يعيش الساحل السوري، المُدلل بالنسبة لباقي المدن السورية التي تهدّم معظمها، ونزح سكانها، حالة شبه دائمة من الظلام، بسبب الانقطاع الطويل للكهرباء، حتى أن المواطن السوري الذي يعيش في الساحل (اللاذقية وطرطوس) يشعر بأن ثمة صفات مشتركة بينه وبين الخفاش الذي بالكاد يُبصر في الظلام، وقد يبدو الحديث عن التقنين الشديد للكهرباء في الساحل نوعاً من الرفاهية والترف، بل وقلة الذوق أيضاً، مقارنة بباقي المناطق والمدن السورية الملتهبة، والتي تتعرض للقصف والدمار اليومي والمجازر التي تحصد أرواح مدنيين، لا ذنب لهم سوى أن قدرهم أن يكونوا سوريين، لكن كل إنسان يطمح لعيش كريم يُشعره بكرامته الإنسانية. ومنذ بداية الثورة السورية، أي منذ أكثر من خمس سنوات، بدأ التقنين الشديد للكهرباء، وكانت الحجة التي تقدمها لنا وزارة الكهرباء أن الإرهابيين يستهدفون مولدات ومحطات الكهرباء!.
أكثر من خمس سنوات، والحجة نفسها تقدم للمواطن السوري في الساحل، أن الإرهابيين يستهدفون محطات الكهرباء، ولأن المواطن السوري مغلوب على أمره وأعزل في مأساته، فهو مُضطر لتحمل كل الظروف، فالمهم البقاء على قيد الحياة، وتأمين الحد الأدنى من كرامة الحياة لأولاده، تعطلت معظم الأجهزة الكهربائية في المنازل، بسبب شح الكهرباء، بل لم يعد لها من لزوم، فالغسالة لا تعمل، ولا البراد، وعاد الناس سنوات إلى الوراء، كما لو أن السوري يعيش في زمن قبل اختراع البراد والغسالة والتكييف والتدفئة، ومن يتابع ما يكتبه السوريون على صفحات الفيس بوك يرى كم يعاني هذا الشعب العظيم في تحمله للمعاناه من قيظ الصيف وبرد الشتاء، فلا وجود للمازوت ولا للكهرباء، من أجل التدفئة أو التبريد، ويكاد طلاب المدارس يُصابون بالعمى من كثرة الدراسة في ضوء الشموع. وحالياً، تنقطع الكهرباء أربع ساعات متواصلة، لتأتي ساعتين فقط، وتأملوا شكل حياةٍ كهذه، كما لو أن مشاعر الناس وأحاسيسهم تُهان وتُنتهك مع كل انقطاع، فلا يمكن إنجاز عمل، وأيه سهرة سيقضيها المواطن السوري، حين تنقطع الكهرباء من 7 مساء وحتى 11 ليلاً. هذا وقت التحضير للعشاء، إن كانت هناك أسر لا تزال تملك القدرة على شراء طعام العشاء، ووقت متابعة برامج التلفزيون، ووقت الدراسة للطلاب، ووقت السمر والسهر للأصحاب. ألا يشكل انقطاع الكهرباء، في هذا الوقت بالذات، إهانة وإذلالاً وأذى للمواطن السوري، ما يسمونه اللدات (وهي شرائط رفيعة من كهارب صغيرة، تعطي ضوءاً يخرش العيون) ليس حلاً للمشكلة، وحتى المولدات الكهربائية التي تصرع الناس بجعيرها، وتلوث الهواء بسخام دخانها الأسود، لم تعد تعمل بسبب انقطاع المازوت وشحه.
هذا هو وضع الساحل السوري المُدلل الذي يضم أكثر من مليوني نازح من المناطق المُلتهبة في سورية (اللاذقية وحدها تضم مليوني نازح من حلب وغيرها)، ولا توجد أسرة سورية إلا
"لا توجد أسرة سورية إلا ودفعت مبالغ طائلة لشراء مولدات صناعة صينية، تتعطل بعد أشهر وتعطب"
ودفعت مبالغ طائلة لشراء مولدات صناعة صينية، تتعطل بعد أشهر وتعطب، وقد ربح المليارات التجار الذين يستوردون المولدات. ولكن، لم يعد أي سوري يصدق أن هذا التقنين المديد والمهين للكهرباء هو بسبب أن الإرهابيين يضربون محطات الكهرباء، فحين تكون هناك مناسبة (مهمة)، مثل خطاب للأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، لا تنقطع الكهرباء أبداً! بل يشعر المواطن أن وزارة الكهرباء تتمنى لو تكون ساعات اليوم 60 ساعة، لتغمرنا حتى الاختناق بالكهرباء. وفي مناسبات عديدة، تعتبرها الدولة مهمة، كأعياد وطنية معينة وخطابات لسياسيين مهمين يُعلون من شأن السياسة السورية، لا تنقطع الكهرباء دقيقة. ولا يحتاج فهم الحقيقة لذكاء خارق، فالأمر لم يعد لغزاً، فالواضح أن الغرض من انقطاع الكهرباء الطويل والمُهين بهذه الطريقة في الساحل السوري المُدلل هو إذلال المواطن، وإجباره على قبول حياة حقيرة ووضيعة، وأن يقتات بالحد الأدنى من متطلبات العيش الكريم، كما يتحول النمر آكل اللحوم إلى حيوان يأكل الأعشاب، كما في قصة زكريا تامر "النمور في اليوم العاشر". هذا هو المطلوب أن تُكسر شوكة الكرامة لدى السوري، فيصبح كل مطلبه أن يبقى على قيد حياة وضيعة وذليلة، يلهث وراء لقمة العيش فقط، ويرعبه أن يموت أولاده من الجوع.
لكن الشعب السوري عظيم، لن يتحول لخفافيش الظلام، ولن يصير نمراً "آكلا" الأعشاب، لكن المواطن يشعر بالغبن من الدولة التي لا تؤمن له الحد الأدنى من العيش الكريم، وهو يعرف أن الغرض من الإمعان في قطع الكهرباء إذلاله، وليس لأن الإرهابيين يضربون محطات الكهرباء. من يحضر جلسات العزاء للشهداء والشبان السوريين الذين قُصفت أعمارهم، من دون أن يعرفوا لماذا تم زجهم في هذه الحرب، يدرك مدى غضب الناس وتمردهم على عيش ذليل، وعلى ذهولهم، كيف فقدوا أولادهم، ربوهم وأهدوا لهم أرواحهم وحبهم، من يحضر جلسات العزاء التي تحولت إلى النشاط الإجتماعي الوحيد في سورية يدرك، وهو يسمع أحاديث الناس التي لم تعد هامسة، بل بصوت يبلغ السماء، أن الكيل قد طفح، وأن السوري لم يعد يتحمل ذل العيش، ولا انهيار الليرة السورية والتضحية بالأبناء، كما لو أنهم قرابين للشيطان أو أضاح. ليس أولادنا أضاحي لأحد. أولادنا وشبابنا قُتلوا، ولن نسكت على قتلهم مهما كان السبب. سبب أشبه بالحجة التي تُقدم لسكان الساحل أن انقطاع الكهرباء شبه الدائم بسبب الإرهابيين. كثر الله من خطابات السياسيين التي وحدها تجعل الكهرباء في الساحل، بل في سورية كلها.
هل يشكل مؤتمر المعارضة في السعودية فرصة إيجابية؟
ثمّة عوامل دافعة، اليوم، ليكون مؤتمر المعارضة السورية في الرياض مختلفاً بعض الشيء عن مؤتمرات سبقته، منها التوافق النسبي السعودي التركي القطري، أو بالأحرى عدم التنافر، حول قضايا أساسية، تتعلّق بتصوّر الحل السياسي المنشود، والزخم العالمي الدافع لحل المشكلة السورية، ممثلاً بمؤتمر فيينا، وبرغبة معظم الدول، على تناقضاتها، في الخلاص من عبء هذه المشكلة وآثارها، مثل قضيتي الوجود الروسي واللاجئين السوريين، وانتقال أعمال تنظيم داعش إلى خارج حدود سورية والعراق. وأخيراً، هناك ميزة إضافية للمؤتمر على سابقاته، تتمثل بمشاركة السياسيين والعسكر في مؤتمر واحد أول مرة. ولكن، هناك عشرة تحديات وعقبات، تقف أمام المؤتمر، ليكون محطة إيجابية ودافعة للحل:
التحدي الأول، الإعداد الجيد للمؤتمر: تم الإعداد للمؤتمر من السعودية بشكل رئيسي، وربما عبر استشارة شخصيات سورية، ومن البديهي القول إن عدم وجود مبادرة سورية لتوحيد جهد المعارضة قبل المؤتمر أمر سلبي، ما يعني أن المعارضة لا تبذل أي جهد في مشكلةٍ تخصها بالدرجة الأولى، وتنتظر الآخرين كي يرسموا لها توجهاتها وخطواتها، ومتغافلةً عن حقيقة أساسية، هي أن المؤتمر الناجح ينجح قبل عقده، أي عبر التنظيم الجيد والدعوات المدروسة والجلسات التمهيدية لتحديد نقاط الخلاف المتوقعة والحلول المقترحة، أما ترك جميع الأمور إلى لحظة عقد المؤتمر، فإنه سيجعل من هذا المؤتمر، وغيره، مناسبة جديدة للتفريق وتشتيت الجهد.
التحدي الثاني، طبيعة المدعوين وتناقضاتهم: تولّد الأسماء المدعوة شيئاً من عدم الثقة بقدرتها على إنجاز شيء مختلف، خصوصاً أنها موجودة منذ خمس سنوات، ولم تنجز ما يُعتدّ به على صعيد توحيد رؤيتها، وتنسيق جهدها، والقيام بدور إيجابي تجاه الثورة السورية. وتضاف إلى ذلك الاختلافات بين السياسيين والعسكر التي لم تعالج، طوال الفترة الماضية، بهدوء وعبر حوار تراكمي. كذلك، هناك الاختلافات بين السياسيين أنفسهم، الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة وهيئة التنسيق مثلاً، والتي قد تؤدي إلى تفجير المؤتمر، خصوصاً أن محاولات عديدة جرت في سياق التوفيق بين الجانبين، وانتهت إلى الفشل، بحكم الاختلاف حول طبيعة الحل السياسي أصلاً، وبحكم عدم الالتزام بالاتفاقات المعقودة بينهما.
