بعد سبع سنوات.. تعاظم اليقين
ثورتي جَمَعَتْ شَتاتَ نفسي وألزمتني طريقًا يأخُذُني إلى حقيقة وجودي...
ما كانت الثورة أملًا استند على الوهم، ولا فورةً أتتْ من فراغ، ولا هي لعبةٌ نحن بيادقها يُراد منها تحويل البلاد إلى قَصعةٍ يأخُذُ منها كلُّ أحدٍ حِصَّته، إنما كانت نتاجَ استبدادٍ طال أمدُهُ وبلغ ذُروتَهُ حتى جعل الأرض على صدور الناس كأنّها عُنُقُ زجاجة، فجاءت كَسِنحَةٍ من الله أعضَلَت على سياسة تَصْنِيمِ السلطةِ تَرَسُّخُهَا في العقول، وما طول بقائها إلّا إثباتٌ لقوة باطنها عن ظاهرها..
كانت الثورة نقطة التحوّل في الحياة، وكأنّها زَلْزلةٌ وقعتْ فأهْدَمتْ الركود فينا وحوّلَتْهُ إلى حماسٍ معنَّدٍ لا يزول إلا بالنَسْف، ولا ينْسِفُه إلا قدرةٌ إلهيّةٌ كالتي تُخرج اليوم الجديد من اليوم القديم، وجَبلتْنا على أن نبْني درجةً من كلّ مِحنةٍ في سُلَّم صعودنا، ومن كلّ مصيبةٍ خطوةً نحو الهدف الأسمى، لنكون شوكةً في حلق العوائق وصبارةً قاسيةً لكلّ ألم -والداخل قلب طيب-، فأيْقَنّا أن دماء الشهداء تسقي لنا بذور الحرية، وأن الدمع حين يُزرَع يُنبتُ فينا سرَّ الانتصار وابتهاج المجد، فنستثمر الحُزن ليُثمر لنا ما عُقدَتْ عليه الآمال ووصلتْ إليه الأنظار..
ما من ثورةِ حقٍّ إلا وكانت كالمسكينةِ التي تتلوّى وتترنَّحُ تحت ضرباتٍ مُهلِكةٍ من داخلها و من خارجِها، ولكنّها أَبَتْ إلّا أن تعتَرِشَ الساحة كما اعترشتَ قلوبَ من نصرها و عزيمةَ من أحياها
حكمةُ الشيوخ ترى في الشابّ حماسة الشباب وشجاعة الحياة، ولعلّي أجدُ نفسي كما يُقسِمُ الشيخ على نفسه لو كان شابًّا، فما رأيتُني يومًا إلا صُلْبَ العَزْم، إذا همَمْتُ مضيت، وإذا مضيتُ لا ألتفتُ إلى الوراء، فما من أمرٍ نويتُ عليه إلّا وركبتُ رأسي فيه، ولأن تُكسَر جُمْجُمَة رأسي أهْوَنُ عليَّ من أن تُكسَرَ إرادتي، وما عقدتُ الإرادة على شيءٍ كما عقَدتُهُ على أن أسير بدرب الثائرين لإبادة طغيانٍ كُشِفَت خباياه وبانَتْ سِيميَائُهُ في ظلام السجن الذي كوَّن في جوفي معاني الحرية التي أريدها، حين تَجَسَّدت حقيقةُ الدولةِ أمامي بأُحبوشَةٍ زِنْجِيَّةٍ تَشْتُمُ العِرضَ والذات الإلهيَّة وتُأَلِّهُ الحاكم أثناء التحقيق معي، فأُجْبَرُ تحت ويلات العذابِ على الموافقة والتصديق، فقط لأني كنت من المطالبين بالإصلاح..
