ملاحظات على هامش الثورة
هذه ملاحظات دونتها خلال الأيام القليلة الماضية، وأطلعتُ العديد من الأخوة والأخوات الذين أثق بوطنيتهم العالية على بعض منها.. أعرضها على العام هنا مؤكداً أنها لا تمثل ولا تلزم أحداً سواي.. وأنها مجرد تفكير بصوت مسموع (أو مقروء إذا شئتم)، فأنا ممن يعتقدون أن أحد مقاتل أية حركة وطنية أو سياسية إنما يكمن انغلاقها على أعضائها، وعدم انفتاحها على الجمهور كله تحت ضوء الشمس ورابعة النهار... محاولة للتفكير بمنهج بديل للخروج من هذه المقتلة، وصيانة سوريا الغالية مما يُخطط لها في عواصم العالم!
خلفية لا بد منها
يجب أن نعترف بكل جرأة ووضوح أن الثورة الشريفة التي قام بها شباب وشابات سورية من أجل الحرية والكرامة قد فقدت بريقها وألقها، واستطاع النظام المجرم بالقمع الوحشي والإغراءات والاختراقات دفعها نحو التسلح الذي شكل مقتلاً لها.
ذلك أن التسلح يعني أولاً ضرورة الارتهان لقوى خارجية للتزود بالسلاح والذخيرة ورواتب المقاتلين.
ولأن التسلح يغري الجهلة والمتسلقين وحتى الزعران بركوب هذه الموجة، كي يصبحوا قادة بالقوة والجبروت على مجتمعهم ومحيطهم، وهنا يبدأ تذمر الناس وضيقها، وصولاً إلى كفرها بالثورة!
ولأن التسلح (والقمع الوحشي للنظام) يجلب الغرباء للتدخل في الثورة تحت ستار (نصرة الإسلام والمسلمين)، وبدفع من قوى إقليمية تريد جزءاً من الكعكة السورية!
وقد دفع النظام إلى ذلك بكل قوته، وأطلق سراح المتشددين ذوي الخبرات في الحركات الجهادية لكي يبدؤوا دورهم في تطييف الثورة واستخدام السلاح.
كل هذه العوامل أفقدت الثورة بريقها في عيون حاضنتها الشعبية أولاً، ومنحت النظام ما يحتاجه من مبررات وحجج للاستمرار في القمع وتكتيل قواعده وأجهزته حولة باعتبارهم أصبحوا مهددين بحياتهم.
وزاد من الأثر المأساوي للتسلح والتطييف أن القوى الدولية التي تظاهرت بتأييدها لأهداف الشعب السوري في الحرية والعدالة، وجدت المبرر لسحب يدها تدريجياً، وتحويل مواقفها حتى أصبحت أقرب للنظام منها للشعب المعذب المكتوي بنار البراميل.
كل ذلك ترافق مع غياب القيادات السياسية الواعية، والتغييب القسري لها من قبل النظام قتلاً وسجناً، مع إطلاق سراح المتشددين ليتصدروا المشهد العام ويزيدوا من تنفير مجتمعهم والعالم كله من الثورة.
هذه لم تعد إذن ثورة الشعب السوري.. ليست الثورة التي خرجت من أجل حرية وكرامة السوريين.. ليست ثورة غياث مطر، وباسل شحادة، ورزان زيتونة، ومشعل تمو، وعبد العزيز الخير، والآلاف غيرهم ممن اغتالهم النظام أو غيبهم.. فقد استولى عليها الغلاة الذين أظهروا (في المناطق التي سيطروا عليها) عداءهم لقيم الحرية والكرامة.
أما الشخصيات التي سارعت "لتمثيل" الثورة في الخارج، فقد أظهرت مع بالغ الأسف قصوراً بالغاً في الرؤية، ونقصاً شديداً في الخبرة السياسية، واستكانة مخجلة أمام تدخل القوى الإقليمية والدولية.. حتى أصبحت بالفعل ممثلة لهذا الطرف الإقليمي والدولي أو ذاك، أكثر من تمثيلها لجماهير الثورة ومصالح السوريين.
وبالتالي وجد النظام المجرم الأمور مهيأة لاستمراره في القمع والقتل، بصمت عالمي لا سابقة له، وبدعم من حلفاء طائفيين مصرين على بقائه لأنه أصبح حصان طروادة بالنسبة إليهم في سعيهم لتغيير ديمغرافية سوريا، وإلحاقها بالإمبراطورية الفارسية المدعومة أمريكياً وروسياً.
