لم يكن مجتمع المرأة السورية قبل الثورة المستمرة منذ أكثر من خمس سنوات، خالياً من المشاكل الخاصة به، فقد كانت مشاكل الزواج المبكر، والعنوسة، والعنف ضد المرأة، من أبرز التحديات التي تواجه الجمعيات والمنظمات النسائية. ارتفاع واضح في سن الزواج قابلته ظاهرة العنوسة التي تستخدم كمصطلح يطلق على الرجال والنساء الذين تجاوزا سناً معيناً دون أن يتزوجوا.
وبعد أن كانت أسباب العنوسة وتبريرات عدم الزواج تعود إلى الأعباء التي تلقى على الشبان مثل الهجرة والمهور المرتفعة وتكاليف الأعراس الباهظة ومسؤولية العائلات، جاءت الحرب التي تعيشها البلاد لتزيد الأمر سوءاً.
ما إن تسأل أحداً عن سبب العنوسة، حتى يشير بيده الأولى إلى الأسعار المجنونة التي تلاحق مستلزمات الزواج، والأخرى للظروف الاستثنائيَة التي تعيشها البلاد، فإن تكلفة الزواج خيالية ومعظم متطلباته تضاعفت أربع أو خمس مرات، وذلك في وقت يُقلع فيه معظم الشباب السوري عن الزواج.
إذ ارتفعت ثمن غرفة النوم المتوسطة من 40 إلى 230 ألف ليرة، في حين لم ينج الذهب من الارتفاع، وينطبق الأمر أيضاً على غلاء أجرة العقارات، إذ بات الحصول على منزل في منطقة آمنة حلماً يراود الجميع.
باختصار فإنَّ تكاليف الزواج باتت خيالية ويصعب تأمينها على معظم الشباب بمن فيهم المستقرون مادياً الذين لا يعيشون تداعيات الحرب والأزمة الاقتصادية الخانقة.
ويعترض الدكتور النفسي غزوان سليم من ريف ادلب على مصطلح العُنُوسة، ويستبدله بواقع ارتفاع سن الزواج «لأن ما يجري حالياً هو ارتفاع سن الزواج للشاب من 26 إلى 37 سنة بشكل وسطي، في حين ارتفع سن الزواج لدى الفتاة من 23 إلى 32 سنة». ويضيف: أن سن الزواج لدى الطبقة المثقفة مرتفع أساساً، أما ما يتم تداوله عن العُنُوسة اليوم فهو غير موجود، لأن واقع الزواج بين الفئات الاجتماعية ذات المستوى التعليمي المنخفض ما زال مستمرا، بل ازداد أكثر مما كان عليه قبل اندلاع الأحداث بعد ظهور زواج الفقراء الذي أوجدته الأزمة الأخيرة، وكان نتيجته تنازلات كثيرة من جانب عائلة العروس عن اللباس ومراسم العرس والمسكن والكسوة والذهب». ويقول، أنَّ الزواج في أماكن النزوح ومراكز الإيواء مستمر ولم يتأثر بالأحداث.
مشاكل عدة باتت تطفو على السطح بشكل أسرع مع دخول الثورة عامها الخامس، ومن أبرزها، العنوسة، والتي عزاها أغلب من تحدثوا لـ «القدس العربي» إلى هجرة الشباب، أو التحاقهم بالقوات العسكرية المتصارعة على الأرض، الأمر الذي فاقم المشكلة وأصبح يترك تأثيراته النفسية السلبية على نفسية الشباب.
«د. أ» من أبناء مدينة سلقين في شمال ادلب طالبة في كلية الأداب في جامعة حلب تقول: «من المعروف أن الفتاة بعد الانتهاء من مراحل تعليمها، تنتظرها مرحلة ثانية في مسيرة حياتها، ألا وهي الزواج والاستقرار، إلا أن ما آلت إليه حال البلد وشبابها أصبح يشكل عامل قلق كبيرا لشريحة واسعة من الفتيات اللواتي على وشك الزواج» وأضافت «كما أن العادات السيئة في المجتمع الشرقي، لها دور بارز في زيادة عدد العانسات في المنطقة، فأغلب البنات يتعرضن لحصار خانق في المنزل، وكبت لحريتهن من قبل الأهل، وحتى يصل الأمر أحياناً إلى ضربهن في حال تجاوزن الحدود المرسومة لهن من قبل الأسرة. والفقر من الأسباب الرئيسية التي أدت لتفاقم هذه الظاهرة، والتي زادت بدورها من عدد العانسات، ودفعت في المقابل الشباب للهجرة خارج البلاد بحثاً عن حياة أفضل أمناً واقتصاداً وتعليماً. وتتحدث «ك. ج» من مدينة سلقين شمال ادلب قائلة: «شباب كثر طلبوا الزواج مني، ولكن الرفض كان دائماً من عائلتي، لأني أعمل في الشتاء في مواسم قطاف الزيتون والرمان، وأعيل عائلتي. وأنا حالياً تجاوزت الـ 35 عاماً، وأخاف ألا يتقدم لي بعد الآن إلا الشاب المتوفية زوجته، أو المطلق، أو من تجاوزت زوجته الخمسين».
تغيب الاحصائيات الدقيقة التي تفيد عن أعداد النساء السوريات، اللواتي تعرضن للاغتصاب، إلا أن الروايات غير الرسمية تفصح عن واقع حال صعب تعيشه النساء في الداخل السوري. كما إن النساء في سوريا تعرضن للاعتقال والاحتجاز التعسفيين، والأذى البدني والتضييق والتعذيب أثناء النزاع السوري من جانب القوات النظامية والميليشيات الموالية لها، وهذا لا يبرئ جماعات المعارضة للنظام فهي أيضاً قد ارتكبت بعضاً من هذه الجرائم. كما كل تفاصيل الحياة السورية المقسمة تختلف مبررات تزويج القاصرات، تبعـــاً للطرف الذي يسيطر إن كان نظاماً أم معارضة، ولدى الطرفين مسوغات للقيام بهذا العمل بحسب الأهالي. قمر، 15 عاماً من ادلب، تزوجت من رجل يكبرها بـ20 عاماً وتعيش معه في أنطاكيا، تقول «خوف أهلي علي كان الدافع وراء زواجي، وذلك بسبب المداهمات المتكررة من رجال الأمن والشبيحة لبيتنا وبشكل شبه يومي قبل تحرير مدينة ادلب» وتتابع: قبل تحرير ادلب كان حلم كل الفتيات الخروج من المدينة التي تتوغل فيها العصابات والأجهزة الأمنية، التي لا تتوانى عن التحرش بالفتيات.
أما محمد، فكان له مبرر من نوع خاص حتى يزوج ابنته التي لم تبلغ الـ15 عاماً، مبينا أن «من الطبيعي أن تكون الفتاة أمام خيارين، الأول إكمال دراستها، والثاني زواجها، والمدارس باتت غير متوفرة في الداخل بشكل منطقي، ناهيك عن انقطاع الطلاب عنها لمدة طويلة، لذلك لم يتبق لنا أمل بمتابعة الدراسة، فلا بوادر لحل قريب للحرب، لذلك اتخذنا القرار». وأضاف «حتى الدوافع الاقتصادية كان لها دور في اتخاذي القرار، فلا مورد اقتصادي ثابتا لدينا هنا، وخسارتي للعمل جعلتني أفكر ملياً قبل رفض عرض الزواج، الذي عرض على ابنتي، في المقابل قد لا يأتيك شاب جيد في كل الأحيان».
موروثنا الشعبي العربي، قد يجعلنا نتقبل فكرة زواج القاصر، وأبعد من ذلك قد يدفعنا للتعامل مع هذه الظاهرة، على أنها أمر بديهي، وفطري أيضاً.
ولا يمكن توجيه اللوم إلى الأب العاجز عن إطعام أولاده في بعض الأحيان، بل نلوم الحرب التي تضع هذا الأب بين خيارات قاتلة.
إن الآثار الاجتماعية لزواج القاصرات غير قابلة للإحصاء، لأن القاصر وبشكل فطري قد تكون صالحة جسدياً للإنجاب والأمومة وغير مكتملة نفسياً وانفعالياً، بالتالي سوف يجلب عدم النضج مشاكل لا حصر لها، من أهمها تربية الأطفال.
المضحك أن الكثير من العرب، والسوريين على وجه الخصوص، يعتقدون أن القوى الكبرى كأمريكا وروسيا، مجرد شركات حماية أمنية، بإمكانك أن تطلبها، أو ترفضها متى تشاء. والمضحك أكثر أنهم لا يثبتون على رأي في نظرتهم إلى أمريكا أو غيرها من القوى الدولية، فإذا تدخلت أمريكا أو روسيا في مكان ما، على عكس بعض الرغبات، فيا ويلها، فتصبح قوة غازية يجب مقاومتها والتصدي لها بكل الطرق والأسلحة، كما كان الحال بالنسبة للذين عارضوا الغزو الأمريكي للعراق، وكما هو الحال الآن بالنسبة لمعارضي الغزو الروسي لسوريا. وإذا نادى العرب أمريكا للتدخل في مكان آخر، وتقاعست، فأيضاً يا ويلها، بل يجب عليها أن تلبي النداء بسرعة البرق، وإلا فهي دولة عاجزة مترددة، متقاعسة، ضعيفة، متواطئة مع الطغاة العرب، ولا تقيم للدم العرب أي وزن. وهذا الموقف نراه الآن لدى قوات المعارضة السورية التي تطالب أمريكا منذ سنوات للتدخل للقضاء على نظام الأسد، بينما أمريكا ترفض.
لاحظوا التناقض في الموقف من أمريكا أثناء اجتياحها للعراق عام 2003 عندما عارضها قطاع عربي واسع، وتقاعسها عن التدخل في سوريا منذ بدء الثورة السورية عام 2011 لإزاحة بشار الأسد، رغم الدعوات والمناشدات العربية والسورية الكثيرة لأمريكا كي تتدخل.
