قبل ثلاث سنوات من الآن، كان المدعو أبو بكر البغدادي يعلن قيام ما سمّاه «دولة الخلافة» من على منبر جامع النوري الكبير التاريخي، الذي شيد في مدينة الموصل عام 1173 بأمر من نور الدين زنكي، بعد أن سيطر على المدينة. وها هم جنود «دولة الخلافة» وبعد أن اشتد الخناق عليهم، يقومون بتفجير المكان الذي كان منطلق الإعلان عن دولتهم المزعومة، إضافة إلى تفجير مئذنة الحدباء التاريخية، إيذاناً بانتهاء حلم الخليفة والخلافة سواء بسواء.
هل انتهت «دولة الخلافة» المزعومة التي علّقها المدحورون من سلطة بعض الجيوش العربية وأجهزتها الأمنية بين السماء والأرض، أملاً باستعادة سلطة لهم ولمن ساندهم وتواطأ معهم من استخبارات الدنيا؟ وفي حين أن وهم الخلافة هذا، لم يدم أكثر من ثلاث سنوات عجاف، قتل خلالها مئات الآلاف من البشر، كل ذنبهم أنهم لم يمتثلوا لسلطة «الخليفة» وجنوده الملاعين، ممن يعانون من متلازمات مرضية عديدة، انتزعت منهم عقولهم وقلوبهم وهيئاتهم الإنسانية، محولة إياهم إلى روبوتات لا تجيد القتل الرحيم مطلقاً، وها هي شرور أعمالهم بدأت تودي بهم إلى التهلكة، وهم يُطردون أو يهلكون في الموصل، فيما تتواصل حملة اجتثاثهم من الرقة.
بين رمضان 2014 ورمضان 2017 ثلاث سنوات «عاشت» فيها «دولة الخلافة» وأماتت بمسلكياتها الوحشية خلقاً كثيرين، لكن سلطات ما قبل تلك «الدولة» وما بعدها ستواصل مسلسل القتل، وفق ما درجت عليه السلطة بطبيعتها، والكهنوتية منها تحديداً، دفاعاً عن ذاتها أولاً، ومصالحها ثانياً، وتشبثها بهيمنتها التسلطية ثالثاً.
وهكذا وسط فتن الخراب السلطوي التديّني، تذهب الخرابات «الداعشية» و «المتدعشة» وأضرابهما على جانبي التمذهب الديني والسياسوي، إلى التمسك بالسلطة، أو الاحتفاظ بها، وإن لم تفلح ذهبت إلى تدميرها، أو محاولة ذلك، في حال أوشكت أن تضيع أو تفلت من أيدي «أهل الخراب»، الذين يزدادون تشبثاً بها، حتى ولو أدى الأمر إلى الانقلاب عليها وتأسيس سلطة لهم «جديدة» تماماً، تناقض أشكال الهيمنة والسيطرة السلطوية القديمة، على ما فعل ضباط الجيوش التي انهارت أنظمتها السياسية أو توشك على الانهيار، كما هو حال الجيشين العراقي والسوري، وفي العديد من أنظمة المنطقة التي استعصت على التغيير الشعبي أو الثوري، وأجهضت حراكاتها الجماهيرية، فما كان من «السلطة العميقة» إلا أن شكلت الغلاف البديل والسميك في إسنادها السلطة.
أما الوضع الفلسطيني العام فمأزوم هو الآخر وسط صراعاته السلطوية وما ذررته وفرخت من أزمات، أصابت كامل الكيانات السياسية والتجمعات الفلسطينية على امتداد الوطن وفي الشتات.
المسلكيات «الداعشية» الأخيرة التي رأيناها تتجسد على أيدي «جنود الخلافة»، كانت تناظرها على الدوام مسلكيات لجنود هذه السلطة أو تلك على مدى أزمان التسلط الاستبدادي، والحكم باسم السياسة أو الدين، لا فرق في جوهر الأمر، حيث السلطة الفاجرة لا ترعوي ولا تنصاع لقانون محلي أو دولي، أو حتى لتقاليد أهلية أو قبلية، طالما أن لا سلطة معتبرة، من تقاليدها الأساس محاسبة ومراقبة مسلكيات من يفترض فيهم أن يكونوا المثال الأعلى لتطبيق معايير النزاهة والعدل والمساواة والقيم الإنسانية المشتركة، واحترام مواطنية المواطن في بلد يحكمه القانون، حيث يتساوى أمامه كل الناس ويساوي هو بالطبع في الحقوق والواجبات بين كل الناس، لا فروق شكلية أو جوهرية في ما بينهم، لا جنسياً ولا طائفياً أو مذهبياً أو إثنياً وعرقياً.
وهذا تحديداً هو مثال العيش الكريم والحرية كثمرة لمساواة مفتقدة وديموقراطية مشتهاة، تتوق إليها مجتمعاتنا ودولنا، وهي تقف عند عتبات انحدارها أو صعودها، نحو سلم القيم والأخلاقيات المفترض أننا نتشارك فيها مع الثقافات والأمم والحضارات التي كان لنا نصيبنا من المساهمات الخلاقة فيها، قبل أن يشملنا الانحدار لنعود القهقرى نكوصاً وانحطاطاً، فيصبح الماضي سيد المثالات والنماذج التي يسعى بعضنا الى الغرق فيها، والى الهروب إليها من حاضر ناشز، لا يقود إلى أي مستقبل.
كل هذا وسط الخراب التديّني، ما عاد يمكنه استعادة أمل الألق والحلم بحياة إنسانية تقف فيها السلطة على حيادها المفترض نسبياً، وسط سلوك بشري يعتاد على ممارسة الحرية كما ينبغي، طالما أن ليس هنالك ما يؤذي مشاعر وأحاسيس الآخرين، ولا يتدخل في جوهر خصوصياتهم المعيارية المتعارف عليها، ولا يؤثر قسراً وإكراهاً في رؤاهم تجاه بعضهم البعض، أو تجاه الآخر في شكل عام.
