوريا الحالية 185 ألف كيلومتر مربع، ويبلغ طول حدودها مع الجوار نحو 2250 كيلومترًا، ويحدها من الشرق دولة العراق بحدود يصل طولها إلى 605 كيلومترات، ومن الجنوب الغربي دولة فلسطين بحدود طولها 76 كيلومترًا، ومن الجنوب مملكة الأردن بحدود طولها 375 كيلومترًا، ومن الغرب جمهورية لبنان بحدود طولها 370 كيلومترًا، ومن الشمال الجمهورية التركية بحدود تبلغ 822 كيلومترًا.
حافظت سوريا على استقرار حدودها الإدارية طيلة أربعة عقود سبقت الثورة ضد بشار الأسد، فشهدت العلاقات بين سوريا وتركيا تحسنًا تدريجيًا، لا سيما أواخر عهد حافظ الأسد حينما وقع الجانبان اتفاقية أضنة الأمنية عام 1998، عززتها العلاقات التجارية والسياسية المميزة بين حكومة رجب طيب أردوغان وبشار الأسد مطلع الألفية الثانية إلى ما قبل آذار 2011.
وتزامن ذلك مع تهدئة الجبهات إلى نسبة صفر مئوية مع "العدو" الإسرائيلي، وهو ما اندرج أيضًا على الحدود البرية مع الأردن والعراق، والتي لم تشهد أي متغيرات منذ ترسيمها من قبل لندن وباريس، رغم القطيعة الدبلوماسية والمواقف الندية بين الأسد الأب وصدام حسين.
في العام الثالث للثورة ضد النظام السوري، بدأت الحدود الإدارية لسوريا تشهد ارتخاءً وضعفًا متزايدًا، كان سببه الجوهري فقدان حكومة الأسد سيطرتها على معظم المنافذ الحدودية، إلى جانب حركة اللجوء إلى دول الجوار هربًا من الحرب، ودخول التنظيمات والميليشيات المسلحة إلى ساحة الصراع، والتدخل الدولي المباشر فيها، ما ينذر بمتغيرات في جغرافية سوريا في المستقبل القريب.
تركيا تشرف من الداخل على "درع الفرات"
تشرف تركيا بشكل مباشر على غرفة عمليات "درع الفرات" منذ آب الماضي، ونجحت فصائل "الجيش الحر" المدعومة من أنقرة بالسيطرة على مساحات واسعة من مدينة جرابلس وحتى مدينة اعزاز شمال حلب، في استراتيجية تشمل مدينتي الباب ومنبج، بحسب التصريحات التركية، وهو ما يشكل "المنطقة الآمنة" التي طرحتها تركيا مرارًا خلال العام الفائت والجاري.
وباتت الحدود السورية- التركية في محافظتي حلب وإدلب تحت الهيمنة التركية، عدا عن منطقتي كوباني وعفرين، وساهمت في طرد تنظيم "الدولة الإسلامية" منها بشكل كامل، وعززت النفوذ التركي في الشمال السوري.
وكان الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، أشار في 22 تشرين الأول الماضي، إلى أن "بعض الجهات تطلب من تركيا عدم السيطرة على بلدة الباب، إلا أن قوات المعارضة السورية المدعومة تركيًا عاقدة العزم على السيطرة على البلدة، من أجل إنشاء منطقة خالية من الإرهاب هناك"، مضيفًا "نحن نحترم الحدود السياسية الموجودة، رغم الغصة التي في قلوبنا.. ليس لدينا أدنى مشكلة مع سيادة أي دولة من دول الجوار، همنا الأول هو حماية إخواننا وتراثنا".
حدود شاسعة لـ "الإدارة الذاتية" مع تركيا وكردستان
تسيطر "الإدارة الذاتية" المعلنة من حزب "الاتحاد الديمقراطي" الكردي على معظم المناطق الحدودية مع تركيا، في محافظات الحسكة والر قة وحلب، وتتهم تركيا الجماعات الكردية المسلحة هناك بالتبعية المباشرة لحزب "العمال الكردستاني"، والتعاون العسكري المشترك بينهما.