سَبْعُ سنواتٍ مَرَّت على عهدي لنفسي ولكل ذَرَّةٍ في العالم وكأنّها ما مرَّت، تلك السَبعةُ التي بدأ المستقبل ببدايتها -مع ظنِّ الكثير أنَّها الباعث لعودة الحياة إلى الوراء-، كان عليَّ أن أُلَمْلِمَ شَتاتَ نفسي وأجمع ذاتيَ المتناثرةُ في مَمرّات الدنيا وملذّاتها، لأحقّقَ من جَمْعِها "أنا" الحقيقية، وأمضي راغبًا أطرُقُ أبوابَ الحريةَ منذ أن انطلقت، ولم يُهِنْ شدَّة بأسي لا فقدٌ ولا جوعٌ ولا دم ولا دمار، كلّ ذلك في يقيني إثباتٌ على طبيعة الحقّ، فالحقّ هو فورةُ العزائمِ و شدّة الصولات، هو الإصرار عليه والنيلُ منه، هو الصبر والجلادة والتضحية و الثبات، هو الفَقدُ والألمُ والأمل، كل هذا في الحقِّ، لأنّه استجلابٌ واستحقاقٌ ليس دعوى ورخاء..
كما أنّها أظهرت لنا حقيقة الحياة وكيفيَّةَ البناء، وأنَّ هذا الهَدمَ المشهودَ ما هو إلا تمهيدٌ لتأسيس ما ثُرنَا لأجْلِه، وأنَّ سُنَّة الكون ستمضي بنا كما مَضَتْ بالسابقين، إذ أنّنا ما زلنا في صحوةٍ لم تبلغ الإدراك بعد، فالتَخبُّطُ المُعاش خلال سَبعِ سنواتٍ ما هو إلا كتخبُّطِ النائم في أولى لحظات صحوته؛ يرتطم بهذا ويصطدم بذاك، وليس لطول العمر في التغيير مقياسٌ بالضعف أو الشيخوخة بل المقياس على ذلك هي العزيمة الشعبية وصلابَتُها، فما من شعبٍ فاترٍ في إرادته إلا وسُلِبَتْ منه حقوقه المُنالَةُ حين هبَّ معتزمًا عليها، وأمّا من هو في غليانٍ على حقِّهِ فحتى لو غُصِبَ حقَّيْنِ ونالَ أحدَهُما لعادَ واستحوذَ على الآخر، فيقينُ الثائِرِ أنّ المُنتصَفَ حافًّةٌ في الثورات وفيه مَقْتَلُها ومَقابِرُه ...
والتاريخ أمكَنُ الأسنادِ للاستشهادِ بطبيعةِ طول أمدِ الثورات وأحداث التغيير، فما من ثورةِ حقٍّ إلا وكانت كالمسكينةِ التي تتلوّى وتترنَّحُ تحت ضرباتٍ مُهلِكةٍ من داخلها ومن خارجِها، ولكنّها أَبَتْ إلّا أن تعتَرِشَ الساحة كما اعترشتَ قلوبَ من نصرها وعزيمةَ من أحياها، وإنَّ المرء إذا هُدِيَ سبيلَهُ وعَزَم عليه بقوة العزم ويقين اليقين كانت له السُبُلُ الأخرى في عداء، تُصيبُهُ من أذاها وتصنع له العقبات، فإن هو كان على طبيعة الثابتِ المُسْتَبصرِ مضى قُدُمًا دون تردُّدٍ أو كَللٍ، وسبيلُنا بعد ضياعٍ أربعينيٍّ قد لا تكفيه سُبَيعَةٌ في المسير ولا ثُمَينَة، بل الحاجة قد تكون إلى عشرات مِن السنين..
دربُ السلام مُعبَّدٌ بالآلام، وليس لأحدٍ به طاقةٌ إلا أولئك الذين يقوم إيمانُهم على أن التضحية إيثارٌ للحياة وموتٌ للطغيان، وأن الأمجاد أعْوَزُ ما تكونُ في نشأتِها إلى تضحياتٍ تُحيي الفِكرَ وتَدخلُ التاريخَ، وإلى صبرٍ يغلبُ الزمنُ في طولِه، وعقيدةٍ تفرضُ على النَّفْسِ الوثوب والمثابرة فتجعلَ أعظم أجرٍ لها هو إنهاء عملها..