ووسط الخراب «الداعشي» العميم، حتى ما بعد سقوط «دولة الخلافة الداعشية» سيبقى هناك بقايا «متدعشين» هنا وهناك، يواصلون سرديات التآمر والقتل والإجرام بصبغته «الداعشية»، الأمر الذي يحتم علينا جميعاً، أفراداً وجماعات ومجتمعات، مواصلة التأهب لمواجهة كامل الانحرافات التدينية وما يشابهها من انحرافات قوى التكفير والتطرف والإرهاب، حتى لا تقوى شوكتها، وكي لا يعاد بناء سردية «داعشية» جديدة في فضاءات بلادنا الموبوءة بسرديات وطبائع استبداد متنوعة ومتعددة، جميعها لا تقبل الآخر الديني أو السياسي، وتعادي العالم بأكمله.
قبل «داعش» مثل «داعشيو» أنظمة الاستبداد السلطوية النموذج الفاقع على وجود الأفران والمحارق والمقابر والتمثيل بالجثث، وستبقى هذه الحالة مع اختفاء «داعش» كدولة أو كتنظيم أو كفقه أيديولوجي متوحش، يغالي في مناصبة الآخر ليس مجرد التعادي والتضاد معه، بل وسلوك دروب الإبادة بحقه. وما بعد «داعش» أو في ظل استمرار فقهه الوحشي، سوف تستمر بعض المسلكيات «الداعشية» بتداعياتها تطل بين الحين والآخر، لتنتقل هنا أو هناك أو هنالك.
لقد مثل السلوك «الداعشي» طوال السنوات الثلاث الماضية صدمة ترويعية هائلة لكل العالم، وحتى في دواخل بلداننا، لم تنج مجتمعاتنا من مضايقات «داعشية» على أيدي بعض السياسيين وإقطاعهم وزعاماتهم وأزلامهم والسلطات الموازية والعميقة وأشباهها، وهي تفرض عليهم إرادتها ورغباتها، حتى وصلنا في بعض بلداننا إلى أن يجري حشر وقولبة الديموقراطية (ديموقراطية صندوق الاقتراع) في قالب «قانوني» يتوافق مع رغبات هذا السياسي أو ذاك، عبر تلغيم قانون الانتخاب وجعله متوافقاً وآلية اختيار السياسي لناخبيه، لا انتخاب الناس لممثليهم.
وتلك مهزلة المهازل، و «داعشية» مختارة ومنتقاة، حين يراد للناس أن «تختار» من لا يلتفت إلى مصالحها وتطلعاتها، بل يُطلب منها أن تصفق للاستبداد السياسي، كما صفقت وتصفق بعض قوى «الإسلام السياسي» وفرقه التدينية لبعض فقهاء التقويل وفقه التوحش التكفيري، والشعارات التي لا تحوز قابلية العقل لها، بقدر ما قاد ويقود إليها عقل الاستتباع النقلي، وهو يتعدى على الدين، وعلى كامل محاولات التفقه به، وعلى التشريع، من دون أن يرف له جفن، كما فعل التدين «الداعشي» وأمثاله من تدين التطرف والتكفير والإرهاب، وكما يفعل الاستبداد السياسي وهو يقود مجتمعات الدولة عندنا للعودة إلى تقديس طواطم السلطة الاستبدادية الغاصبة، وما جلبته طوال السنين المواضي من تغييب سلطة العقل وإحلال عقل السلطة البراغماتية مكانه، حتى بتنا على ما هو حالنا اليوم، نشهد احتلال السلطة للفضاء العام واختلال السياسة مع اختلال العقل السياسي السلطوي، وإصراره على إنتاج وتوليد ما لا ينفع السياسة ولا الناس ولا الدولة ولا السلطة المعيارية المناقضة لطبائع الاستبداد السلطوي، الحالم بمد أمجاد امبراطوريته الخانقة نحو فضاء سلطوي أكثر اتساعاً –سياسياً ودينياً– على ما حاول فعله «دواعش» هذا الزمان... وفشلوا.
هل انتهت «الداعشية» بانتهاء «دولتها»؟ أم أن «داعشية» ما قبل «داعش»، ستواصل مسلكياتها المتوحشة في ظل سلطة استبدادية قمعها الوحشي أقرب إلى «التدعيش» المنفلت، في وقت لم تكن «داعشيتها» أقرب إلى القمع المنضبط؟ وفي كل الأحوال نادراً ما قد نجد خاصة في بلادنا سلطة تجافي «الحقيقة الداعشية» التي رأينا وعايشنا صورتها البشعة على امتداد السنوات الثلاث، حيث امتدت مفاعيل فقه التوحش من مركز وأطراف «دولة الخلافة» إلى أكثر من اتجاه على امتداد العالم.
شكل غياب القضاء المستقل والقيادة العسكرية الموحدة عبء كبير على المدنيين في المناطق المحررة التي تحكمها فصائل الثورة بتعدد أسمائها وتوجهاتها، حيث كثرت أخطاء هذه الفصائل في الوقت الذي يعجز فيه المدنيون دفع أي ظلم عنهم أو اللجوء لأي محكمة تبت في مظلمتهم ما دامت الفصائل هي الخصم والحكم.
هذه الأخطاء تتمثل في عمليات الاعتقال والتضييق على الحواجز واستغلال المؤسسات المدنية في صالح الفصيل، وعدم إنصاف الضعيف ومساندته، وتسلط القوي وتجار الدم، وسط غياب الرقابة والمحاسبة، إلا إذا كان للأمر علاقة بالفصيل أو حتى عنصر أو قيادي تابع للفصيل فتتحرك الأرتال وتجمع الحشود، أما غير ذلك فيضيع الحق بين محاكم الفصائل وبين شد ومد.