يضاف إلى ما سبق القضية الكردية، وما تطرحة من مشكلات جديدة في ضوء ما يجري على الأرض، خصوصاً أنه لم تكن هناك محاولات جدية للوصول إلى رؤية توافقية حولها.
لا نبالغ إن قلنا إن نجاح المؤتمر يعتمد، بدرجة ليست قليلة، على طبيعة المدعوين: إدراك اللحظة السياسية والتحديات الراهنة، الخبرة السياسية، المبدئية والشجاعة في آن معاً، وضع مصلحة سورية والسوريين معياراً لأي توجه، وكذلك الثقة بالذات، ففي الحصيلة، هناك حاجة عالمية لدور سوري، ومن دونه لا يوجد حل، على الرغم من وعينا الدور الكبير الذي ستلعبه الدول في عملية التفاوض، وأخيراً التزام المدعوين قرارات المؤتمر في المرحلة التالية، وبناء خطة عمل واضحة.
التحدي الثالث، اختزال المؤتمر إلى انتخاب وفد مفاوض للنظام: يمكننا، ببساطة، استنتاج أنه لا توجد إرادة لدى المدعوين بانتخاب قيادة سياسية موحدة ومؤقتة، فهيئة التنسيق لن تقبل بوجودها ضمن قيادة مشتركة فيها عسكر، و"الائتلاف" لن يقبل بأي جهة تشاركه "شرعيته"، والعسكر لن يقبلوا، على الأرجح، بمشاركة السياسيين لهم في القرار، تحت وقع الاعتزاز بقوتهم ودورهم
"قد يكون مؤتمر فيينا مجرد محطة غايتها إشغال السوريين عدة أشهر ريثما يتم تغيير التوازنات على الأرض"
على الأرض، وهناك سعي كردي للظهور طرفاً مستقلاً، والمستقلون من الشخصيات المشاركة لا يعرفون، عادةً، على أي جنب يميلون، ما يعني اقتصار أعمال المؤتمر على تشكيل وفد مفاوض للنظام، وهذا ينسجم مع التوجهات الإقليمية والدولية، من دون الانتباه إلى أن هذا الوفد يمكن أن ينحلَّ، مستقبلاً، في حال كان طريق "فيينا"، وما يطرحه من حل سياسي، مسدوداً، وهو الاحتمال الأرجح، فقد يكون مؤتمر فيينا مجرد محطة غايتها إشغال السوريين عدة أشهر ريثما يتم تغيير التوازنات على الأرض، وخصوصاً إذا كان التحليل الأكثر عقلانية يقول بعدم إمكانية رحيل الأسد وفريقه، بالطرق المعروضة حتى اللحظة.
التحدي الرابع، الأوراق التي ستصدر عن المؤتمر: هناك أهمية لإصدار مجموعة من الأوراق التي يمكن أن تشكل بوصلة حقيقية: وثيقة دستورية/ عهد وطني (سورية الجديدة)، خطة سورية للانتقال السياسي، تضع محددات واضحة لوفد التفاوض (وثيقة جنيف – حل سياسي من دون الأسد)، ميثاق للعمل العسكري المعارض/ مدونة سلوك، نظام داخلي دقيق يسمح بحركة مرنة للقيادة السياسية المنتخبة، أما اقتصار المؤتمر على تشكيل وفد تفاوضي، وتحميله مجموعة من الشعارات العامة، فإنه لن يكون عملاً مفيداً.
التحدي الخامس، تشكيل وفد تفاوضي مفخخ: من مصلحة سورية والسوريين أن يكون وفد التفاوض السياسي مع النظام موحداً ومتماسكاً. لذا، ينبغي وضع احتمال كبير لتفخيخ هذا الوفد بشخصيات أو قوى يمكن أن تقبل بالأسد، أو محسوبة على روسيا أو إيران أو مصر، على الرغم من وجود احتمال لعدم مشاركتها. وهنا، تأتي ضرورة وضع آليات محدّدة، لضمان عدم تشكيل وفد سياسي ممزق (تشكيل الوفد عن طريق الانتخاب مثلاً)، وكذلك إقرار مبدأ عدم نفاذ أي نتائج، يتوصل إليها وفد التفاوض مستقبلاً، من دون مصادقة مؤتمر المعارضة نفسه عليها.
التحدي السادس، خطة العمل ما بعد المؤتمر: هنا، تبرز أهمية وضع خطة عمل واضحة، بعد انتهاء أعمال المؤتمر، توزيع المهمات وفقاً للجدارة والكفاءة، تشكيل مكتب علاقات خارجية، يحصر العلاقات الدولية به، بدلاً من التشتت، مكتب إعلامي من الكفاءات يقدم خطاباً وطنياً سوريّاً، توحيد العمل العسكري وبناء استراتيجية واضحة، والتزام القوى العسكرية مدونة سلوكٍ مبنيةٍ على الوطنية السورية.
التحدي السابع، الضغوط الدولية السلبية: من المهم وضع احتمال حدوث ضغوط من روسيا وإيران ومصر، لإدخال شخصيات محسوبة عليها، أو إفشال المؤتمر بطرق متعددة، أو مهاجمة هذه الدول نتائج المؤتمر، في حال كانت لا تتوافق مع سياساتها، وهذا يتطلب وضع تصورات لمواجهة الضغوط ومحاولات الإفشال المتوقعة.
التحدي الثامن، خطورة اللحظة السياسية: لا شك في أن اللحظة السياسية الحالية خطرة، خصوصاً بعد الاحتلال الروسي الذي غيّر موازين القوى، وجعل من الروس، بالضرورة، شركاء مباشرين في أي حل سياسي، إضافة إلى تزايد الرغبة العالمية في إنتاج حل سياسي كيفما كان، تحت هاجس الخوف من إرهاب تنظيم داعش، ما يعني إمكانية تقديم تنازلات جديدة أمام النظام السوري.
التحدي التاسع، القوى السياسية والعسكرية والشخصيات غير المدعوّة: ثمّة شخصيات وقوى سياسية وعسكرية لن تدعى للمشاركة في مؤتمر الرياض، ما يعني ضرورة توقع خطر مهاجمة قوى سياسية وعسكرية مختلفة المؤتمر ونتائجه والقوى المشاركة فيه، استناداً إلى أسباب مختلفة، ولأهداف متباينة، ويستتبع ذلك، أيضاً، تصنيف بعض القوى العسكرية غير المدعوة إلى المؤتمر (باستثناء داعش وجبهة النصرة) في خانة القوى الإرهابية، وما يجره ذلك من خطر تمزّق تحالفات عسكرية معارضة عديدة، ودخول قواها في صراعٍ مسلح يزيد الطين بلّة، ما يعني تغيير أطراف الصراع العسكري بما يخدم بقاء النظام السوري.
التحدي العاشر، تنسيق الدول الداعمة للمعارضة: هناك ضرورة لانتقال الدول الداعمة، على الرغم من كل النقد الصائب لأدوارها خلال السنوات الماضية، من حالة التنسيق الخجول والهامشي إلى تنسيق فاعل، وهذا ممكن، عبر توحيد رؤيتها في ما يتعلق بالوضع السوري (إصدار إعلان مشترك يوضح هذه السياسة)، وعبر السعي إلى ضم فرنسا إلى هذا المحور، وذهابها، بوضوح، نحو عمل مشترك لسحب ورقة تنظيم داعش من الدول التي أصبحت مترددة إزاء القيام بدور فاعل لإنجاز انتقال سياسي من دون الأسد وجماعته، خوفاً من سيطرة التنظيم، وذلك بالمشاركة الفعلية في محاصرة هذا التنظيم، عسكرياً ومالياً. ولعل أهم تعبير عن تنسيقها المشترك هو دعم إنشاء جيش وطني سوري، وفق خطة واضحة المعالم، بدلاً من التنظيمات العسكرية المتعددة والمتناثرة، والدعم السياسي والإعلامي عالمياً للمعارضة السياسية، والتعاطي السياسي معها، بدلاً من التعاطي الأمني، والتعامل مع مؤسساتها بدلاً من إنشاء أفراد تابعين لها.
أخيراً، لا تترك التحديات السابقة فرصة كبيرة للتفاؤل، وتوقع نجاح مؤتمر المعارضة في المملكة العربية السعودية، كما يشتهي السوريون. لكن، تبقى محاولة إدراك هذه التحديات ومواجهتها مشروعة وضرورية وأساسية، إن في هذا المؤتمر، أو في مؤتمرات أخرى لاحقة، إلا أن الأهم يبقى ذهاب السوريين في اتجاه إنتاج قوى سياسية، وطنية سورية، بدلاً من القوى الهشّة والمترهّلة الحالية.
مع تغير النبرة الخارجية تجاه الأسد ، بشكل تدريجي طوال شهور ، حيث وصلت أمس و اليوم إلى ما يشبه اليقين أن الجميع بات يقبل بقاء الأسد في الحكم ، وأن الجهود يجب أن تنصب لمواجهة "الشمّاعة" داعش ، وعلى مبدأ "أنا و ابن عمي على الغريب" .
فمع التصريح المرتبك لوزير الخارجية الأمريكي جون كيري ، حول ضبابية مستقبل الأسد ، و الكلام الصريح لنظيره الفرنسي لوران فابيوس أن لابأس من وجود الأسد في الحرب على داعش ، بات واضحاً أن الأسهم اتجهت جميعها ليس إلى داعش ، بل إلى الشعب السوري ، الذي ثار على مدى خمس سنوات ، و قدم مليون شهيد و ملايين النازحين و المهجرين .
