"الجولاني والأقليات" .. استثمار لمصلحة أم اعتذار عن تاريخ أسود
يعج تاريخ "الجولاني" المؤسس الأول لـ "جبهة النصرة" وصولاً لقيادة "هيئة تحرير الشام"، بتاريخ أسود، تُثقله انتهاكات كبيرة بحق "الأقليات الدينية" في سوريا، والتي اعتبرت كعدو من وجهة نظر شرعية، وشاع اسمهم بـ "النصارى" على ألسنة قادتهم وأمرائهم، فاستبيحت أملاكهم وأرزاقهم وطردوا من مناطقهم.
ليس بداية بواقعة احتجاز الراهبات في بلدة معلولا، مطلع ديسمبر/كانون الأول 2013، وما تلاه من سلسلة ممارسات بحق أبناء الطوائف الدينية "الأقليات" في مناطق سيطرة الهيئة، وصولاً لاستباحة أملاكهم في إدلب بعد عام 2015، والمضايقات التي مورست بحقهم لطردهم وتقاسم ممتلكاتها تحت بند "أملاك النصارى"، والتي اعتبرت غنائم مباحة إلى اليوم الحاضر.
ومع سلسلة التبدلات التي اتخذها "الجولاني" في سياسته، والانقلاب على كل من حوله، لخدمة مشروعه بما يتماشى مع المتغيرات الدولية، بدا واضحاً عملية التسويق المتبعة لشخصيته مدنياً، لم يسلم من بقي من أبناء الأقليات الدينية في مناطق سيطرته، والتي سجلت نوعاً من التودد والتقرب وتغيير في الخطاب و وعود بإصلاح الماضي، ليرسم "الجولاني" تساؤلات عديدة عن دوافع هذه الرسائل التي يريد إيصالها والجهات التي يستهدفها في مثل هذه التحركات.
فكره إقصائي ويحاول ركوب الموجة كما فعل النظام
وقال المحامي "إبراهيم ملكي" والناشط في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان، في حديث لشبكة "شام"، إن التحولات التي يقوم بها "الجولاني" تجاه الأقليات مؤخراً تندرج في سياق التماهي مع "السياسات الدولية المتغيرة المرتبطة بالأزمة السورية بشكل عام"، على الرغم من أن تلك السياسات يكتنفها الغموض وفق المتحدث.
ولفت المتحدث في معرض إجابته عن إمكانية أن يكون التوجه الجديد تجاه الأقليات تراجع عن سياسات خاطئة سابقة، إلى أن "جماعة الجولاني" تحمل الفكر المتطرف، وهو فكر "إقصائي إلغائي لا يتراجع"، وهو يعتبر نفسه يملك الحقيقة ويفكر ببناء مشروع دويلته، بالتالي يسعى للانسياب مع المتغيرات الدولية للفاعلين لا أكثر.
وأوضح "ملكي"، أن "الجولاني" يحاول ركوب الموجة، كما فعل النظام وادعى أنه "حامي الأقليات"، وذلك من خلال قراءة الاصطفافات الدولية، لأغلب الفاعلين لاسيما التقارب الروسي - التركي، والتصريحات التركية تجاه النظام، موضحاً أن "الجولاني" يحاول تقديم نفسه على أنه رجل "فاعل ومشروع لا يمكن تجاوزه" في تلك الاصطفافات.
وبين الحقوقي السوري، أن "الجولاني" يقدم نفسه على أنه كيان مدني بعيداً عن خطابه "الإقصائي والإلغائي" السابق ويحاول الانسجام مع المعطيات الجديدة على الساحة السورية، موضحاً أن مشروع "الجولاني" هو مشروع "مواطن ورعايا"، ويرى في الأقليات الأخرى عبارة عن أناس من طبقة ثانية، مؤكداً أن "مشروعه وخطابه متناقض فهو يقوم بزيارات تكتيكية على أرض الواقع للتناغم مع ما يحدث في محيطه ولكن هو يعي أنه لا يمكن أن يكون هناك أسس لمشروع دويلته السنية".
الجولاني يغير لونه ويقدم مشروع "معتدل"
وأشار "ملكي" إلى أن خطاب "الجولاني" تجاه الأقليات، لا يعبر عن رؤيته وممارساته ومشروعه على الأرض، وأنه يحاول من خلال التقارب مع الأقليات التي كان يسميها بـ "الروافض"، بناء دويلة في إدلب، مستخدماً تلك الأقليات كورقة، كما فعل النظام خلال 50 عاماً مضت، بينما عانت تلك الأقليات التهميش والقتل والتنكيل، متسائلاً "كيف يريد بناء دولة سنية بإدلب ضمن مشروع من لون واحد يرفض جميع الألوان الأخرى".