كما أعلنت أنقرة مطلع تشرين الثاني الجاري تفجير نفق يمتد من نصيبين التركية إلى القامشلي السورية، في إشارة إلى التعاون العسكري بين المنظمتين الكرديتين، لكن تركيا ورغم ذلك مازالت تسيطر بشكل فعال على الشريط الحدودي، وتضبط حركة المرور فيها.
من جهة أخرى، تسيطر "الإدارة الذاتية" على المنطقة الحدودية مع العراق، من الجهة الشرقية لمحافظة الحسكة، ويقابلها في الطرف المقابل مناطق تتبع حاليًا لإقليم كردستان العراق، وتشهد الحدود بين الجانبين نشاطات تجارية متبادلة، وتضمن تنقل الأفراد والشاحنات عبر معبر "سيمالكا" الحدودي.
تنظيم "الدولة" يصل سوريا بالعراق
كسر تنظيم "الدولة الإسلامية" الحدود بين سوريا والعراق، في محافظة دير الزور والأجزاء الجنوبية الشرقية من محافظة الحسكة، وأصبحت هذه المساحة بين البلدين كتلة واحدة دون حدود إدارية منذ مطلع عام 2014.
وأسهمت الحدود المكسورة بتسهيل حركة المقاتلين العرب والأجانب في صفوف التنظيم بين البلدين بديناميكية عالية، عدا عن التبادل التجاري، وخصوصًا في مجال المشتقات النفطية، والتي توفر النقد الأجنبي لخزينة التنظيم، وأعطت هذه السيطرة الذريعة للولايات المتحدة ودول التحالف بالتغلغل بريًا وجويًا في سوريا، وإنشاء قواعد عسكرية في منطقة الرميلان بمحافظة الحسكة، وتسليح فصائل محلية لمحاربة التنظيم.
إسرائيل تتحرك على الحدود الجنوبية
شهدت الحدود الجنوبية الغربية المتاخمة للأراضي المحتلة من قبل الكيان الإسرائيلي توترًا وقصفًا مدفعيًا متقطعًا من قبل الجيش الإسرائيلي، في إطار الرد على القذائف التي تتساقط بين الحين والآخر على مستوطناته في الجولان المحتل، كما رصدت المؤسسات الحقوقية استيعاب المستشفيات الإسرائيلية لعشرات من الجرحى السوريين، في ظل غياب سلطة النظام السوري عن معظم الأراضي المتاخمة للكيان، عدا عن ناحية حضر التابعة لمحافظة القنيطرة.
في تموز الماضي، أقدمت قوات إسرائيلية على اجتياز الشريط الحدودي الفاصل مع سوريا، وتوغلت عدد من المدرعات بالقرب من تل عكاشة في محافظة القنيطرة بمسافة 400 متر، وأقامت دشمًا عسكرية وأسلاكًا شائكة في المناطق التي دخلتها، بحسب المجلس المحلي التابع للمعارضة، في خطوة هي الأولى من نوعها، وكانت هذه المنطقة تحت إشراف قوات الفصل التابعة للأمم المتحدة.
وينظر باحثون إلى هذه الخطوة كونها استغلالًا واضحًا للأوضاع والحرب في سوريا، وتعزيز نفوذ الجيش الإسرائيلي في الجولان المحتل، وسط ترجيحات بخطوات مماثلة قد تلجأ لها إسرائيل مستقبلًا، وتخسر من خلالها سوريا مساحات أخرى من أراضيها.
الأردن سيطرة حدودية من جانب واحد
مع إغلاق الأردن منافذها الحدودية مع سوريا، واقتصارها على إجلاء المصابين ودخول القوافل الإنسانية، باتت هي المتحكم الفعلي بالشريط الحدودي، دون وجود للنظام السوري في الطرف المقابل، رغم احتفاظ النظام بالشريط الحدودي في محافظة السويداء.