لا يمكن أن تستثني أي فصيل في هذا الأمر ولا أي منطقة، فكما هي الأخطاء والتجاوزات والمظالم في الغوطة الشرقية ذاتها في إدلب وفي مناطق درع الفرات وفي درعا مع بعض الفوارق الصغيرة بينها، فالمدنيون تحكمهم القوة والقبضة الأمنية، وسط غياب الدوائر القضائية التي من المفترض أن تدافع وتحمي حقوقهم.
كثيراً ما نسمع عن تجاوزات للهيئة هنا والأحرار هناك، والجيش الحر على اختلاف أسماء فصائلهم، يتصرفون كلا في مناطق سيطرته بأنه السيد الاقوى والحاكم الأجدر، يفعل مايريد، ولو على حساب الجميع، فالأرض قد ملكت له، والمدنيون فيها تحت حكمه وسلطته وجبروت قادته، فتعاظمت الأخطاء ولم يحاسب أي من المخطئين مع اعتذارات ببيانات لا تتعدى حبر الورق الذي كتبت عليه.
التشبيح الإعلامي أيضاَ للفصيل والدفاع عنه عن كل خطأ يرتكبه عناصره يتولاه إعلاميون من ذات الفصائل، قالوا أنهم مستقلون وينطقون بالحق، ويدافعون عن المظلوم، وما نطقت ألسنتهم إلا بشيء ينصر فصيلهم، ويتهم الخصم، لتتوازى التراشقات الإعلامية، وكل طرف ينتظر الآخر على خطأ يشن فيها حربه ضده ويشعل بها مواقع التواصل الاجتماعي، قد تليها حشود وأرتال وتسير جيوش.
ما الفرق اليوم بين ما ارتكبه الجيش الحر في الغندورة بحلب وما فعلته الهيئة في إحسم ومعرة النعمان، ومافعله جيش الإسلام وفيلق الرحمن في الغوطة، وماحصل قبل عدة أيام بين مدينة بصرى الشام وبلدة معربة بريف درعا من اعتقالات وانتهاك لحقوق المدنيين وقصف وقتل متبادل، وعلى حساب دماء أبنائهم وتضحياتهم التي قدموها طيلة أعوام الثورة، فهل باتت شريعة الغاب تحكمنا، وبات كل فصيل سيد على بقعة جغرافية تضيق به يوماً بعد يوم، يلاحق أبناء جلدته ويضيق على المدنيين في الوقت الذي تكالبت فيه كل أمم الفساد لصالح الأسد ضد هذا الشعب، وباتت تتوسع على حساب الفصائل يومياً بعد يوم وهم في غفلة من أمرهم.
سبع سنوات مرت عجاف على الشعب السوري منذ بداية الحراك السوري وهو يترقب تلك السنوات الخضر التي ستليها بعد أن ينهي عهد الاستبداد والظلم، واضعاً كل أمله وثقته بعد الله بفصائل الثورة وأبنائه العسكر، ليأتي الظلم منها، ويقتل من يقتل بدم بارد، لا محاسب ولا رقيب عليهم، وقضاء ولا ناصر لهم، يعتقل أبنائهم أمام عيونهم على يد من حسبوه حامياً لهم، تتعدد الحجج في الأسباب، وتتعدد الوجوه والفصائل التي تمارس ذات الفعل، الذي بسببه ثار كل هذا الشعب على جلاده الأسد ودفع كل هذه التضحيات والدماء لأجل أن يحيا بحرية وكرامة وعدالة، فاحذروا غضبة الشعب، واعلموا أن فيه قوتكم، كما أن فيه سقوطكم عندما تحاربونه وتنتهكون حقوقه، فإن للشعب غضبة إذا ثارت ضدكم لايمكنكم بعدها الوقوف في وجهه.
رغم أن عواصم العالم تترقب لقاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، على هامش قمة العشرين، المزمع انعقادها الأسبوع المقبل في مدينة هامبورج الألمانية، إلا أن اللقاء بحد ذاته، حتى لو كان إيجابياً، لن يؤدي على الأرجح إلى تحولات كبرى في أي من الملفات الدولية.
فعواصم العالم تترقب اللقاء لأنه يأتي في أجواء ملتهبة في أقاليم شتى، لأميركا وروسيا دور في أغلب ملفاتها لكن اللقاء يتم أيضا بين زعيمين لم تتحسن العلاقة بين بلديهما بقدوم ترامب للحكم، كما كان متوقعاً، بل على العكس وصل التوتر لمستويات خطيرة في الأسابيع الأخيرة.
فترامب الذي كان قد أعلن أثناء الحملة الانتخابية أنه سيسعى لتحسين العلاقة مع روسيا وصرح بإعجابه الشخصي بالرئيس بوتين لم تتغير سياسة بلاده كثيراً عما كانت عليه في عهد أوباما تجاه موسكو.
ففي الأسبوع الماضي مثلا، فرضت وزارة المالية الأميركية المزيد من العقوبات على روسيا بسبب الموقف في شرق أوكرانيا. وهو ما تبعه إلغاء روسيا للاجتماعات الثنائية بين مسؤولي البلدين التي كان مزمعاً عقدها في بيطرسبرغ بهدف البحث في تحسين العلاقات، متهمة واشنطن بأنها تبدد فرص التعاون.
وقد أدى صدور تلك العقوبات الجديدة إلى تراشق بالتصريحات بين البلدين بشأن الوضع في أوكرانيا يؤكد على أن سياسة الولايات المتحدة بالنسبة لجزيرة القرم لم تتغير، رغم تصريحات ترامب كمرشح للرئاسة والتي كانت تسير في الاتجاه المعاكس.
