"العدالة المؤجلة"... كشف الحقيقة وتحقيق العدالة لضحايا مجزرة حماة 1982
أصدرت "الشَّبكة السورية لحقوق الإنسان" بياناً تحت عنوان "العدالة المؤجلة"، أكدت فيه ضرورة كشف الحقيقة وتحقيق العدالة لضحايا مجزرة حماة 1982، مشيرة إلى مجموعة من الإجراءات القانونية والعملية الواجب اتخاذها.
وأوضح البيان أنَّه في 8 كانون الأول/ديسمبر، طُويَ فصل دامٍ من تاريخ سوريا المعاصر بسقوط نظام الأسد وانتقال السلطة إلى حكومة جديدة، معلناً بدء مرحلة تسعى إلى ترسيخ العدالة وسيادة القانون. ومع ذلك، لا يمكن لسوريا بناء مستقبل مستقر دون مواجهة ماضيها وإنصاف ضحاياه، وفي مقدمتهم عشرات الآلاف من أبناء مدينة حماة، الذين كانوا ضحية واحدة من أبشع المجازر في تاريخ البلاد الحديث، حيث قُتلوا دون تمييز بين رجل وامرأة، مدني ومسلح، شيخ وطفل.
ولفت البيان إلى أنَّه طوال 43 عاماً، بقيت مجزرة حماة طيَّ النسيان، دون أي تحقيق رسمي، أو مساءلة للمتورطين، أو كشف لمصير آلاف المختفين قسراً، أو حتى اعتراف بمعاناة الناجين وذوي الضحايا. وقد أودت هذه المجزرة بحياة ما بين 30,000 إلى 40,000 مدني، ما يجعلها جريمة جماعية ممنهجة ارتُكبت بسبق إصرار من قبل نظام الأسد.
وأضاف البيان أنَّه مع بداية عهد جديد، فإنَّ فتح هذا الملف المغلق بات ضرورة حتمية للحكومة السورية الجديدة، باعتباره خطوة أساسية في مسار العدالة الانتقالية، والتي لا تتحقق إلا عبر المحاسبة، وجبر الضرر، واستعادة الحقوق، والاعتراف الرسمي بالمجزرة.
وكانت الشَّبكة السورية لحقوق الإنسان قد أصدرت أول تقرير يوثّق جانباً من المجزرة في الذكرى الأربعين لها، ومع ذلك، ورغم مرور أكثر من أربعة عقود، لم تتمكن الأمم المتحدة من توثيق المجزرة رسمياً، ولم تُتخذ أي خطوات لمحاسبة مرتكبيها دولياً. وأعرب البيان عن أسفه إزاء تجاهل المجتمع الدولي لهذه الجريمة، معتبراً ذلك تخاذلاً بحقِّ الضحايا وخطأً تاريخياً يجب تصحيحه.
ودعت الشَّبكة السورية لحقوق الإنسان إلى إنهاء إرث الظلم الذي خلّفه نظام الأسد بحقِّ مدينة حماة وأهلها، مؤكدة أنَّ ذلك يمثل جزءاً لا يتجزأ من عملية بناء دولة تقوم على أسس العدالة وسيادة القانون. وفي هذا السياق، قدّمت توصيات موسعة تتضمن مجموعة من الإجراءات العملية والقانونية والوطنية، التي يتعين على الحكومة الانتقالية والمجتمع المدني تبنيها لضمان عدم تكرار مثل هذه الجرائم مستقبلاً.
وشدد البيان على ضرورة فتح تحقيق شامل في مجزرة حماة 1982، التي تُعد واحدة من أفظع الجرائم الجماعية في التاريخ السوري، إذ نفذها النظام السوري السابق بقيادة حافظ الأسد، من خلال قواته الأمنية والعسكرية، بشكل منهجي استمر على مدى شهر كامل، ارتُكبت خلاله عمليات قتل عشوائي، وإخفاء قسري، وتدمير ممنهج للمدينة.
وأوضحت أنه رغم جسامة الجرائم المرتكبة، لم يُفتح أي تحقيق رسمي حتى الآن، ولم يُحاسَب أي من المسؤولين عنها، مما عزّز ثقافة الإفلات من العقاب، وأسهم في استمرار السياسات القمعية ذاتها على مدى العقود التالية، وصولاً إلى سقوط النظام في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024.