تستثمر الأردن الحدود مع سوريا بدعم فصائل الجبهة الجنوبية في الجيش الحر، عن طريق غرفة تنسيق الدعم (موك)، كذلك ساهمت في إنشاء مراكز تدريب لفصيل "جيش سوريا الجديد" في ريفي المنطقة الحدودية من البادية السورية، بالتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا.
الحدود مع لبنان تحت تصرف "حزب الله"
إلى الحدود الغربية مع لبنان، والتي بات الوجود الرسمي السوري واللبناني فيها شكليًا، لهيمنة ميليشيا "حزب الله" على المنطقة الممتدة من ريف حمص الغربي وحتى جنوب القلمون في ريف دمشق.
تجاوز "حزب الله" مسألة الحدود، وسيطر فعليًا على عدد من المدن والبلدات في المحافظتين، أبرزها مدينة القصير الحدودية وريفها المجاور، ومدينة يبرود القلمونية والقرى المحيطة فيها مثل فليطة وعسال الورد.
ضمن "حزب الله" بعد هيمنته على الحدود، برضا من حكومة النظام، تدفق مقاتليه من وإلى سوريا، كونه أبرز الميليشيات الأجنبية الرديفة لقوات الأسد، وعزز بذلك سطوته محليًا، في ظل انكفاء فصائل المعارضة عن المنطقة.
استشراف المرحلة المقبلة: هل تبقى سوريا أم تزول؟
هل تبقى سوريا أم تزول؟ هل تشهد تقسيمًا أم فدرلة؟ هل تحافظ على حدودها الإدارية أم تتآكل مجددًا؟ هي مجموعة أسئلة طرحتها عنب بلدي على الباحث السياسي ساشا العلو، في حوار رأى من خلاله الباحث أن جميع الاستفسارات يحددها ويجيب عليها شكل النظام السياسي المقبل.
عن التقسيم والفدرلة
الفدرلة، فيما لو حدثت في سوريا، فستكون في سياق غير طبيعي، إذ لا يمكن الوصول إلى هذه المرحلة إلا بعد قطع مراحل المركزية الإدارية إلى المركزية السياسية، وفق اقتصاد حر ونظام اقتصادي يتماشى مع الفدرالية، أما في الحالة الراهنة فالمنطقة تسير وفق نظرية الأمريكيين، والتي باتت تسمى بـ "الفوضى الخلّاقة"، بحسب العلو.
وأوضح الباحث أن "الفوضى الخلّاقة"، تنص على تصارع القوى المحلية في المنطقة، والناجي والأقوى يتم تحضيره وتنظيفه، ومن ثم تسليمه زمام الأمور، وبالتالي هي شرعنة للفوضى، وأضاف "إذا لم نستطع السيطرة على هذه الفوضى، وطال أمد الصراع، فالشمال بفصائله سيحظى بشرعية، والجنوب كذلك الأمر، وسوريا المفيدة أيضًا، والإدارة الذاتية ستحظى بقبول كذلك، وستكون الفدرالية ضمن هذا السياق، ولن يكون لها أي تراتبية سياسية أو إدارية أو اقتصادية".
ورأى الباحث العلو، أن معركة الموصل الحالية ضد تنظيم "الدولة الإسلامية" لها حساسية خاصة بالنسبة لسوريا، فما بعد الموصل لن يكون كما قبله، والوضع العراقي بعد طرد التنظيم من المدينة قد ينسحب على سوريا، عدا عن عبور مقاتليه إلى الأراضي السورية.
لكنه، رغم ذلك، لم يرجّح الباحث ساشا العلو فرضيتي التقسيم والفدرلة في المستقبل، ففعليًا الخيارات في سوريا هي رهينة توافقات دولية وإقليمية، وليس للأطراف أي مصلحة بالتقسيم، رغم أنه مشروع إسرائيلي لطالما دفعت باتجاهه، إلا أنه في الحالة السورية قد ينعسك عليهم سلبًا، لا سيما أن الأمريكيين حذّروا تل أبيب من أن فدرلة أو تقسيم المنطقة، وسحب هذا المشروع على العراق وسوريا والأردن ولبنان، قد ينتقل إلى إسرائيل ويدعم خيار الدولتين، وهو ما لا تريده تل أبيب.
