
أربعة مبعوثين أمميين إلى سوريا: مساعٍ بلا حصاد… ومسارٌ طويل ختمه بيدرسن بالاستقالة
نشر موقع «تلفزيون سوريا» تقريراً موسعاً بعنوان «أربعة مبعوثين أمميين إلى سوريا.. وسطاء بلا جدوى ومهمّاتٌ سمتُها الفشل»، تزامناً مع إعلان مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى سوريا غير بيدرسن تنحّيه، بعد نحو تسعة أشهر على سقوط نظام الأسد، منهياً قرابة سبع سنوات في المنصب من دون إحراز اختراق جوهري في الاستحقاق المركزي: انتقالٌ سياسي في سوريا.
في جلسةٍ لمجلس الأمن خُصصت للملف السوري، أبلغ بيدرسن الأمين العام عزمه الاستقالة «لأسباب شخصية»، مؤكداً موافقة الأمين العام على طلبه، وبرّر بقاءه في منصبه خلال الأشهر الماضية بما سمّاه «التغيّرات الاستثنائية» وبداية «فصل جديد» في سوريا بعد الإطاحة بحكم بشار الأسد أواخر 2024، معتبراً أن من واجبه—بل شرفه - مواكبة الأشهر الأولى من هذه المرحلة الفاصلة ومساعدة الأمم المتحدة في توجيه جهودها السياسية خلالها.
من مراقبي الجامعة العربية إلى سلسلة مبعوثين أمميين
مع اندلاع الثورة السورية في آذار/مارس 2011 ولجوء النظام إلى «الحل الأمني»، بادرت الجامعة العربية إلى إرسال بعثة مراقبين برئاسة محمد الدابي في كانون الأول/ديسمبر 2011. انتهت المهمة إلى فشلٍ ذريع - وفق روايات أعضاء منسحبين - بسبب انحياز واضح إلى النظام وتزييف الوقائع، ما دفع الدابي للاستقالة في شباط/فبراير 2012.
بعد أسبوعين فقط، عيّنت الجامعة والأمم المتحدة أول مبعوث أممي خاص إلى سوريا (24 شباط/فبراير 2012) للبناء على مبادرتَي الجامعة (اللّتان نصّتا على حكومة كاملة الصلاحيات، بما يُفضي ضمناً إلى تنحية الأسد).
ومنذ ذلك التاريخ تعاقب أربعة مبعوثين «مخضرمين»—كوفي عنان، والأخضر الإبراهيمي، وستيفان دي ميستورا، وغير بيدرسن—على محاولة فتح مسارٍ سياسي يضع حداً لمأساة السوريين. وعلى كثرة الجهود والجولات والمنتديات، ظلّت الحصيلة صفريةً تقريباً، بل تعاظمت الاتهامات لبعضهم بالتماهي مع سرديّة دمشق وحلفائها، فيما كانت الكلفة البشرية ترتفع والمجازر تُرتكب والأسلحة المحرّمة تُستخدم، والتغيير الديمغرافي وتمزيق العمران يتواصلان.
ومع مغادرة بيدرسن منصبه، يعود التقرير لاستعراض سيرة كل مبعوث ومساراته ومآلاته، وكيف لم يتمكن أيّ منهم من إحداث خرقٍ يُذكر، إلى أن انقلب ميزان القوى بفعل عملية «ردع العدوان» التي انطلقت في 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، وما تلاها من سقوط للنظام.
كوفي عنان: «على الأسد أن يرحل عاجلاً أو آجلاً»
تسلّم الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة كوفي عنان المهمة في 24 شباط/فبراير 2012، وكان—بخبرته ووزنه—الأقدر على صياغة مقاربة سريعة وواضحة، ثم الانسحاب حين عُطّلت. طرح «خطة النقاط الست» التي تضمّنت:
- الانخراط في عملية سياسية شاملة تقودها سوريا وتعالج تطلعات الشعب ومخاوفه المشروعة.
- وقف العنف المسلّح «من جميع الأطراف»، مع تحقيق أممي عاجل وفعّال لوقف إطلاق النار.
- وقف تحرّك القوات في المراكز السكانية وإنهاء استخدامها.
- تكثيف الإفراج عن المحتجزين تعسفياً.
- ضمان حرية تنقّل الصحفيين.
- احترام حق التظاهر السلمي وتشكيل المؤسسات، مع هدنة يومية لإدخال المساعدات.