لعل خطوة كهذه يظن العالم أنها تمكنه من القضاء على داعش ، وأن يعيد الأمور إلى مجراها على مبدأ "يادار مادخلك شر" و "الأمعاء بتختلف" ، و لكن هل لهذه المقترحات طريق للتنفيذ على الأرض ، أو تدخل في العقول ، وإن كنت دقيقاً قلوب و عواطف ملايين السوريين المكلومين ..!؟
الرغبة في محاربة داعش بهذا الأسلوب ، يعني أن داعش الوهم ، ستتحول إلى حقيقة دامغة ، وتفرض نفسها كعنصر فعّال في توزيع الموت ، الذي تمت زراعته في سوريا ، والآن يسعون لاستمراره ، وتثبيته .
لاشك أن واضعي الأفكار و الخطط ، و الساعين لتنفيذها ، غير مطلعين على بواطن الأمور ومافي نفوس السوريين تجاه الأسد و نظامه برمته ، وهم لا يدركون أنه عندما يكون الخيار بين اثنين "الأسد أو داعش" فإن الكفة ستميل حتماُ لصالح الأخير ، و البيعة الجماعية للبغدادي ، ستحول العالم إلى جحيم .
قد أُخطأ في التعميم ، و لكن داعش التي زُعم بالأمس ، أنه قد تم استهدافها في كفربطنا و تلبيسة و دوما و حلب و درعا ، هم السوريون أنفسهم الذين يسعون لتدجينهم من جديد ، وتوجيههم مرة أخرى لمحاربة الوهم الجديد "داعش" ، إن توهموا أنهم حاربوا "إسرائيل" لـ40 عاما.
وإذا ما قرر العالم أن الأسد سيبقى ، فإن الشعب السوري سيبقى ثائراً ، وإذا ما اضطرته الظروف فلن يركن للأسد ، وسيفضل داعش ، و ليكون بعدها العالم على موعد مع توزيع الموت .
بعد سلسلة تصريحاتٍ متخاذلةٍ ومتآمرةٍ على الثورة، تأتي تصريحات كيري صادمةً لكثير من السوريين، حيث قال إنه: "بالإمكان قيام تعاون بين جيش الأسد والفصائل المقاتلة لمواجهة تنظيم الدولة".
وحتى يكون ردُّنا على هذه التصريحات واضحاً لا بد من بيان الأمور التالية:
أولاً: لا يحق للأمريكان أن يتدخلوا بالنصائح للثوار، وحريٌّ بهم أن يهتموا بتنفيذ وعودهم بتدريب سبعة مقاتلين هنا، وخمسة هناك، لاستكمال برنامج سلب الأموال بحجة دعم المعارضة، وإن كان من تصريحات داعمة للثورة، فالثوار يكتفون منكم بالتصريحات القديمة :"الأسد فقد شرعيته وعليه أن يرحل فوراً"، "استخدام الكيماوي خطٌ أحمرٌ"، "أيام الأسد باتت معدودة"...
ثانياً: الفصائل الثورية خرجت لإسقاط هذا النظام المجرم، فهو عدوّها الأول والأساس، ولا محيد عن إسقاطه ولو وقفت معه كل قوى الأرض، وأما داعش فهي عدوٌّ نشأ في ظل إجرام النظام، وزوالها مرهون بزواله وليس العكس لأن إجرام بشار أسبق وأكبر ويطال الشعب كله بالقصف والحصار والتشريد،، لذا فلا سبيل أبداً لأي محاولة تقارب مع هذا النظام المجرم مهما كانت المبررات، ولا يمكن التعاون مع الإرهابي الأب لقتال الإرهابي الولد.
ثالثاً: بالنسبة للنظام: واضحٌ أن عداوته الحقيقية - وكذلك روسيا- هي فصائل الثورة، وأنه لا مشكلة له مع داعش، بدليل ما أقرّت به أمريكا سابقاً من أن ضربات النظام وروسيا تنصب بالدرجة الأولى على الثوار، ولا تمسّ داعش إلا تحلّة القسم، فكيف يُطلب الآن ممن هو تحت القصف والضرب المستمر أن يكون حليفاً مع الطيار الذي يقصفه ليتحولا معاً إلى عدوٍ لم يسبق للطيار عداوة معه؟
رابعاً: بالنسبة لداعش: واضحٌ من تحركاتها أن عدواتها الأصلية هي مع من تسمّيهم مرتدين (الثوار) وأما الكافر الأصلي (النظام) فالعدواة معه مؤجلة، وفي أدبياتهم أن قتال المرتد (الثوار) أولى من قتال الكافر الأصلي (النظام)، وما تابعناه على الأرض من تسليم داعش للنظام مطار كوبرس والقرى المحيطة به دون معارك حقيقية، وما قامت به من هجوم متزامن على قرى ريف حلب الشمالي ضد الثوار (مدرسة المشاة- المنطقة الحرة- أطراف مارع وأعزاز ...) يدل أن مشكلتهم مع الثوار وليست مع النظام، فكيف يمكن للنظام أن يكون ضدهم؟
خامساً: بالنسبة لروسيا: واضحٌ أن تدخلها هو من أجل الأسد، وأنه يهمها بالدرجة الأولى القضاء على الفصائل الثورية، وإبقاء الأسد وداعش، وترك الدول بعد ذلك تختار الأسد مقابل الإطاحة بداعش، وهذا ما صرّح به قائد الناتو السابق الجنرال الأمريكي المتقاعد ويسلي كلارك: "بأن استراتيجية روسيا في سوريا هي إبادة الفصائل الثورية، والإبقاء على تنظيم الدولة والأسد، وجعل العالم بين خيارٍ من اثنين: إما داعش وإما الأسد"، ومن كان هذا هدفه في سورية كيف يُطلب من الفصائل – العدو الحقيقي له - التنسيق معه للقضاء على من يريد الإبقاء عليهم.
سادساً: التنسيق موجودٌ نعم، لكن بين مَن ومَن؟ إنه واقعٌ فعليٌ ويعرفه الثوار، قبل التدخل الروسي وبعده، فما قبل التدخل الروسي كان التنسيق بدرجة عالية بين النظام وداعش ضد الثوار، كلما تحرّك الثوار لفتح معركة ضد النظام طعنت داعش في الخلف لتثنيهم عن إكمال المعركة، وتنسيق بينهما لبيع وشراء النفط وهو ما صرّحت به أمريكا أيضاً، وبعد التدخل الروسي صار التنسيق ثلاثياً: النظام وداعش وروسيا، وهذا مثبت في ريف حلب الشمالي، حيث قامت روسيا بضرب القرى والبلدات المواجهة لداعش والتي تخضع لسيطرة الثوار قبيل تقدم داعش لأخذها، في تمهيد واضح لتقدم داعش، حصل ذلك في جبرين وإحرص وغيرها من قرى الريف الشمالي المواجهة لداعش.
...
إذا فهمنا ذلك دعونا نتساءل هل يدرك كيري هذه المعادلة؟ أم أنه يجهلها حقاً، إذا كان يدركها فلماذا يصرّح بهذه التصريحات؟
هل هي لرفع رصيد داعش الشعبي كلما تناقص، وإقناع أتباعها أنهم يقاتلون الثوار لأنهم متحالفون مع النظام ورسيا ضدهم؟
هل هي لتخفيض سقف نتائج مؤتمر الرياض، ورسم بوصلة له تدور فقط حول محاربة داعش دون التطرق لمصير الاسد؟
هل هي لمغازلة روسيا أمام غضبها من إسقاط الطائرة، وإفشال تحالف تركيا المزمع مع السعودية وباكستان في سورية؟
لماذا لم تكن الدعوة لتنسيق الفصائل مع تركيا والسعودية وباكستان وقطر مثلاً؟ وهم أقرب للثوار ويشتركون معم في هم القضاء على النظام وداعش معاً.
مهما يكن من دوافع وراء هذه التصريحات، فإن الثوار يدركون أنهم ما خرجوا إلا لإسقاط هذا النظام بكل رموزه وأركانه، وأن الاعتراف به أو التفكير بالتنسيق أو التعاون معه بأي مستوى كان، هو أمرٌ محظور شرعياً وثورياً وشعبياً ولا يمكن حتى مجرد التفكير به أو طرحه ضمن الخيارات.
لأسباب جغرافية ـ سياسية، بات أمام أوروبا أحد خيارين. الأول، الذي تعتمده القارة أساساً، يُمكن وصفه بـ"حالة الصمود"، أو "حالة التلقّي"، بفعل تحوّل أوروبا، برمّتها تقريباً، إلى قارة مُدافعة، أو مُعالجة للمشكلات الناجمة عن الوضع السوري، سواء الهجرة واللجوء، أو اعتداءات تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) الأخيرة. هذا الخيار، تحديداً، لن يسمح لأوروبا بالصمود مطولاً، إن لم تُعالج المشكلة من الأساس: في سورية، بالنسبة للمهاجرين من الشرق، وفي ليبيا، بالنسبة للوافدين من القارة الأفريقية.
الخيار الثاني، الماثل أمام عيون الأوروبيين، يقضي بالمشاركة الهجومية، في القرار السياسي، أو العمليات العسكرية، ضد مسبّبي اللجوء والاعتداءات. تستلزم هذه المشاركة التمهيد لتحوّلات هائلة في العقلية الأوروبية، الغربية تحديداً، لجعل مجتمعاتها أكثر انخراطاً في ملفات خارجية، متعلّقة مباشرة بالداخل. لم يعد الأوروبيون مجتمعاً حربياً، كما كانوا سابقاً، فحياة الرفاه في محطات كثيرة تدفعهم إلى التروّي في أي عملية عسكرية، ولو خارج الحدود.
بالتالي، فإن الحافز الذي وفّرته الاعتداءات أخيراً جعل الأوروبيين أمام خطوة عملانية. بات التصويت على التدخّل العسكري في سورية والعراق أمراً من الماضي. كبار القارة: فرنسا وألمانيا وبريطانيا، أضحوا في قلب الشرق الأوسط عسكرياً. قد يكون لإسبانيا وإيطاليا واليونان أدوار مماثلة في ليبيا، في المرحلة المقبلة.