لم يترك الإعلام العربي، ولا الشعوب، ولا المثقفون العرب على مدى سنوات تهمة إلا وألصقوها بالمعارضين العراقيين السابقين، وبكل من عمل مع الأمريكيين في بداية هذا القرن للإطاحة بالنظام العراقي السابق. لقد كان الشارع العربي من المحيط إلى الخليج ينظر إلى السياسيين العراقيين الذين كانوا ينسقون مواقفهم مع الأمريكيين قبيل الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 على أنهم ثلة من الخونة والعملاء، لا لشيء إلا لأنهم كانوا يتعاونون مع العم سام لإسقاط نظام صدام حسين. والعجيب في الأمر أن الكثيرين ممن مازالوا يعيّرون أعضاء الحكومة العرقية الحالية بأنهم أزلام الأمريكان، وبأنهم عادوا إلى العراق على ظهور الدبابات الأمريكية، هم الآن يدعمون المعارضين السوريين الذين يناشدون الأمريكيين منذ سنوات كي يساعدوهم في إسقاط بشار الأسد، حتى لو تطلب ذلك قصفاً أمريكياً مكثفاً لدمشق.
من المضحك جداً أن الكثير من الشعوب بات يتوسل للخارج بكل أريحية أن يتدخل كي يحميه، وينقذه، إما من براثن الطغاة، وجيوشهم، كما هو الحال بالنسبة للمعارضة السورية، أو كي يحمي الطاغية ونظامه من المعارضين، كما هو الحال بالنسبة لمؤيدي بشار الأسد. من المفارقات السورية الهزلية أيضاً أنه لم تعد المطالبة بالمساعدات العسكرية الخارجية، حتى بثمن، رجساً من عمل الشيطان فاجتنبوه، بل غدت مشروعة، لا بل مطلوبة تماماً، إن لم نقل «فرض عين». قليلة جداً هي الأصوات التي تحذر، أو تسخر من المطالبين بالتدخل لدى المؤيدين أو المعارضين في سوريا. لقد أصبح الوطني في سوريا، للمفارقة المضحكة، هو ذاك الذي يطالب، ويبارك الاستعانة بالروسي، كما هو حال مؤيدي الرئيس السوري وحلفائه من « بتوع المقاولة والمماتعة»، والخائن هو الذي يعارض الاستعانة. بعبارة أخرى، فقد أصبح، بالنسبة لمؤيدي بشار الأسد مثلاً، كل من يعارض التدخل الروسي لحماية النظام، ويطالب بالتدخل الأمريكي لإسقاطه، عميلاً، وخائناً، وغير وطني. يعني التدخل الروسي حلالا، والأمريكي حراما بالنسبة لشبيحة الأسد. وكما أن الكثير من المعارضين السوريين شعروا بالخذلان لأن أمريكا لم تتدخل للإطاحة ببشار الأسد، فقد كانت فرحة الموالين لبشار عارمة جداً عندما تدخلت روسيا وإيران لحمايتهم من قوات المعارضة. لقد راح مؤيدو بشار الذين كانوا يعتبرون المعارضين عملاء وخونة، لأنهم طالبوا بالتدخل الخارجي في سوريا، راحوا يؤلفون الآن القصائد في مديح طائرات السوخوي الروسية، لا بل بدأوا يمجّدون الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ويصورونه على أنه المسيح المخلص. وقد شاهدنا «الأراجوز الطرطور» خطيب الجامع الأموي في دمشق وهو يبتهل إلى الله ليحمي بوتين العظيم، كما لو أنه حامل لواء القومية العربية، مع العلم أن التدخل الروسي في سوريا لا يختلف أبداً عن التدخل الأمريكي في سوريا أو غيرها. فكما هو معلوم، فإن القوى الكبرى ليست جمعيات خيرية، بل تتدخل، بالدرجة الأولى، من أجل مصالحها، وليس من أجل السخفاء البلهاء الذين يهللون ويطبلون لتدخلها، لا في العراق ولا في سوريا. في الماضي، كان البعض يتوعد بشار الأسد بالطائرات الأمريكية، واليوم يصفق مؤيدو حلف «المقاولة» للطائرات الروسية التي تقصف المدن السورية. وكأن إدلب وحلب وحمص بالنسبة لهم أرض الأعداء.
لم يعد، لا بإمكان قومجية بشار الأسد «بتوع» السيادة الوطنية المهترئة، ولا بإمكان معارضيه، أن يعيّر الآخر بالعمالة والخيانة للخارج. فقد تساوى الطرفان في العمالة والخيانة، إذا كان المقياس هي الاستعانة بالخارج. وأرجو أن لا يتشدق أحد بالقول من جماعة بشار بأنه يحق للدولة ما لا يحق للمعارضين. فمن المعلوم أن الدولة السورية لا وجود لها منذ زمن بعيد، والعصابة لا يمكن أن تسمي نفسها دولة. وحتى لو كان النظام السوري يعتبر نفسه دولة، فقد خسر هذه الميزة منذ اندلاع الثورة. وحتى لو ادعى أن بعض السوريين يؤيدونه، فإن بقية الشعب السوري سحبت منه الشرعية منذ أن أطلق الرصاصة الأولى على المتظاهرين السلميين في شوارع سوريا. كيف يزعم بشار أنه يحظى بشرعية إذا كان الشعب يحاربه على الأرض بمختلف أنواع السلاح من الشمال إلى الجنوب؟ ولا قيمة لنتائج المهزلة الانتخابية الأخيرة، خاصة وأن عدد السوريين المحرومين من المشاركة بها، من لاجئين ونازحين، زاد عن ثلثي الشعب السوري.
لقد سقطت الأقنعة تماماً. وإذا كان التدخل الأمريكي في سوريا حراماً، فإن التدخل الروسي والإيراني خطيئة لا تغتفر. ومن طلبه فهو عميل، وخائن، وبائع للوطن إلى يوم الدين.
هل يا ترى سيصفق مؤيدو بشار الأسد لإسرائيل فيما لو تدخلت لإنقاذ نظامه؟
بعد ساعات قليلة من تصريحٍ، استثنى فيه الجيش الحر من تهمة الإرهاب، وتعهد بألا تستهدفه غارات سلاح الجو الروسي على سورية، وأن تفتح بلاده حواراً معه، باعتباره قوة معتدلة، أنكر وزير خارجية روسيا، سيرغي لافروف، أن يكون هناك "جيش حر"، بينما كانت بيانات الناطق العسكري باسم جيش الغزو تعتبر كل من تستهدفه غارات طيران روسيا "داعشيا"، باعتبار أن من لا ينتمون إلى النظام جميعهم "دواعش"، وأنه لا وجود لغير هؤلاء على الطرف الآخر من الصراع ضد الأسد. لذلك، لم يتعرض أحد سواهم للقصف، وليس بين من قتلوا أحد غيرهم، حتى إن ثبت أنهم أطفال في مقتبل العمر، قتلوا وهم نيام تحت ركام منازلهم المدمرة.
يظهر الروس قدراً غير مألوف من الاستهانة بقطاع كبير من شعبهم، ومن الرأي العام العالمي، يرجع إلى رؤيتهم لحربهم في سورية. ومثلما تعتبر "داعش" كل من لا ينتمي إليها "مرتدا" يستحق القتل، ترى روسيا في الذين يعارضون النظام "دواعش"، من الضروري قتلهم بقنابل طائراتها. المشكلة أن روسيا دولة كبرى، ولها مسؤوليات أخلاقية تجاه العالم، وأن تدعيش سياساتها الذي بدأ قبل ظهور تنظيم داعش في سورية بعامين لعب دوراً مرعباً في انهيار الشرعية الدولية، وانتشار فوضى واسعة في عالمنا العربي، بين أسبابها غياب المعايير الإنسانية والقانونية عن مواقف حراس الشرعية الدولية وممارساتهم، وبالأخص منهم روسيا التي أيدت دوماً قتل السوريين برصاص الجيش الأسدي، واتهمت طالبي الحرية بالأصولية والإرهاب، وشاركت تخطيطاً وتنفيذاً في جميع العمليات العسكرية التي استهدفت حياتهم الشخصية ووجودهم الوطني، واستفزت قطاعاً كبيراً من مسلمي روسيا، تعاطف مع ثورة السوريين من أجل الحرية، وتفهم أن ينالوا الحقوق التي سبق لهم أن نالوا بعضها، عقب سقوط نظامهم الاستبدادي. وتقول استطلاعات الرأي إن غالبيتهم ترفض غزو بلادهم سورية، وقتالها مقاومي نظام استبدادي متوحش، يضطهد شعباً لم يناصب روسيا العداء يوماً، ولم يلحق ضرراً بمواطنيها ومصالحها. وزاد طين هؤلاء بلة أن الكنيسة الأرثوذكسية الروسية رأت في قتل السوريين على يد الغزاة الروس "حرباً مقدسة"، يخوضها جيش مؤمنين أطهار ضد كفرة أشرار، على طريقة "داعش" التي تدّعي أنها تقاتل، باسم الإيمان القويم، مرتدين عنه، ليسوا غير كفرة ومارقين، تجب إبادتهم من دون رحمة.