وخلف كل هؤلاء، يتربع الكيان الصهيوني المستفيد من كل هذا الدمار والقتل لهذا البلد العريق وتغييبه لعشرات السنين القادمة.
لقد ظن البعض أن نداءاتنا للحفاظ على سلمية الثورة في بداياتها كانت ناتجة عن مثالية أو ملائكية، أو عدم فهم لطبيعة النظام! والحقيقة أن معارضتنا للتسليح كانت ببساطة لأنه لا ينجح مع مثل هذا النظام، وإلا لما دفَعَنا النظام إليه دفعاً لكي يقاتل في الساحة التي يتقنها جيداً! ساحة القتل والتعذيب والقصف الأعمى! كان موقفنا في الدعو للسلمية نابعاً من فهمنا الدقيق للنظام والآليات المطلوبة لمواجهته.
غير أن الاستمرار في السلمية كان بحاجة إلى درجة عالية من الوعي والصبر وضبط النفس لم تكن متوفرة لدى قواعد الثورة. كما كان بحاجة إلى قيادات ميدانية متمرسة تستطيع ضبط وتوجيه حركة الجماهير وتكريس السلمية وحض الناس عليها. وقد اغتيلت سريعاً جميع القيادات التي كانت تبشر بمثل هذا النهج. وبالمقابل وجدنا القيادات التلفزيونية تتبارى في دغدغة مشاعر العامة وتدعو - بجهل بالغ - للتصدي للنظام من مهاجرها الأمينة الهادئة! غير أن ست سنوات من فشل هذا الخيار لا بد أن توقظ المخلصين إلى الحقيقة الدامغة، وهي أنه لا منتصر في سوريا اليوم ولا غداً.. فالقوى التي تغذي الصراع لن تسمح بهزيمة ماحقة لأي طرف.. وجل ما يمكن تحقيقه هو التقسيم المستند إلى الأمر الواقع، وهو ما بدأنا نر
ى مقدماته مع بالغ الأسف!
نحن إذن بحاجة إذن لثورة جديدة على الثورة.. ثورة تعيد قيم الكرامة والوطنية الحقة.. ثورة لا تستخذي أمام المال السياسي، ولا تبيع ولاءاتها ودماء شعبها.. ثورة وطنية سورية لا شية فيها!
وبالتالي فإن هناك حاجة إلى حركة شعبية جديدة.. هناك حاجة لا إلى حزب سياسي جديد، ولا لمنظمة معارضة، بل لوطن جديد ينهض من تحت الرماد بجهود جميع أبنائه.. حركة للسوريين جميعاً على كلا الجانبين لإعادة التفكير بمصير وطنهم الذي أصبح على كف العفريت الصهيوني الإيراني الدولي.. حركة لاستنهاض قيم الوطنية السورية بكل معانيها لتفويت الفرصة على الأعداء من كل صنف ولون. حركة تكون باختصار:
حركة وطنية سلمية سورية، تؤمن بحرية سوريا واستقلالها، وبحق جميع مكوناتها في العيش في ظل دولة ديمقراطية عادلة.
حركة تريد اجتراح مقاربة مختلفة للخروج من النفق المظلم والخطير الذي دخل فيه الوطن دون أمل بالخروج منه!
حركة تريد جمع أشتات السوريين من جديد، للحدب على وطنهم، وإعادة المحبة بينهم، وعدم الدخول – في هذه المرحلة الخطيرة جداً – في التفاصيل السياسية التي تفرق بينهم، وذلك كمقاربة جديدة ومختلفة لتناول الأزمة المستعصية التي تعصف بالوطن وتهدد مصيره.
حركة تريد – مرحلياً على الأقل – تجاوز خلافات السوريين، والتركيز على ما يجمعهم لا على ما يفرقهم. ففي نهاية المطاف، المباديء والممارسات أهم من الأشخاص، وسوريا أهم وأغلى وأبقى من هوية حاكمها.
إن بناء حركة شعبية كهذه لن يكون بالأمر السهل أبداً.. فقد بلغ اليأس بشعبنا كل مبلغ، وساهمت هيئات المعارضة بنصيب وافر من المسؤولية عن تيئيس الناس وخذلانهم. ونخر الفساد والمحسوبية والتنفع هياكل المعارضة حتى أصبح الشرفاء يتطيرون من أية دعوة للعمل العام. فكل مغامر أصبح يسعى لتأليف تجمع لكي يتاجر بعد ذلك بأعضائه إما للوصول إلى المساعدات القذرة من هنا أو هناك، أو للوصول إلى مناصب خلبية ربما منحته مالاً أو شهرة أو زعامة!
