ملاحظات على "لا ورقة" تيلرسون
أول ما يلفت النظر في "لا ورقة" وزير الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسون، المعلنة أخيرا، إعلانها طيّ صفحة ما سمي "الانكفاء الأميركي"، والإبقاء على وجود عسكري أميركي مؤثر في أفغانستان والعراق وسورية. هذه الخطوة هي "مبدأ ترامب" الذي أقره جنرالاتٌ تزايد نفوذهم في السياسة الخارجية الأميركية بعد فوز دونالد ترامب بالرئاسة، وتم التوصل إليه عبر مراجعاتٍ أنجزتها العسكرية الأميركية، أنهت الميل إلى "الانكفاء" من سياسات أميركا الخارجية، واستعادت الميل إلى التدخل المفتوح في الخارج، الذي طُبق جزئيا قبل مغادرة باراك أوباما البيت الأبيض، وتُرجم إلى تموضع عسكري وازن في سورية، ما كان عسكر واشنطن ليفوّتوا فرصة احتلاله بديلا استراتيجيا للعراق، بما له من أهمية استثنائية بالنسبة لسيطرة واشنطن على المجال الأوراسي بمجمله.
تشير "لا ورقة" تيلرسون إلى أنه ستكون هناك انعطافة مفصلية في السياسة الأميركية، وأن تحولا بعيد المدى يمكن أن يترتب عليها بالنسبة للمنطقة العربية/ الإسلامية عموما، ولسورية خصوصا، التي تعاني الأمرّين من عدوان عسكري روسي على شعبها، يحتل مناطق عديدة منها، مهمته فرض حل عسكري/ سياسي مخالف للقرارات الدولية، تعمل موسكو للانفراد بتحقيقه وجني مغانمه، بسحق سورية عسكريا وسياسيا، وفرض بشار الأسد رئيسا على شعبها الرافض له ولنظامه، مكافأة له على بيعها وطنه نصف قرن، فترة قابلة للتجديد كل خمس وعشرين سنة.
تضمر سياسة واشنطن الجديدة منطوياتٍ متعدّدة، يجب أخذها بالحسبان في أي جهد وطني يسعى إلى تحقيق أهداف السوريين في الحرية والكرامة، أهمها:
أولا، حجم الوجود العسكري الأميركي الحالي غير الشرعي في شمال سورية وجنوب شرقها وجنوب غربها، والموزع على عدد كبير نسبيا من القواعد العسكرية، ليس نهائيا، بل هو حجمٌ أولى يرجّح أن يبني عليه حضور مستقبلي موسع ومديد، تقول "لا ورقة" تيلرسون إن دوره سيتخطّى التصدي للمشكلات المحلية إلى مواجهة المشكلات الإقليمية الكبرى، مثل مشكلة انتشار إيران خارج حدودها، الذي قرر ترامب إخراجه من العراق ولبنان واليمن، ناهيك عن سورية ومنطقة شرق المتوسط والخليج العربي. يحمل الوجود العسكري الأميركي في سورية طابعا دائما، وليس صحيحا أن غرضه هو النفط والغاز، كما تقول تحليلات سورية عديدة. وهو مسألة وطنية بامتياز، ومن واجب السوريين المبادرة إلى تقويضه من خلال عقد اجتماعي/ سياسي وطني/ ديمقراطي، ينتجه حوار وطني شامل، تشارك فيه مكونات جماعتهم الوطنية جميعها، خصوصا منها عرب سورية وكردها، يخرجهم معا من احتجاز استبدادي، سلبهم حقوقهم بوصفهم مواطنين أفرادا، ويعترف بحقوق الكرد القومية، باعتبارهم مكونا وطنيا رئيسا، لتنتفي بتفهمهم قدرة أميركا على التلاعب بهم من جهة، وبوحدة سورية وسيادتها من جهة أخرى، وكي يظهر وجودها العسكري في بلادنا على حقيقته احتلالا يرفضه السوريون.
ثانيا، لن تنفرد موسكو من "لا ورقة" تيلرسون بحل المسألة السورية. ولن تنجح في بلوغ أهدافها الخاصة في سورية وجوارها، لأن واشنطن لن تدير ظهرها لسورية وتعقيداتها بعد الآن، ولن تسمح بتحقيق موسكو مراميها من دون تفاهم معها يعطل جهودها الانفرادية، ويقنعها بقبول حصة من يحتل الموقع الثاني في سورية، وضمن التراتب الدولي. مع هذه الـ "لا ورقة" ستبدأ متاعب موسكو السورية. ومن المرجح جدا أن يكون الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، قد قرأ بقلق رسالة الطائرات بلا طيار التي "غزت" قاعدتيه في حميميم وطرطوس، وأفهمته كم هو هش وضعه السوري، وكم يمكن أن يكون الخطر عليه كبيرا، إن هو تمسك بوهم انفراده بالحل، وقدرته على إبقاء بشار الأسد في السلطة، بعد أن جعل الروس وجوده فيها مسألة محسومة، ليس باستطاعة أحد تحدّيها. ولعله لافتا أن رسالة الطائرات سبقت بأيام قليلة الإعلان عن "لا ورقة" تيلرسون التي حملت المضمون نفسه، وجوهره تحدّي روسيا في سورية، ورفض التعامل معها باعتبارها صاحبة قرارات تلزم الجميع، بما في ذلك أميركا التي ينتشر وجودها العسكري في مساحة تبلغ قرابة 30% من المساحة الإجمالية لسورية، فصلتها واشنطن عن وطنها بخط أحمر هو وادي الفرات، وحذّرت موسكو والنظام وإيران من الاقتراب من الوادي، ناهيك عن تخطيه، لتخرج بذلك المنطقة من الحل الروسي الذي أعلنت طائراتها بلا طيار أنه لن يكون انفراديا، بما أنه قد يتحول، في أي وقت، إلى عبء ثقيل على موسكو وطهران، لأسباب منها أن البيت الأبيض لن يسمح بإعادة إعمار سورية أو بسحب قواته منها، في حال كان الحل لا يخدم المصالح الأميركية، أو يضمن الاتفاق على انتقال سياسي بعيدا عن الأسد. بهذه الرسالة المتعدّدة المضامين، وبانتشارها العسكري الواسع، تبلغ أميركا الطرف الروسي أن الاعتراف بحقوقه، ومساعدته على بلوغها، يشترط اعتماده حلا دوليا يخدم مصالحها، وإلا دار في حلقةٍ مفرغة، وفشل في نيل ما يرضيه.