والتوتر بين موسكو وواشنطن لم ترتفع حدته فقط في أوكرانيا وإنما أيضا في سوريا وبحر البلطيق. ففي المشهد السوري، كانت آخر حلقات التوتر هي التحذيرات المتبادلة التي بدأت بذلك الذي وجهه البيت الأبيض لقوات الأسد بعواقب وخيمة «إذا ما شنت قصفاً كيماوياً»، فتلاه تحذير روسي للولايات المتحدة بقصف طائراتها إذا ما استهدفت قوات النظام السوري.
لكن لعل الأخطر في التوتر الجاري هو ما وقع من مواجهات جوية فوق بحر البلطيق بين طائرات روسية وأميركية كان أكثرها خطورة عندما اقتربت مقاتلة من طراز إف 16 تابعة للناتو من طائرة كانت تقل وزير الدفاع الروسي فاقتربت طائرة حربية روسية من طائرة ناتو.
والأرجح ألا يغير لقاء ترامب بوتين أياً من ذلك، والسبب ببساطة أنه فيما يتعلق بالعلاقات مع روسيا، يقف ترامب وحده في مواجهة جل المؤسسات الأميركية.
فكما صار معلوماً للكافة فإن أجهزة الاستخبارات الأميركية تتخذ موقفاً متشدداً من روسيا وتتهم الحكومة الروسية بأنها تدخلت إلكترونياً للتأثير في مجريات الانتخابات الأميركية. وقد أدت تداعيات الموقف لتعيين محقق مستقل لبحث تلك القضية تحديداً. والكونغرس، الذي يتمتع فيه حزب الرئيس بالأغلبية، لا يقف في صف الرئيس فيما يتعلق بالعلاقة مع الروس.
فعلى عكس الرئيس الذي لم يقل صراحة حتى الآن أنه يؤمن بما تقوله أجهزة استخبارات بلاده بشأن تدخل موسكو في الانتخابات الأميركية فإن أغلب أعضاء الكونغرس الجمهوريين، قبل الديمقراطيين، يتخذون موقف تلك الأجهزة بل وتوجد تحقيقات داخل الكونغرس نفسه بخصوص تلك القضية يقودها الجمهوريون، كونهم حزب الأغلبية.
بل أن مجلس الشيوخ كان قد أصدر قبل أسابيع وبأغلبية ساحقة مشروع قانون يقنن العقوبات على روسيا التي كان أوباما قد فرضها قبل رحيله بقرار تنفيذي. لكن مشروع القانون لا يزال يلقى محاولات من جانب حلفاء ترامب في مجلس النواب لتخفيف حدته.
حتى ركس تيلرسون، الذي كان في صف الرئيس بخصوص روسيا، غير موقفه ليس فقط لأنه يشعر بتهميش دوره في صنع القرار كوزير للخارجية لصالح زوج ابنة الرئيس جاريد كوشنر وإنما بسبب ما ترتب على اللقاء الذي اجتهد لعقده في البيت الأبيض بين ترامب ووزير الخارجية الروسي.
فبينما تم منع الإعلام الأميركي من حضور اللقاء، نشر الروس صوراً من داخل المكتب البيضاوي التقطها إعلاميون روس دون إذن مسبق. ليس ذلك فقط بل تبين لاحقاً أن ترامب تحدث في ذلك اللقاء مع الروس عن إطاحته بمدير مكتب التحقيقات الفيدرالية، وعن معلومات سرية في مجال مكافحة الإرهاب، الأمر الذي أحرج تيلرسون.
حتى مجلس الأمن القومي، والذي يتبع الرئيس مباشرة، فإنه على ما يبدو يتخذ المواقف نفسها التي تتخذها باقي المؤسسات الأميركية. فقد برزت معلومات عشية اجتماع الرئيسين في قمة العشرين نشرتها الغارديان في تقرير لها مؤداها أن ترامب طالب مساعديه بالبيت الأبيض بإعداد قائمة تنازلات يمكن استخدامها في ذلك الاجتماع في إطار مقايضة الروس بشأن قضايا أخرى.
لكن الطلب، وفق الغارديان، لقى مقاومة شديدة ليس فقط بين المسؤولين في مجلس الأمن القومى، وإنما في وزارتي الخارجية والدفاع، حيث يخشون أن يقدم ترامب مثل تلك التنازلات دون مقابل.
وفى مثل هذه الأجواء، كان طبيعياً ألا تتم دعوة بوتين حتى الآن لزيارة البيت الأبيض أو تحدث تحولات إيجابية في العلاقات بمجرد لقاء ترامب وبوتين.
بعد شهرين تقريبا، في أواخر أيلول – سبتمبر المقبل تحديدا، يمر عامان على التدخل الروسي المباشر في الحرب التي يتعرّض لها الشعب السوري. أدى التدخل الروسي إلى تفادي سقوط الساحل السوري ومعه المنطقة العلوية في وقت كانت دمشق مهددة بدورها، فيما كانت حلب، في معظمها، تحت سيطرة المعارضة. باختصار شديد، حالت روسيا بفضل سلاحها الجوي دون سقوط النظام في ما يسمّى ظلما “سوريا الأسد”.
تدخّلت روسيا، بطلب إيراني، لمصلحة نظام لا وجود لأيّ شرعية له، اللهم إلا إذا كانت الانقلابات العسكرية التي تحرّكها نزعة طائفية ومذهبية، إضافة إلى حقد للريف على المدينة، يمكن أن تؤسس لأي شرعية من أيّ نوع كان.
كيف يمكن لنظام حافظ الأسد ووريثه بشّار أن يكون شرعيا، ما دام هذا النظام يُعتبر الابن الشرعي لانقلاب عسكري حصل في الثامن من آذار – مارس 1963. هل يكفي أن يكون النظام الابن الشرعي لانقلاب عسكري كي يصبح صاحب شرعية ما تعترف بها دولة مثل روسيا أو إيران؟
جاء الانقلاب في العام 1963 لضرب محاولة أخيرة لإنقاذ سوريا من حكم العسكر ومن حزب البعث المتخلّف الذي استخدمه ضباط سوريون من كلّ الطوائف، في البداية، ثمّ ضباط علويون لتنفيذ مآربهم. توجت تلك المآرب بتفرد حافظ الأسد بالسلطة ابتداء من خريف العام 1970 وصولا إلى توريث نجله في صيف العام 2000 تمهيدا لقيام حكم العائلة بديلا من حكم الرجل الواحد الذي يجمع حوله النافذين في الطائفة أو المنضوين تحت راية هؤلاء من رجال أعمال من سنّة الريف أو بعض التجار من سنّة المدن.