على الأرض، تصاعدت آلة القتل منذ تسلّمه، فاندفع عنان إلى هندسة «جنيف 1» (30 حزيران/يونيو 2012) الذي أرسى مبادئ انتقال سياسي وهيئة حكم انتقالية تملك كامل الصلاحيات التنفيذية وتعمل في «بيئة محايدة»، ومهّد لاحقاً لـ«جنيف 2» (22 كانون الثاني/يناير 2014). عملياً، لم يُنفّذ بندٌ واحد من خطته، وفشلت محاولات القفز مباشرةً إلى مفاوضات من دون وقفٍ لإطلاق النار.
في خطاب استقالته (2 آب/أغسطس 2012)، عزا عنان فشل مهمته إلى عسكرة النزاع وتشرذم مجلس الأمن، منتقداً عدم تبنّي خلاصات «جنيف»، ومؤكداً بوضوح نادر: «الانتقال السياسي يعني أن على الأسد أن يتنحى عاجلاً أم آجلاً».
وفي مقال بصحيفة «فايننشال تايمز» (3 آب/أغسطس)، كتب صراحةً أن على المجتمع الدولي—ولا سيما أوباما وبوتين—التحلّي بالشجاعة، وأن رحيل الأسد ضرورة لتفادي انهيارٍ فوضوي. بقيت علّته الكبرى أن خطته ارتكنت إلى «تعهّدات» النظام من دون قرارٍ ملزم أو جدولٍ زمنيّ وانضباط تنفيذي، فكان الفشل شبه حتمي.
الأخضر الإبراهيمي: هدنة «عيد الأضحى»… وتوصيف «الحرب الأهلية»
في 17 آب/أغسطس 2012، انتقلت المهمة إلى الدبلوماسي الجزائري الأخضر الإبراهيمي. بعد شهرين، طرح هدنةً قصيرة في عيد الأضحى وسط تصعيدٍ ناري بالبراميل والصواريخ وازدياد أعداد القتلى واللاجئين. انهارت الهدنة خلال ساعات لأنها صُمّمت بلا مراقبةٍ دولية واعتمدت على «التزامٍ ذاتي» من طرفٍ أثبت مراراً عدم التزامه.
أدى توصيف الإبراهيمي المبكر لما يجري بأنه «حرب أهلية» إلى نزعٍ لموضوعية المقاربة—بحسب منتقديه—إذ كانت الموازين آنذاك تميل بوضوح إلى قمع دولة مُسلّحة ضد متظاهرين ومنشقين قلائل لا يملكون بنيةً نظامية.
لاحقاً، أشرف على «جنيف 2» الذي جمع النظام والمعارضة من دون جدولٍ زمني أو ضمانات تنفيذية، ثم قَبِل بإقحام بند «مكافحة الإرهاب»—وفق سردية دمشق—بالتوازي مع الانتقال السياسي، ما أخرج العملية عن أولويات السوريين الملحّة، خاصة بعد مجزرة السلاح الكيماوي.
كما فتح الإبراهيمي الباب أمام تعويم الدور الإيراني سياسياً بعد تدخلها العسكري، مُعتبراً (أيار/مايو 2014) أن «مقترحات طهران تستحق النقاش». وبعد قرابة عامين من مهمة وصفها منذ البدء بـ«شبه المستحيلة»، استقال في 13 أيار/مايو 2014، تاركاً وراءه مشهداً مأزوماً ومجازر مستمرة.
ستيفان دي ميستورا: «المناطق المُجمّدة»… ومنصّات متنازعٌ عليها
خلا الموقع نحو ستة أسابيع قبل أن تتولاه شخصية أممية ذات سيرةٍ مثقلة بالملفات الشائكة: السويدي–الإيطالي ستيفان دي ميستورا (تموز/يوليو 2014). كانت «داعش» قد تمدّدت وسيطرت على الموصل، فانقلبت الأولويات الدولية.
جاء دي ميستورا بمقترح «المناطق المجمّدة» ابتداءً من حلب، وهو مفهوم لم يعرفه معجم القانون الدولي: ليس منطقةً عازلة، ولا منزوعة السلاح، ولا محظورة الطيران، ولا خاضعة للوصاية. عملياً، تحوّل—بحسب منتقدين—إلى قنطرةٍ لمصالحاتٍ محلية قسرية قادتها موسكو بالقوة، تبعتها عمليات تهجيرٍ واسعة.
بينما كان دي ميستورا يتواصل مع محورين (واشنطن وشركاؤها، مقابل موسكو وطهران وحلفائهما)، كانت ثلاثية أستانا (روسيا–تركيا–إيران) تُمسك تدريجياً بالميدان وتُدير الملف بعيداً عن مظلة الأمم المتحدة.
وخلال أربع سنوات، راكم الرجل مبادراتٍ «لا شيء» بالنسبة للضحايا، واتُّهم بالانحياز إلى سردية النظام وحلفائه، وبإغراق العملية بسلسلة منصّات (موسكو والقاهرة وغيرها) وتفريعات ولجان استشارية—قانونية ودستورية ونسائية—على حساب الجوهر: هيئة الحكم الانتقالي ووقف القتل.