ثالثا، على الرغم من أن العرض الذي تقدمت به الـ "لا ورقة" يبدو قريبا من مسار الحل الروسي ومفرداته، في ما يتصل بالدستور والانتخابات ودورهما في إلغاء "الهيئة الحاكمة الانتقالية" التي تعطيها وثيقة جنيف، والقرارات الدولية، حق تكليف لجان مختصة بصياغة الدستور والإشراف على انتخابات حرة، فإن هناك تباينا مهما في فهم الطرفين الدوليين للدستور والانتخابات، يرجع إلى حقيقة جوهرية، هي أن أميركا أخرجت، في استراتيجيتها الجديدة، بشار الأسد من السياق السوري الداخلي، وربطته بحربها على الإرهاب بصفته طرفا في نسيج إرهابي متكامل، يضمه إلى إيران وداعش، سيكون مستبعدا وضع دستور يحميه، بما أن القضاء عليه سيكون مضمون (وهدف) المرحلة المقبلة من الحرب ضد الإرهاب، والتي سينتقل مركز ثقلها من "داعش" إليه شخصيا، وإلى وجود طهران العسكري في سورية، بعد ما حققته الحرب ضد "داعش" من إنجازات أدت إلى تقليص وجودها، وتحرير مدن العراق وسورية الكبيرة، التي احتلتها، وصار ضروريا استكمالها بالتخلص من الأسد، وبإخراج طهران ومرتزقتها من سورية، وفي مقدمتهم حزب الله. هذه النقلة، إن تمت، أوضحت معنى الانتقال السياسي المطلوب للحل، وحوّلت وظيفة الدستور الجديد من إبقاء الأسد، كما ترغب روسيا، إلى إطاحته كما تقول "لا ورقة" واشنطن، باعتباره ركيزة للإرهاب وهدفا أميركيا في الطور المقبل من حرب أميركا لصيانة أمنها القومي.
هل يستهدف الفهم الأميركي للدستور إنقاذ الأسد، كما يريد الروس، أم التخلص منه، لاستحالة وجوده رئيس دولةٍ هو في الوقت نفسه إرهابي يهدّد العالم؟ هذه المسألة يجب على الهيئة العليا للمفاوضات، وأطراف العمل الوطني، مناقشتها مع الأطراف الدولية والأمم المتحدة، من منظور صلتها بالانتقال السياسي: مرجعية للقرارات الدولية التي تعترف بحقوق الشعب السوري، بما أن من غير المعقول أن تخرج واشنطن الأسد من سياقه السوري، وتسقط شرعيته باعتباره إرهابيا محليا وإقليميا ودوليا، ثم توافق على بقائه رئيسا لسورية. بهذا الربط بين الأسد والإرهاب المحلي والعابر لسورية، يمكن فتح باب إخراجه من السلطة، وإيجاد حل يرضي السوريين، ويلبي مطالبهم.
رابعا، ستطرح هذه السياسة "الجديدة" علينا مخاطر وتحديات عديدة، إذا لم نواجهها بنجاح، بقينا ضحايا الآخرين ومصالحهم، وجذبنا إلى مواقع تمكّن واشنطن من التلاعب بنا وبثورتنا ووطننا، كما فعلت إلى اليوم. كي نتفادى هذا المصير، من المحتم تخلينا عن نهج المعارضة إبّان السنوات السبع الماضية الذي فشل أيما فشل، في كل صغيرة وكبيرة عالجها، وكلف شعبنا أنهارا من الدماء، لو كانت سياساته وأساليب عمله صحيحة، لأسقطنا النظام.
تغيّر واشنطن سياساتها، مع ما يحتمه ذلك من تغيير في سياسات أطراف الصراع جميعها، ويفرضه من تطوير في سياسات المعارضة، تحتوي بواسطته مستجدات الموقف الأميركي، وانعكاساته العربية والإقليمية والدولية، فإن فشلت في ذلك، فوتت على شعبنا فرصةً قد تكون الأخيرة للخروج من مأزقٍ حشرته فيه عوامل عديدة، منها أخطاؤها، فإن لم نتخلص منها لن يبلغ شعبنا حريته، وسيبقي خاضعا لطغاته ومستبديه، في السلطة كما في المعارضة.