لا مفرّ من الاعتراف بأنّ التدخل العسكري الروسي المباشر الذي شمل إرسال طائرات لقصف المدن السورية، مع تركيز خاص على المدارس والمستشفيات، أنقذ النظام السوري من السقوط العلني في وقت لم تكن هناك سياسة أميركية واضحة باستثناء عمل كلّ شيء من أجل عدم إغضاب إيران. كان الملف النووي الإيراني محور السياسة الأميركية في السنوات الأربع الأخيرة من عهد باراك أوباما.
المهمّ بالنسبة إلى الرئيس الأميركي السابق حماية الاتفاق المرتبط بهذا الملف وما سبقه من مفاوضات بعضها سرّي وبعضها الآخر علني.
استغلت روسيا، في مرحلة زمنية معيّنة، بذكاء شديد كلّ الثغرات التي وجدتها أمامها وذلك كي تثبت أنّها ما زالت تمتلك موطئ قدم في الشرق الأوسط، أي على الساحل السوري. عرف الرئيس فلاديمير بوتين كيف يستفيد من تردّد إدارة أوباما وحال الانكفاء التي ميزت إدارة الرئيس الأسود الأوّل للولايات المتحدة.
لم يكتف بوتين بتثبيت الوجود العسكري الروسي في سوريا، بل ذهب إلى أبعد من ذلك بكثير، إذ بدأ الضباط الروس يشرفون على قطاعات عدّة في سوريا، بما في ذلك إعادة تنظيم فرق معيّنة في الجيش النظامي الذي تبيّن مع الوقت أن لا أمل في إعادة الحياة إليه ما دام النظام الحالي قائما، وما دامت الميليشيات المذهبية التي أرسلتها إيران تسرح وتمرح في الأراضي السورية.
كان همّ روسيا محصورا في إثبات أنّها ما زالت قوّة عظمى. نجحت في ذلك لبعض الوقت فقط. لكن ما تبيّن مع تطوّر الأحداث هو أن رهانها على أوباما وإدارته ما لبث أن ارتدّ عليها. استطاعت إدارة بوتين إقامة تحالفات كثيرة في المنطقة، بما في ذلك مع تركيا.
عرفت موسكو كيف تلعب الورقة التركية في وقت كان رجب طيب أردوغان يواجه صعوبات كبيرة إنْ على صعيد العلاقات مع الولايات المتحدة أو نتيجة وضعه الداخلي والمنافسة القائمة بينه وبين فتح الله غولن المتهم بأنّه وراء المحاولة الانقلابية عليه… أو بسبب الأكراد وطموحاتهم ومخاوف تركيا منها.
انتقلت روسيا من طرف قوي قادر على أخذ المبادرة في سوريا إلى طرف عليه تجميع أكبر عدد من الأوراق لإقناع إدارة دونالد ترامب بالدخول في صفقة معه. يحصل ذلك في وقت لم ترسم بعد إدارة ترامب على الرغم من مضي ستة أشهر على دخوله إلى البيت الأبيض سياسة سورية محدّدة. اكتفت إدارة ترامب، إلى الآن، بتعزيز قواتها في سوريا ودعم المقاتلين الأكراد في مناطق سورية معيّنة مثل الرقّة.
في انتظار كشف الولايات المتحدة عن سياستها السورية، يظهر جليّا أن الوقت لا يعمل لمصلحة الروسي أو الإيراني. حددت أميركا خطوطا حمرا في التنف وحولها وأقامت مطارات عسكرية عدّة. لديها حاليا نحو عشرة آلاف جندي في الأراضي السورية.
في المقابل، تبدو موسكو أسيرة لعبة لم تكن قادرة منذ البداية على خوضها والذهاب فيها إلى النهاية، لا لشيء سوى لأنها لا تمتلك اقتصادا قويّا يسمح لها بذلك.
يبدو واضحا أن روسيا لم تتعلّم من تجربة الاتحاد السوفياتي. ماذا إذا استمر سعر برميل النفط في الهبوط؟ ماذا إذا فرضت الولايات المتحدة عليها عقوبات جديدة؟ ليس ما يشير إلى أن إدارة ترامب غير مستعدة لذلك. هناك هاجس لجوء الكونغرس إلى فرض عقوبات جديدة على روسيا يجعلها خارج النظام المصرفي العالمي الذي تتحكّم به أميركا.
تعرف إيران جيّدا ماذا تعني عقوبات من نوع الخروج من النظام المصرفي العالمي. الأكيد أن روسيا لا تريد أن تجد نفسها في وضع إيران التي تعاني في الوقت ذاته من عجز عن استيعاب معادلة في غاية البساطة. هذه المعادلة هي أن ليس في استطاعة أنظمة ودول لا تمتلك اقتصادا قويّا لعب أدوار تفوق حجمها.
تستطيع أميركا أن تنتظر. ما همّها إذا بقيت سوريا موحّدة أم تفتتت. كذلك الأمر بالنسبة إلى إسرائيل الفرحة بالتورط الروسي والإيراني في سوريا وستكون فرحة أكثر بالتورط التركي. ليس لدى إسرائيل ما تقلق في شأنه ما دام الروسي مستعدا كلّ يوم لمراضاتها حرصا على إبقائها جسرا من جسور الوصول إلى إدارة ترامب.