ولذلك فإن أول ما يجب الحرص عليه هو أن تُصمم هذه الحركة بحيث تكون مغرماً لا مغنماً، بحيث يهرب منها ضعاف النفوس، ولا يأتي إليها إلا من يريد العطاء من ماله أو جهده أو وقته أو دمه إذا تطلب الأمر! لا بد – حتى تنجح هذه الحركة الشعبية – من أن تجعل الانتساب لها شرفاً يتطلع إليه الوطنيون الشرفاء، ويرنو إليه شباب الوطن بمختلف انتماءاتهم!
إننا نرى أن الحركة الشعبية الجديدة يجب أن ترتكز على المبادئ والاستراتيجيات التالية:
• إعادة الحراك السلمي الوطني الرافض للتدخل في شؤون سوريا الداخلية من جميع الأطراف، والرافض لأي وجود أجنبي على أراضيها من أي طرف غير سوري، وبالتالي إنقاذ سوريا من التدخلات الخارجية كلها، وخروج كافة القوى والمليشيات والجيوش والقواعد غير السورية من أرض سوريا تمهيداً لاستعادة القرار الوطني السوري.
• دم السوري على السوري حرام.. ويكفي سوريا ما سُفك من دماء أبنائها. وبالتالي ضرورة وقف نزيف الدم والتدمير، الناتج عن الارتهان المذل لكافة القوى الخارجية التي تمول وتؤجج الصراع بين السوريين تمهيداً لتقسيم وطنهم، وتفتيت وحدتهم.
• فك الحصار عن كافة المناطق المحاصرة، والسماح بدخول المساعدات والمواد الغذائية والطبية إليها دون قيد أو شرط.
• إطلاق سراح كافة المعتقلين لدى جميع الأطراف، ووقف جميع أعمال الاعتقال والخطف في جميع أنحاء سوريا.
• السماح بعودة المهجرين في الداخل والخارج إلى بيوتهم ومناطقهم دون أعمال انتقامية من أي طرف كان.
• السوريون أدرى بشعاب وطنهم، وسيجلسون لتحديد طريقة وصولهم إلى الدولة الديمقراطية العادلة التي يريدونها بمجرد خروج كافة القوى والمليشيات، وتوقف الدول عن التدخل بشؤونهم.
• يجب على الأمم المتحدة أن تعيد تقييم موقفها، وأن تطالبَ كافة القوى الإقليمية والدولية بالكف عن التدخل في الشأن السوري، وأن تمارس دورها الحقيقي لاحترام القرار الوطني السوري واحترام إرادة السوريين الحرة المستقلة.
معالم على الطريق:
1- لا بد من بناء أوسع حركة شعبية سورية ممكنة من المؤمنين بالأهداف الواردة سابقاً داخل الوطن وخارجه. ومن مختلف المرجعيات والأطياف الفكرية والسياسية، باعتبار أن ما يجمع كل هؤلاء هو الإيمان بسوريا حاضراً ومستقبلاً.
2- اتباع الطرق السلمية في التعبير عن الرأي وفي الضغط الشعبي في الداخل والخارج لتحقيق أهداف الحركة، واتباع كافة الاستراتيجيات والتكتيكات السلمية التي تزخر بها تجارب العالم في هذا المجال.
3- وضع آلية لاختيار قيادة الحركة من الأشخاص المشهود لهم بالنزاهة، والوطنية، وعفة اليد واللسان، والتاريخ المشرف، والحرص على سوريا بجميع مكوناتها.
4- وضع آلية شفافة للمحاسبة والمكاشفة، وتجديد القيادات، وإعطاء دور محوري وازن لشباب الوطن وشاباته باعتبارهم الأداة الرئيسية للتغيير.
5- الخروج إلى الشمس، وتجنب الأسماء الوهمية لأن ما تقوم به الحركة لا يحق لأحد أن يختلف معه، ناهيك عن إدانته أو
المعاقبة عليه، وتجنب ممارسات الغرف المغلقة والأسرار، ووضع الجمهور أولاً بأول بكافة أنشطة الحركة واستراتيجياتها وتحركاتها ومباحثاتها مع أي طرف كان.