هل يمكن لسياسات دولة عظمى، هذه مبادئها وممارساتها، أن تبقى في منأى عن "تدعيش" حياة مواطنيها العامة، وعلاقات مكونات مجتمعها الدينية، وعلاقاتها مع المجتمع الدولي التي شهدت، منذ غزت سورية عسكرياً، واستهدفت الآمنين وأنصار الحرية من المقاتلين، عودة مخيفة إلى زمنٍ لطالما تحكم فيه القوي بالضعيف، وأجاز لنفسه ما منعه عن سواه، يهدد انبعاثه من جديد على يد روسيا، بطي حقبة "نزع الاستعمار" التي كانت الأمم المتحدة قد أقرتها، في سبعينيات القرن الماضي، وفتح إغلاقها الباب رحباً أمام تحقيق أماني عديد من الشعوب، وحماها من عدوان حيتان السياسة الدولية الكبار وتجبرها؟
تدمر سياسات روسيا السورية الأسس التي تنهض عليها الشرعية الدولية، وتعتبر ركائز أمن العالم وسلامه وتوازنات نظمه المتنوعة، وتعيدنا خيارات موسكو، التدخلية والعدوانية، إلى عصر أشد سوءاً بكثير من عصور الاستبداد التي حفل بها تاريخ عالمنا، وخصوصاً منه التاريخ الروسي، تمتزج فيه نزعة مذهبية، داعشية المضمون، بسياسات قوة مفرطة، كونية الانتشار، لن ينعم العالم بأي قدر من السلام والأمان، إن سمح بانتصارها على سورية.
في معرض رده على التدخل العسكري الروسي في سورية، والذي بدا "محرجاً"، بمقدار ما كان "مفاجئاً"، على الرغم من أن واشنطن رصدت، منذ يوليو/تموز الماضي، زيادة ملفتة في حركة النقل العسكري الروسي إلى سورية، صرح الرئيس الأميركي، باراك أوباما، أنه لن يسمح لنظيره الروسي، فلاديمير بوتين، بجره إلى حرب بالوكالة في سورية. بدا هذا الكلام، من جهة، منسجماً مع سلوك أوباما الشخصي تجاه الأزمة السورية منذ بدايتها، فقد أبدى مقاومة شديدة تجاه التدخل، على الرغم من سيل الانتقادات والإهانات التي تلقاها من خصومه داخل الولايات المتحدة وخارجها. لذلك، بدا أوباما، في هذا التصريح، وكأنه يحاول، مع إصراره على عدم تغيير سياساته، الحفاظ على ماء وجهه، مع أن بعضهم يعتقدون أنه لم يعد معنياً حتى بهذا، إلى درجة أنه غدا مثالاً للرجل الذي يبغضه حلفاؤه، ولا يحترمه أعداؤه.
لكن، من جهة ثانية، بدا هذا التصريح غير ذي معنى، لأنه يتناقض مع مبدأ أوباما نفسه في السياسة الخارجية، والذي يقوم على فكرة الانكفاء عن التدخل المباشر، وإنشاء موازين قوى إقليمية وإدارتها، من خلال الصراع السوري، تؤدي إلى استنزاف مستمر للجميع، وتحول دون هيمنة طرف على آخر. يخل التدخل العسكري الروسي المباشر إلى جانب النظام السوري بقواعد اللعبة التي تديرها واشنطن، منذ نحو خمس سنوات، بين القوى الكبرى المنخرطة في الصراع الإقليمي، وهي تركيا والسعودية وإيران، ويصب في مصلحة ترجيح كفة طرف على آخر، وهو أمر لا تملك واشنطن قدرة التغاضي عنه. من هذا الباب، لم يأخذ المطلعون على حقيقة التفكير الأميركي كلام أوباما على محمل الجد، على غرار أكثر ما يقوله بشأن سورية، أو ما ظل يقوله منذ خمس سنوات. فوق ذلك، بدا واضحاً أن أوباما فقد زمام المبادرة في المنطقة، ولم يعد يملك مفاتيح السيطرة على الأحداث فيها، بعد أن أدار ظهره لها، بل أصبح يعمل بمنطق ردود الأفعال على سياسات الفاعلين الآخرين فيها، والتي أخذت تجرفه نحو تبني مواقف لا يرغب بها. لذلك، نجده، وهو الذي قرر الخروج من العراق بأي ثمن عام 2011، يعود إليه إثر سقوط الموصل بيد تنظيم الدولة عام 2014، وله اليوم فيه قوة عسكرية من خمسة آلاف عنصر، على الرغم من أن أوباما يصر على أنها قوة غير قتالية، وأنها هناك لأغراض تدريبية واستشارية فقط. ليس هذا فحسب، بل انجرّ أوباما إلى الصراع السوري الذي ظل يحرص على البقاء بعيداً عنه، بعد أن "أحرجه" تنظيم الدولة بقتل صحافييْن أميركييّْن.
واقع الأمر أن واشنطن قررت، على الفور، الرد على التدخل العسكري الروسي المباشر الذي يخلّ بموازين القوى على الأرض في سورية، إذ أفشلت صواريخ "تاو" الأميركية التي تملكها فصائل المعارضة السورية المحاولات اليائسة لقوات النظام، المدعومة بغطاء جوي روسي، لتغيير المشهد الميداني في مناطق ريف حماة واللاذقية. وقد ذكرت صحيفة واشنطن بوست في تقريرٍ، نشرته يوم 12 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، أن دفعات جديدة من أجيال أكثر تطوراً من هذه الصواريخ المضادة للدروع في طريقها الآن إلى فصائل معارضة سورية.
ليس هذا فحسب، بل يبدو كأن كلاً من روسيا والولايات المتحدة تتجهان نحو إنشاء قوات برية
"انجرّ أوباما إلى الصراع السوري الذي ظل يحرص على البقاء بعيداً عنه، بعد أن "أحرجه" تنظيم الدولة بقتل صحافييْن أميركييّْن"
حليفة على الأرض السورية، تكون بمثابة ذراع ضارب لكل منهما في هذه المواجهة التي تستهدف، من جهة، تسجيل نقاط في الحرب على تنظيم الدولة. وتسعى، من جهة أخرى، إلى منع سقوط النظام السوري أو انتصار المعارضة. وفي هذا الصدد، بدأت القيادة العسكرية الروسية في سورية عملية إعادة تقييم وتنظيم لبقايا جيش النظام والمليشيات المرتبطة به، في إطار توجه لحصر كل القرارات العسكرية والأمنية بها، وهي تدفع لذلك نحو حل المليشيات المحلية التي أنشأها رجال أعمال، أو مسؤولون داخل النظام، ودمج من يرغب منها بالجيش النظامي. وفيما يتعلق بالمليشيات غير السورية التي ترعاها إيران، فإنها ستغدو أيضاً بإمرة غرفة عمليات مشتركة، يكون للروس الكلمة الفصل فيها، ما يعني أن دخول "الدب الروسي" إلى حلبة الصراع السوري بدأ يدفع "النمس الإيراني" إلى التواري، أو القبول بالدور الموكل إليه روسياً.
أما الولايات المتحدة، فتعمل على إنشاء جيش آخر أطلق عليه اسم "جيش سورية الديموقراطي" وتأهيله وتجهيزه (سوف نحتاج طبعاً الى أن تشرح لنا واشنطن لاحقاً كيف يمكن أن يكون الجيش ديموقراطياً)، قوامه الرئيس قوات حماية الشعب الكردية. كما يضم الجيش، وقد غدا يحمل اختصاراً اسم "جسد"، إلى ذلك قوى عربية لأغراض تجميلية. وقد أقرت واشنطن للتو تزويده بـ 100 طن من السلاح، تم إسقاط جزء منها، أخيراً، عن طريق الطائرات. ويتراوح تعداد الجيش العتيد، بحسب وسائل إعلامية مختلفة، بين 25-30 ألف مقاتل، وستكون مهمته الأساسية، على ما يبدو، استخلاص الرقة من يد تنظيم الدولة، وتحقيق سبق أميركي على الروس الذين يكتفون، حتى الآن، من حربهم المعلنة على التنظيم، بضرب قوات المعارضة في مناطق التماس الرئيسة مع النظام، شمال سورية وغربها.
وبهذا، يكون المشهد السوري قد جمع، على اختلاف التفاصيل، كل "أمجاد" التجربة الأفغانية،
"دخول "الدب الروسي" إلى حلبة الصراع السوري بدأ يدفع "النمس الإيراني" إلى التواري"
بنسختيها الروسية (1979) والأميركية (2001). ففي 1979 تدخل الروس لدعم نظام بابراك كارمال، فأدار الأميركان ضدهم حرباً بالوكالة، يساعدهم في ذلك السعودية (دفعت المال) ومصر (باعت السلاح الروسي الذي كانت تملكه إلى المجاهدين الأفغان) وباكستان (نظمت عمليات التوزيع وغيرها من أمور لوجستية). وأدى ذلك، في نهاية المطاف، إلى هزيمة روسيا وسقوط نظام نجيب الله الذي خلف كارمال. وفي 2001، تدخلت واشنطن لإسقاط حكومة حركة طالبان، وكان ذراعها الضارب في ذلك تحالف الشمال الذي ضم أقليات من الطاجيك والأوزبك والهزارة، بزعامة أحمد شاه مسعود. وقد تمكن هذا التحالف، بدعم جوي أميركي، من الوصول إلى كابول وإخراج "طالبان" منها. وتزاوج الولايات المتحدة اليوم بين الأمرين في سورية، وتدير حرب وكالة مزدوجة على أراضيها، فهي، من جهة، تقود تحالفاً دولياً إقليمياً محلياً، هدفه الرئيس إفشال التدخل الروسي الداعم للنظام السوري. ومن جهة ثانية، تعمل على إنشاء وكيل محلي، قوامه الرئيس قوى كردية وسريانية مع بعض العرب، لضرب تنظيم الدولة وإخراجه من الرقة. وإذا كان المثل الإنجليزي الشهير ينطبق هنا: "إذا كانت تبدو كالبطة، وتسبح كالبطة، ولها صوت كصوت البطة، فالأرجح أنها بطة". وعليه، فالأرجح أن ما يجري اليوم في سورية هو حرب بالوكالة، تدار على الأرض السورية، ويسدد ثمنها السوريون، إنما الأرجح أيضاً ألا يربحها الروس، ولا الأميركيون.
