
تدفّق السيارات إلى سوريا.. بين مؤشرات انتعاش اقتصادي ومخاوف استنزاف البنية والخزينة
شهدت سوريا خلال الأشهر الأولى من عام 2025 تدفقاً غير مسبوق للسيارات المستوردة، في مشهد يعكس حراكاً اقتصادياً لافتاً بعد سنوات من الجمود، لكنه يثير في الوقت ذاته تساؤلات جادة حول القدرة الفعلية للبنية التحتية على استيعاب هذا الزخم، وسط مخاوف من آثار اقتصادية ومعيشية عكسية.
فقد رست في مرفأ طرطوس أول باخرة محمّلة بالسيارات منذ إسقاط النظام البائد، وعلى متنها أكثر من 3200 مركبة. ويرى البعض في هذا الحدث مؤشراً أولياً على عودة الثقة بالحركة التجارية وانفتاح السوق المحلي، في ظل تسهيلات حكومية وتراجع ملحوظ في القيود الجمركية.
تحسّن في العرض.. وضعف في التنظيم
وبحسب تصريحات رسمية، فإن نحو 100 ألف سيارة دخلت البلاد منذ مطلع العام، عبر منافذ برية وبحرية أبرزها معبر درعا جنوباً والموانئ الغربية. هذا التدفّق ترافق مع انخفاض واضح في الأسعار، ما جعل السيارة في متناول شريحة أوسع من السوريين مقارنة بسنوات سابقة، حيث كانت تُشترى بأسعار مضاعفة بسبب الضرائب واحتكار السوق.
لكن رغم المؤشرات الاقتصادية الإيجابية، يحذر خبراء من أن استيراد السيارات بهذا الحجم يمثل ضغطاً كبيراً على شبكة الطرق المتآكلة، التي تضررت بفعل القصف ونقص الصيانة، فضلاً عن ازدياد الحوادث المرورية، والتي أسفرت منذ بداية العام عن مقتل 39 شخصاً وإصابة أكثر من 560 آخرين، وفق إحصاءات الدفاع المدني.
سوق نشطة أم نزيف اقتصادي؟
اقتصادياً، يرى الباحث "أدهم قضماني"، أن هذا الانفتاح قد يحمل تبعات سلبية، أبرزها استنزاف العملات الأجنبية في ظل غياب قنوات تمويل رسمية، إذ يتم شراء السيارات بالدولار من السوق السوداء أو من مدخرات المغتربين، ما يُضعف قدرة النظام المالي المحلي ويؤثر على التوازن النقدي في بلد يعاني من أزمة حادة في القطع الأجنبي.
ويضيف "قضماني"، أن السيارة تُعد سلعة كمالية في بيئة تعاني من نقص في السلع الأساسية، وكان من الأولى توجيه الموارد نحو مشاريع إنتاجية أكثر إلحاحاً.
لكنه يعترف في المقابل أن الضرائب والرسوم الجمركية الناتجة عن الاستيراد قد ترفد خزينة الدولة بمصادر تمويل جديدة، خاصة مع بدء شراكات بين الحكومة والقطاع الخاص لإدارة بعض مشاريع النقل.
انطباعات من السوق المحلية
من جهته، عبّر "محمد فهمي"، تاجر سيارات في شمال سوريا، عن قلقه من ارتفاع الأسعار والطلب المتزايد، مشيرًا إلى أن السكان في مناطق كانت خاضعة لسيطرة النظام كانوا يشترون السيارة بأكثر من 7 أضعاف سعرها مقارنة بمناطق شمال سوريا، نتيجة الضرائب الجمركية وضرائب الرفاهية.
وأوضح "فهمي" أن هناك اختناقات مرورية يومية، خصوصًا على الأوتستراد الدولي حلب-دمشق، بسبب دخول أعداد كبيرة من السيارات من المرافئ البحرية ومعابر حلب وإدلب ودرعا، مشيرًا إلى أن "الوضع يتطلب تحركًا عاجلًا لضبط حركة المرور ووضع ضوابط للاستيراد".
تحديات مرورية ومقترحات للضبط
ومع هذا النمو السريع، تتعالى الأصوات المطالِبة بوضع آليات تنظيم مرحلية، تشمل ربط الاستيراد بقدرة المدن على الاستيعاب، وإنشاء نظام تسجيل مدروس، وفرض رسوم مخصصة لتحسين الطرق العامة وتوسعة المواقف.
كما اقترح خبراء تشجيع السيارات الكهربائية أو الاقتصادية بإعفاءات ضريبية، إلى جانب تطوير منظومة نقل جماعي لتخفيف الضغط على الطرقات.
هذا ويخشى البعض من أن التوسع غير المنظم في سوق السيارات قد يخلق تضخماً جديداً، كما حدث في سنوات سابقة، حين تحوّل قطاع السيارات إلى واجهة استثمارية للأثرياء، في غياب الرقابة الرسمية.
وكان أكد وزير النقل السوري، المهندس "يعرب بدر"، أن الحكومة السورية بصدد اتخاذ إجراءات جديدة لتنظيم استيراد السيارات، وذلك وفق تصريح رسمي نقلته وكالة الأنباء السورية "سانا".
وجاء تصريح الوزير بعد ملاحظة حالة "إغراق" غير مسبوقة في السوق المحلية بالمركبات الحديثة، منذ السماح بإعادة فتح باب الاستيراد في كانون الأول الماضي، بعد توقف دام أكثر من 12 عاماً.
وأفاد مدير مديرية استيراد السيارات في وزارة النقل، "عبداللطيف شرتح"، بأن عدد السيارات التي دخلت البلاد منذ ديسمبر/كانون الأول 2024 تجاوز 100 ألف سيارة، وهو رقم يعكس مدى الإقبال المتصاعد بعد تيسير الاستيراد وخفض التكاليف.
وتابع، ألغينا استيراد السيارات من موديل 2010 وما دون، وسمحنا باستيراد موديلات 2011 وما فوق، ضمن برنامج يهدف إلى تحديث أسطول المركبات في البلاد.
وأوضح أن السيارات موديل 2011 حتى 2015 تخضع حالياً لرسم جمركي ثابت بقيمة 1,500 دولار، فيما تم رفع الرسم إلى 2,000 دولار للسيارات موديل 2016 حتى 2020.
وسجل رسم سيارات موديل 2021 حتى 2025 نحو 2,500 دولار، مقارنة بما كانت تفرضه حكومة نظام الأسد البائد سابقاً من رسوم جمركية تصل إلى 400% من قيمة السيارة.
وقد كان استيراد السيارات شبه متوقّفٍ خلال الفترة الماضية نتيجة التعقيدات والتكاليف المرتفعة، لكن القرار الجديد أدى إلى تدفّق هائل للسيارات الحديثة إلى الأسواق المحلية، ما انعكس على معارض السيارات بتراجع الأسعار وتنوّع المعروضات.
هذا ويتوقع المختصون أن يستمر انتعاش السوق مع تحسن الأسعار، وأن يلامس نشاط قطاع خدمات السيارات من صيانة وتأمين وقطع غيار مستويات أعلى، بما يخلق فرص عمل ويعزز الدورة الاقتصادية الداخلية.