
سوريا في قلب تجارة الكبـ ـتاغـ ـون: تقرير أممي يحذّر رغم التغيرات السياسية
أكد تقرير المخدرات العالمي 2025 الصادر عن مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة (UNODC) أن سوريا برزت في السنوات الأخيرة كمصدر رئيسي لحبوب الكبتاغون في منطقة الشرق الأدنى والأوسط . فقد أدى عدم الاستقرار داخل سوريا إلى خلق بيئة خصبة لازدهار إنتاج هذه الحبوب المخدرة وتهريبها، مما أغرق المنطقة بفيض من الأقراص المحظورة . وتُبيّن معطيات الأمم المتحدة أن معظم حبوب الكبتاغون المضبوطة في المنطقة كانت منشؤها سوريا بنسبة كبيرة، مع مساهمة أقل من لبنان المجاورة .
خلال فترة حكم بشار الأسد لسوريا، ووسط الحرب الطويلة التي عاشتها البلاد، اتُّهم نظامه بالاستفادة المباشرة من إنتاج وتجارة الكبتاغون، وهو مخدر اصطناعي يُسَىء استخدامه على نطاق واسع في الشرق الأوسط . وعلى الرغم من العقوبات والعزلة الدبلوماسية التي فُرضت على النظام آنذاك، يُعتقد أن تجارة الكبتاغون قد درّت مليارات الدولارات لصالح الأسد وحلفائه ، ما وفر مصدراً هاماً للتمويل في ظل اقتصاد حرب منهار.
وتشير الأمم المتحدة إلى أن هذه الحبوب المنشطة – التي عُرفت بلقب “حبة الجهاديين” إثر تقارير عن تعاطي بعض الجماعات المتطرفة لها – باتت من أكثر المخدرات انتشاراً بين فئات واسعة من المتعاطين خاصة في دول الخليج العربي . ورغم تغير الأوضاع السياسية مؤخراً، لا تزال سوريا حتى اليوم تُعتبر مركزاً رئيسياً لإنتاج وتوزيع هذا المخدر المحظور .
طرق التهريب والوجهات الإقليمية
تشكل دول شبه الجزيرة العربية الوجهة الإقليمية الأبرز لحبوب الكبتاغون التي تُنتج في سوريا. ووفق بيانات الأمم المتحدة، استمرت أسواق السعودية وجوارها كأهم الأسواق المستهدفة من مهربي الكبتاغون خلال العقد الماضي . وفي ظل تضييق الخناق على بعض المسارات التقليدية، تكيفت الشبكات الإجرامية وغيّرت أساليبها لضمان استمرار تدفق الشحنات. وقد وثّق التقرير العالمي للمخدرات بيئة تهريب شديدة التطور، تتأثر بتغييرات إجراءات ضبط الحدود وقدرات إنفاذ القانون في دول الجوار السوري . على سبيل المثال، سُجّلت زيادة ملحوظة في ضبطيات الكبتاغون على الحدود السورية-الأردنية والعراقية مع اشتداد الرقابة، حيث ضبط العراق وحده 5.3 طن من الأقراص عام 2024 – وهو ارتفاع مطّرد يعكس ترسخ ممرات التهريب عبر أراضيه .
إن مسار تهريب الكبتاغون يمتد عبر البر والبحر من سوريا إلى البلدان المجاورة ثم إلى عمق أسواق الخليج. ورُصدت منذ أواخر 2024 عمليات ضبط كبرى على المعابر الحدودية السورية تشير إلى احتمال إفراغ مخزونات كانت متكدسة سابقاً أو إعادة تنشيط قنوات تهريب قديمة . فقد تم تسجيل عدة ضبطيات هائلة بين أواخر 2024 ومطلع 2025 في دول مجاورة كسوريا والأردن، وكذلك في السعودية، مما يؤكد استمرار استخدام طرق التهريب الراسخة . بعض الشحنات المصادَرة بلغ حجمها ملايين الحبوب دفعة واحدة، مما يسلط الضوء على حجم العمليات واستمراريتها على الرغم من التغيرات السياسية. وتوضح أن تلك الشحنات الكبيرة إما خرجت من مخزونات قديمة داخل سوريا أو أنها ناتجة عن استئناف التصنيع لكن في ظروف أو مواقع مختلفة عن السابق .
وتشير التقارير أيضاً إلى توسّع نطاق التهريب جغرافياً مع محاولة المهربين فتح أسواق ومسارات جديدة. فقد كشفت السلطات عن معامل سرية لتصنيع الكبتاغون خارج سوريا أيضًا، منها مختبرات ضبطت في ليبيا مؤخراً، في دليل على انتشار النشاط إقليمياً سعياً لتعويض أي تعطيل محتمل داخل سوريا .