لعل من فوائد العدوان الروسي على سوريا ، هو إعادة إحياء فكرة أو التذكير بالقلة التي لازالت محافظة على وجودها رغم كل ما أحاط بها ، وما عُمل على إنهائها و تشريدها ، وواجهة كل القوى التي تلعب بالملف السوري الصديق و العدو و الذي يلعب بين الطرفين ، ألا هو "الجيش الحر".
والعودة إلى بداية ظهور أول هوية على الملأ وملحقة بكلمات لازالت محفورة في أذهان ووجدان الجميع "أعلن إنشقاقي عن النظام القاتل و هذه هويتي" ، وتشكيل اول مجموعة لحماية السلمية ، و ليس لحرب القتلة ، لم تكن غايتهم الدخول في معارك أو تحقيق مكاسب شخصية أو دولية ، وإنما كل مافي أمر هو حماية من يرغب بالتعبير عن رأيه ، تأمين له سند يضمن ممارسة أبسط حقوقه "الرأي" ، في مواجهة آلة القتل التي عملت أربعين عاماً بالقتل الصامت و إنفجرت فعلاً وعلناً بالقتل المباشر لكل من يرفض الموت تحت الأضواء الخافتة.
واجه الجيش الحر خلال السنوات الثلاث الماضية سلسلة من العمليات المنظمة و الممنهجة ، لتدميره و إنهاء هذه الفكرة التي تشكل الخطر الأبرز على وجود أي نظام ، عندما يفقد أبرز و أهم عناصره البشرية ، ووقوفها بالطرف المقابل و الممانع لرغباته الطائفية ، ولم يكن مقبول وجود هكذا تشكيل الذي يمنع اي إمكانية للإستمرار في الحكم أو بالقبضة القاتلة أكثر .
اجتهد الجميع على وأد و تشويه هذا الوجود و على رأسهم مخططي نظام الأسد ، الذي زجوا بمختلف الملونات التي تشوه المولود الذي يعتبر "المنتظر" أو المخلص للشعب السوري .
اليوم تتهم الثورة السورية بإنها تحولت إلى ثورة إرهابية أو قاعدية و المسمى الأكثر تداولاً "الداعشية" ، و لكن هل كانت كذلك أم مايقال صحيح ..!؟
في أحادثينا عن بدايات الكفاح المسلح و مراجعة لبعض الذكريات ، نجد أن البطولة التي وجدت لدى بذار "الجيش الحر" لا نجد لها مثيل الآن ، من مواجهة دبابة أو آلية بـ"كلاشنكوف" أو من يهاجم حاجز ببضع بنادق و قاذف "آر بي جي" ، أو من يحاول صد رتل مجنزر ببضع مفرقعات التي لاترتقي لـ"عبوات ناسفة" ، فهؤلاء ليسوا بضعفاء أو ناقصي رجولة والأهم ليسوا بكفار أو ضعيفي الإيمان .
يسعى الجميع إلى إسباغ الجنسيات الأجنبية على المقاتلين المتواجدين حالياً في سوريا ، وتحويل الثورة من ثورة سورية إلى ثورة تحت مسميات خلافة و إمارة أو دولة ذات قومية أو صبغة معينة ، وكل التسميات التي من الممكن أن تخطر على بال لكن شرط أن لا تكون "سورية" .
وفي الحقيقة لايمكن إخفاء العنصر الأجنبي أو تواجده في صفوف الثورة ، و لكن في المقابل لايمكن جعله قاعدة أو غالبية ، فالعدد الموجود منهم لاتتجاوز نسبة تمكنه من بسط السيطرة و النفوذ ، إذ أن الغالبية الساحقة ممن يحملون السلاح هم سوريون ، وكذلك من "جيش حر" بالأساس والأصل ، تم إجباره و احاكة الظروف لخنقهم و إدخالهم في متاهات أجبرتهم للتحول من طريق إلى آخر ، و لكن الهدف لم يتغير ، والخلاص من الطغمة الحاكمة و من يدعمها هو النهاية المطلوبة .
مع إشتعال المعارك حالياً على مختلف الجبهات من الشمال إلى الجنوب ، جعل من إسطورة "الجيش الحر" تعود من جديد للظهور ، وعادة الكلمة لتتردد في مسامعنا ، وعاد أبطالها للظهور و الوقوف من جديد ، بعد سنين كانت عصيبة ، ورغم شدتها لم تنه الحلم ، الحلم الذي دفع ثمنه مليون شهيد ومغيب وملايين المشردين ، ولازال العدد مفتوح .. حلم لابد من المواصلة لتحقيقه ..
أجبر الانقطاع المتواصل للتيار الكهربائي بسوريا السكان على البحث عن وسائل بديلة لتأمين الكهرباء، فبدأوا باستخدام البطاريات القابلة للشحن، ومن ثم انتقلوا إلى المولدات الصغيرة وانتهى بهم المطاف إلى المولدات الكبيرة التي انتشر استخدامها بشكل كبير في الآونة الأخيرة، حتى أصبح يندر وجود تجمع سكني ليس فيه مولدة كبيرة يحصل السكان على الكهرباء منها عن طريق اشتراكات.
آلية الاشتراكات تكون على أساس قيام شخص في كل تجمع سكني بشراء المولدة وتأمين تشغيلها وتوفير الوقود والصيانة لها، ومد الكابلات اللازمة للبيوت، وذلك مقابل حصوله على مبلغ نقدي من كل بيت يتناسب مع حجم استهلاكه.
وظهرت هذه الخدمة أولاً في المناطق التي سيطر عليها الثوار، لتنتقل مؤخراً إلى المناطق التي بقيت تحت سيطرة قوات النظام، والتي تعاني هي الأخرى من انقطاع الكهرباء، وإن بدرجة أقل من تلك التي تحدث في مناطق الثوار.
مولدات الكهرباء الكبيرة بديل لشبكة الكهرباء العامة
“أبو طاهر” صاحب مولدة كهرباء كبيرة في ريف ادلب يقول للغربال: “مولدات الكهرباء جاءت لتلبية احتياجات الناس خاصة مع انقطاع شبه كامل للكهرباء، عدد البيوت التي يتم تخديمها يعتمد على استطاعة المولدة، لدي مولدة استطاعتها 300 كيلوفولت تعطي 1360 آمبير، تزود ما يقارب من 500 منزل بالكهرباء، وذلك حسب حاجة المنزل المستهلك”.
يتم وضع لوحات توزيع في رأس كل شارع في محيط مكان تواجد المولدة، كل لوحة تحوي على قواطع تفاضلية، بحيث يخصص كل قاطع لمنزل معين، ويمتد خط تغذية يعرف بالخط الساخن إلى اللوحة من المولدة، فيما يتم الحصول على الخط البارد من أعمدة الكهرباء، وتقدم مولدات الكهرباء “الأمبيرات” للمشتركين بمعدل سبع ساعات يومياً.
“علي الفرج” أحد المستفيدين من خدمة المولدات يقول للغربال: “لا يوجد بديل أمامي سوى الأمبيرات، فحتى الشواحن الكهربائية بحاجة للكهرباء لتشحن، والكهرباء أصبحت غير موجودة حالياً، لقد أصبح لدينا ميزانية خاصة للكهرباء إضافة لما نعانيه من غلاء في المعيشة، ولكن الحاجة أقوى من كل شيء، الظلام أعمى عيوننا، ونريد أن نحافظ على حد أدنى من الحياة الكريمة”.
أسعار كهرباء المولدات المرتفعة تضغط على السكان
يتفاوت سعر اشتراك الكهرباء “الأمبيرات” من منطقة الى أخرى بحسب وجود رقابة من المجالس المحلية أو من المحاكم الشرعية أو وجود مساعدات من الوقود مقدمة من المجالس المحلية والمنظمات العاملة في الداخل السوري، ففي مدينة “كفرنبل” بريف إدلب يتراوح سعر الاشتراك بالأمبير الواحد يومياً بين 45 و50 ليرة سورية وذلك بسبب حصول المجلس المحلي في المدينة على مولدات اشتراك من منظمة مهتمة بدعم المجالس المحلية أي أنهم لا يأخذون من المشترك سوى قيمة الوقود وأجور العمال وربح صغير لدعم المجلس المحلي، أما في مدينة “سلقين” ومدينة “حارم” فهناك اختلاف بالأسعار بين الأحياء ففي مدينة سلقين هناك مستثمرون ينافسون أصحاب المولدات القدامى، وتكون المنافسة بزيادة عدد ساعات التشغيل من سبع ساعات إلى تسع ساعات ومن ناحية بدلات الاشتراك فبدلاً من 75 ليرة سورية كبدل الاشتراك بالأمبير الواحد يأخذ المستثمر الجديد 60 ليرة فقط لاستدراج المشتركين إليه وحين اكتمال النصاب يقوم بتخفيض ساعات التشغيل إلى سبع ساعات ورفع سعر الاشتراك الى 75 ليرة.
لا يتوقف السكان عن التفكير في وسيلة ما لتوفير القليل من المال نظراً لارتفاع نفقاتهم، يعتبر من التقتهم الغربال أن أصحاب المولدات يقومون باستغلالهم، خاصة وأن هذه الاشتراكات هي الوسيلة الوحيدة لتزويدهم بالكهرباء.
إن التفاوت الكبير بأسعار الاشتراك بالمولدات يعود أيضاً إلى تحكم أصحابها الذين يحددون الأسعار متفلتين من رقابة من المحاكم الشرعية أو المجالس المحلية، ويحمل الأهالي في ريف إدلب الشمالي المؤسسات المسؤولة في مناطقهم وزر هذا الاستغلال والتفريق، ويتهمون القائمين عليها بالفساد والإهمال.