يظل السؤال الذي سيفرض نفسه في نهاية المطاف هل لدى روسيا ما تبيعه لإدارة ترامب وذلك في وقت تشير كلّ المعطيات إلى أن إدارة بوتين لم تعد متماسكة كما في الماضي بسبب التدهور المستجد على الوضع الاقتصادي الروسي.
ماذا يجري في روسيا؟ ماذا يجري في إيران؟ ماذا يجري في تركيا التي تبدو مستعدة لإرسال قوات إلى داخل سوريا بسبب الأكراد؟ الثابت أن كلّ المتورطين على الأرض السورية في حيرة من أمرهم باستثناء الأميركي الذي لا يمتلك القدرة على الانتظار فحسب، بل على اعتبار أن رأس بشّار الأسد لم يعد ورقة، بغض النظر عن الاستعراضات المضحكة المبكية التي يقوم بها رئيس النظام بين وقت وآخر. استطاعت روسيا أن تبقيه في دمشق. هل يحل ذلك أي مشكلة من مشاكل سوريا؟ هل يحلّ مشكلة غياب أي أفق للوجود العسكري الروسي في غياب الرغبة الأميركية بحصول صفقة ما بين موسكو وواشنطن؟
حسنا، منعت روسيا نظاما صار في مزبلة التاريخ من السقوط العلني. هل هذه سياسة أم خزعبلات لا تلجأ إليها سوى الدول التي لا تعرف حقيقة ما تستطيع تحقيقه وحقيقة ما لا تستطيع تحقيقه؟ وأين يجب أن تكفّ عن لعب أدوار أكبر من حجمها؟ إنّها بالفعل أزمة روسيا في سوريا.
يجري الحديث في لبنان عن أن النظام السوري بعث الى الحكومة اللبنانية رسالة تبلغ أعضاءها أن النظام مستعد للتفاوض معها لاعادة بعض النازحين السوريين الى بلدهم. ويتردد في أوساط مسؤولة ان بعض الوزراء، وخصوصاً وزراء «حزب الله» وحلفاءه العونيين، عازمون على هذا التفاوض لانهم يريدون التخلص من عبء النازحين على لبنان. ولا شك في أن لبنان يعاني بشكل كبير من هذا العبء الذي اصبح يمثل خطراً اجتماعياً كبيراً بسبب التوتر الناتج عن منافسة اليد العاملة السورية الرخيصة في جميع القطاعات، فيما أوضاع اللبنانيين من ناحية العمل والأجور تتراجع. ولكن إعادة اللاجئين من طريق التفاوض مع نظام اعتبر شعبه إرهابياً وقصفه بالبراميل ودمر منازله وقراه يعني ارسالهم مجدداً الى جحيم بلد اصبح الآن محكوماً ليس فقط من بشار الأسد بل من ايران و «حزب الله» وروسيا. وشكل الحزب في سورية «سرايا الشام» التي تضم عناصر سنّية تقاتل في سورية على طريقة «سرايا المقاومة» في لبنان، وهم يفاوضون مجموعات مقاتلة أخرى، منها «النصرة»، لإعادة النازحين الى قراهم، شرط ان يلتزم النظام بعدم اجبارهم على الخدمة العسكرية.
ولكن من يصدق النظام السوري؟ فقد عادت حوالى ٣٠٠ عائلة الى منطقة القلمون وطلب من الشبان ان يلتحقوا بخدمة العلم. والنازحون السوريون في لبنان يعيشون تحت الضغط في مخيمات تتعرض لحرائق كارثية ما يجعل حياة النازحين فيها جحيماً ويتمنون المغادرة ولو عنى ذلك عودتهم الى خيار سيئ آخر هو قريتهم التي دمرها نظامهم.
ان أوضاع اللاجئين السوريين كارثية في لبنان. فقد انطلقت مرة أخرى موجة العنصرية اللبنانية ضد «السوري»، مثلما كانت ولا تزال إزاء الفلسطيني في بعض الأوساط اللبنانية. ان محاولات «حزب الله» وحلفائه المسيحيين حضّ النازحين على العودة ومحاولة الضغط على رئيس الحكومة سعد الحريري للتفاوض والتحدث مع النظام السوري لن تنجح. فموقف الحريري ووزير الداخلية نهاد المشنوق المتمثل بأن تتم مناقشة هذا الموضوع عبر الأمم المتحدة، هو الأفضل لتجنب الفخ الذي يريد «حزب الله» والنظام السوري إيقاع الحكومة فيه، فموضوع اللاجئين لا يمكن ان يحل الا على طاولة مفاوضات سورية في جنيف عبر الأمم المتحدة. فمن هجّر الأهالي من قراهم غير بشار الأسد و «حزب الله» والإيرانيون الذين دمروها بحجة انهم يحاربون الإرهابيين؟
ايران ووكيلها «حزب الله» وحليفها بشار الأسد عملوا من دون توقف على التخريب في الشرق الأوسط، من لبنان الى سورية الى العراق واليمن. والآن هناك معلومات لدى عواصم غربية ان السلاح الإيراني يصل الى «حزب الله» عبر مرفأ بيروت، وهذا يمثل خطراً كبيراً على لبنان وعلى جيشه. فواشنطن تقدم دعماً للجيش اللبناني بقيمة ١٥٠ مليون دولار سنوياً لتعزيز قدراته لأن عناصر الجيش وقائده الحالي يحظون باحترام كبير. لكن القرار السياسي في لبنان ليس في يد الجيش بل هو في يد الحكومة التي تضم عناصر حليفة لـ «حزب الله» تساهم في تعزيز قبضته على البلد وعلى القرار السياسي فيه، ما يجعله في خطر مستمر، خصوصاً مع وصول أسلحة ايرانية اليه من طريق لبنان. وخطابات «حزب الله» وتهجمه على دول الخليج دفعت وزير الدولة الاماراتي للشوؤن الخارجية أنور قرقاش ليقول لـ «الحياة» منذ فترة وجيزة كلاماً غير مطمئن عن علاقة لبنان بالاشقاء الخليجيين، اذ قال ان هناك قلقاً في الخليج من سيطرة «حزب الله» على كل مفاصل الدولة في لبنان.
