بعد هلسنكي ودرعا... البحث عن حق عودة اللاجئين!
بعد قمة هلسنكي وسيطرة النظام على درعا، طوى الأسد صفحة البحث عن حل سياسي في بلاده ومعه احتمال التقدم بإصلاحات أو حتى الرد على سؤال عن مسألة بقائه في السلطة، فهو لم يعد مضطراً إلى كل ذلك. وفي المقابل، طوت الثورة السورية واحدة من أهم لمعاتها الحضارية في التاريخ التي لو تسنى لها أن تُحدِث تغييراً لقدّمت أنموذجاً يضاهي في معناه نتائج الخلاص من الاستعمار.
ومع سيطرة النظام على درعا تكون اكتملت الحلقة التي بدأتها روسيا بضرب مبادئ جنيف منذ اليوم الأول لدخولها بهدف قلب المعادلة ويكون النظام أكمل مسلسل انتقاماته بضربة معنوية دهست مشاعر السوريين حين حطّم ضريح الشهيد الطفل حمزة الخطيب. جملة تصدعات معنوية جُل ما تقوله إن حجم التواطؤ الدولي تغلّب على أحقية السوريين في العمل لبلد نظيف وآمن، وأن المجاراة الدولية لروسيا في مساري أستانة وسوتشي لم يأتِ إلا في سياق هذا التواطؤ.
السؤال عن مصير الحل السياسي لم يعد موضع جدل إذ لا أحد يسأل عنه، إنما السؤال عن عودة اللاجئين بات يرمز إلى جوهر المشكلة التي لا يمكن القفز عليها، وإن أتت سيطرة النظام لتشجعه على تجاهل الحاجة إلى الحوار فإن مسؤوليته ومسؤولية روسيا كراعي للنظام في إعادة اللاجئين لا يمكن أن تتجاهل الأسباب والدوافع السياسية التي أدت إلى التهجير، وهي الأسباب التي دفعت بالجزء الأكبر من السوريين إلى مغادرة سورية. لكن روسيا تتعاطى مع هذه الأزمة من زاوية الحاجة الأوروبية إلى حلها، وليس من زاوية حق اللاجئين بالعودة بعد إزالة الأسباب السياسية، وهنا الفارق بين التوجهين، إذ لا تزال روسيا ترعى خروج المسلحين وعائلاتهم من كثير من المناطق وأشرفت على أكبر عملية تغيير ديموغرافي في الغوطة وضواحي دمشق.
إن استقرار سورية الذي يهيئ لإعادة إعمارها والشروع في استثمارات الشركات الروسية يترافق لحد الآن مع إجراءات توحي بعدم رغبة النظام وروسيا في إعادة اللاجئين، بل بالعكس فإن إعادة رسم الخرائط بين دمشق والمحافظات الأخرى وتنظيف قلب العاصمة ومخيم اليرموك والغوطة من الكتل السكانية إنما تقف خلفه فلسفة تعطي الأولية للسلم الاقتصادي والإعماري وكأن ليس هناك حاجة للأمان الأهلي والمجتمعي الذي يحافظ على نسيج سورية ومكتسباتها الحضارية. فلسفة مأخوذة من العقل ذاته الذي يحاول إقناع الفلسطينيين ببعض المحفزات الإقتصادية لقاء التخلي عن حقوقهم وكراماتهم. والقانون الرقم 10 الذي يجرد اللاجئين من حقوقهم يقول بالفم الملآن إن لا رغبة للنظام بعودة هؤلاء.
هنا لا يعود الأمر يتعلّق بمشيئة الأسد وأركان حربه في معالجة هذا الأمر، بل يتعلق بتحول مشكلة اللاجئين السوريين إلى قضية دولية تستوجب معالجاتها إقرار حقهم في العودة إلى ديارهم وضمان سلامتهم، وإن عبر قرارات دولية تصدر عن مجلس الأمن، لأن الانتقاص من البعد السياسي للأزمة السورية، إنما يحوّل تداعياتها إلى مشكلة إقليمية ودولية تستعصي على الحل. إضافة إلى ذلك ووفق التجربة التي يعيشها لبنان اليوم، حيث توحي الوقائع بأن الهدوء عاد إلى كثير من المناطق السورية ما يدفع كثيرين إلى إعلاء الصوت بضرورة إعادة النازحين، يتبدى أن الأمر أعقد بكثير مما يُقال إذ إن الهاربين من الخدمة الإلزامية من الشباب السوري الذين يقودهم الأسد إلى القتال بمواجهة أهلهم يشكلون نسبة كبيرة من اللاجئين، وهؤلاء إنما يلجأون لأسباب سياسية تتعلق بمظالم النظام الذي يمارس ساديته بوجه مستقبلهم. فالشروط المتعلّقة بالعودة بحسابات النظام هي شروط المُنتصر على شعبه وليس المُتصالح معه لحد الآن!
في جميع الأحوال فإن رحلة التهجير في سورية لم تنته بعد لكي تبدأ رحلة العودة التي تتلهّف لها الدول المتضررة من النزوح، فيما النظام يستعملها ورقة تستدعي الاعتراف بشرعيته وفتح حوار معه والدخول في ابتزاز المجتمع الدولي للضخ في إعادة الإعمار، من دون التوصل إلى اتفاق سياسي يوحي بالثقة بأن الإعمار إنما يتأسّس على واقع سياسي متماسك واستقرار مستدام.
وبالتالي فانتقال النظام من درعا إلى إدلب لا شك سيفاقم مسألة اللجوء وسيدفع بكتلة كبيرة من سكانها والنازحين إليها نحو تركيا التي بدأت تتلمّس هذا الأمر بصفته عملاً عدائياً واضح الأهداف والغايات. تحذير أردوغان يحمل أبعاداً تتعلّق بإمكانية أن تطال تداعيات التهجير أوروبا أيضاً! فيما التماثل بين الوضعين القائمين في الشمال والجنوب السوريين غير واقعي لحد الآن: فإذا هضم كل من الأردن وإسرائيل مسألة إعادة بسط النظام سيطرته على حدودهما وفقاً للترتيب الذي أدارته روسيا وتعاملا مع تدفق اللاجئين على حدودهما بصفته وضعاً مؤقتاً وغير مستدام، فإن الواقع بعد إدلب يختلف تماماً، وذلك لطبيعة تشابك القوى والدعم التركي المباشر للفصائل الذي لم يصل في الجنوب مع الأردن إلى هذا المستوى.
كلام الرئيس الروسي حول اللاجئين في هلسنكي مقدمة لدخول هذا الملف في التوازن الروسي الأوروبي، مثله مثل ملف إمداد أوروبا بالغاز! وجولة النظام القادمة في إدلب لا شك تدخل في هذا السياق.