عضو أحد المجالس المحلية في ريف إدلب الشمالي يقول للغربال طالباً عدم ذكر اسمه: “يتهمنا البعض بالتقصير والإهمال، والبعض الأخر بالفساد، لأننا لا نستطيع توفير الكهرباء لهم على حد زعمهم، في الحقيقة نحن لا نسد حاجتهم، لكن ليس بسبب الإهمال أو الفساد كما يظنون، بل لعدة عوامل أهمها عدم قدرتنا على التحكم في أسعار الاشتراكات، وذلك لعدم توفر البديل لدينا لتأمين حاجة المواطن، فالجهات الداعمة للمجالس المحلية في الحكومة السورية المؤقتة لا تملك ميزانية التي تسمح بإنشاء هكذا مشاريع في القرى والمدن الخارجة عن سيطرة النظام”.
ورغم ذلك يبدو حديث المواطن عن ارتفاع سعر “الآمبير” مبرراً بسبب الفقر المدقع الذي دخل في متاهاته، لكن مستثمري المولدات لديهم مبررات أيضا لرفع الأسعار، أحد أصحاب المولدات الكهربائية في “سرمدا” يقول للغربال: “من الطبيعي أن تكون أسعار الأمبير مرتفعة بسبب ارتفاع أسعار الوقود “المازوت”، التي تشغل المحركات الخاصة بالمولدات، بالإضافة إلى ارتفاع سعر مجموعة المولدة، وهو ما يعتبر رأس مال يريد صاحبه الاستثمار به لتأمين معيشته مثل أي عمل آخر، وكذلك ارتفاع كلفة الصيانة وارتفاع أسعار قطع التبديل وأجور العمال، وبحساب بسيط تجد أن ما نكسبه يؤمن المعيشة بالحد الأدنى”.
وتسبب ارتفاع أسعار اشتراكات المولدات بارتفاع بأسعار منتجات أخرى يعتمد إنتاجها على الكهرباء الأمر الذي سيزيد بلا شك من العبء المالي على السكان، يقول
“أحمد” وهو صاحب ورشة خياطة في “سلقين” للغربال: “كل يوم أحتاج لـ 30 أمبير لتشغيل الآلات (75×30 = 2250 ليرة سورية)، علماً أن المولدة تعمل 7 ساعات يومياً، وهذا ما يزيد في التكلفة أكثر، لذلك أضطر إلى رفع أسعار البضاعة”.
مولدات الاشتراك مشروع تجاري رابح
يعد مشروع مولدات الاشتراك أحد أربح المشاريع التجارية في الشمال السوري حالياً بسبب حاجة الناس الماسة للكهرباء وطلبهم الدائم لها، يقول “محمد الأحمد” وهو أحد الموظفين المراقبين على أحد مشاريع مولدات الاشتراك للغربال: إن المولدة التي نشغلها تعتبر من المولدات المتوسطة حجماً بين المولدات المتواجدة في مدينة سلقين والتي تعطي ما يقارب 2000 أمبير، نحن يلزمنا لتشغيلها لمدة سبع ساعات يوميا ما يقارب 350 لتر مازوت ويبلغ سعر لتر المازوت الواحد من “معرة النعسان”، التي تعتبر السوق الوحيد لبيع الجملة للمحروقات، نحو 115 ليرة سورية أي أن قيمة المحروقات اليومية 40250 ليرة بالإضافة إلى أجر عامل مراقب يبلغ 1000 ليرة وأجر عامل صيانة كهربائية يبلغ 1000 ليرة وتكاليف صيانة تبلغ 8000 ليرة أي تكلفة التشغيل 50250 ليرة يومياً.
لكن بالمقابل نحن نكون قد اخذنا قيمة “2000 أمبير” من المشتركين، قيمة الأمبير الواحد “65 ل.س” أي أن مجموع قيمة الاشتراكات 130000 ليرة سورية، فيكون ناتج الربح يومياً 79750، وشهرياً 2392500 أي يمكن من ناتج الربح شهرياً شراء مولد كهربائي ثاني وفتح مشروع جديد كالمشروع الأول.
وسعت روسيا مع بداية عدوانها على سوريا من مساحات المعارك و نوعيتها لتشمل مختلف المناطق السورية ، في خطوة مخالفة تماماً لتوجهات نظام الأسد الذي اعلن عبر رئيسه الإرهابي بشار الأسد أن العمليات ستركز على المناطق المهمة أو ما سماه "المفيدة" .
من حلب في الشمال إلى أرياف إدلب و حماه و اللاذقية ، مروراً بحمص إلى ريف دمشق و إنتهاءً في الجنوب ، في محاولات تبدأ من أقصى الشمال حتى الجنوب إلى إستعادة التوازن النسبي و زيادة المساحات التي يسيطر عليها النظام ، بعد أن إنخفضت إلى 14% وفق تصريحات وزير الخارجية التركي أمس ، للوصول إلى مايساعدها على تحسين شروط التفاوض .
يبدو السعي الروسي السريع و المتسرع ، بغية إستغلال الوقت المتاح له ، و الذي يقتصر على ثلاثة أو أربع أشهر لا أكثر وفق ماهو محدد من أموال لهذا العدوان ، يبدو أنه سيعطي نتائج عكسية تماماً ، وأن توسيع المعارك و ساحات الإشتباك و تنوعها و تلونها جغرافياً و لوجستياً وتوسع الإحتياجات من دعم تقني و بشري ، ستكون بمثابة "توسيع القبر" الذي سيدفن فيه الطموح الروسي لإيقاظ الدب الذي يُظن أنه في سبات ، و لكن في الحقيقة هو في مرحلة الإنعاش أو ما يعرف طبياً بـ" الكوما" .
ويظن الروس أنهم يمكن حسم المعركة جواً ، مع عمل بسيط من بقايا قوات الأسد و من آتى ويأتي من مليشيات شيعية وقوات إيرانية ، لتحقيق الأهداف ، و لكن على العكس تماماً ، التجارب السابقة تثبت أن قوات الأسد ومن معها في معركة واحدة فقط ، إذا ما تم فتح جبهتين أو ثلاثة معاً في مساحة لاتتجاوز الـ20 كم ، فإنها تنكسر و تخسر و تتراجع ، مهما تعاظمت المساندة الجوية و المدفعية القريبة و البعيدة و حتى العابرة للقارات ، فكيف بمعارك متعددة الجهات و المتفرقة و المتوزعة ، وتواجه قوات على الأرض تعرف الجغرافية جيداً و تدرك تفاصيل ووعورة الطرق كراحة يدها ، والأهم تعمل على شكل مجموعات قادرة على المناورة و العمل بشكل غير معلوم أو مرسوم يمكن توقع ضرباته القادمة سواءً مكانياً أو زمانياً.
يفرط المؤيدون و الموالون لروسيا و الاسد بالتفاؤل إلى حد الخيال و الحلم ، يعيشون على أنه واقع ، لا يعني أن الخسارة لبضع مناطق هنا أو هناك أن الأمر قد حُسم ، ولكن هناك وقت يطلق عليه "إمتصاص الصدمة" أو "استيعاب الموجة الأولى" التي تشبه المد الذي حتماً سيعقبه جذر قد يكون أشد تقلصاً ، و قد يسحب معه كل ما خلفه الموج في مده.
هناك شبه إجماع دولي على ألا مكان لبشار الأسد في سوريا، وقبل أيام أكدت المملكة العربية السعودية ذلك، والحقيقة أنه يجب أن يقال إنه لا مكان للأسد، ولا حتى لإيران، وأتباعها وعملائها في سوريا ذات الأغلبية السنية الساحقة.
قد يقول البعض إن هذه دعوة للتصعيد، وتعنت، والحقيقة أنها ليست كذلك.
ولأن الشيء بالشيء يذكر؛ فقبل عدة أيام نشرت مجلة «دير شبيغل» الألمانية تقريرا عن أسباب استدعاء الأسد للروس في سوريا، وخلص التقرير، الذي استقى معلومات من مصادر دبلوماسية روسية، وغربية، مطلعة عن كثب، حول ما يجري في دمشق، إلى أن الأسد قرر دعوة الروس بعد أن استفحل الدور الإيراني في سوريا، وبات الإيرانيون هم من يحرسون الأسد جسديا الآن، وأصبح بمقدورهم التخلص منه في أي لحظة، وذلك بعد أن تمكن الإيرانيون من إقصاء شخصيات مؤثرة من الدائرة الضيقة للأسد.
ويشير التقرير إلى أن الإيرانيين باتوا يتعاملون بتعال مع دوائر الأسد، وأنهم فاجأوا الأسد عندما قاموا بعقد اتفاق وقف إطلاق نار في الزبداني دون استشارته.
والقصة لا تقف عند هذا الحد؛ حيث يشير التقرير إلى أن الإيرانيين عمدوا إلى شراء أراض سورية بمواقع مهمة، وفرضوا تدريس المذهب الشيعي على الأغلبية السنية، وليس هذا فحسب، بل إن تقرير مجلة «دير شبيغل»، التي منحها الأسد بعد الثورة مقابلة مطولة، ينقل عن أحد العلويين قوله إن الإيرانيين يفرضون عليهم مفاهيم إيرانية مذهبية، قائلا: «إنهم يرموننا ألف عام إلى الوراء»! وبالطبع، فإن من ضمن ما لم تذكره المجلة الألمانية عن الغرور الإيراني في سوريا، هو أن حسن نصر الله كان، ولفترة قريبة، يتحدث عن سوريا أكثر من الأسد الذي لو استطاع نصر الله أمنيا جلبه للضاحية للتوجيه وإعطاء الأوامر، لفعل. وما لم تذكره المجلة أيضا، أن الأسد تحرك ودعا الروس بعد أن قدمت طهران مبادرة معدلة حول الأزمة، ومن أربع نقاط، ورفضها الأسد!.