حضر مسار أستانا غير الأممي، وواصل تدوير الجولات في جنيف بلا نتيجة. وفي تشرين الأول/أكتوبر 2018 أعلن استقالته «لأسباب عائلية»، تاركاً إرثاً من «تضييع الوقت» حسب تعبير معارضين وصفوه بـ«السمسار السياسي».
غير بيدرسن: إدارة الأزمة بدل حلّها… و«خطوة مقابل خطوة»
مع نهاية 2018 تسلّم النرويجي غير بيدرسن المهمة، مُعلناً منذ البدء أنها «بالغة الصعوبة». ورث تركيبةً معقّدة تركها دي ميستورا، فدفع باتجاه تشكيل «اللجنة الدستورية» (بعد تعثّر سلفه)، على قاعدة قرار مجلس الأمن 2254 (هيئة حكم انتقالية وانتخابات جديدة). لكن المسار تعطّل سريعاً بفعل رفض النظام تنفيذ أي من مخرجات جنيف والقرار نفسه.
ظلّت البلاد عملياً مُقسّمة «استراتيجياً»، وقواتٌ أجنبية تملأ الجغرافيا، فيما عجز بيدرسن عن تحريك ملف الانسحابات. أخطر ما أثار سخط معارضين كان تبنّيه مقاربة «خطوة مقابل خطوة»—فكرة «اللاورقة» الأردنية—بتقديم إجراءات انفتاحٍ تدريجي مقابل «سلوك مقابل» من النظام، في مسارات إنسانية وسياسية وأمنية، وصولاً إلى بحث الانسحابات الأجنبية. رآها معارضون «تمييعاً» للقرار 2254 وتفريغاً له من مضمون الانتقال السياسي.
انتهت جولات اللجنة الدستورية إلى طريقٍ مسدود، وظهرت بوضوح قناعة بيدرسن بأن الحسم العسكري «وهم». ثم جاءت عملية «ردع العدوان» وسقوط النظام ليطيحا عملياً فكرة «الانتقال عبر 2254» ويحوّلا دور المبعوث إلى مجرّد «مُيسّر» في مشهدٍ جديد لم تعد خرائط الأمس تصلح له. حاول الرجل التكيّف، لكنه بقي أسير إدارة أزمةٍ تتحرّك أسرع من أدواته، إلى أن أعلن تنحيه.
لماذا أخفق المبعوثون؟
تطرق التقرير على موقع "تلفزيون سوريا" إلى الأسباب التي أدت إلى إخفاق المبعوثيين الأممية إلى سزريا، منها غياب الإرادة السياسية فنظامٌ مدعوم روسياً وإيرانياً يرفض أي تنازل، ومعارضةٌ مُنقسمة مثقلة بضغوط خارجية، وتعطيل مجلس الأمن، فيتوات متكررة صادرت فاعلية قراراتٍ كـ2254 وجعلتها بلا أنياب تنفيذية.
كذلك مسارات موازية بسبب تغوّل أستانا وحلفائه على حساب المرجعيات الأممية، وسيادة الوقائع العسكرية على الدبلوماسية، وتأويلات فضفاضة بسبب اختلاف تفسير بنود الانتقال ووقف النار والانتخابات، ما سهّل تفريغها.
من الأسباب أيضاً مقاربات شخصية ملتبسة، من توصيف «الحرب الأهلية» إلى «المناطق المُجمّدة» و«خطوة مقابل خطوة»، بما انسجم أحياناً مع أولويات النظام وحلفائه، وانقلاب المشهد بعد سقوط النظام نهاية 2024 جعل مرجعية الأمس متقادمة، وحوّل المبعوثين إلى مديري أزمة بدل صانعي حل.
خلص التقرير إلى أنه "لم يكن النظام المخلوع ينوي تقديم أي تنازل عبر مسارٍ تفاوضي؛ حربٌ شاملة بدعمٍ خارجي هي خياره حتى اللحظة الأخيرة، فيما كانت إعادة تعويمه عربياً وإقليمياً تتقدّم قبل أن تُنهيها «ردع العدوان» بضربةٍ خاطفة".
ومع تبدّل المشهد، يُرجّح أن يُعيَّن مبعوثٌ جديد قريباً، يعمل من دمشق وبصلةٍ مباشرة مع الحكومة السورية، في دورٍ أقرب إلى تنسيق العلاقة مع منظومة الأمم المتحدة والمساعدة في استكمال الاستقرار في «سوريا الجديدة».