نكبة درعا في "كوكب القرود"
ظللت أتابع المصادر الإعلامية العالمية خلال الأيام الماضية، بحثاً عن صدى الهجمة الوحشية غير المسبوقة التي يتعرّض لها قرابة مليون شخص في جنوب سورية المنكوبة. ولكن، يبدو أن هناك أشياء أهم تشغل بال الخلق هذه الأيام: عملية إنقاذ لاعبي الكرة الشباب في تايلاند، تسمّم رجل وزوجته في جنوب إنكلترا، نتائح مباريات كأس العام، هروب سجين فرنسي، تعيين قاض جديد في المحكمة العليا في أميركا وطرد آخرين من محاكم بولندا، هوس الهجرة في أميركا وأوروبا، وحروب ترامب التجارية الدونكيشوتية.. إلخ. أما حالة مئات الآلاف من المدنيين ممن يفترشون العراء، ويلتحفون السماء، ويُطعمون أحدث القنابل الروسية، فهي أقل من أن يلتفت إليه من يسمون أنفسهم بشراً، إلا التفاتة عابرة عجلى. ويشمل هذا العرب، ممن كان ينبغي أن تذكّرهم نكبة سورية المستمرة بنكبة فلسطين. ولكن لعل النسيان أفضل، حتى لا تتحول هذه مثل تلك التي أصبحت خيانتها اليوم أربح تجارة عند بعضهم.
لدي تحفظ على استخدام مصطلح "النكبة" لوصف ما حل بفلسطين والعرب في عام 1948: من تشريد لأكثر من نصف سكان فلسطين (800 ألف من من 1.4 مليون)، وفشل الدول العربية مجتمعةً في تلافي الكارثة، أو التصدّي لذيولها. ذلك أن المصطلح يوحي بأن ما وقع هو أشبه بكارثة طبيعية، مثل الزلازل والبراكين، ما يغيّب مسؤولية من سمح وساهم وتواطأ. وأهم من ذلك، يساهم في التستّر على جريمة الجرائم، وهي التطهير العرقي لفلسطين العربية (لا يزال مستمراً)، وما صاحبه ويصاحبه من فصل عنصري وجرائم مركبة ضد الإنسانية، فاستخدام هذا المصطلح، وما يصحبه من ممارسات خطابية تضخم المقاومة غير الفعالة للاغتصاب، يرقى إلى نزع ذاتي لسلاح اللغة في المواجهة مع المنظومة الصهيونية التي لا يصح كذلك وصفها بأنها استعمارية، فهي تفتقد حرص الأنظمة الاستعمارية، بما في ذلك نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، على بقاء السكان الأصليين بغية استغلالهم، فهي لا ترغب في وجود أهل البلاد حتى للسّخرة، بل إنها تجتهد في استئصالهم. ولهذا، فإن الخطاب السياسي الملتبس هو من أكبر مظاهر فشل مقاومة هذا النوع الجديد من الإجرام، الأقرب إلى النازية في سعيها المهووس إلى استئصال الفئات المحتقرة، حتى على حساب المجهود الحربي والمنافع الاقتصادية المحتملة من استخدامهم في السّخرة.
