الدستور السوري المنتظر
نجحت روسيا في مسعاها السياسي بتعويم مخرجات مؤتمر سوتشي للحوار الوطني الذي عقد يوم 30 يناير/ كانون الثاني 2018، والذي انتهى بالدعوة إلى تأسيس لجنة لإعادة كتابة الدستور السوري، على الرغم من مقاطعة الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين المؤتمر. وقد جاءت الخطوة الروسيّة الرامية إلى إعادة كتابة الدستور، والوصول إلى انتخابات "ديمقراطية" على شكل طعنة نجلاء لمقرّرات مؤتمر جنيف، لتصبح اللجنة الدستورية وفق تصريح ممثل الأمم المتحدة ستيفان دي ميستورا "واقعا في جنيف".
سبق لروسيا أن أعدّت مسوّدة للدستور السوري، وزّعت نسخه على المتفاوضين في مؤتمر أستانة، ليعتبر الدستور من حيث الجهة التي كتبته، ومن حيث صياغته، مثيراً لوفد المعارضة الذي اعتبرت شأن كتابة الدستور مهمّةً سورية بحتة، إلى جوار عدم ترحيب النظام السوري بالمسودة الروسية التي تقلل من صلاحيات رئيس الجمهورية، وتمنح الأطراف حيّزاً في حكم أنفسهم على حساب المركز، ولعل هذين الأمرين هما أكثر ما يضايقان النظام السوري الراغب في العودة بالبلاد إلى ما قبل عام 2011. بيد أن المهم في خطوة الروس هذه كان إلقاء حجر في بركة راكدة، وتحفيز طرفي النزاع على الشروع في خطواتٍ عمليّة باتجاه كتابة دستور جديد وإجراء انتخابات ديمقراطية، وقد يكون لهذين الموضوعين الأثر البالغ في تجفيف كل مقرّرات مؤتمر جنيف، بالإضافة إلى منح روسيا مزيدا من الحق والشرعية الدولية داخل سورية، على اعتبارها العين الساهرة على تطبيق الدستور.
ستخضع اللجنة الدستورية، كما كل الوقائع السورية، إلى دور الدول النافذة في الملف السوري، ولعل تعبير روسيا إنها اتفقت مع الجانبين، التركي والإيراني، في هذا الخصوص، يفي بالمعنى المراد قوله، فمهما تلوّنت مكونات كتابة الدستور الجديد وتنوّعت، من حيث مشاركة خبراء قانونيين وممثلين عن المجتمع المدني ومستقلين وقيادات قبليّة ونساء، إلّا أن كعب الدول النافذة والمتدخلة في الشأن السوري سيبقى الأعلى في كتابة فصول الدستور ومواده.
إلى ذلك، لا تبدي الولايات المتحدة وحلفاؤها الاهتمام اللازم بعملية كتابة الدستور وقد يكون الأمر راجعاً إلى فهمهم جوهر المسألة بأنها إعادة لترتيب الوجود الروسي في سورية بشكل قانوني مختلف، أي جعل هذا الوجود ودوره في سورية أقرب إلى دور الوصيّ والمنتدب منه إلى المحتل المباشر، إضافة إلى معرفتهم بأن الحل لا يمكن أن يكون ورقيّاً دستورياً فحسب، في ظل بقاء النظام على شكله الحالي، ومهما جرت محاولة تلطيف شكله الخارجي، بغرض إعادة تدويره وتعويمه مجدّداً، وبالتالي تتمثّل رؤية الولايات المتحدة وشركائها في أن عدم إيجاد حل سياسي جدّي وسابق لكتابة الدستور هو أشبه بعملية تورية الغبار تحت السجادة.
في السياق الدستوري الذي بدأ يأخذ مساحةً في إعلانات الروس وضع اللّمسات الأخيرة لحل المسألة السورية، يعي معظم السوريبن أن الكلمات، مهما تغنّت بالديمقراطية والحرية، ستبقى مجرّد كلمات لا طائل منها، طالما أن الطرف المنوط به صون الدستور وتطبيقه هو السلطة الأمنيّة القمعية نفسها، المتهيّبة لخرق الدستور، حتى وإن حاز على قبول كل السوريين، ورضا المجتمع الدولي برمته.
لا يتعارض ما سبق أعلاه مع القول إن المشاركة في كتابة دستور جديد للبلاد مهمّة جليلة، على ما تحويه من احترام لعقد مؤسس لجمهورية جديدة، وأن كل خرق لاحق للدستور سيعتبر خرقاً لاتفاق دولي، ويضع المجموعة الدولية الراعية أمام مسؤوليات جديدة، زد على ذلك أن الدستور قد يساهم في ردم الهوّة بين السوريين، لجهة الإقرار بتعددية المجتمع السوري الإثنية، وإعادة الاعتبار لقيم المواطنة ودور الأطراف في المشاركة في حكم ذاتهم، وتقليص السلطات المهولة الموكولة لرئيس الجمهورية. لذلك قد تكون هذه المسائل الإشكالية، والتي أصر نظام البعث على تخبئتها، أبرز ما يمكن مناقشته في اللجنة الدستورية متعدّدة الأطراف.
في مجمل الأحوال يبقى الدستور المنتظر، على الرغم من صورته الضبابية حتى اللحظة، والتشكيك بإمكانية تطبيقه واحترامه على أرض الواقع حال الاتفاق على مضمونه، وثيقة تاريخية جديدة، تستلزم إصرار المعارضة على قول كل ما أراد السوريون قوله خلال السنوات الماضية من حرية وديمقراطية وعدالة اجتماعية.