6- تحريم تلقي أي دعم مادي مشروط من خارج أعضاء الحركة. فالحركات السلمية الشعبية إنما تنفر خفافاً، وليست بحاجة إلى الأموال الطائلة المُفسدة، بل هي بحاجة إلى المؤمنين المخلصين، وبالتالي فلن يكون للطامعين الأجانب من سبيل لشرائها أو حرفها أو اختراقها.
7- وضع آلية بالغة الشفافية تعرض دورياً على أعضاء الحركة وعلى الجمهور عموماً في حجم الأموال المتبرع بها ومصادرها، وآليات وأوجه صرفها تفصيلياً.
8- تصميم راية واحدة تمثل سوريا فقط، ويرفعها جميع منتسبي الحركة والمؤمنون بنهجها، ويكون رفع هذه الراية الوطنية والتمسك بها من باب أضعف الإيمان.
9- يقدم كل منتسب للحركة سيرة ذاتية مبسطة يوضح فيها ما الذي يمكنه تقديمه لسوريا. بدءاً بالدعم المادي، ومروراً بالعمل مع الجمهور، والعلاج النفسي، والكلمة، واللوحة، والفيلم، والتظاهر، والعمل مع الجهات السياسية الأجنبية ومنظمات حقوق الإنسان، وإرسال الرسائل للمنظمات والسياسيين وقادة الرأي في كل ساحة من الساحات، وانتهاء بمجرد تبني راية هذه الحركة ورفع علمها ومشاركة بوستاتها.
10- تتولى قيادة الحركة رسم استراتيجية تفصيلية بعيدة المدى وخطوات مرحلية محددة لتحقيق أهداف الحركة، وتوسيع رقعة أعضائها والمؤمنين بها، وتحدد في كل مرحلة طبيعة الأنشطة السلمية والإعلامية التي يجب القيام بها داخل الوطن وخارجه. ويتم إطلاع كافة الأعضاء، وحتى الجمهور الواسع، على تلك الاستراتيجية إشراكاً لأوسع الشرائح في تبنيها وتنفيذها.
11- في جميع أدبياتها وتصريحاتها ومواقفها تلتزم الحركة بالتعبير عن الهم السوري العام، والمصلحة السورية العليا، والهدف المركزي الذي قامت من أجله، دون الدخول في الخلافات السياسية التي تضعف دورها الوطني الأساسي كحركة جامعة للسوريين بمختلف منابتهم وانتماءاتهم السياسية والفكرية، وتؤجل ما عدا ذلك من قضايا (رغم إدراكها للخطورة والتعقيدات الكبيرة لتلك القضايا).
12- وبناء على البند السابق، ورغم الصعوبات الجمة، تسعى الحركة إلى تعزيز القواسم المشتركة بين السوريين، وتهذيب الخطاب العام، وتصليب الموقف الوطني حول الثوابت. وفي سبيل ذلك تسعى جاهدة إلى ترشيد خطاب أعضائها، واستبعاد كل من يعمل بشكل مباشر أو غير مباشر على تعميق الهوة بين السوريين، دون الحجر على حرية الناس ومصادرة حقهم في الاعتقاد والتعبير في إطار المصالح الوطنية العليا.
13- في سعيها لبناء تيار شعبي واسع حول أهدافها المركزية، تعمل الحركة على الاستفادة من التجارب العالمية في مجال المصالحات الوطنية، والتوعية الوطنية، ومد الجسور، وأشكال العمل المدني الموحد لتحقيق أهدافها النبيلة.
وأخيراً، ليست لدينا أية أوهام في مدى سيطرة القوى الإقليمية والعظمى على القرار السوري على الجانبين. غير أننا ممن يؤمنون بقوة الفكرة إذا ما تهيأ لها حَمَلةٌ مؤمنون مضحون. فهي كالزهرة التي تشق أعتى الصخور. ولا بد أن تولد من لجة هذا اليأس إرادة جديدة للحياة ورفض إملاءات الشياطين الكثر.
ونحن على ثقة بأن مثل هذه الحركة الشعبية ستلاقي القمع من النظام كما تلاقيه من المعارضة المسيطرة على الأرض، رغم أن كلا الطرفين يتغنيان بأهدافها المعلنة، وسيجدان صعوبة في إدانتها واضطهاد أنصارها الذين سيكثرون مع كل انتصار صغير يحققونه، وسيلونون أرض الوطن وسماءه بوعيهم وصبرهم وتمسكهم بالثوابت الوطنية وبحق سوريا في الوحدة والبقاء والحرية والتقدم.