هذه الملاحظة الاعتراضية على قدر كبير من الأهمية، خصوصا عند استخدام مصطلح النكبة لوصف ما يواجهه أهالي درعا وجنوب سورية في هذه الأيام. ذلك أن ما يحدث اليوم يمثل منحدراً جديداً في مسار الانحطاط الأخلاقي الذي رافق النكبة السورية الكبرى، ففي هذه الحالة، ترك العالم قرابة المليون شخص بدون أي سند إغاثي أو مهرب من بطش نظام كانت وحشيته ضد المدنيين العزل، والأطفال خصوصاً، هي التي فجرت الثورة في الأساس. الفرق، وهو أن العالم لم يكن يتابع مأساة مهاجري فلسطين عام 1948 على الشاشات الحيّة، أو يسمع صراخهم واستغاثاتهم. ويبدو أن عرب اليوم أسوأ بكثير من عرب ذلك الزمان، حيث إنه لم يكن مطلوباً منهم تسيير الجيوش أو الهبّة لنجدة المعذّبين، فقط فتح الحدود لاستقبالهم في صحارى تترامى مد البصر، لكنهم اليوم أغلقوا أبوابهم وأعينهم وقلوبهم، ووقفوا يتفرّجون على جريمة هم شركاء في صنعها. فهذا العمى والتعامي هو تواطؤ أعطى عملياً الضوء الأخضر للنظام السوري، وأعوانه من البرابرة، من روس وأعاريب وفرس لممارسة وحشيتهم، بدون أي رقيب أو حسيب.
وهذه نقطة سوداء، ليس فقط في تاريخ العرب والمنطقة، بل في تاريخ الإنسانية، فمنذ فجر التاريخ الإنساني، كان هناك رد فعل فطري أمام أي حالة لإنسان آخر (بل حتى حيوان) يتعرّض لخطر على حياته، وهو التحرّك للمساعدة، فكما نشهد من حالة الشباب التايلاندي المحصور في الكهف، فإن الغريزة البشرية هي التحرّك للإنقاذ، فقد سارع حتى البعداء، بمن فيهم الأميركان والإسرائيليون (لم نسمع بعرب ساهموا) لتقديم العون لعمليات الإنقاذ. وقبل أسابيع قليلة، قرأت عن شاب سوداني كان يتجول على شاطئ البحر في الإسكندرية مع عروسه، وهما في شهر العسل، حين شاهد شخصين يغرقان، فقفز في البحر لإنقاذهما، ونجح في ذلك، لكنه فقد حياته.
تلك هي الإنسانية في أروع تجلياتها. ولكن هذا ليس ولم يكن المطلوب في حالتنا هذه، فلم يكن المطلوب التضحية من أجل إنقاذ السوريين، فقط التصرّف بأدنى درجات الحس الإنساني. فيكف إذن نفسر رد الفعل العالمي شبه الإجماعي، المعبر عن غياب كامل لهذا الحس في أبسط أشكاله تجاه أعدادٍ أكبر، وحاجةٍ أكثر إلحاحاً، ومشاهد ماثلة للعيان، لا تحتاج إلى خيال أو تمثل حتى تصل إلى عقول وضمائر القادرين على فعل شيء؟
إنها نكبةٌ من نوع جديد، تتعدّى فقدان الأوطان أو المساكن أو الأمن إلى فقدان الإنسانية، وفقدان الحس الأخلاقي. ولا أتحدث هنا عن القادة الفاسدين والمتواطئين، ممن باعوا ضمائرهم بثمنٍ بخس، دراهم معدودة وكانوا فيها من الزاهدين. لا نعني من شاركوا بهمة وحماسة في القتل والتعذيب، أو هللوا لهلاك الأبرياء، وانحازوا لفراعنة العصر. ولا من دخل في حلف نتنياهو - بوتين لتصفية القضيتين، ومباركة النكبتين، متوهمين أن ذلك سينقذ عروشاً أينعت، وحان قطافها، فجعلوا لله على أنفسهم حجة وسبيلاً. ما نعنيه هو البقية الباقية من أصحاب الضمائر والعقول والقلوب، من لم ينقرض كإنسان مع المنقرضين. أين هم، وأين أصواتهم، سوى قلة من أصحاب الضمائر في أردن الصمود وتركيا النجدة؟
في القرآن، هناك قصة للاعتبار عن أصحاب تلك القرية اليهودية التي فقد فيها الحسّ الأخلاقي، حتى لم يبق فيها إلا قلة تستنكر الإجرام، فمسخ غالبية أهلها إلى قردة. ما نخشاه هو أن نستيقظ غداً فنجد شوارع بلداننا مكتظة بالقرود، نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.