واعتبر الكاتب والمحلل السياسي الدكتور "باسل معراوي"، أن "الجولاني" يسعى منذ فترة لتقديم نفسه كـ "حامل لمشروع وطني إسلامي معتدل"، حيث غير اسم تنظيمه عدة مرات وأعلن فك ارتباطه مع تنظيم القاعدة الدولي، وليؤكد على خطه الجديد يجاهر بالقول أن ليس له أجندة غير وطنية بمعنى أنه لم ينفذ أو يشارك أو يبارك أي عمل منسوب للجماعات الجهادية خارج سوريا".
ورأى "معراوي" في حديث لشبكة "شام" أن "الجولاني"، قدم نفسه كـ "عدو نوعي للتنظيمات الخطرة" والتي تحمل أجندة دولية عابرة للحدود، وحاربها كتنظيم الدولة (داعش) والحركات المتطرفة المرتبطة به بسوريا كـ "تنظيم جند الأقصى"، بل حارب أو جمد أنشطة المهاجرين (الأيغور والشيشان والتركستان .. إلخ).
مشروع مدني وخطاب مختلف
وقال: إن "الجولاني" يحاول تقديم نموذج لإدارة المناطق التي يسيطر عليها إذ أنه لا مشكلة له مع علم الثورة أو احتضان التظاهرات والاحتجاجات الثورية ذات البعد الوطني السوري، كما قدم نموذج لإدارة مدنية حيث أنشأ حكومة وأشاع نوعاً من الأمان النسبي الداخلي، وحاول الظهور للإعلام بجولات على السكان بزي غير المتعارف عليه للحركات الجهادية وخطاب وطني سوري.
ولفت "معراوي"، إلى أن "الولايات المتحدة والغرب عموماً يتمنى تعميم نموذج "الجولاني" بباقي المناطق حيث يتم تدجين أو توطين الجهاد الإسلامي ويتخلى عن أي أجندة عالمية"، معتبراً أن زيارة "الجولاني" للأقليات تندرج في إطار برنامجه هذا.
الجولاني والرفض الروسي.. وحاجة الدول له
وتحدث المحلل السياسي، لشبكة "شام" عما أسماه رفض روسي لتوجهات "الجولاني" وتقربه من الأقليات بإدلب، مستشهداً بقصف الطيران الروسي لقرية الجديدة المسيحية بريف جسر الشغور في 22 تموز/ 2022، بعد زيارة "الجولاني" للمنطقة، معتبراً أن الغارة جاءت في سياق رد روسي رافض لتحركاته، وذلك بهدف إبقائه وأمثاله على لوائح الإرهاب الدولية وعدم السماح له بالخروج منها، لأنه يشكل الذريعة لوجوده وتبرير أي عمل عدواني على المدنيين بحجة محاربة الإرهاب.
وأكد "معراوي" أن محاولات "الجولاني" تغيير جلده لن تفيده، فكل دول العالم لا ينطلي عليها تلك الأساليب المخادعة إذ يبقى هو بنظرهم (ونظر الشعب السوري أيضاً) تنظيم القاعدة الفرع السوري، مستدركاً بأن الحاجة الدولية له مازالت قائمة وهي التي تبقيه على قيد الحياة، وفق تعبيره.
وأشار المتحدث لشبكة "شام" إلى أن "الجولاني" ظل يتعاون مع أجهزة الاستخبارات الغربية والأمريكية خاصة، ويقدم المعلومات والدعم اللوجستي على الأرض لحالات التصفية للإرهابيين الخطرين وكان أن تم قتل اثنان من زعماء تنظيم داعش عنده في السنتين الأخيرتين إضافة إلى عشرات مما يعلن عن قتلهم أو دون الإعلان، وهذه الحادة الدولية تبقى تنظيمه قائماً ولكن سوف يتم التخلص منه عندما تنتفي الحاجة لذلك.
رسائل خفية.. ممن يطمئن "الجولاني" أبناء الأقليات؟
واعتبر الكاتب والسياسي السوري "حافظ قرقوط" المنحدر من محافظة السويداء، إن زيارة "الجولاني" للأقليات الدينية في ريف إدلب لها وجه إيجابي، لكنها من طرف آخر تحمل رسالة خفية أن الأقليات كانت تحت حماية الأسد وهي حالياً تحت سلطته، معتبراً أن "الجولاني" لا يمكن اعتباره شخصية مستقلة، وإنما هو يتبع لمشغلين ما، يؤدي دوره حسب المرحلة الزمنية من عمله.