ولسوء حظ لبنان، فهيمنة «حزب الله» على القرار السياسي اللبناني هي الواقع المرير، بسبب وجود كثيرين يغطونه بتحالفهم معه.
يجمع المراقبون على أن لقاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، المزمع عقده على هامش قمة العشرين في مدينة هامبورغ الألمانية يومي الجمعة والسبت القادمين، سوف يكون حدثاً بالغ الأهمية والتأثير في الوضع العالمي الراهن، ولا سيما في وضع المنطقة العربية والوضع السوري على الأخص.
وقد حان الوقت لموسكو كي تقطف ثمار رهانها العربي، أو هذا ما تأمله. ولإدراك ما سوف يكون في صلب الحوار بين الرئيسين، لا بدّ من فهم المغزى من التدخّل المباشر لطيران روسيا الحربي في الساحة السورية بدءا من خريف 2015، وقد ترافق بتدخّل روسيا في ساحات عربية أخرى، منها ليبيا حيث تلتقي مع المحور القائم بين مصر عبد الفتّاح السيسي والإمارات العربية المتحدة. فقد استغلّت موسكو الفرصة التاريخية التي منحها إياها رئيس أمريكي، هو باراك أوباما، خشي التورّط العسكري إلى أقصى حدّ (وعوّض عن خشيته هذه باستخدام كثيف للطائرات بدون طيّار، أجبن الأسلحة)، وقد أشرف على سنته الأخيرة في الرئاسة، وهي السنة التي يكون فيها الرؤساء الأمريكيون على درجة عليا من الشلل، لا سيما في مجال الخيارات العسكرية.
فرأى لاعب الشطرنج بوتين أن يقدّم أحجاره على الرقعة العربية بما يعزّز من حظوظه على الرقعة الأوروبية وعلى الرقعة الدولية بوجه عام. وكانت المجازفة محدودة في الواقع، إذ يعلم بوتين علم اليقين أن واشنطن ليست مبالية بدفاع موسكو عن نظام آل الأسد، وهو ما تدخّل هو من أجله، وهي ليست مبالية بالوضع السوري برمّته، عدا تنظيم داعش الذي تحدّاها بصورة مباشرة باكتساحه الأراضي العراقية في عم 2014، والذي رأت أن تحاربه في سوريا مذّاك بواسطة القوات الكردية. (ومن المعلوم أن واشنطن أكثر اهتماماً بالعراق بكثير، إذ تتناسب درجة اهتمامها ببلدان المنطقة مع ما يحوز عليه كل بلد من ثروة نفطية وموقع استراتيجي بالنسبة للثروة النفطية الإقليمية.)
أما مجازفة بوتين في تدخّله المباشر في الحرب السورية فاقتصادية في المقام الأول، إذ أن روسيا غير قادرة على خوض حرب عالية الكثافة والكلفة لمدة طويلة بينما يعاني اقتصادها من هبوط الواردات النفطية. وهذا الهبوط بذاته ناتجٌ عن حرب تخفيض أسعار النفط التي شنّتها المملكة السعودية على إيران وروسيا بتشجيع من واشنطن منذ ثلاث سنوات. وهنا تكتمل الحلقة إذ أن إنهاء تلك الحرب الاقتصادية هدفٌ رئيسي من أهداف مجازفة بوتين الأشبه بالمقامرة.
هذا وقد تبدّلت الأوضاع منذ خريف 2015 بما يلائم تماماً الرهان الروسي. طبعاً، كان الحدث الأساسي في هذا الصدد اعتلاء ترامب سدة الرئاسة الأمريكية، وهو معجبٌ ببوتين ينوي التعاون معه، بل يعوّل عليه كي يساعده على فرض استتباب النظام الرجعي القديم في المنطقة العربية. فهو ذا خيار ترامب الأساسي، والسبب الرئيسي الكامن وراء إعطائه الضوء الأخضر للهجمة السعودية/الإمارتية/المصرية على قطر التي يتهمونها بمواكبة «الربيع العربي» ومحاولة تسييره بواسطة جماعة الإخوان المسلمين وقناة «الجزيرة». وطبعاً يدرك ترامب أن النظام الرجعي القديم لا يستطيع أن يستتبّ في المنطقة العربية بدون إنهاء الحرب السورية وتدعيم الحكم القائم في دمشق الذي هو ركنٌ أساسي من أركان ذلك النظام.
لذا لا يبالي ترامب باستمرار بشّار الأسد بحكم سوريا بالرغم من أنه سبق ونعته بالحيوان، وهو على قناعة من أن «أسداً» من هذا النوع يسهل تدجينه. كما يلتقي الحلف الثلاثي السعودي/الإماراتي/المصري مع هذا الاعتبار، والحال أن مصر السيسي أعادت نسج العلاقات مع النظام السوري منذ مدّة. كما نتذكّر أن السعودية انتظرت طويلاً قبل أن تدخل في منافسة قطر على إدارة ملفّ المعارضة السورية، وهي مستعدّة بالتأكيد للقبول بمساومة تبقي آل الأسد في السلطة تمشّياً مع المنحى الأمريكي الذي بات موضع إجماع غربي منذ أن تبنّاه الرئيس الفرنسي الجديد إيمانويل ماكرون.
غير أن ثمة عقبة عظيمة على طريق اتفاق واشنطن وموسكو على سوريا وترحيب الرياض باتفاقهما، وهذه العقبة اسمها إيران. فالعداء الشديد لطهران أهم ما تلتقي عليه واشنطن في عهد ترامب والرياض (ومن ورائهما دولة إسرائيل بالطبع)، ويحكم هذا العداء سياستهما المشتركة في المنطقة. فلن تقبل العاصمتان ببقاء نظام آل الأسد إن لم يترافق بقاؤه بصيغة (قد تكون الاتفاق على نشر قوات دولية في سوريا) تؤدي إلى إقصاء التواجد العسكري الإيراني وملحقاته من داخل الحدود السورية.
