أستانة من المسار العسكري للمسار السياسي
بعد أن اقتصرت جولات أستانة السّابقة على رسم الخارطة العسكريّة على الجغرافيا السّوريّة، تنتقل اليوم إلى المسار السياسي، ولا سيما بعد وضوح خارطة السّيطرة وإنهاء جيوب المعارضة السّوريّة العسكريّة، وتأمين العاصمة دمشق، ونشر القوّات التّركية لنقطة المراقبة رقم 12، والأخيرة، في ريف جسر الشّغور، وتزامنها مع انسحاب المليشيات الشّيعيّة على مضض من بلدة الحاضر باتجاه جبل عزان، تنفيذاً لاتفاقات خفض التّصعيد.
وفي هذا السّياق الجديد، تتّضح أسباب استدعاء الرّئيس الرّوسي فلاديمير بوتين لرأس النّظام السّوري بشار الأسد إلى سوتشي، فثمّة استحقاقات تقع على الجانب الروسي للمضي في المسار السياسي لأستانة. فقد أعلن بيان "أستانة 9" أنّ ممثلي روسيا وإيران وتركيا سيلتقون مع ممثلي المبعوث الأممي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا وأطراف النّزاع في سوريا، لمساعدة عمل اللجنة الدّستورية. فلقاء سوتشي الأخير (فيما نزعم) وضع خارطة المسار السّياسي القادم الذي سيركّز على مستقبل العمليّة السّياسيّة في سوريا، وفي مقدمتها الدّستور، ولذلك أمر بوتين الأسد بالموافقة على إرسال وفد الأمم المتحدة للعمل على صياغة الدّستور المقبل لسوريا وبحث العمليّة السّياسيّة.
وإحضارُ الأسد منفرداً إلى سوتشي يدلّل على أنّ ثمة أمرا ما يتعلق بجوهر العمليّة السّياسيّة والوضع السّوري يرسمه الرّوس، ولا يريدون لأحد أن يعرفَ مضمونه، على الأقل في المدى المنظور.
ولا يمكن فصل محاولات الانطلاق في المسار السّياسي عن المستجدات العسكريّة الأخيرة الحاصلة في سوريا. ففي الأيام الأخيرة، تمّ استهداف مواقع عسكريّة بالقرب من قاعدة التّنف شرق حمص يُعتقد أنّها تابعة لإيران، كما هزّت سبعة انفجارات عنيفة مطار حماة العسكري، مما أدى لأضرار كبيرة، وأدى لمقتل وجرح المئات، وقصفت الدّبابات الإسرائيلية مواقع لحزب الله في التلول الحمر في القنيطرة، وجرى الحديث عن انفجارات في مطار دير الزور العسكري. ويُعتقد أنّ إسرائيل تقف وراء كلّ هذه العمليات التي تستهدف الوجود الإيراني في سوريا.
ولعلّ إنهاء الوجود الإيراني في سوريا رغبة روسيّة أبلغها الرّئيس الرّوسي للأسد، وهذا يفسّر تصريح بوتين حول البدء بسحب القوّات الأجنبيّة من سوريا مع تقدّم العمليّة السّياسيّة، وليوضح المتحدث باسم الرّئاسة الرّوسيّة ديمتري بيسكوف لاحقاً أنّ ذلك لا يشمل الجنود الرّوس. ومن المؤكد أنّه لا يشمل الأمريكان، لعدم قدرة الروس على فعل شيء تجاههم، وربما يخرج الأمريكان طواعية في حال نجح الرّوس في إخراج إيران من المشهد.
وربما هذا ما يفسر أيضاً تجاهل روسيا للضربات الإسرائيليّة المُوجعة لإيران على الجغرافية السّوريّة، بل ومباركتها لها خفيةً، فقد كان نتنياهو صريحاً عندما استبعد سعي روسيا للحدّ من العمليّات العسكريّة الإسرائيليّة في سوريا.
ويهدف الرّوس من إخراج إيران، والاستفراد بسوريا، والحصول على التأييد العربي والغربي لمشروعها السّياسي في سوريا؛ إدراكاً منها استحالة قدرتها على تحقيق الاستقرار والإعمار منفردة.
وعودةً للمسار السّياسي الذي يجترحه الرّوس بعيداً عن إيران، فإنّه لا يصبّ بالضّرورة في صالح القضيّة السّوريّة، وإن أسهم في إخراج المحتل الإيراني من سوريا. فلا فائدة تُرجى من إخراج المحتل الإيراني ما دامت سلطة الاستبداد "نظام الأسد" والمحتل الروسي موجودين، ويتحكمان بمصير سوريا شعباً وأرضاً.
وعليه، لا ينبغي التّطبيل لإخراج إيران من سوريا (رغم إيجابيات الخروج) على أنّه انتصار للثورة السّورية، بل هو رغبة روسيّة ومطلب إسرائيلي. فالرّوس لم يعارضوا أي عمل عسكري إيراني ضد الثّورة السّوريّة، في حين أكّد الوفد الرّوسي في محادثات أستانة أنّ بلاده ستمنع أي عمل عسكري في الجنوب السوري.
فالرّوس يعملون على أن يكون مسار أستانة السياسي شبيهاً بمسار أستانة العسكري أي مساراً يحقق مصالحهم بعيداً عن مصالح السّوريين، وعليه ينبغي الحذر من مساعي روسيا وأخذ العبرة من لقاءات أستانة العسكريّة التي حققّت مكاسب كبيرة لنظام الأسد لم يكن يحلم بها قبل ذلك، ناهيك عن تخريب النّسيج السّوري عبر عمليات التّهجير، بل والتّمهيد لتقسيم سوريا وطناً.
إن فرضَت الواقعيّةُ السياسيّة على المعارضة السّورية ولوج هذا المسار، فإنّ وطنيّتهم يجب أن تلزمهم الحفاظ على مطالب الثّورة الجامعة. فليس ثمّة ما نخسره إن رفضنا الرجوع لحظيرة الأسد أو القبول بالاحتلال الروسي.