وأشار البيان إلى وجود عدة أسباب تجعل فتح تحقيق رسمي في المجزرة ضرورة لا تحتمل التأجيل، من أبرزها:
- الطابع الممنهج للجريمة: إذ شُنَّت المجزرة في إطار هجوم واسع النطاق استهدف المدنيين، واستخدمت فيها القوات العسكرية والأمنية التابعة للنظام السابق أساليب وحشية، شملت القتل الجماعي، والإخفاء القسري، والتعذيب، والتدمير الكامل للأحياء السكنية، مما يجعلها جريمة لا تسقط بالتقادم.
- استمرار الانتهاكات وامتداد آثارها: لم تقتصر المجزرة على القتل الجماعي، بل ترافقت مع تدمير منهجي للبنية التحتية، ومصادرة ممتلكات المدنيين دون أي تعويض، وملاحقة سكان المدينة وتشديد الرقابة الأمنية عليهم، إلى جانب حرمانهم من الخدمات الأساسية وتهميشهم كجزء من سياسة عقاب جماعي، ما يشكل انتهاكاً خطيراً للقانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني.
- الإخفاء القسري والمصير المجهول للمفقودين: منذ شباط/فبراير 1982، لا يزال مصير نحو 17,000 من أبناء مدينة حماة مجهولاً، بعد أن اعتقلتهم قوات النظام السوري، ونقلتهم إلى مراكز احتجاز سرية، ورفض النظام السابق تقديم أي معلومات عن أماكن احتجازهم أو مصيرهم، مما يجعل الإخفاء القسري جريمة مستمرة حتى اليوم.
وتشير تقارير حقوقية وشهادات الناجين إلى وجود مقابر جماعية لم يُكشف عنها بعد، مما يستدعي تشكيل فرق تحقيق متخصصة لتحديد مواقع الدفن الجماعي.
- نهب الممتلكات وتدمير البنية العمرانية: تعرضت أجزاء واسعة من مدينة حماة، لا سيما الأحياء القديمة مثل الكيلانية، العصيدة، والزنبقي، لعمليات تدمير ممنهج، كما تمت مصادرة آلاف الممتلكات وتحويلها إلى شوارع وحدائق ومقرات حكومية دون تعويض أصحابها.
واستولى النظام السابق على منازل الضحايا ومحلاتهم التجارية، ومنحها لضباط الأمن والجيش الموالين له أو حولها إلى ممتلكات عامة، في انتهاك صارخ لحقوق الملكية الفردية، ووفق الشبكة يشكل هذا الاعتداء خرقاً واضحاً للحقوق المحمية بموجب المادة 17 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ما يستدعي استعادة الحقوق ضمن إطار العدالة الانتقالية.
أهداف التحقيق:
أكد البيان ضرورة أن يكون التحقيق شاملاً وعادلاً وشفافاً، محققاً الأهداف أولها تحديد المسؤولين عن المجزرة من أفراد وكيانات من خلال إجراء تحقيقات موسعة مع كبار القادة السياسيين والعسكريين والأمنيين المتورطين في إصدار أوامر تنفيذ المجزرة، لا سيما أولئك الذين كانوا في مواقع اتخاذ القرار خلال وقوعها.
كذلك مساءلة جميع المتورطين في الانتهاكات، سواء من خططوا لها، أو نفذوها، أو شاركوا في عمليات القتل الجماعي، أو التعذيب، أو الاعتقال، أو الإخفاء القسري، والتحقيق في دور الوحدات العسكرية التي شاركت في تنفيذ المجزرة، بما في ذلك سرايا الدفاع، اللواء 47، الوحدات الخاصة، وأجهزة المخابرات التي ساهمت في التخطيط أو التنفيذ.
توثيق الجرائم والانتهاكات:
يتم ذلك من خلال جمع الأدلة المادية والأرشيفية التي تثبت مسؤولية النظام السابق عن المجزرة، بما في ذلك الصور، مقاطع الفيديو، الوثائق الرسمية، والأسلحة المستخدمة، وإجراء مقابلات رسمية مع الناجين وعائلات الضحايا لتوثيق شهاداتهم بدقة، كونها تشكل مصدراً جوهرياً لفهم ملابسات المجزرة، علاوة عن فحص الوثائق الأمنية والعسكرية التي خلفها النظام السابق، والتي قد تحتوي على أوامر رسمية وتقارير تكشف آلية التخطيط والتنفيذ.