ينتقل الأوروبيون، بموجب هذا الخيار، من الدفاع إلى الهجوم، لكنهم حالياً في موضع تردّد. روسيا على الخط، وسبقت الجميع في سورية. ضربت مرة "داعش" وعشرات المرات المعارضة السورية، يريد الروس ثمناً سياسياً لتدخلّهم العسكري. ثمن لا يُمكن أن يقبل به الأوروبي سابقاً: بقاء الرئيس السوري بشار الأسد، ولو لفترة انتقالية.
لم يكن ليقبل الأوروبي بقاء الأسد. أصلاً، لا يُمكن، بعد هذه السنوات الدموية في سورية، أن يقبل أحدٌ بقاء الأسد. لكنّ الأوروبيين باتوا على مشارف جعل الأسد "أولوية ثانية"، لا أولى. "داعش" هو الأولوية المُطلقة بالنسبة إليهم. ولا يرغبون في الدخول لضرب التنظيم، عبر طرفٍ ميداني محدّد، لعدم تكريس حضوره الإقليمي. لا يريد الأوروبيون الدخول عن طريق إيران، لعدم منحها ورقة أساسية في الملف السوري، على الرغم من أنها تملك ذلك أصلاً. ولا يريدون الدخول عن طريق تركيا، لعدم ترتّب أثمانٍ باهظة على ذلك، بدءاً من ترسيخ تأشيرة "شينغين"، وصولاً إلى تحوّل تركيا إلى العضو رقم 29 في الاتحاد الأوروبي. لا يكفي القارة "معاناتها" قبل التوقيع على اتفاقية داعمة لتركيا، يوم الأحد الماضي، لمساعدتها على الاهتمام باللاجئين. لن تقبل أوروبا منح أدوار أكبر لتركيا. بالتالي، لا يبقى أمام الأوروبيين سوى عامل واحد: روسيا.
في هذا الصدد، يعود مؤرخون بالذاكرة إلى الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، التي شهدت تلاقياً من مختلف الأطراف الأيديولوجية، لكسر النازية الألمانية. كان على الغرب الاختيار بين عدوّين، أحدهما أقلّ سوءاً بالنسبة إليه من الآخر. بين الشيوعيين السوفييت من جهة والنازيين الألمان والفاشيين الإيطاليين من جهة أخرى، اختار الغرب السوفييت. اختارهم لكونهم اصطدموا، فعلاً، مع الألمان في معركة ستالينغراد. سمح هذا الاصطدام بزحف الجميع إلى العاصمة الألمانية برلين وتقسيمها.
كان على الأوروبيين الاختيار بين روسيا و"داعش". روسيا عدو تاريخي لهم، أما "داعش" فعدو مرحلي. باتت دائرة الاختيار أكثر وضوحاً بعد التفاهم الفرنسي ـ الروسي، وانضمام الألمان والبريطانيين إليهما، وإنْ بصورة غير مباشرة. اختار الأوروبيون روسيا على حساب "داعش"، رافضين، في الوقت نفسه، الاعتماد على حليفٍ إقليمي، كتركيا أو إيران، مؤهل للنمو لاحقاً وتهديد مصالحهم. كما أن هذا الاختيار سيُساعد على بقاء الأسد فترة إضافية، وفقاً للمفهوم الروسي. لكن، قد يدفع الأوروبيون ثمناً باهظاً لاحقاً، ففلاديمير بوتين لن يقبل بالقسمة، لا في سورية، ولا في أوروبا لاحقاً، عكس ما فعل جوزيف ستالين.
يعكس "مشروع خطة الانتقال السياسي في سورية" قدراً كبيراً من الشعور بالمسؤولية الوطنية تجاه الشعب السوري والوطن والدولة، في ضوء المحنة المريرة التي يتجرعها هذا الشعب كل يوم، بل كل ساعة، عقاباً له على نشدانه الحرية والكرامة، أسوةً بباقي شعوب المعمورة. المشروع الذي أنجزته "مجموعة الخبراء السوريين"، بالتشاور والتنسيق مع قوى الثورة والمعارضة، وفصائل وطنية مسلحة، ومع قطاعات من المجتمع المدني وشخصيات مستقلة، يُمثّل، إلى ما تقدم، وثيقة مهمة تشتمل على خطة تفصيلية لانتقال سياسي يضمن عبور مرحلة جديدة في حياة الشعب والبلاد والدولة، بما ينزع مخاطر الاحتراب والتنازع الخطير، ويملأ أي فراغ محتمل، ويمنح أفقاً لمشاركةٍ ملموسةٍ يُمارس فيها الشعب، بمختلف تلاوينه ومذاهبه ومشاربه، وفي سائر المناطق، حقوقه الأساسية التي طالما تم هدرها، والقفز عنها، منذ نحو خمسة وأربعين عاماً، في وضع الدستور وقوانين تنظيم الحياة السياسية (الأحزاب والانتخابات خصوصاً) واختيار ممثليه في أجواء من النزاهة وتكافؤ الفرص، وأفضل المعايير الدولية للحاكمية الرشيدة التي تخضع لمراقبة شعبية، وتوفر لبرلمان منتخب حق التشريع بما يتلاءم مع فحوى الدستور، ومع التطلعات الوطنية لحياة مدنية مزدهرة، وتنمية شاملة، تعيد بناء ما هدمته آلة الحرب.
جديرٌ بالملاحظة أنه، بينما تبدي المعارضة، بطيفها الواسع وتلاوينها المختلفة، هذا القدر من الانشغال العميق بمستقبل البلاد، والتحذير من مخاطر صراع مفتوح، يفتك بالمزيد من السوريين، ويُقوّض ما تبقى من مظاهر الحياة والعمران والإنتاج، فإن الطرف الآخر، وهو النظام، ينهمك فقط في استجلاب قوى أجنبية متعددة، تضم دولاً ومليشيات مسلحة وطائفية، من أجل تصفية كل مظاهر المعارضة، ومكوناتها البشرية والمادية، حتى لو أدى ذلك الى تحويل البلاد، لا سمح الله، قاعاً صفصفاً، ينعق فيه الخراب والخواء، تحت عنوان "أولوية هزيمة الإرهاب". والهزيمة المقصودة تعني اقتلاع الملايين من بيوتهم وديارهم وقذفهم خارج الحدود، والزجّ بعشرات الآلاف وراء القضبان، وتقتيل مئات الآلاف، أو تعريضهم لإصابات جسمانية بليغة، وتدمير الاقتصاد بمختلف مناشطه، وتعريض الدولة للإفلاس، والتسبب بتفكيك المؤسسة العسكرية، مع منح من يبقى من المعارضين، بعدئذٍ، بضعة مقاعد وزارية في حكومة "موسعة" (بديلاً عن هيئة الحكم الانتقالي)، وإشراف النظام الحالي على وضع دستور جديد، وعلى تنظيم انتخابات برلمانية ورئاسية، بغير تدخل خارجي (بدون إشراف الأمم المتحدة وغيرها من أطراف وهيئات دولية). بما يعني إعادة إنتاج الاستبداد والاستعباد، واستكمال ذلك بالتحذير الرسمي من خلايا نائمة للمعارضة (معارضون صامتون!)، يتم سوق أفرادها مجدداً إلى السجون.
يقرن "مشروع خطة الانتقال.." بين أهمية التغيير، وفقاً لمرجعية جنيف، وتوطيد السلم الأهلي، وإغلاق الأبواب أمام أية نزعة محتملة للثأر وتصفية الحسابات، مع تفعيل العدالة وإرساء دولة القانون، فيما ينزع النظام فقط إلى استعادة سطوته وتعميمها.
لن يتطرق هذا المقال لمناقشة جوانب من مشرع الخطة، فتلك مهمة أولي الأمر من السوريين، على اختلاف ميولهم ورؤاهم ومصالحهم المباشرة والبعيدة، إذ ما يسترعي انتباه المراقب المعني أن المشروع اكتفى بتناول آفاق مرحلةٍ ليس الولوج إليها وشيكاً وقريباً للأسف، وهذا لا يُقلل، بالطبع، من أهمية المشروع الذي يستجيب، بصورة إيجابية وعصرية، لتحدي إعادة بناء الدولة والوطن، ووضع حد للمعاناة الرهيبة لملايين السوريين داخل الوطن وخارجه، فيما الراهن والآني يزخر بتحديات جسيمة وداهمة، لا بد من الاستجابة الناجعة لها بأقل قدرٍ من الأخطار والأضرار، وبما يفتح أفقاً للحل السياسي العتيد.
في طليعة هذه التحديات التدخل العسكري الروسي الواسع، والذي جاء، في البداية، تحت عنوان
"المواجهة السياسية والدبلوماسية والإعلامية مع التدخل الروسي لا فكاك منها، من أجل شق الطريق نحو الحل السياسي"
"مكافحة داعش" لينتقل بعدئذ إلى شعار "الحفاظ على الدولة السورية"، ليتجلى، بعد أيام، باعتباره تدخلاً، غايته الانخراط في معركة النظام ضد الجيش الحر وعموم المعارضة المسلحة المعتدلة، ودونما إيلاء أي اعتبار، أو اكتراث، بحياة المدنيين، وسلامة المرافق المدنية. وقد لوحظ أن موسكو سرعان ما أخذت تستخدم عبارة "مكافحة المتمردين والإرهابيين"، أو عبارة "مكافحة داعش والنصرة وغيرها .."، والمقصود بذلك خوض معركة بسلاح الطيران، لا حدود ولا قيود عليها في الزمان والمكان، وفي طبيعة الأهداف. وبما يضمن للنظام استعادة سيطرته على سائر المناطق، وبما يُمكّن تالياً من فرض حل يعيد فيه النظام إنتاج نفسه، وبالقفز عن المرجعية الدولية، وعن التفاهمات الإقليمية والدولية، والأهم من ذلك بالقفز عن تطلعات السوريين إلى حياة آمنة مزدهرة، في ظل العدالة وسيادة القانون، ومع تفعيل حق المشاركة والتشريع والرقابة الفعلية على أداء السلطات وأجهزتها.