وتقول أنجيلا مي – رئيسة الشؤون الاجتماعية في UNODC “نرى الكثير من الشحنات الكبيرة تتجه من سوريا عبر الأردن. ربما لا تزال هناك مخزونات من المادة يتم شحنها، لكننا نبحث أيضًا في الأماكن التي قد يتحول إليها الإنتاج. ونرى أيضاً أن التهريب يتوسع إقليمياً، وقد اكتشفنا مختبرات في ليبيا.” . كما حذرت مي من أن نشاط تهريب الكبتاغون يتجاوز الشرق الأوسط نفسه، حيث تم توثيق حالات مرور لهذه الحبوب عبر أوروبا أيضاً ضمن شبكات الجريمة المنظمة .
سقوط نظام الأسد وتأثير التحول السياسي
شهدت سوريا منعطفاً سياسياً كبيراً في ديسمبر/كانون الأول 2024 بسقوط نظام بشار الأسد وتولي حكومة انتقالية السلطة. وقد أدى هذا التحول إلى تغير ملحوظ في موقف الدولة الرسمي من تجارة المخدرات. إذ أعلنت السلطات السورية الجديدة عدم التسامح مطلقاً مع تجارة الكبتاغون، وتعهدت بتفكيك سلاسل الإمداد واعتقال المتورطين. وعلى أرض الواقع، بدأت بحملة أمنية تضمنت التدمير العلني لكميات كبيرة من حبوب الكبتاغون التي تم ضبطها، في رسالة واضحة على نيتها كبح هذه التجارة .
غير أن التقرير العالمي للمخدرات 2025 – الصادر في 26 يونيو/حزيران 2025 – يحذّر من أن سوريا لا تزال محوراً رئيسياً لإنتاج وتهريب الكبتاغون رغم تلك الحملة الأمنية المكثفة . فوفق التقرير، أدى سقوط نظام الأسد إلى حالة من عدم اليقين بشأن مستقبل تجارة الكبتاغون . وبينما تم الكشف عن مواقع كبيرة كانت تُستخدم لتصنيع المخدر في البلاد – الأمر الذي كان من شأنه نظرياً إرباك الإمدادات – تؤكد أحدث البيانات الخاصة بضبطيات 2024 ومطلع 2025 أن الكبتاغون ما زال يتدفق باستمرار من سوريا، وخاصة باتجاه دول شبه الجزيرة العربية .
ويشير ذلك إلى احتمال أن المهربين سارعوا إلى تصريف المخزونات المتراكمة قبل سقوط النظام أو أنهم استأنفوا الإنتاج تحت ظروف جديدة وفي أماكن أخرى غير معلنة . وتصف الأمم المتحدة هذه التطورات بأنها جعلت مستقبل سوق الكبتاغون غير واضح المعالم حاليًا ؛ فالتراجع المتوقع في المعروض قد يُقابله ظهور لاعبين جدد أو انتقال نشاط التصنيع لدول أخرى، ما لم يتم استغلال هذه الفترة الانتقالية للسيطرة على الوضع.
استمرار نشاط الشبكات الإجرامية
يرجع الخبراء استمرار تدفق الكبتاغون من سوريا بعد تغير النظام إلى بقاء الشبكات الإجرامية الناشطة في هذا المجال وقدرتها على التكيف. فهذه المافيات التي أدارت تجارة الكبتاغون لفترة طويلة ليست مرتبطة بشخص أو نظام سياسي بعينه، بل هي شبكات عابرة للحدود تستفيد من أي فراغ أمني أو ضعف في إنفاذ القانون. وبحسب أنجيلا مي، فإن جماعات التهريب هذه “تدير الكبتاغون منذ فترة طويلة، ولن يتوقف الإنتاج في غضون أيام أو أسابيع” بالرغم من المتغيرات الأخيرة . وتظهر أبحاث الأمم المتحدة أنه لا توجد استجابة واحدة بسيطة كفيلة بتفكيك هذه الجماعات بشكل نهائي ، فهي قادرة على إعادة تنظيم صفوفها وتغيير أساليبها بسرعة للإفلات من قبضة العدالة.
لقد استفادت عصابات المخدرات من حالة الحرب والفوضى في سوريا لبناء إمبراطوريتها في تجارة الكبتاغون، وتحالفت مع أطراف متنوعة لتحقيق أرباح طائلة. ومع أن سقوط النظام السابق وجه ضربة للبنية المحمية رسمياً لهذا النشاط، إلا أن الكثير من العناصر الإجرامية ما زالت نشطة وتبحث عن سبل لمواصلة تجارتها سواء داخل سوريا أو عبر تحويل عملياتها إلى دول الجوار.
ويشير التقرير الأممي إلى أن الصراع وعدم الاستقرار وفّرا أرضاً خصبة لتصنيع المخدرات الاصطناعية وتهريبها  – وهي بيئة استغلها تجار الكبتاغون إلى أقصى حد. كما يلفت النظر إلى تكتيكات الابتكار لدى شبكات التهريب، سواء عبر زيادة إنتاجية المختبرات وتحسين نقاء المنتج، أو ابتكار أساليب إخفاء كيميائي معقدة تجعل كشف شحنات المخدر أكثر صعوبة على أجهزة الأمن  . أضف إلى ذلك استخدام المهربين للتقنيات الحديثة ووسائل التواصل المشفرة لتنسيق عملياتهم عبر الحدود ، مما يعقّد جهود ملاحقتهم. كل هذه العوامل تجعل مواجهة شبكات الكبتاغون تحدياً إقليمياً مشتركاً يتجاوز حدود سوريا نفسها، فهذه ليست مشكلة وطنية محلية كما تؤكد مي، بل مشكلة عابرة للحدود تمتد آثارها إلى ما بعد الشرق الأوسط وقد تصل أوروبا وغيرها .