الكشف عن مواقع المقابر الجماعية وضمان إعادة دفن الضحايا بكرامة:
عبر تشكيل فرق متخصصة في الطب الشرعي لتحديد مواقع المقابر الجماعية داخل مدينة حماة وفي محيطها، واستخراج الرفات البشرية باستخدام تقنيات حديثة، وإجراء تحاليل الحمض النووي للتعرف على هوية الضحايا، وإعادة دفن الضحايا بكرامة وتسليم رفاتهم إلى عائلاتهم، وتوثيق جميع مواقع المقابر الجماعية في تقرير رسمي يُنشر للرأي العام السوري والدولي.
تشكيل لجنة تحقيق وطنية ومساءلة المتورطين:
دعا البيان إلى تشكيل لجنة تحقيق وطنية مستقلة، تضم قضاة، وخبراء قانونيين، وممثلين عن منظمات حقوق الإنسان، وعائلات الضحايا، لتتولى: توثيق الجرائم وجمع الأدلة واستدعاء الشهود - تحليل الوثائق الأمنية والعسكرية المرتبطة بالمجزرة - تقديم نتائج التحقيقات إلى الجهات القضائية المختصة، مع توصيات واضحة بشأن المحاسبة، والتعويضات، وجبر الضرر - إعداد قاعدة بيانات وطنية تتضمن أسماء الضحايا والمفقودين والناجين.
المسؤولية الجنائية وتحقيق العدالة:
أكد البيان ضرورة تحميل المسؤولية القانونية للأفراد والجهات المتورطة، على اعتبار أنَّ مجزرة حماة جريمة ممنهجة ضد المدنيين، ما يفرض مسؤولية جنائية مباشرة على كبار القادة السياسيين والعسكريين والأمنيين.
وتشمل قائمة المتورطين كل من أصدر الأوامر، أو خطط للمجزرة، أو نفذها، أو ساهم في التغطية عليها، بمن فيهم حافظ الأسد، رفعت الأسد، مصطفى طلاس، عدنان الأسد، وكبار قادة الأجهزة الأمنية والعسكرية.
ويُطبق على هؤلاء مبدأ “المسؤولية القيادية” (Command Responsibility)، الذي يُحمّل القادة العسكريين والمدنيين المسؤولية عن الجرائم التي يرتكبها مرؤوسوهم إذا كانوا على علم بها ولم يتخذوا أي إجراءات لمنعها.
التعاون القضائي مع الهيئات الدولية:
شدد البيان على أهمية تعاون القضاء الوطني مع الجهات الدولية، نظراً إلى أنَّ تحقيق العدالة يتطلب محاكمات شفافة تلتزم بالمعايير الدولية للمحاكمة العادلة والتعاون مع الهيئات الأممية، مثل المفوضية السامية لحقوق الإنسان، يتيح الاستفادة من الخبرات التقنية والقانونية اللازمة لضمان نزاهة التحقيقات والإجراءات القضائية.
استعادة الحقوق وجبر الضرر:
أوضح البيان أنَّ العدالة الانتقالية لا تقتصر على المحاسبة، بل تمتد إلى كشف الحقيقة واستعادة الممتلكات وتعويض الأسر المتضررة، وإنشاء هيئة وطنية مستقلة للبحث عن المفقودين، مزودة بصلاحيات واسعة تشمل الوصول إلى السجلات الأمنية والعسكرية، والبحث عن المقابر الجماعية، وإجراء تحاليل الحمض النووي.
كذلك إلزام الحكومة بالكشف عن السجلات الأمنية المتعلقة بالمجزرة، وإجبار المسؤولين السابقين على تقديم شهاداتهم حول مواقع المقابر الجماعية وأماكن الاعتقال السرية، ومنح عائلات المفقودين حقوقهم القانونية، بما في ذلك إصدار شهادات وفاة رسمية لمن تأكدت وفاتهم، وتقديم تعويضات مادية ومعنوية، تشمل الدعم النفسي والاجتماعي.
استعادة الممتلكات المصادرة وإعادة الإعمار:
دعت الشبكة إلى تشكيل لجنة وطنية لاستعادة الممتلكات المصادرة، وإلغاء قرارات المصادرة غير القانونية، وتعويض المتضررين مادياً، ووضع خطة وطنية لإعادة إعمار الأحياء المدمرة، مع إعطاء الأولوية للسكان الأصليين في العودة إلى مناطقهم، وإنشاء صندوق تعويض وطني يعتمد على الأصول المجمدة لمسؤولي النظام السابق، والدعم الدولي، وإيرادات الأصول غير الشرعية المصادرة.