بغير معالجةٍ سياسيةٍ للمخاطر الداهمة للتدخل العسكري الروسي، يصعب استشراف المرحلة اللاحقة بصورة واقعية. التدخل الروسي، وخصوصاً بصفته العسكرية، يتعاكس مع طموحات السوريين، ومع الإرادة الدولية، كما تبدت في اجتماعات فيينا، بالتقدم نحو حل سياسي (لا عسكري)، ومع جملة الجهود والتحركات الإقليمية والدولية الرامية إلى شق الطريق نحو الحل العتيد، وها هو هذا التدخل ينعكس سلباً على البيئة الإقليمية، ويحمل أفدح المخاطر على السلم الإقليمي والدولي (الأزمة الروسية التركية)، ويفاقم من محنة السوريين، ويوقع في صفوفهم مزيداً من الضحايا، ويُشرّد آخرين، فيما يضع هذا التدخل مكافحة داعش الإرهابية في نهاية جدول أعماله اليومية، كما تنبئ بذلك الوقائع.
كان في وسع موسكو المشاركة النشطة في التحالف الدولي القائم منذ 15 شهراً ضد داعش في سورية، مع ما قد يقتضيه ذلك من متطلبات خاصة بروسيا، غير أن موسكو اختارت أمراً آخر، يختلف تماماً عن مكافحة الإرهاب، وهو خوض معركة النظام ضد شعبه، مع استلهام مأثورات الاتحاد السوفييتي في قمع انتفاضات شعوب "المنظومة الاشتراكية"، كما تم مع ربيع المجر 1956 وربيع براغ 1968، علماً أن الحرب الباردة بين قطبين دوليين لا وجود لها في العام 2015، وليس هناك من حلف وارسو يجمع بين دمشق وموسكو، بزعامة الأخيرة، ولا حلف ناتو يجمع المعارضة بواشنطن.
المواجهة السياسية والدبلوماسية والإعلامية مع التدخل الروسي لا فكاك منها، من أجل شق الطريق نحو الحل السياسي، ومن أجل الحفاظ على الصداقة الروسية والسورية والعربية، حاضراً ومستقبلاً، وكي تنصرف موسكو إلى المساهمة البناءة في الحل السياسي، وحتى لا يغرق السوريون والروس في وحول نزاع دموي مديد.
التحدي الآخر هو إدامة الربط الوثيق بين المكافحة الناجعة لتنظيم داعش الإرهابي وتحقيق انتقال سياسي جدّي، يوفّر بيئة سياسية مواتية، لتعبئة وطنية عامة ضد هذا التنظيم الخطير والهجين، وهو ما تقرّ به مراكز دولية عديدة، ويستحق التمسك به بدون توقف. وكذلك الربط الوثيق بين تحقيق الانتقال السياسي واستقرار الإقليم، ولنزع التوترات القائمة والكامنة، ولعودة اللاجئين السوريين إلى ديارهم، بما يرفع الأعباء عن الدول المضيفة.
والتحدي الثالث هو تنشيط تحركات "الائتلاف" نحو العواصم الإقليمية، بما فيها تلك العواصم التي لا تبدي تجاوباً كافياً نحو تطلعات السوريين، لا أن يكون النشاط الأبرز هو عقد اجتماعاتٍ لا تنتهي في المقر، والتواصل خلال ذلك بكل الجهد المستطاع مع جموع اللاجئين المشردين، في مختلف أماكن تجمعاتهم، لا أن يرى اللاجئون وجوه ممثلي المعارضة الوطنية على شاشات التلفزيون فقط. ومن دواعي الاستغراب عدم وجود هيئة تُعنى بالاتصال والتواصل الدائمين مع اللاجئين، والإسهام في تخفيف معاناتهم.
بالتعامل الدينامي النشط، على الرغم من مشقته، مع هذه التحديات الراهنة، فإن "مشروع خطة الانتقال السياسي في سورية" سوف يكتسب أهمية أكبر في أنظار كل من يهمهم الأمر، وتتوثق صلة المشروع بمجريات الواقع، وتزداد فرص التفاعل معه.
ستسمعونها كثيرًا خلال الفترة المقبلة: «المحاصصة هي الحل» لليمن وسوريا، والبحرين أيضًا. الفكرة التي بدأت إيران في تسويقها هي إقامة نظام حكم سياسي طائفي جدلي، حتى يؤمّن لها التدخل والتأثير على قرارات هذه الدول ضمن مشروعها للهيمنة على المنطقة. والفكرة ليست جديدة.. استنساخ للنموذجين اللبناني والعراقي اللذين صارت تهيمن عليهما اليوم.
وقد تحدث عن الفكرة أكثر من مسؤول إيراني؛ أحدهم سمعته يعطي تفصيلاً أكثر.. قال: «أنتم تريدون حلاً في سوريا، لماذا لا نعطي كل الطوائف والفرق هناك حصصًا ثابتة في الحكم؛ السنة والعلويين والدروز والمسيحيين والشيعة، وكذلك الأكراد والتركمان، وبهذا ستكون للسنة الأغلبية البرلمانية، وعلينا أن نفعل الشيء ذاته في اليمن، ودول أخرى في المنطقة؟». وهمْهم أحد الجالسين قريبًا مني: «آه، يعني البحرين». طبعًا، نحن نعرف أنه يرمي إلى البحرين، مع أنه لا يوجد فيها نزاع دموي على الحكم مثل اليمن وسوريا والعراق، هناك في البحرين جيوب احتجاجية، يمكن أن تظهر في أي بلد آخر، بما في ذلك إيران نفسها.
أما لماذا نتعجل برفض الفكرة ما دامت ترضي الأغلبية في الدول المضطربة، فالسبب أن المحاصصة الطائفية هي أساس للفوضى وتعمق وجودها، وإن كانت غير ذلك في ماليزيا وهولندا لأنها تعيش في ظروف إقليمية مختلفة.
وقد يجادل البعض بالقول بأن «الطائف» الذي وقع في السعودية لإنهاء حالة الحرب الأهلية في لبنان هو أم المحاصصة؛ للمسيحيين رئاسة الجمهورية، والسنة رئاسة الحكومة، والشيعة رئاسة البرلمان. صحيح أن الاتفاق وقع في مدينة الطائف السعودية، إلا أنه جاء نتاج حوارات جماعية بين الفرقاء المتقاتلين، ولم يكن قرارًا سعوديًا. ثانيًا، المحاصصة كانت موجودة في صلب نظام لبنان الذي سبق «اتفاق الطائف» بنحو خمسين عامًا، بنفس هيكلة الرئاسات مع تعديل نسب المقاعد في البرلمان. ولا ننسى أن «الطائف» كان مجرد مشروع مؤقت لوقف نزف الدم، وجسر للانتقال إلى نظام أفضل دائم. والذي عطل تطوير مشروع الحكم اللبناني هو نظام حافظ الأسد السوري، الذي جثم على كل دولة لبنان، وأدارها من خلال مخابراته ووكلائه المحليين، وقتل أو همّش كل من تجرأ على تحديه وفكر في تغيير النظام السياسي.
والآن، وبعد عقود من تجربتها، ترسخت القناعة بأن المحاصصة نموذج رديء للحكم ينبغي تحاشيه. ولو جرى تطبيقها في اليمن غدًا، فسيقسم الشعب اليمني إلى الأبد، وستجد القوى الخارجية؛ إيران وغيرها، في المحاصصة مدخلاً للتأثير والتعطيل من الخارج، وتوجيه القرارات اليمنية. فما مصلحة اليمنيين في تقاسم المقاعد وفق المذاهب؟ فعليًا لا توجد. الفكرة الأولى التي بنيت عليها المصالحة، بعد اندلاع انتفاضة الشارع اليمني، قامت على أن يقرر اليمنيون من يحكمهم من خلال صناديق الاقتراع، لكن استمرت التعديلات تحت تهديد سلاح الحوثيين لفرض حصص لهم في الحكومة. وها هي المحاصصة في العراق جعلته مثل لبنان؛ رئيس الجمهورية مجرد ديكور. نواب رئيس الجمهورية الثلاثة ونواب رئيس الوزراء الثلاثة الآخرون، أيضًا مقاعد زينة بدعوى تمثيل مكونات البلاد العرقية والطائفية. وحتى رئيس الوزراء، المنصب التنفيذي الأول، صار رهينة للنفوذ الإيراني، من خلال أدوات المحاصصة هذه. وعلى غرار «حزب الله لبنان»، قرر فريق سياسي عراقي بناء ميليشيا تتحكم في البلاد؛ «الحشد الشعبي»، وصار جيش الدولة مجرد رديف له والميليشيات.
وهذا ما سعت إيران إلى فعله في اليمن عندما دعمت ميليشيات الحوثيين «أنصار الله»، التي استولت على مخازن سلاح الجيش، وحاولت فرض كتابة الدستور بمنح نفسها حصصًا ثابتة في الحكومة بالقوة، ولهذا الغرض أخذت رئيس الجمهورية هادي رهينة في داره في صنعاء، ولم تتوقف هذه المهزلة إلا بعد أن شنت السعودية حربها على التجمع الإيراني هناك.
المحاصصة، وفق المشروع الإيراني لإدارة الدول العربية المضطربة في المنطقة، يفترض ألا تمرر بحجة أنها البديل للفوضى، لأنها «ستمؤسس» للفوضى لعشرات السنين. وهناك خيارات بديلة، مثل اعتماد نظام فيدرالي، وتقليص المركزية الحكومية، دون اللجوء إلى تمزيق المجتمع إلى فئات طائفية وعرقية، وتسميد التربة لزرع توترات وحروب أهلية طويلة المدى.
على الرغم من العنوان العريض والاهتمام الإعلامي الكبير، بل والتظاهرات التي لم يكتب لها أن تتم بسبب منعها من قبل السلطات الفرنسية، والحملات الإعلامية المعارضة والمعترضة، إلا أن مسألة الاحتباس الحراري التي اجتمع قادة دول العالم لمناقشتها في العاصمة الفرنسية باريس، قد تكون ملفا ثانويا جدا مقارنة بسواها من الملفات العالقة والطارئة التي تشغل العالم في الوقت الحالي.