حسنا، هل يمكن بعد كل ذلك تصديق أن الأسد المتقزم أمام الإيرانيين يريد كسر الطوق الإيراني، ومن المصلحة فتح صفحة جديدة معه؟ بالطبع لا، وهذا عبث! فأيا يكن مصير الأسد، فإنه غير مأسوف عليه، وهذه هي النتيجة الطبيعية، وهذا مآل كل من يتلحف بإيران، وأعوانها، طائفيا، أو ماليا، وسياسيا.
الأصل هو أن يرفض وجود الأسد، كما يرفض الوجود الإيراني في سوريا، الذي لم يتحمله حتى العلويون، فكيف بسنة سوريا وهم الأغلبية المطلقة؟ صحيح أن ما يحدث في سوريا محزن، ومأساوي، لكن النتيجة الحتمية، طال الزمان أو قصر، ألا مكان للأسد، ولا إيران هناك، وسيدفع كل أتباعهم وعملائهم الثمن سواء في لبنان أو العراق، لأنهم يلعبون بالنار، ويتجاهلون المخزن السني الحقيقي.
وما يجب تذكره هنا، هو أن عملية تدوير الزوايا، وعلى الطريقة اللبنانية، لن تجدي نفعا بسوريا ذات الزاوية الحادة، وحتى بعد التدخل الروسي هناك.
قال الرئيس بشار الأسد، في آخر خطاب له، إن الجيش السوري متعب، ولذا يتخلّى عن مواقع أقل أهمية لينصرف إلى حماية الأجزاء الأكثر أهمية من البلاد. لم يحدد ماهية الأهمية التي يعنيها، لكنه أطلق شعارًا لا سابقة له، وهو أن ((سوريا لمن يدافع عنها))، وهذا ينزع الجنسية عن نصف السكان الهاربين على الأقل.
في الأيام الثلاثة الأخيرة بدأت تظهر إلى العلن عملية معروفة منذ ثلاث سنوات، وهي أن الذين يدافعون عن سوريا المقصودة بالخطاب، ليسوا جميعًا سوريين: ضباط إيرانيون من أعلى الرتب، ومقاتلون قياديون من حزب الله، وقوات عراقية وإيرانية رسمية، وفوقهم جميعًا غطاء جوي روسي لا مثيل له منذ الحرب العالمية.
ماذا سيطلب «الذين يدافعون عن سوريا» في المقابل؟ ليس قاعدة بحرية، فهي لا تستحق كل هذه الحرب. وليس نفطًا أو غازًا موعودًا، فلدى إيران وروسيا والعراق منهما ما يفيض.
وليس حماية النظام، لأن روسيا تعلمت من أفغانستان وأوروبا الشرقية أن أول من يتأذى هو النظام المسوّر بالحماية والدبابات والسوخوي.
إذن ماذا؟ إيران تعرف، وروسيا لا تعرف. إيران تريد إقامة قوس دائم من بيروت إلى طهران، مرورًا بدمشق وبغداد.
ويكفي أن نعرف نوعية الضباط الذين يسقطون في سوريا، إضافة، طبعًا، إلى من لا نعرف.
أما روسيا، فالقوي ليس بالضرورة ذكيا دائمًا. والأرجح أن بوتين يركب رأسه كما فعل ليونيد بريجنيف في براغ، ثم في أفغانستان. لكن لا أرتال الدبابات غيرت شيئًا هنا، ولا أسراب الطائرات غيرت شيئًا هناك. كل ما في الأمر أن المستقوين سوف يوسّعون رقع الحرب والدمار، ويطيلون أمد الاثنين.
وسوف ينفجر الغاز بالجميع. وفي البيت الأبيض، يوضب فخامة السيد أوباما حقائبه ومذكراته. ومع صدورها، يكون قد انسحب من العراق وسوريا والخليج وأوروبا، ولكن أفشل أهم تجربة تاريخية في وصول رجل أسود إلى رئاسة أميركا. كم يندم الذين راهنوا على إنسانيتك. لم يكن مطلوبًا منك الحرب والتدخل الأعمى، وإنما صناعة السلام.
لا يحتاج فلاديمير بوتين الى مَن يقول له أن خطته في سورية «خاطئة» أو «وصفة كارثية» أو معطّلة لأي «حل سياسي»، كما لا يحتاج الى مَن يخبره بأن الحرب التي بدأها لن تتوصّل الى القضاء على الإرهاب بل لعلها تضاعف مخاطره، فهو يعرف كل ذلك وربما يقدّر عواقب استراتيجيته على سورية وحتى على العراق، لكنه مهتم فقط بالمقامرة التي يديرها مع الولايات المتحدة، ولديه شعور بأن ثمة ما يمكن أن يكسبه منها. وضع «القيصر» في حسابه أن الخصم الاميركي - الاوروبي لا يريد الانجرار الى تصعيد عسكري في سورية، وللتأكد من ذلك كان الاحتكاك المبكر بتركيا، فوصلت الرسالة الى حلف الأطلسي وجاء الجواب بأن «الناتو» معني بحماية تركيا، أي أنه لا يزال غير معني برعاية أو حماية أي دور لها في سورية. لذلك لم يبقَ لرجب طيب اردوغان، استبعاداً للخطر، سوى التذكير بـ «الصداقة» بين تركيا وروسيا. لكن بوتين لا يستطيع المراهنة على انعدام لانهائي للخيارات الاميركية والغربية.
كان ذلك هو الاختبار الأول للتصعيد في سورية، ولتمكّن بوتين من أن يحصل على تحييد موقت وجزئي لتركيا، موقت لأن المواجهة لا تزال في بدايتها، وجزئي لأنه لن يمنع أنقرة من مواصلة تقديم الدعم العسكري للفصائل المقاتلة في سورية. لكن حليفي موسكو في طهران ودمشق يعتبران هذا «التحييد» معطىً مهماً يمكن أن يبنيا عليه، وقد رأى رئيس مجلس الشورى الايراني، مثلاً، أن التفجيرين الأخيرين في أنقرة «جزء من الأزمة التي تعصف بالمنطقة». وإذ يرتاب الأتراك بأن «أطرافاً خارجية» تعمل على وضع تركيا وأمنها في سياق تلك «الأزمة» فإن معلوماتهم وشكوكهم أصبحت تساوي بين اتهاماتهم لتنظيم «داعش» وبين ضلوع «حزب العمال الكردستاني» في دور إيراني - أسدي. واللافت أن يكون هناك تناغم بين عمليات الطرفين («بي كي كي» و»داعش») لا يمكن أن يفسّر فقط باستغلالهما الظرفي للثغرات الأمنية بل بوجود جهة تخطّط وتحرّك، ولديها أهداف بعيدة المدى.
في أي حال، لم تعد طهران ودمشق تكتفيان بتسويق التدخل الروسي كعامل حاسم لمصلحة نظام بشار الاسد، بل راحتا تتحدّثان عن تغيير وجه المنطقة وخريطتها. أي أن مخططات الملالي عادت للانتعاش بعد مرحلة رمادية امتدّت لشهور واضطرّت خلالها ايران للظهور بمسلك «دولة مسؤولة» تستحق أن يُبرم «اتفاق نووي» معها، ومرحلة تخللتها هزائم للنظام في سورية ومعوقات قنّنت مشاركة ميليشيات «الحشد الشعبي» في الحرب على «داعش» في العراق مع اصرار اميركي على دور للعشائر في تحرير الأنبار والموصل، بل شابتها أيضاً حرب في اليمن فرضت تراجعاً على طموحات النفوذ الايرانية. وعلى رغم أن طهران كانت موافقة على طلب بغداد - نوري المالكي تدخلاً اميركياً لمواجهة انتشار «داعش»، إلا أنها لم تنجح في توجيه هذا التدخل أو في تحويله فرصة لها، لذا استكانت لجعله حافزاً للاميركيين في مسار التفاوض على الملف النووي ورفع العقوبات. وفيما كان الاميركيون والايرانيون يكثرون من مظاهر «تطبيع» تلقائي يسري في ما بينهم، كانت طهران وموسكو تناقشان خطط «ما بعد الاتفاق النووي»، ومنها على الأخص رفع درجة التدخل الروسي، وتغيير قواعد الحرب على الارهاب في سورية والعراق. وبعدما تأكد المرشد علي خامنئي بأن العمليات الروسية بدأت فعلاً ضد المعارضة في سورية عاد فجدّد حظر أي اتصال بالاميركيين خارج ما يتعلّق بتطبيق الاتفاق النووي.
في حدود ما هو معروف عن العمليات الروسية، حتى الآن، فإنها شديدة الارتباط برغبات نظامَي الأسد وأيران. وفي الجهة المقابلة لم يسجّل سوى المزيد من التحليل والتنبؤات بفشل روسي، غير أن الإفصاح عن تسليح أميركي لمجموعات معينة من المعارضين السوريين يشير الى نقلة نوعية في الردّ على التدخل الروسي. ثمة مؤشرات لتبدّل متسارع في خريطة تحالفات فصائل المعارضة المقاتلة في مناطق مختلفة، ما يعكس توصيات الدول الداعمة التي تحتاج الى وقت للتعرّف الى الخيارات الدولية، لا سيما الاميركية، ولبلورة التوجّهات التالية. واذا كانت المعارك البريّة الأولى لم تسفر عن تغيير ميداني واسع وسريع إلا أن نتائج المساندة الجوية الروسية وعدم تكافؤ السلاح لا بد أن تظهر قريباً، حتى لو لم تكن فيها ملامح حسم عسكري للصراع. وفيما يُضعف هذا التوجّه «الجدّية» الروسية في محاربة «داعش» ويجعلها مجرد ذريعة دعائية، إلا أنه يقوّي موقف الايرانيين ونظام الاسد الساعيين أولاً الى إضعاف المعارضة، وقد بيّنت استهدافات الاسبوعين الماضيين اهتمامهم الرئيسي بضرب بقايا «الجيش السوري الحرّ» وتزويدهم الطائرات الروسية قوائم بمواقعه، فهو عدوّهم الحقيقي الذي تضافرت الفصائل جميعاً لإضعافه.