الإيرانيون ليس من صالحهم هذان المشروعان أيضًا، بحسب الباحث، فطهران تريد سوريا كاملة، ومنافذ سليمة على البحر الأبيض المتوسط، وهو قاسم مشترك مع تركيا، إذ تسعى الأخيرة إلى إيقاف الطموحات الكردية، ومن الممكن أن يؤدي التقسيم إلى هوامش تولد فيها كيانات قومية تكون أنقرة الخاسر الأكبر فيها، وبالتالي فإن من يناهض مشروع التقسيم الإسرائيلي فعليًا هم الإيرانيون والأتراك.
كما سيضعف خيار الفدرلة حكومة النظام (الحكومة المركزية)، ويجعلها في موقف صعب، كما ترجح التحليلات أن الأسد قد ينكفئ إلى الساحل ويكتفي بدويلة علوية فيما لو تم التقسيم، لكن الخيارين يرفضهما بشكل قطعي، لأنهما يفقدانه المبرر لوجوده كرئيس، ويحرجانه أمام طائفته ومؤيديه.
وقال الباحث علو إن "الجغرافيا السورية، بقدر ما هي لعنة على سوريا، بقدر ما هي حامية وضامنة لها، وهذه الانزياحات التي نراها كونها مجاورة لإسرائيل وتركيا، وعقدة توازن وسياسة"، وأوضح أن دور سوريا في عهد حافظ الأسد تمارسه تركيا الآن، بعدما أصبحت عقدة توازنات في المنطقة، وتقاطع مصالح مع الفاعلين الدوليين.
حدود هشة تفتح باب الاحتمالات
وبخصوص الحدود السورية، أشار العلو إلى أن لا أحد يضمن ضبطها اليوم، لكن من الممكن تثبيت نقاط تمركز، كالحالة الإسرائيلية، إذ تسعى إسرائيل خلال السنوات الخمس الماضية لانتهاز الفرصة وانتزاع قرار دولي لتثبيت الحدود، وتضم الجولان بشكل قانوني، فالحدود مرسومة قبل عام 1967 وهي تحاول إعادة رسمها من جديد.
أما الأتراك، وفق الباحث، فالجميع يعلم أن تدخلهم جاء لحماية الأمن القومي التركي، وقال إن "الأتراك بطبيعة تفكيرهم، وطبيعة الحزب الحاكم القائم على تركيا، لديه ميول تجاري جدًا، وتوجههم للمناطق هو توجه استثمارات، فعلى سبيل المثال تمنع أي منظمة سورية من الدخول إلى جرابلس، فجميع المنظمات العاملة هناك تركية حصرًا".
واستبعد العلو أن يكون دخول تركيا من الشمال بهدف السيطرة على أراضٍ جديدة، بقدر ما هي تحالفات جاءت لملء فراغ الانسحاب الأمريكي من المنطقة، ودخول روسيا وإيران بدلًا عنها "دور تركيا هنا اللعب على المحورين، إذ تتطور العلاقات الروسية التركية بشكل ملحوظ، بينما تبدو العلاقات التركية الإيرانية غير صفرية، فمن الممكن الاختلاف في الموصل والتنسيق في سوريا".
لكنه أشار في الوقت ذاته إلى أن الحدود السورية باتت رخوة، منذ كسرها عام 2014 من قبل تنظيم "الدولة الإسلامية"، وهو ما أدى إلى استحالة عزل سوريا عن باقي المتغيرات في المنطقة، فعلى سبيل المثال يعاني المسلمون السنة في سوريا من حالة اضطهاد عالية، يشاركهم بذلك سنّة العراق، وقال "لو أعطيت الفدرلة لسنة سوريا في حالة حدود جغرافية معينة، من الممكن أن يلتحموا على المدى البعيد مع العراقيين، وهو مشروع نادى فيه شخصيات مرموقة من كلا البلدين".