الأمر لا يقتصر على القادة لكنه ينسحب على الشعوب التي تعيش أخطارا يومية، وهي تعتبر التفكير في قضايا المناخ والبيئة رفاهية غير مسموح بها، ولعل واقع الحال السوري المستمر منذ سنوات تحت نيران نظام الحكم الفاشل والمستبد، والذي وصف على مستوى عالمي بأنه الأسوأ منذ عقود طويلة، وبالمقابل تغوّل تنظيم داعش على حساب الجغرافيا وتحكّمه في مصادر الطاقة في المناطق الخاضعة لسيطرته، واضطرار مئات الآلاف إلى النزوح والهجرة بعد أن فقدوا بيوتهم ومصادر رزقهم، في ظل انعدام وأحيانا استحالة الوصول إلى حلول، كل هذا يجعل التخلص من تنظيم داعش وأسباب ظهوره أولوية ويشكل بداية لا بد منها للانتقال في ما بعد إلى التفكير في قضايا أخرى ومرة أخرى سيكون موضوع المناخ ثانويا، لأن إعادة الإعمار بعد الخراب الذي تسببت به قوات النظام منذ الأيام الأولى للثورة، أي قبل أن يدخل مدمّرون آخرون على الخط كان آخرهم الروس، يفوق التصور.
ويحتاج وفق دراسات أممية إلى أكثر من عشر سنوات وإلى المليارات من الدولارات، ورغم خطورة مسألة تغيّر المناخ على مستقبل الأرض، بل واستطرادا على مستقبل الجنس البشري بأكمله كما يذهب بعض المتشائمين إلى تصوير الأمر، إلا أن الحاضر والمستقبل القريب الذي يبدو ظلاميا هو ما يشكل عبئا إضافيا وجوهريا، بعد أن تحول الأمر إلى صراع بقاء ووجود بين قوى ظلامية أوجدتها قوى مستبدة، وبين شعوب كانت تحلم بتحسين أوضاعها المعيشية وفي الحصول على أضعف الإيمان من الخدمات وقد باتت محرومة منها بشكل كلي حاليا.
وإذا كان رؤساء الوفود الذين التقوا قد أبدوا قلقهم من تنظيم داعش واتفق بعضهم على أن الحل يكمن في إيجاد حل سياسي للأزمة السورية لا يتضمن بقاء الأسد، ثم القضاء على التنظيم الإرهابي، إلا أن كل كلامهم واتفاقاتهم ظلت حبرا على ورق ولن تجد طريقها للتنفيذ، فلم يعد واردا تصديق أي من الوعود أو الخطط طالما أنها تصطدم بأكاذيب ومماطلة روسية تدعي أنها تضيّق الخناق على داعش شيئا فشيئا، فيما هي في الحقيقة تزيد من معاناة الشعب السوري وترفع معدلات الموت اليومي بطريقة مخيفة، وهي شأنها شأن التحالف الدولي الذي تتزعمه الولايات المتحدة، وكذا الحماسة الفرنسية التي أعقبت هجمات 13 نوفمبر، تشكل في مجموعها استنزافا لما تبقى من قوى سورية وترفع من الاحتباس الحراري والتطرف في آن واحد، فيما يراقب الأسد غير مكترث على ما يبدو وهو يلمس نوعا من التراخي في المواقف بل وميلا لدى البعض لتصديق عبارة أن الأسد قد يكون شريكا في القضاء على الإرهاب، وكأنه لم يكن صانعا له.
وإذا كانت مؤتمرات المناخ السابقة قد أقرت مجموعة من القرارات وطالبت دول العالم بتنفيذها، فإن النتائج الكارثية التي وصلت إليها حالة كوكب الأرض، تؤكد أن أيا من الدول المعنية لم تلتزم بما تم الاتفاق عليه بل إن ثمة ازديادا ملحوظا في الأخطار البيئية والانبعاثات، والحال نفسه يعقب أي مؤتمر يتم تنظيمه لمكافحة ظاهرة الإرهاب إذ يفضي المؤتمر دائما إلى ازدياد حدة الإرهاب والتطرف وتنوعه، وإلا كيف يمكن تفسير أن تنظم دولة مثل إيران، وهي واحدة من أكبر دعاة وداعمي الإرهاب في العالم، مؤتمرا لمكافحة الإرهاب والحد من انتشاره؟ وكيف يمكن التعامل مع منظمة متطرفة مثل حزب الله اللبناني على أنها شريك في الحرب على الإرهاب، وفق وجهة النظر الإيرانية التي لا تمانع موسكو في تبنيها، بل وربما الترويج لها لاحقا؟
لا نتائج مرجوّة من مؤتمر المناخ ولا من مؤتمرات مكافحة الإرهاب طالما أن المجتمعين أنفسهم يتظاهرون بعدم رؤية أسباب المشكلة، ويلتفون على الحقائق التي أغفلوها، وما زالوا يغفلونها، وهي أن رأس الإرهاب في سوريا ظهر منذ أكثر من أربع سنوات حين بدأت قوات النظام بقتل المواطنين العزل، وهي مستمرة بمساعدة من شركائها في فعل القتل دون توقف، قبل داعش، وبالتعاون معها أيضا.
أن تستمر حرب إبادة يشنها نظام استبدادي ضد شعبه، طوال نصف عقد، وتكون نتيجتها التي يتابع العالم أدق تفاصيلها قتل ملايين السوريين وجرحهم واعتقالهم وتعذيبهم وذبحهم وتجويعهم وإعطابهم، وطرد ثلثيهم من وطنهم، وأن يحدث هذا بيد رئيسٍ يزعم الروس أنه شرعي، وأن مطالبة أغلبية شعب"ه" برحيله إرهاب، وفعل جرمي يعطيه الحق في القضاء عليهم، وأن يقبل العالم هذا النوع من الإجرام، ويبقي على اعترافه القانوني بالنظام الذي يمارسه، وأن يتفرج الرأي العام العالمي بدم بارد على مأساة السوريين المرعبة ومشاهدها المروّعة، ويقف بلا حراك أمام مجازر، لا توفر طفلاً أو امرأة أو شيخاً، ولا ينجو منها بيت أو مخبز أو مشفى أو مدرسة، وأن يحرّض النظام الأسدي المواطنين بعضهم ضد بعض، ويزوّدهم بالسلاح لقتل بعضهم، ثم لا يفعل أحد شيئاً لوقف الكارثة الإنسانية المتمادية، بحجة عدم التدخل في الأزمات والحروب تارة، والافتقار إلى غطاء دولي شرعي طوراً، هو أمر يؤكد انهيار النظام الدولي أخلاقياً وسياسياً. وحاجة العالم إلى مبادئ وقيم تختلف عن التي ينهض عليها اليوم، وتغيّرت هويتها ووظائفها بسبب الصراعات الناجمة عن تحكّم دولة واحدة بمفاصل العلاقات والمصالح الدولية، وما أصابت به أنماط الشرعية الناظمة للعلاقات الدولية من تدمير، وخضوع شعوب كثيرة لنُظُمٍ ترفض إخراج شعوبها من بؤسها، وتجبرها، بالقمع والقهر، على الرضوخ لسقف شديد الانخفاض، تحكم إغلاقه عليها بالاستبداد والفساد، بينما تدير الدول القوية مآزقها، وتتفرّج عليها، وهي تتخبّط في دمائها ومشكلاتها، فلا عجب أن عالمنا صار فريسة فوضى شاملة، وأن ذئاباً مسعورة، ينهش القوي منها الضعيف، تتحكّم به، ويفتك خلالها المستبدّون بشعوبهم، بينما يتفرّج حماة "الشرعية الدولية" عليها، وهم يتثاءبون، كأن ما تراه أعينهم لا يعنيهم، أو لا يحدث أصلاً.
أي نظام دولي هو هذا الذي تعامى تماماً عن عدوان روسيا العسكري على سورية، ودعا إيران إلى المفاوضات بشأن حل سياسي تناهضه، بوصفها الطرف الرئيس في الحرب ضد السوريين، الذي يدعو إلى حل عسكري كاسح، ويرفض قرارات "الشرعية الدولية" حول حل سياسي؟
هل هو نظام ودولي حقاً، إذا كان يضع عملية السلام بين يدي روسيا وإيران: الدولتان اللتان احتلتا سورية من دون أي قرار دولي، أو غطاء قانوني، بل ويكافئهما بدل معاقبتهما، ويتحوّل، بموقفه هذا، إلى نظامٍ ينصاع لمارقين يُخضعون بالعنف شعباً، يُنكرون حقه في تقرير مصيره بنفسه، بينما يصمت عن جرائمهم، أو يرحّب بها "أصدقاؤه"، الذين اعتبر أحدهم مجرد قبول مندوبيهم المجيء إلى فيينا دليلاً يؤكد صدق رغبتهم في السلام، وتجاهلوا أن دورهم في تعطيل الحل، وإبقاء قاتل رئيساً لشعب يطالب برحيله.
ماذا يبقى من نظام دولي يكافئ إيران التي ترفض أسسه ومرتكزاته، ويشارك جيشها في أربعة حروب ضد أربع دول عربية أعضاء في الأمم المتحدة؟ وهل يعقل أن يكون هناك حقاً نظام ودولي، إذا كانت روسيا وإيران تمارسان سياسات استعمارية صارخة، من دون أن يذكّرهما أحد بحقيقة أن الأمم المتحدة اتخذت، في سبعينيات القرن الماضي، قراراتٍ خاصة بتصفية الاستعمار؟
ليس ما يجري في سورية غير إنذار لعالمٍ ينهار نظامه لحظة مواجهته أنماطاً غير مسبوقة من المخاطر. وبدل أن يطوّر آليات ومعايير لمواجهتها، يغرق بسرعة في فوضى شاملة، ولا ناظم لها، لن توفر دولة من دوله، أو مجتمعاً من مجتمعاته. لذلك، شرعت تغطي جميع أرجائه، مع أنها ما تزال في بداياتها.
لا يفتأ بشار الأسد يؤكّد أولويَّة محاربة الإرهاب لديه، ومِن جديد تصريحاته أن "سورية، وأصدقاءها، مصمِّمون على المُضيِّ في مكافحة الإرهاب، بكلِّ أشكاله؛ لأنهم واثقون بأن القضاء على الإرهاب سيشكِّل الخطوة الأساسيَّة في إرساء استقرار المنطقة والعالم".