في المقابل يبدو أن الاميركيين يريدون تسريع الحرب البريّة على «داعش»، وافتتاح حملة عليه في الرقّة قبل أن يشقّ الأسديّون والإيرانيون طريقهم اليها. وفي سياق الحديث عن تسليح معارضين سوريين أُشير فجأة الى ما سمّي «التحالف العربي السوري» الذي قيل أن الاميركيين يركّزون على تسليح مقاتليه ليباشروا فوراً محاربة «داعش»، تحديداً في الرقّة. وفُهم من المعلومات الأولية أن الأمر يتعلّق بمجموعات من «الجيش الحر» درّبتها وكالة الاستخبارات الاميركية (بشروط أقلّ تشدّداً من شروط البنتاغون) وحان وقت استخدامها لمنع الروس وحلفائهم من فرض خطّتهم لمحاربة الإرهاب. لكن الجديد أن هذه المجموعات تضم «مقاتلين عرباً»، ويُعتقد أن الغارات الروسية استهدفت مواقعها. وعدا أن هذا التطوّر يتضمّن ملامح تذكّر بسيناريوات مواجهة الغزو السوفياتي لأفغانستان قبل خمسة وثلاثين عاماً، إلا أن الأدوار تغيّرت. ففيما يواصل «داعش» التجنيد والدعوة الى «الجهاد» يحاذر الاميركيون وحلفاؤهم هذه المرّة الإشارة الى أي مغزى «جهادي» كالذي استُخدم لصدّ المدّ الشيوعي آنذاك ثم تطرّف لاحقاً وانزلق نحو الإرهاب.
والواقع أن التدخل الروسي طرح هذه المعضلة على الأطراف التي تواجهه، بل ذهب بعيداً عندما اقحم الكنيسة الارثوذكسية لتزكية ما سمّته «حرباً مقدسة» في الوقت الذي تجهد حكومات عربية وإسلامية لنزع الغطاء الديني الذي يتنكّر به «داعش» وأشباهه، وتصرّ على محاربته باعتباره تنظيماً اجرامياً لا علاقة له أو لأهدافه بأي دين. ومع إصرار روسيا على إغفال حقائق الصراع السوري والشروع في تجريب أسلحتها الفتّاكة ضد المعارضة فقد برهنت عزماً واعياً ليس فقط على استثارة البعد الديني بل خصوصاً على تفجير صراع مذهبي بمناصرتها الحلف الايراني ضد السنّة السوريين. أكثر من ذلك لم يخفِ الروس لامبالاتهم بتحذيرات تلقوها من مصادر عديدة تُلفت الى أن اسلوبهم في محاربة الإرهاب، اذا كانت هي الهدف فعلاً، سيكون بمثابة تعزيز لـ «داعش»، سواء بالتضييق على المعارضة وتدعيشها رغماً عنها أو بزرع أسباب اضافية للتشدد وفتح مرحلة جديدة من «الجهادية» المتهوّرة.
لكن مَن يعتقد أن الروس ذهبوا الى سورية لمحاربة الإرهاب فقد أخطأ ولا داعي لانتظار المزيد مما شهده حتى الآن كي يراجع موقفه. صحيح أن المآخذ على الاستراتيجية الأميركية وانتقاد عدم جدواها والتشكيك بمجرياتها وأهدافها كانت محقّة، لكن الاستراتيجية الروسية بدت سريعاً أكثر اقلاقاً لأنها تريد حسم الصراع السوري لمصلحة الأسد وايران اللذين لا يمانعان تعايشاً مع «داعش» شرط أن توفّر روسيا الوسائل اللازمة لاحتوائه. هذا يفترض أن بوتين جاء الى سورية لخدمتهما، أما الأرجح فهو أنه يتخذ من الحرب على الإرهاب والعبث بها وسيلة لاستفزاز الأميركيين والأوروبيين واستدراجهم الى التفاوض معه على أوكرانيا وملفات الأمن الاستراتيجي، لكنهم يرفضون ولا مانع لديهم من خوض مواجهة طويلة في سورية طالما أنهم لا يورّطون جنودهم. الاميركيون كما الروس متهمون باستخدام «داعش» والاستفادة من محاربته أو ادّعاء محاربته لتحقيق أهداف اخرى لا علاقة لها بسورية.
لا تبعد مدينة حلب السورية سوى 45 كيلومترا فقط عن باب الهوى، نقطة الحدود مع تركيا. ويزحف باتجاه حلب، كبرى المدن السورية سكانا، جيش إيراني من آلاف الجنود والمقاتلين يستعد لخوض أكبر معركة عسكرية في تاريخ الثورة السورية منذ بدايتها في عام 2011. الإيرانيون حركوا جيشهم هذا بعد أسبوع من مقتل أحد أكبر جنرالاتهم، حسين الحمداني، في القتال في حلب، التي رغم الدعم الإيراني خسرها النظام السوري، وخسر عددا من البلدات شمال المدينة. الهزيمة تفسر عزم إيران إرسال مزيد من القوات للقتال هناك بغطاء جوي روسي.
وبخلاف تركيا، الملتصقة جغرافيا بسوريا والقريبة من مدينة حلب، فإن إيران التي تريد فرض نفسها قوة إقليمية، جاءت من بعيد بقضها وقضيضها إلى سوريا رغم أنها لا تشترك مع سوريا حدوديا، ولا تستطيع الوصول إليها إلا عبر الجو، أو عبر الأراضي العراقية، غير المأمونة بسبب وجود مسلحي تنظيم داعش على أجزاء من الطريق الطويل.
وفي مثل هذا الأسبوع من العام الماضي كنت كتبت مقالا متسائلا: لماذا لم يدافع الأتراك عن مصالحهم وأمنهم في شمال سوريا، خصوصا محافظة حلب؟ فقد كان هناك كثير من المبررات في جانبهم، من بينها اختراق النظام السوري الأجواء التركية، والقصف المدفعي عبر الحدود، وإسقاط طائرة في بداية الحرب، إلى جانب حق تركيا في حماية حدودها في الداخل السوري.
ربما صار التدخل العسكري أصعب اليوم على الأتراك بوجود آلاف المقاتلين من روس وإيرانيين وعراقيين ولبنانيين بالقرب من حدودها، وتطور النزاع إلى مستوى أعلى بين الولايات المتحدة وروسيا. وما التفجير الإرهابي الذي أصاب العاصمة أنقرة، الذي قتل فيه نحو مائة شخص، إلا جزء من تداعيات الأزمة السورية على تركيا، وربما هو رسالة من أحد الأطراف المقاتلة هناك سواء كان إيرانيًا أو روسيًا أو من «داعش».
معركة حلب الكبرى المنتظرة، بين القوات الإيرانية والثوار السوريين، احتمالاتها كلها سلبية على تركيا. ففي حال انتصر الإيرانيون فإن ذلك سيعني هزيمة لحلفاء تركيا، وستكون تركيا نفسها في مرمى وكلاء إيران والنظام السوري، من الميليشيات. أما في حال عجز الإيرانيون عن احتلال حلب، فإنهم سيلقون باللوم على الأتراك ويتهمونهم بتمويل الجماعات المسلحة. وفي حال استمرار القتال طويلا في محافظة حلب بالعنف المتوقع، وعدم انتصار أحد الطرفين، فإن نيرانها أيضًا قد لا تتوقف عند معبر باب الهوى الحدودي مع تركيا.
وإلقاء نظرة على الخريطة سيوضح طبيعة المخاطر الجيوسياسية التي ستفرزها معركة حلب المقبلة، فالمدينة على بعد أقل من نصف ساعة بالسيارة فقط من تركيا، وفي حلب بقي على الأقل نصف سكانها المليونين، رغم الدمار الرهيب الذي ألحقته قوات نظام الأسد بالمدينة على مدار عامين تقريبا، التي بدأت تدميرها منذ أواخر عام 2013، مستخدمة البراميل المتفجرة التي تلقيها من الجو ونجحت في تهجير نصف السكان من أحيائهم، وتدمير المدينة بشكل لا مثيل له في تاريخ المنطقة. الآن، وبعد فشل المحاولات السابقة يتأهب حلفاء نظام الأسد لاقتحام المدينة من جديد، إنما هذه المرة هي حرب بقوات إيرانية كبيرة برية، وقوات جوية روسية متطورة. وبكل أسف سنرى مأساة أعظم، لأن المدافع الإيرانية والقصف الروسي سيستهدفان المناطق المدنية، حيث يوجد المقاتلون على الطرف الآخر، وقد نرى عمليات نزوج بشرية كبيرة غالبا باتجاه الحدود التركية.
الغزاة الروس والإيرانيون يعتقدون أنهم قادرون على استرداد مدينة حلب وقراها، ونحن نعرف أن قوات الأسد حاولت في الماضي، وحتى في المرات التي نجحت فيها عجزت عن الاستمرار في حراستها وإدارتها. وهم ينوون أيضًا التوجه إلى محافظة حماه في محاولة لتطهير المنطقة في مشروع غبي هدفه ترميم حكم نظام الأسد، ونحن نراهن على فشله حتى لو كسبوا المعارك العسكرية، لأنه ستعقبها جولات لن يستطيع الإيرانيون وحلفاؤهم الاستمرار في تحملها.
لأن طبيعة المواجهة، سياسيَّا وعسكريَّا، قد تغيّرت وتبدّلت بعد التدخل الروسي الذي من الواضح أنه سيزداد وسيتعاظم وسيتّخذ أشكالاً أكثر خطورة. وكذلك، ولأنه لا بد على المدى القريب أو البعيد من أن يكون هناك حلٌّ ستُمليه أو على الأقل ستؤثّر فيه موازين القوى المستجدة، فإنه لا بد، بل من الضروري، أن تبادر المعارضة السورية، المعتدلة طبعًا، إلى التخلص من حالة التشرذم هذه التي تعيشها الآن، والتي إن كانت مقبولة ومحتملة في السابق وعلى مدى نحو أربعة أعوام متواصلة، فإنه لم يعد مقبولاً ولا محتملاً أن تستمر وتتواصل بعد كل هذه التطورات الخطيرة فعلاً وبعدما أصبحت الأمور على ما هي عليه.