وتساءل "قرقوط" في حديث لشبكة "شام" عن الجهة التي يطمئن فيها "الجولاني" الأقليات في مناطق سيطرته، مستذكراً حجم الانتهاكات والمجازر التي تعرضت لها المكونات الدرزية من عناصره وفصيله نفسه، كما اعتبرها رسالة خارجية لإظهار صورة شعبية له، على أنه وجه سياسي ويستطيع تأدية دور مديد بعد انتهاء دور العسكرة، وذلك من خلال سلسلة الإطلالات التي تظهره بين عوام الشعب.
ولفت إلى أن "الجولاني" يعتبر أن مجرد زيارة هنا وهناك تستطيع محو تاريخ من التجاوزات والانتهاكات التي ارتكبها بحق جميع المكونات، وأنه يريد أن يوصل رسالة للأمريكان والأوروبيين للمتاجرة بالأقليات، بأنه يحميهم في المنطقة، على غرار ما فعل نظام الأسد، وعبر الكاتب عن خشيته من مغبة تهجير من بقي من أبناء الطائفة الدرزية في إدلب، رغم رسائل التطمينات التي قام بها "الجولاني".
الغاية تبرر الوسيلة.. متى يتراجع الجولاني؟
وأكد الكاتب أن موقف "الجولاني" الجديد ليس تراجعاً وإقراراً بالانتهاكات التي ارتكبها بحق الطائفة الدرزية، وإنما هو تبديل خطاب لتحقيق غاية في مشروع، وهو من قام بهدم مزارات الطائفة ويمارس التضييق عليهن في تحركاتهم وعبادتهم، ويمكن أن يتراجع عن خطابه هذا في حال فشل مشروعه وسيعود لممارسة الانتهاكات بحق الجميع.
وأشاد "قرقوط" بموقف المكونات الأخرى في القرى والبلدات المحيطة بمناطق تواجد أبناء الطائفة الدرزية في ريف إدلب، مؤكداً أنهم وقفوا إلى جانب إخوانهم وأمنوا لهم المأوى في وجه الانتهاكات التي تعرضوا لها، مشيراً إلى أن لا خطر على أبناء الطائفة من جيرانهم أو أي طرف آخر، فلماذا يقوم "الجولاني" بطمأنتهم ومن من ؟.
"فراس فحام" الباحث في مركز "جسور للدراسات"، قال في حديث لشبكة "شام"، إن خطوات "الجولاني" لاسيما ظهور الانفتاح على الأقليات، والدفاع عن حقوقها، واستغلال الأحداث للتأكيد على أن الهيئة تتعامل بإيجابية مع الأقليات، ورائه هدف قديم جديد ساسي، لإزالة اسمها من قوائم الإرهاب الدولية.
ولفت "فحام" إلى أن الهيئة تحاول إظهار تغير توجهها عما كانت عليه "جبهة النصرة" المتورطة بصفقة الراهبات في معلولا، وأدى ذلك إلى تبعيات سياسية، وهي تحاول تغيير هذه الصورة واستثمار الأحداث والتعاطي مع الأقليات، لذلك كان هناك حرص شديد للتركيز على القبض على قتلة المواطنين الدروز في كفتين بإدلب، وتقصدت إظهار أن القتلة من المقاتلين الأجانب، لتظهر أنها على موقف مغاير من هؤلاء المقاتلين.
وكان أثار الظهور الأخير لـ "الجولاني"، إلى جانب عدد من قياداته، في مناطق يقطنها أبناء "الطائفة الدرزية" بريف إدلب، وخطابه "المنفتح" في الدين، حفيظة عدة كتل ضمن الهيئة، والتي اعتبرتها محاولة منه لـ "استثمار" الدين والأقليات في سياق مساعيه للظهور والترويج لنفسه، على أنه رجل معتدل، مقرب من الحاضنة الشعبية، من خلال سلسلة من الحملات الدعائية له.
وكانت قالت صحيفة "واشنطن بوست"، في تقرير لها، إن جماعة "هيئة تحرير الشام"، تسعى إلى إظهار أنها أصبحت حركة إسلامية معتدلة، وذلك بغرض الحصول على الدعم من السكان المحليين واعتراف أميركا وبقية دول العالم كمنظمة سياسية لا علاقة لها بالتطرف والقمع.
وبحسب تقرير "واشنطن بوست" تحاول الحركة إظهار أنها قد أنشأت دولة قادرة على إدارتها، إذ ينتشر عناصر شرطة المرور في الطرقات لتنظيم حركة السير، وتدير عبر حكومة الإنقاذ شؤون التعليم والاقتصاد والخدمات العامة، بيد أنها فشلت في تخفيف مصاعب الحياة اليومية في رقعة كبيرة من الأرض تضم مخيمات مترامية.