تحذيرات وتوصيات الأمم المتحدة
أمام هذا الواقع المعقد، تدعو الأمم المتحدة إلى تبني نهج شامل وتعاوني للتصدي لتجارة الكبتاغون وشبكاتها الإجرامية. وتشدد المديرة التنفيذية لمكتب UNODC غادة والي على ضرورة الاستثمار في الوقاية ومعالجة الجذور الاجتماعية والاقتصادية التي تغذي تجارة المخدرات، بالتوازي مع تعزيز الاستجابات الأمنية . وتقول والي: “يجب أن نستثمر في منع تعاطي المخدرات ومعالجة الأسباب الجذرية لتجارة المخدرات عند كل مفصل من مفاصل سلسلة الإمداد غير المشروعة. ويتوجب علينا أيضاً تعزيز سبل المكافحة من خلال تسخير التكنولوجيا، وتعزيز التعاون عبر الحدود، وتوفير سبل عيش بديلة، واتخاذ إجراءات قضائية تستهدف العناصر الرئيسية التي تقود هذه الشبكات” .
وتتقاطع هذه الدعوة مع توصيات التقرير العالمي للمخدرات الذي يرى في التطورات الأخيرة بسوريا فرصة ذهبية يتعين استغلالها. فاضطراب سلاسل إمداد الكبتاغون عقب التغيير السياسي أضعف مؤقتاً قبضة الشبكات، ما يتيح لأجهزة إنفاذ القانون تكثيف التعاون الدولي واستهداف تلك المجموعات قبل أن تعيد تنظيم نفسها أو تنقل نشاطها إلى مواقع جديدة . ويوصي التقرير بتبادل المعلومات الاستخباراتية بين دول المنطقة وتنسيق العمليات الأمنية عبر الحدود لضرب حلقات التهريب الممتدة من منشأ الإنتاج حتى وجهات البيع . وفي هذا السياق، تكشف أنجيلا مي أن المكتب الأممي يساعد بالفعل الأجهزة الأمنية في المنطقة على التواصل مع نظرائها في الدول الأخرى، إدراكاً منه بأن مكافحة الكبتاغون تتطلب عملاً جماعياً عابراً للدول .
علاوة على ذلك، تؤكد الأمم المتحدة أن الاستجابة الفعالة يجب أن تشمل جانب العلاج والتأهيل لمتعاطي المخدر، إلى جانب الجانب الأمني. فالكبتاغون مادة تسبب إدمانًا جسديًا ونفسيًا سريعًا لدى المستخدمين، مما يستدعي توفير برامج علاجية قائمة على الأدلة العلمية لمساعدة المدمنين على التعافي . وتعمل المنظمات الدولية مع الحكومات المحلية على تبادل أفضل الممارسات في الرعاية الصحية وإعادة التأهيل، بهدف تقليل الطلب على المخدر وكبح الآثار الاجتماعية والصحية لتفشيه. كما تشدد التوصيات على ضرورة توفير بدائل اقتصادية للمزارعين والعاملين الفقراء الذين قد ينخرطون في إنتاج أو تجارة المخدرات بدافع العوز وغياب الخيارات، بحيث تُقدّم لهم سبل عيش مشروعة تكفل اقتلاع جذور المشكلة .
في المحصلة، يقدّم تقرير المخدرات العالمي 2025 صورة شاملة ومقلقة لدور سوريا المحوري في تجارة الكبتاغون، مع تسليط الضوء على تعقيدات المشهد بعد سقوط النظام القديم. فعلى الرغم من بوادر الأمل المتمثلة في تغيير موقف الحكومة السورية الجديدة وتفكيك بعض البنى التحتية للإنتاج، ينبّه التقرير إلى أن الطريق لا يزال طويلاً للقضاء على هذه التجارة غير المشروعة. ويوجه التقرير رسالة واضحة مفادها أن التعاون الدولي ودعم الاستقرار الإقليمي، إلى جانب إجراءات صارمة ومدروسة تستهدف الشبكات الإجرامية وأموالها، هي عوامل لا غنى عنها لكبح تجارة الكبتاغون التي باتت تؤرق المنطقة. وبينما يبقى مصير سوق الكبتاغون معلّقاً على تطورات المشهد السوري والإقليمي في الفترة المقبلة ، فإن المؤكد بحسب الأمم المتحدة هو ضرورة التحرك الجماعي العاجل لاغتنام فرصة التغيير السياسي وقطع دابر هذا الخطر الذي يهدد الصحة والأمن في آن واحد.