
"بين الألم والأمل.. سطور من حياة السوريين" ( 2 )|| أول زيارة لابني الشهيد بعد التحرير
"يا أمي تحررت الضيعة" عبارة ما إن طرقتْ مسمعي، خلقتْ في أعماقي فرحةً عارمة، فمن شِدة ما مرَّ علينا خلال النزوح فقدتُ الأمل، فلم أكن أتخيل أنني سأعيش حتى هذه اللحظة. أول شيء فكرتُ به بعد التحرير هو زيارة قبر ابني أحمد الشهيد، لكن أولادي طلبوا مني التريث حتى يتم التأكد أن قريتنا كفرسجنة خالية بالكامل من العسكر. على مضض قبلتُ بطلبهم، وجلستُ أحلم باليوم الذي أمكثُ فيه بالقرب من قبر ابني، وأقرأ له القرآن، وأضع له الريحان والورود.
مع إلحاحي بطلب الذهاب إلى القرية، استأجرَ ابني سيارة ثم انطلقنا جميعاً. على الطريق عدتُ بالذاكرة إلى الوراء 12 عاماً، إلى اليوم الذي عادَ فيه أحمد منشقاً عن نظام الأسد. حينها كنتُ في المطبخ أعدُّ الغذاء وبالي عنده، كان قد مرَّ على الثورة السورية بضعةَ أشهر، وابني كان متطوعا بسلك الجيش/ فينة جوية، ضمن مطار خلخلة العسكري في السويداء. سمعتُ صوت أقدام تأتي إلى المطبخ، فنظرتُ إلى الباب وإذ أتى ووقف عنده مبتسماً، ركضتُ إليه وعانقته بحرارة، حامدةً الله على انشقاقه عن النظام السابق بسلام.
فيما بعد انضم أحمد إلى فصيل عسكري وصار يحضر اجتماعات ويشارك في المعارك، حتى قررَ الذهاب مع بعض شباب الحارة المنشقين إلى مدينة حلب. توسلتُ إليه بأن لايذهب، إلا أنه أصرَّ على رأيه وغادر بعد أن قبّلَ يديَّ طالباً مني الرضى. مرَّ على غيابه أربعة أيام، اليوم الخامس كان يصادف لـ 17 رمضان، والذي يوافق اليوم السادس من شهر آب عام 2012. حينها كان الوقت بعد الظهيرة وكنا صائمين.
فجأة صار الناس يجتمعون في منزلي، الرجال وقفوا في الخارج والنسوة جلسن معي في الداخل، جميعهم كانوا ينظرون إلى بصمت والحزن يسيطرُ على ملامح وجوههم. لم ينطق أحد بكلمة وعندما سألتهم:"في شي صار مع أحمد، ليش كلكم مجتمعين"؟ ثم دخل جارنا منادياً "نيالو أحمد، أحمد استشهد وربح البيعة مع الله"، فشلتْ قدماي في حملي، شعرت أن ظهري كُسر وأنه لم يعد لدي قوة، كذّبت الخبر، تمنيت بأن يكون الخبر غير صحيح، أخبرتهم بأنني لن أصدق حتى آراه بعيني، وفي قلبي أمل أنه سوف يعود سالماً وأُكحل عيني برؤيته.
فجأة علَتْ أصواتُ التكبير والسيارات، عادَ إليَّ ابني شهيداً محملاً على الأكتاف. أدخلوه إلى الغرفة كي آراه ويتسنى للآخرين توديعه لآخر مرة، كم تمنيت أن يكون كابوساً أو خيالا، لكنه لم يكن سوى حقيقة مُرّة. ثم هموا بأخذه إلى المقبرة مثواه الأخير. وما إن رفعوه مرة أخرى على الأكتاف وأطلقت العيارات النارية في السماء ورافقتها زغاريد النساء،ُ تمنيتُ لو أن هذه الأصوات سمعتها في زفافه وليس بيوم تشييعه.
منذ ذلك اليوم وفي قلبي غصّة، وزادَ حزني عندما نزحتُ من القرية في أيار عام 2019، لأنني انحرمتُ من زيارة قبره ومن وضع الريحان والورد عليه. كم كنتُ أخاف أن أموت وأن أُدفن في بلاد النزوح بعيداً عن قبر ابني، لكن تلاشتْ مخاوفي بعد مرور خمسةُ سنوات وثمانيةُ أشهر بعد أن تحررت القرية، فاستطعت قصد قبره المكان الذي أصبح الأحبَّ على قلبي بعد استشهاده.
وما إن وصلت إلى المقبرة تسارعت خطواتي إلى قبره، خُيّل لي وكأنه عند القبر ينتظرني كي يعانقني، شعرتُ بالسكينة والطمأنينة عندما جلستُ بالقرب منه، فوضعتُ الورودَ على القبر وقرأتُ سورةً من القرآن، وبشرتُ شهيدي بسقوط الأسد.