وشدد العلو على أن النظام السياسي المقبل في سوريا، هو من يحدد الهوية السيادية والحدود الإدارية، وتابع "نحن أمام خيارات متعددة، منها إمكانية الذهاب إلى نظام "كوتا"، وهو قائم على محاصصة طائفية مثل لبنان والعراق، ويكمن الخطر على الحدود في هذا النظام، في التجارب الناجزة سياسيًا في الدول المجاورة، فدروز سوريا سيكون قرارهم عند دروز لبنان، كذلك فإن قرار أكراد الإدارة الذاتية سيخرج من أربيل أو قنديل، حسب الاستقطاب السياسي، ليس لأنهم تابعون، وإنما لوجود تجارب جاهزة".
ومما يضعف الحدود ويمزقها، قانون "مكافحة الإرهاب"، وطالما بقيت المنظمات المصنفة "إرهابية" في سوريا، فستكون مظلة لعبور الحدود لكل الجهات، وكسرها في أي لحظة، وبالتالي فإن "الإرهاب" يعطي شرعية سياسية لأي جهة تريد التدخل في سوريا، تحت ذريعة مكافحته، بحسب الباحث.
المنطقة العازلة وسلبياتها
وفيما يخص المنطقة العازلة (الآمنة) والدور التركي الكبير في إنجازها، رجّح العلو أن قرار إنشائها بات واقعًا، حتى لو لم يصدر بشكل رسمي، مشيرًا، وفق معلومات حصل عليها، إلى أن منظمة "الفاو" التابعة للأمم المتحدة بدأت تجتمع مع منظمات بهدف زراعة مساحات واسعة في المنطقة التي باتت تحت سيطرة فصائل "درع الفرات" شمال سوريا، وقال "باعتبار أن الفاو دخلت هذه المنطقة، فإن قرار المنطقة العازلة أنجز".
وأشار الباحث إلى أن سكان المنطقة الشمالية خليط من عرب وأكراد وتركمان، وتجميعهم في المنطقة العازلة واقتطاعها لصالح تركيا مستقبلًا هو احتمال ضئيل، كونها خليطًا غير متجانس، وأضاف "لا أستطيع أن أخمن إن اقتطعتها تركيا أو لا، بقدر ما أؤكد أن هذه المنطقة لها مضار، فستؤدي إلى انكفاء الدور التركي في سوريا، باعتبارها أنجزت وأمنت بجدار بشري ثم عسكري ثم الحدود، كما من الوارد أن تشرعن استهداف باقي المناطق بالنسبة للنظام، فأي منطقة خارجها هي ليست آمنة بالمفهوم المحلي".
ولفت العلو إلى أن عقلية الأتراك تجارية بحتة، فهم لا يطمحون بأكثر من استثمار نفوذ وليس سيطرة على الأرض "من الممكن أن يغرقوا حلب بمنتجاتهم في المستقبل، كما من الممكن أن يحافظوا على بعض آبار النفط تحت سيطرة التركمان، ما يضمن نفوذهم السياسي في سوريا مستقبلًا، كما أنهم لا يملكون مشروعًا أيديولوجيًا متبلورًا في المنطقة كالإيرانيين، الذين يدعمون النظام ويريدون السيطرة على الأرض.. الأتراك لا يتجاوز مشروعهم الاقتصاد، فهو محرك النهضة لديهم”.
لا ريب أن مستقبل سوريا بات غامضًا، يصعب التكهن فيه، حول الحكم الجديد لها وشكل البلاد بعد الحرب، إلا أن المعطيات الحالية المعقدة، والتداخلات الإقليمية غير المسبوقة فيها، تنذر بتصدع الوحدة السورية مرة أخرى، وربما نشهد اتفاقيات كتلك التي حدثت مطلع القرن العشرين، تفتتها إلى دويلات أو أقاليم يحددها الدين أوالقومية، في ظل انعدام الحالة الوطنية الجامعة.