كما لا يتوانى رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، كما أسلافه من القادة الإسرائيليّين، عن توظيف هذه المغالطة، بزجِّ موضوع الإرهاب في معركتهم، ضدَّ الشعب الفلسطيني؛ لتخلط إسرائيل، عن عمد، بين المقاومة المشروعة قانونيًّا ودوليًّا والإرهاب، في محاولةٍ للتساوق مع هذا الأمر الذي كرّسته واشنطن، واتخذت منه ذريعةً لمآرب سياسيّة تتعدّى حدوده الحقيقيَّة.
ولا يخفى أن هذا الاستخدام، أو الاندراج في هذه العمليَّة المسمّاة محاربة الإرهاب، يحقِّق فائدتين متصلتين: الأولى ترميم الشرعيَّة المهشَّمة، أو المهتزَّة عالميًّا، لكلٍّ من إسرائيل ونظام الأسد، إسرائيل التي تمارس دور المحتلّ بأبشع صوره، وأكثرها استهتاراً بالشرعيَّة الدوليَّة، والرأي العام العالميّ، وحقوق الإنسان، مقترفةً جرائم مشهودة على ملأ من إعلام العالم، ما يصنِّف تلك الاعتداءات في خانة الإرهاب، بل في "إرهاب الدولة"، بلا أيّ مبالغة؛ لما تنطوي عليه من استهداف للمدنيّين، أو الاستعمال المفرط للقوّة، أو القتل من دون مبرِّر، أو خطر حقيقيّ.
ونظام بشار الأسد تآكلت شرعيّته، إثر الاحتجاجات الشعبيَّة الواسعة، وما تلاها من معالجات أمنيَّة حربيّة، أفضت إلى تدمير الحياة الطبيعيَّة في سورية. والفائدة الثانية، إسرائيليًّا، صرف الأنظار عن الاستحقاقات التي يُفترَض أن تؤدّيها إسرائيل، بعد أن أدَّى الطرفُ الفلسطينيُّ، من جانبه، كلّ ما يستطيع من (استحقاقات العمليَّة السياسيّة).
وهنا، تنسى حكومة إسرائيل أن الاحتلال، بحدّ ذاته، هو جريمتُها المعلنة، والمصرّة عليها، كما تنسى اعتقالها الأطفال، وقتلهم، وتتناسى حمايتها المستوطنين، فعليًّا، بجنود الاحتلال، والتغطية على جرائمهم، كما حصل، مثالاً، لا حصرا، في جريمة حرق أسرة دوابشة. وقد تعامل (القضاء الإسرائيلي) مع قتلَة الفتى، محمد أبو خضير، الذين دانتهم محكمة إسرائيليَّة بقتل خضير وحرقه، لكنها قالت إنها تريد التأكُّد من الأهليَّة العقليَّة، وذلك بعد أن قدّم محامي الدفاع عن المتهم الرئيسي في الجريمة، يوسيف بن دافيد، تقريراً طبّيًّا عن الوضعيَّة النفسيَّة، يدَّعي فيه أن المذكور يعاني من اضطرابات نفسيَّة. وهذه الحيلة معهودة من إسرائيل، إذ غالبا ما يتضح أنَّ مجرميها وإرهابيِّيها مجانين، أو مضطربون نفسيًّا. كما كان من تخليص حارق المسجد الأقصى، دينس مايك، في 1969، من العقاب، حين زعمت إسرائيل أنه مجنون، ثم رُحِّل إلى أستراليا؛ وظلّ يعيش فيها، من دون أن يظهر عليه أيُّ أثر للجنون، أو غيره. ثم لا يمنع ذلك كله، وغيرُه، نتنياهو أن يخرج متشدِّقاً ومزاوداً، بأنه يحمي الأماكن المقدّسة، (ومن أبرزها المسجد الأقصى) من داعش.
"قتل نظام الأسد أضعافَ أضعاف ما قتله تنظيم داعش وجبهة النصرة، لكنه يقترب من أن يصبح ركيزةً مهمَّة في محاربة الإرهاب، مع أن أطروحة أن بقاءه كان من أهمّ مغذِّيات التطرّف والدمويَّة في سورية"
وكذلك يفعل بشار الأسد، حين يحاول صرف الأنظار عمَّا ينبغي على نظامه أن يفعله من تغييرات في بنيته الأمنيَّة التي لم يعد قسم كبير من الشعب السوري يقبل بها، وهو النظام ذو السوابق في الإرهاب، إذ سبق لبشار أن هدَّد في مقابلة له مع "صنداي تايمز" البريطانيَّة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2011 بـ"زلزال يحرق المنطقة بكاملها"، وهدَّد بأفغانستان أخرى، أو بالعشرات من أفغانستان، ولم يكتفِ بالقول، بل شرع في الفعل، وما قضيَّة الوزير اللبنانيّ الأسبق، ميشال سماحة المستشار لبشار الأسد الذي اعترف بالتخطيط، مع رموز نظام الأسد؛ للقيام بعمليّات تفجير واغتيال، داخل لبنان، كان من شأنها أن تهيئ لحربٍ أهليّة، ما قضيّته عنّا بعيدة.
ومن جهةٍ، ما أحدثه الأسد في سورية، منذ ما يزيد عن أربع سنوات، يكفي ويزيد لتنصيب بشار من أكابر الإرهابيّين؛ بما تسبَّب به من دمار عام لمقدَّرات البلد، ولنسيج وحدتها الاجتماعيَّة، ولا تعوزنا الأمثلة من أيقونات الثورة السوريَّة، من أمثال الطفل، حمزة الخطيب الذي قُتِل بعد اعتقاله، 25 يونيو/ حزيران 2011، ومُثِّل في جسده أبشعَ تمثيل، إلى منشد الثورة، إبراهيم القاشوش الذي قتلته قوّات الأمن السوريَّة، 4 يوليو/ تموز 2011، وذبحته، واقتلعت حنجرته، ثم ألقته في نهر العاصي.
وفي المحصِّلة، قتل نظام الأسد أضعافَ أضعاف ما قتله تنظيم داعش وجبهة النصرة، لكنه يقترب من أن يصبح ركيزةً مهمَّة في محاربة الإرهاب، مع أن أطروحة أن بقاءه كان من أهمّ مغذِّيات التطرّف والدمويَّة في سورية، ومن أهمّ محفِّزات الطائفيَّة السياسيّة لا تزال شاخصةً، نظريًّا وعمليًّا.
وعلى الرَّغم من ذلك كله، تظلّ السياسة، أو القرارات السياسيَّة، أكثر مَيْلا، نحو التبسيط المخلّ، فبحسب (الواقعيَّة السياسيَّة) التي يفرط الرئيس الأميركيّ، باراك أوباما، في استخدامها، فإن الخطر الأكبر ينبغي تقديمُه على الخطر الأصغر، والخطر الداهم ينبغي حسمه، قبل الخطر الآجِل، فـجماعات مثل داعش وجبهة النصرة، ومَن هي على شاكلتها، أخذت تشكّل خطراً واسع النطاق، والهوّة بين المنظومة الغربيّة، وتلك الجماعات (الجهاديَّة) واسعة وعميقة، فلا مجال للتعايش معها، أو لحلول وسط، لكن الأسد المندرج ضمن المحور الإيرانيّ الروسيّ، يمكن، في أقلّ الطموحات، احتواؤه، أو مساومته.
لكن هذا التعاطي يتجاهل الطرف الآخر، (الفلسطينيّين في حالة نتنياهو، والشعب السوريّ، أو قسما كبير منه في حالة الأسد) ومتطلّباته وحقوقه. كما يتجاهل أن هذه الكيانات لا تعرض محاربة الإرهاب طرفاً أصيلاً، بقدر ما أن هدفها الأصيل هو البقاء، على ما هي عليه من احتلال وتوسُّع (إسرائيل)، وكذلك نظام الأسد الذي له تجارب وسوابق في التعاون مع من كانت الولايات المتحدة تصفهم إرهابيِّين، في أثناء احتلالها العسكريّ للعراق. فهل أصبحت محاربة الإرهاب وسيلةً لتبييض وجوه ساسة مفلسين؟ بل ومتورِّطين في جرائم إرهاب ضدَّ شعوب أخرى، أو جرائم إنسانيَّة ضدَّ شعوبهم؟!
جوهر المسألة أن الانخراط في محاربة "الإرهاب" لا يبرّئ المنخرطين من جرائمهم السابقة، والراهنة، ولا يلغي مسؤوليَّتهم عن ازدهاره. بل يلقي بظلال الشكّ على العمليَّة برمّتها، وقد يسعّر نار الإرهاب، ويزيده جنوناً.
وهذا الإصرار من إسرائيل ونظام الأسد المتقاطعَيْن في جزئيَّة توظيف "الحرب على الإرهاب" على رفض الاعتراف بالوقائع الموجبة للتنازل، وإحقاق الحقوق يجعل منهما مغذِّياً مستمرًّا للبيئة الاجتماعيَّة التي تشجِّع التطرُّف والعنف، ويشكّك حتى في النيات الغربيَّة من إطلاق هذه الحرب، ما قد يُدخلها في حالةٍ من التضليل لشعوبها التي اصطلت بنار الإرهاب، في حواضرها وعواصمها.
لم يمضِ يوم واحد على سيطرة الجبهة الشامية على بلدة دلحة وسيطرة لواء السلطان مراد على قرية حرجلة في ريف حلب الشمالي، حتى كشفت مصادر تركية أن المنطقة الآمنة التي تسعى تركيا لإقامتها في الشمال السوري ستقام خلال أسبوع (من جرابلس إلى شنكال في أقصى الشمال الغربي على الحدود التركية، مروراً بدير حافر وتل رفعت وبلبل) مع تلميحات إلى مشاركة فرنسية في عمليات الدعم الجوي.