لا يجوز على الإطلاق، وقد غدت «الثورة السورية» مهددة بوجودها، وأصبحت هناك ملامح حلول مطروحة، بعدما طرأ واستجدّ هذا العامل الروسي الخطير، تشير كلها، إنْ لم تتوحّد «المعارضة» عسكريًا وسياسيًا وتفرض نفسها وإرادة شعبها على الأحداث، إلى أن هناك انتكاسة قادمة لا محالة، أقلّها أن تثبِّت روسيا وبالقوة وبالحديد والنار بشار الأسد إلى ما بعد انتخابات رئاسية جديدة قادمة.
إنَّ هناك من يقول، إن عدد فصائل المعارضة، المعتدلة بالطبع، قد وصل إلى أربعين فصيلاً، وهذا غير «داعش» و«النصرة»، وبعض التنظيمات «المايكروسكوبية» الصغيرة غير المتداولة أسماؤها في وسائل الإعلام. وحقيقة، إن هذا التشرذم إن هو استمر، فإنه سيكون على حساب دماء مئات الآلاف من «الشهداء» والجرحى والمعتقلين والمفقودين، وعلى حساب ملايين المُهجّرين واللاجئين الذين لم يدفعهم إلى مرارة ما يكابدونه إلَّا الأمرّ منه، والذين قد تصل أعدادهم إلى أضعاف أضعاف هذه الأعداد الفلكية الحالية المرعبة.
إنه لا يجوز أن تستمر هذه الوضعية المربكة على الإطلاق؛ فالدول الداعمة، العربية وغير العربية، تريد جهة واحدة تتعاطى معها، وكذلك فإن المواجهة المتصاعدة مع جيوش نظامية يوفّر لها الروس الحماية الكافية من الجو لا يمكن أن تكون فاعلة ومجدية في ظل هذا التشرذم الذي أغرى، وسيغري أكثر أطرافًا وجهات خارجية كثيرة على المزيد من التدخل والمزيد من التلاعب في الشؤون الداخلية السورية.
الآن، تغيّرت المعادلات فتغيّرت طبيعة المواجهة، وتغيّرت أساليب وطبيعة الاشتباك، ولذلك فإن النتائج ستكون بالتأكيد كارثية إنْ لم تسارع المعارضة، المعتدلة بالطبع، إلى إعادة ترتيب صفوفها وإلى الاتفاق على برنامج الحد الأدنى، عسكريًا وسياسيًا، وإلى أن تصبح هناك قيادة واحدة يكون القرار الأول والأخير قرارها على الصعيد العسكري وعلى الصعيد السياسي وتخاطب شعبها، الشعب السوري، والعرب والعالم بلغة واحدة وكل هذا على أساس برنامج الحد الأدنى الوطني الذي يشكّل النقطة التي تلتقي عندها كل التنظيمات والفصائل ويوافق عليها ويدعمها الجميع.
لقد أصبح هناك الآن «حلف بغداد الجديد» الذي يضم - بالإضافة إلى روسيا، الدولة الكبرى أو العظمى - إيران التي غدت تحتل دولتين عربيتين احتلالاً مباشرًا، والذي يضم أيضًا النظامين العراقي والسوري وإلى جانب هؤلاء كلهم حزب الله اللبناني الذي كان أول المنخرطين في المعركة إلى جانب نظام بشار الأسد الذي خُصص له محورٌ رئيسي في الهجوم الذي تقرر شنَّهُ وتنفيذه ضد الجيش الحر وفصائل المعارضة بمشاركة باقي ما تبقّى من قوات هذا النظام وقوات الحرس الثوري الإيراني، وأيضًا القوات الخاصة والقوات الجوية الروسية. وهذا يتطلب، مرة أخرى، أنْ تتخلّص المعارضة الوطنية السورية، ومن ضمنها الجيش الحر بالتأكيد من حالة التشرذم هذه المربكة؛ إذ إنه غير جائز بعد هذا الاصطفاف الأخير الجديد على جبهة الخصْم أو العدو أنْ يبقى «الثوار» يتوزعون على نحو أربعين تشكيلاً كل تشكيل له قواته وقيادته وله تحالفاته الخاصة ويقاتل في المعركة منفردًا ومن دون أي تنسيق مع الآخرين، وإنْ على أساس الحد الأدنى.
وهنا، وحتى لا يُفهم هذا الموقف ولا تفهم هذه الدعوة على أنهما تحامل مقصود هدفه الإدانة وتثبيط العزائم، لا سمح الله، فإنه لا بد من التأكيد، مثنى وثلاث ورباع، على أنَّ الذنب ليس ذنب الشعب السوري على هذا الصعيد، وفي هذا المجال، كما أنه ليس ذنب هذه الفصائل التي افتقرت إلى «العمود الفقري» منذ اللحظة الأولى وافتقرت إلى التنظيم الأم على غرار ما شكّلته حركة فتح ولا تزال تشكّله بالنسبة للمقاومة الفلسطينية.. إن الذنب هو ذنب القوى والأحزاب التي تناوبت على الحكم في سوريا منذ منتصف خمسينات القرن الماضي وحتى الآن، وإن الذنب هو ذنب تلك التجربة الوحدوية بين مصر وسوريا (الجمهورية العربية المتحدة) التي أرست دعائم صيغة استبدادية متخلفة كان يجب ألا تكون، وخاصة أن أصحابها قد اعتبروها الأنموذج الذي يجب أن يتّبع في الوحدة العربية الكبرى المنشودة.. في ذلك القرن، القرن العشرين، وفي القرون المقبلة. في عام 1954 أجريت انتخابات نيابية (برلمانية) في سوريا، بعد سلسلة الانقلابات العسكرية التي كانت في معظمها دموية، والتي كان بدأها الجنرال حسني الزعيم في عام 1949، وقد أجرى هذه الانتخابات أديب الشيشكلي الذي كان بدوره قد جاء إلى الحكم بانقلاب عسكري، وحقيقة في ضوء نتائجها بالإمكان القول إنها كانت نزيهة ونظيفة حصل خلالها حزب الشعب على ثلاثين مقعدًا من أصل 140 مقعدًا من مقاعد البرلمان في حين حصل حزب البعث على 22 مقعدًا، و«الإخوان المسلمون» على أربعة مقاعد، وحزب التعاون على مقعدين، والحزب السوري القومي على مقعدين، وحركة التحرر العربي على مقعدين، والحزب الشيوعي على مقعد واحد، والمستقلون على ستين مقعدًا.
ويقينًا، إن تلك البداية كانت واعدة، وإنه كان بالإمكان أن يكون مسار سوريا السياسي غير هذا المسار المؤلم لو لم يقطع العسكريون، الطامعون في الحكم والمتلهفون إليه، الطريق على تلك البداية، والذين هروبًا من مخاوفهم وإمعانًا في مناوراتهم أخذوا هذا البلد القومي فعلاً، الذي لا يزال شعبه قوميًا رغم ما عانى من مصائب وذاق من ويلات، إلى تلك التجربة الفاشلة مع مصر أي تجربة «الجمهورية العربية المتحدة» التي انتهت نهاية مأساوية كما هو معروف.
والمشكلة أن الرئيس جمال عبد الناصر، رحمه الله، الذي أبدى ترددًا جديًّا قبل الإقدام على تلك الخطوة، التي ثبت أنها كانت متسرعة ولم تحسب حساباتها بصورة جيدة، قد اشترط على الضباط البعثيين والقوميين الذين جاءوه حاملين لواء «الوحدة الفورية» ضرورة إلغاء كل الأحزاب السورية القائمة، بما في ذلك حزب البعث العربي الاشتراكي الذي كان هو صاحب هذه الفكرة الوحدوية مع مصر وأكثر المتحمسين لها، ومنْع قيام أي تنظيم حزبي في دولة الوحدة باستثناء «الاتحاد القومي» الذي تم حلُّه بعد «الانفصال» ليحل محله الاتحاد الاشتراكي العربي في عام 1962.
والأخطر بالنسبة لما اشترطه عبد الناصر للاستجابة لضغط الضباط البعثيين (السوريين) والقبول بوحدة الثاني والعشرين من فبراير (شباط) عام 1958 أن مَنْع الأحزاب السياسية في سوريا والإبقاء على الحزب القائد الواحد قد استمر مع تسلُّم حزب البعث للسلطة في سوريا بانقلاب على حكم الانفصال في الثامن من مارس (آذار) عام 1963، وهو أي هذا المَنْع قد بقي مستمرًا منذ ذلك الحين، وحتى الآن، مرورًا بانقلاب الثالث والعشرين من فبراير عام 1966، وانقلاب حافظ الأسد في عام 1970.
لقد دمَّرت هذه المسيرة البائسة الحياة السياسية في سوريا. ولهذا، عندما اضطر الشعب السوري إلى الثورة على الاستبداد في عام 2011، فإنه لم يجد أي إطار حزبي بالإمكان البناء عليه ووجد نفسه أمام كل هذه التنظيمات والتشكيلات المتعددة والكثيرة.. لقد كان بالإمكان التعايش مع وجود نحو أربعين تنظيمًا في الساحة الوطنية السورية والقبول به قبل أن تتطور الأوضاع وتدخل روسيا الحرب بكل ثقلها، أما وقد تغيّرت الأمور والأوضاع على هذا النحو فإنه لا بد من لملمة الصفوف، وإنه لا بد من إنهاء هذا التشرذم والإسراع في الاتفاق على إطار جبهوي بقيادة عسكرية وسياسية موحدة.