لا يشكل هذا التسريب مفاجأة، حيث لوحظ منذ نحو شهر تزايد الخطاب السياسي التركي في الحديث عن المنطقة الآمنة، وكان آخرها في العاشر من الشهر الماضي حين أعلن الرئيس رجب طيب أردوغان أن حلفاء لتركيا في المعركة ضد تنظيم «داعش» يقتربون من فكرة إقامة منطقة آمنة في الشمال السوري.
لكن حتى الآن لا يبدو واضحاً ما هي طبيعة هذه المنطقة، هل ستكون كما كانت تطالب أنقرة منذ نحو عامين، بحيث تشكل قاعدة عسكرية للانطلاق منها نحو جبهات أخرى؟ أم هي مجرد منطقة آمنة تكون مأوى للنازحين وقاعدة للحكومة الموقتة التابعة للائتلاف؟
ما هو واضح حتى الآن أن الحاجة إلى هذه المنطقة أصبحت ضرورية بعد أحداث باريس، ما يرجح أن تكون لهدف إنساني وعسكري دفاعي لإخراج «داعش» منها، أي أنها لن تكون منطلقاً لعمليات عسكرية، وستكون تحت حماية فصائل المعارضة المعتدلة المدعومة من تركيا ودول إقليمية أخرى كـ «الجيش الحر» ولواء السلطان مراد التركماني، و «الجبهة الشامية» التي تضم أهم القوى العسكرية (أحرار الشام، جيش المجاهدين، حركة نور الدين الزنكي، الجبهة الإسلامية، جيش الإسلام، أنصار الشام، لواء التوحيد، فيلق الشام، وغيرها).
على المستوى الأوروبي، تخفف المنطقة الآمنة من عبء اللجوء إلى أوروبا، فمن شأنها أن تتحول إلى مكان للنازحين من داخل سورية واللاجئين من خارجها، وكانت الحكومة التركية قد أعلنت قبل أشهر أن مئات آلاف اللاجئين السوريين في تركيا سيستقرون في المنطقة الآمنة عندما تتم إقامتها.
وعلى المستوى التركي، تشكل هذه المنطقة عازلاً في وجه الحكم الذاتي الذي يسعى الأكراد إلى إقامته على كامل الحدود التركية - السورية، وربما هذا ما يفسر غياب العنصر الكردي في العملية العسكرية التركية - الأميركية، ووجود العنصر التركماني.
وربما استخدام لفظ المنطقة الآمنة بدلاً من المنطقة العازلة له دلالته، فالأخيرة تعني عزل منطقتين عن بعضهما البعض بينهما نزاع عسكري، أما المنطقة الآمنة التي تم التوافق عليها بين الأتراك والأميركيين منذ نهاية تموز (يوليو) الماضي، فهي المنطقة الخالية من التهديدات الإرهابية وتكفل الأمن لساكنيها، ولا تتطلب تدخلاً عسكرياً برياً ولا حظراً جوياً، وهما أمران تضع موسكو عليهما الفيتو.
وخلال الأسابيع الماضية ركز النظام السوري على محورين في ريف اللاذقية الشمالي، الأول تلال جب الأحمر (غرب) تمهيداً للسيطرة على بلدة السرمانية في سهل الغاب بمحافظة حماة شرقاً ومن ثم تكوين منطقة محصنة تضم أيضاً معسكر جورين لتكون قاعدة عسكرية للجيش السوري للانطلاق نحو ريف إدلب الجنوبي وخصوصاً نحو مدينة جسر الشغور، والمحور الثاني بلدة غمام وجبل الأكراد.
ولكن خلال الأيام الماضية، بدأ النظام العمل على محور ثالث، يتمثل بجبل التركمان في الشمال الغربي لريف اللاذقية من أجل السيطرة على نبع المر وقرية عفريت وتلة العزر، وترافقت عمليات هذا المحور مع هجوم جوي عنيف شنته الطائرات الروسية.
يشكل المحور الثالث (جبل التركمان) هدفاً استراتيجياً مهماً للجيش السوري من ناحيتين:
1- تطويق الساحل من الناحيتين الشرقية والشمالية قبيل وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه في اجتماع فيينا، وبالتالي إخراج الساحل من ساحة الصراع.
2- العمل على وأد إمكانية إقامة منطقة آمنة شمالي سورية، ومن شأن السيطرة على جبل التركمان أن تعيد خلط الأوراق في الشمال، حيث سيضطر المقاتلون التركمان في لواء السلطان مراد إلى ترك العملية العسكرية التركية - الأميركية والعودة للدفاع عن جبلهم.
غير أن التطور الأهم الذي أعاق على ما يبدو إقامة المنطقة الآمنة هو إسقاط تركيا الطائرة الروسية، وبدا واضحاً أن الروس سيردون على تركيا في سورية، عبر منع إقامة هذه المنطقة.
ولعل تركيز الطيران الروسي على جبلي الأكراد والتركمان، ومن ثم نشر صواريخ «أس 400» في اللاذقية، مؤشر واضح في هذا الاتجاه، وهو ما أدركته أنقرة التي أوقفت مشاركة طيرانها في عمليات التحالف الدولي خشية رد روسي مماثل، وبالتالي دخول البلدين مرحلة المواجهة المباشرة.
كان لبنان في عيد نهار أمس. احتفل الجميع، حكومة وشعباً، بإطلاق 16 عسكرياً كانت تحتجزهم «جبهة النصرة» بعد 16 شهراً أمضوها أسرى في المنطقة الحدودية الجبلية المحاذية لسورية في شرق البقاع اللبناني.
لم يكن التفاوض بين الحكومة اللبنانية و»جبهة النصرة» تفاوضاً مباشراً. فالحكومة، التي كلفت مدير الأمن العام اللواء عباس إبراهيم الإشراف على التفاوض، كانت تعرف صعوبات التفاوض المباشر ومحاذيره، مع جبهة مصنفة دولياً باعتبارها أحد التنظيمات الإرهابية.، فضلاً عن انها قتلت اربعة من الاسرى الذين كانت تحتجزهم. هنا لجأت الحكومة إلى من يستطيع أن يقيم قنوات اتصال مع هؤلاء، فكانت المساعدة التي قدمتها دولة قطر، والتي حرص المسؤولون اللبنانيون أمس على «شكرها» على الدور الذي قامت به.
ليس هذا فقط. فالحكومة اللبنانية كانت تعرف أيضاً أن إطلاق الأسرى العسكريين له ثمن، وهو إطلاق سجناء في السجون اللبنانية، منهم من يواجهون تهماً بالقيام بأعمال إرهابية. انه ثمن يتعلق بمكانة القضاء وبمسألة تطبيق القانون، وفوق ذلك بقضية السيادة، التي لا تتحصن كما يفترض إلا إذا التزمت الدولة بمبدأ عدم التفاوض مع الإرهابيين، أو الخضوع لمطالبهم ولابتزازهم. انه المبدأ الذي تحافظ عليه دول كثيرة تعرّض مواطنوها للخطف، فيما تساهلت دول غربية أخرى مع هذا المبدأ وقدمت تنازلات، بل دفعت أثماناً غالية مقابل إطلاق أسراها، كما حصل في مرات متكررة مع أسرى غربيين كان يحتجزهم تنظيم «داعش».
غير أنه لم يكن أمام الدولة اللبنانية من خيار سوى التفاوض. كان هناك ضغط أهالي العسكريين الذين اعتبروا وعن حق أن احتجاز أبنائهم يوجه إهانة مباشرة للدولة، التي يفترض فيها توفير الحماية لجنودها، كما أنه يثبت عجزها عن فرض سيادتها على منطقة حدودية من الفلتان الأمني الذي عاشته (ولا تزال إلى حد بعيد) منطقة عرسال وجرودها.
لا حاجة هنا للدخول في الظروف العملانية التي أدت أو سهّلت أسر العسكريين. ما يمكن قوله إن هذه الظروف شكلت هي أيضاً عامل ضغط على الدولة اللبنانية للعمل على إطلاق جنودها بأي ثمن.
لفترة غير قصيرة، خلال الشهور الستة عشر الماضية، واجهت الحكومة اللبنانية مسألة ما يمكن تسميته الحصول على «ترخيص» بالتفاوض، وإن غير المباشر مع «جبهة النصرة». فـ «حزب الله»، الجهة الأكثر نفوذاً في لبنان، والأوسع حضوراً على الساحة السورية بين التنظيمات المقاتلة إلى جانب النظام، لم يستحسن منذ البداية فكرة التفاوض هذه، أو تقديم التنازلات التي كان لا بد منها لـ «النصرة»، وهي أحد الأطراف المعادية للحزب في القتال على الساحة السورية. تذرع الحزب بحجة السيادة، في الوقت التي خُرقت هذه السيادة المزعومة مباشرة منذ اللحظة التي خرق فيها الحزب الإجماع الحكومي اللبناني، الذي كان يقتضي النأي بلبنان عن الحرب السورية، كي لا يضطر في ما بعد إلى مواجهة تداعياتها، كما يفعل الآن في مسألة التفاوض التي نحن بصددها، والتي قد تتكرر غداً إذا وجدت الحكومة اللبنانية استعداداً من جانب تنظيم «داعش» الإرهابي لفتح قنوات تفاوض معها لمحاولة إطلاق سراح الجنود التسعة الذين ما زالوا محتجزين لدى التنظيم.
إذا كانت «جبهة النصرة» قد تمكنت، من خلال الصفقة الأخيرة، من ترتيب أوضاع اللاجئين السوريين في مخيمات عرسال، فيما كانت الحكومة اللبنانية تعتبر أن تلك المخيمات تحولت مصنعاً للتفخيخ وإرسال المتفجرات، كما تمكنت الجبهة من فرض وادي حميد كمنطقة آمنة للاجئين، لا تستطيع القوى الأمنية اللبنانية أن تتعرض لها، فما هو الثمن الذي سيطلبه تنظيم «داعش» لتحرير الجنود الذين يحتجزهم؟ وأي حكومة ستجرؤ على دفع ذلك الثمن؟
لا بد أنه السؤال الذي يراود المسؤولين اللبنانيين اليوم وهم يعيشون فرحة إطلاق جنودهم.