كما تعلم واشنطن والرياض أن تحقيق هذا الشرط يقتضي مشاركة روسيا، إذ يصعب، بل يكون من الجنون أن تدخل إيران في مواجهة مع أمريكا وروسيا مجتمعتين لو اتفقتا الدولتان، ومعهما مجلس الأمن الدولي، على صيغة تتطلب خروج القوات الإيرانية وملحقاتها من سوريا.
فسوف يعتمد مصير الحوار الأمريكي/الروسي على ما تستطيع واشنطن أن تقدّمه لموسكو من تنازلات ومكاسب من أجل قيام روسيا بالدور المطلوب منها، وليس أقل ما تتوخّاه موسكو تعهّد السعودية بالعمل على إنهاء حقبة أسعار النفط المتدنّية. وقد تجد طهران في هذا الشرط الأخير تعويضاً اقتصادياً عن خسارتها لسوريا، أو على الأقل قد يقتنع بذلك الجناح الإصلاحي البراغماتي في النظام الإيراني، الذي يتزعّمه الرئيس الحالي حسن روحاني، بما يصعّد التوتّر بينه وبين الجناح الأيديولوجي/العسكري الذي يضمّ قوات «الحرس الثوري» ويميل إليه المرشد الأعلى علي خامنئي.
على مدار سنوات الأزمة السورية، بقي التدخل الأميركي مقتصرا على البعد السياسي، مع الاكتفاء بتدخل عسكري غير مباشر، من خلال دعم قوى محلية، لها أجندة مطابقة لأجندتها. ومع إدارة الرئيس دونالد ترامب، أحدثت الولايات المتحدة تحولا كبيرا في تعاطيها مع الأزمة، فانتقل التدخل الأميركي من المستوى العسكري غير المباشر إلى المباشر، مع الإبقاء على الثابت الأساسي، المتمثل بعدم إسقاط النظام عسكريا، وعدم إسقاط المعارضة المسلحة عسكريا. ولا يعبر هذا التحول عن اختلافٍ في الرؤى بين إدارتين أميركيتين فحسب، بقدر ما يعكس المرحلة الجديدة التي وصلت إليها الأزمة السورية، من صراع إقليمي دولي على النفوذ في سورية.
يبدو التدخل العسكري الأميركي المباشر مؤشرا على وصول الحرب إلى خواتيمها، بعدما أصبحت الجغرافيا السورية، في معظمها، مقسّمة تقسيما واضحا بين الفرقاء الإقليميين والدوليين، وتتجه نحو استكمال التقسيم. ولا يعني ذلك، بطبيعة الحال، أن الحرب ستنتهي قريبا، ذلك أن مرحلة تقسيم النفوذ لا تنفصل عن مسألة تحديد مصير النظام السوري، فالأمر ليس مجرّد اقتطاع مناطق جغرافية بصورة مباشرة، أو بصورة غير مباشرة، عبر حلفاء محليين.
يتطلب تثبيت نفوذ مستدام للقوى الإقليمية والدولية إيجاد حل مستدام للأزمة السورية، ومن دون ذلك، ستستحيل المناطق الجغرافية المسيطر عليها إلى مناطق استنزاف استراتيجي لهذه الدول. هنا تكمن العقدة السورية الكبرى: إيران لا تريد أي تغيير حقيقي في النظام السوري، هي تقبل بتغيير شكلي لا يؤثر في بنيته، فيما تبدو روسيا على استعداد لإجراء تغييراتٍ، شرط ألا تؤدي إلى انهيار النظام، تقبل إعادة إنتاجه لكن ليس على الطريقة الإيرانية، أما الولايات المتحدة فتميل إلى الطرح الروسي، لكنها لا تقبل بقاء الأسد على رأس السلطة بعد التسوية الكبرى.
وحتى تلك المرحلة، يسعى الفرقاء الإقليميون والدوليون إلى تثبيت أقدامهم على الأرض، قبيل حدوث التسوية الكبرى التي يجب أن تأخذ بالاعتبار الحقائق الجديدة على الأرض. ويمكن ملاحظة التركيز الأميركي على فصائل المعارضة السورية، بعد أن كان دعمها مقتصرا على الوحدات الكردية، ثم على قوى عربية لها الأهداف نفسها، كما الحال مع "قوات سورية الديمقراطية" وغيرها.
الدعم الأميركي المتزايد للجيش الحر مرتبط، في جزء منه، بمعطيات الجغرافيا العسكرية. ولكن في جزء آخر مرتبط بالمرحلة المقبلة، فإذا كانت مرحلة محاربة تنظيم الدولة الإسلامية تتطلب تركيز الدعم على "قسد"، فإن مرحلة ما بعد "داعش" تتطلب حساباتٍ وخياراتٍ أوسع من "قسد".
إنه صراعٌ على مستقبل سورية وموقعها الجيوسياسي، وهو يتطلب المرور بثلاث مراحل رئيسية، الأولى إسقاط "داعش" والثانية إسقاط القوى الإسلامية الراديكالية، سواء المدرجة على قائمة الأمم المتحدة للإرهاب، أو تلك غير المدرجة، لتأتي المرحلة الثالثة التي ينحصر فيها النزاع بين الثنائي السوري، النظام والمعارضة. ووفقا لذلك، يعتبر تقاسم مناطق النفوذ الجغرافي في سورية بين القوى الإقليمية والدولية ضرورةً ملحةً لمنع الفوضى العسكرية، ولوضع سقفٍ عسكري للفرقاء المحليين والدوليين، بما يتناسب مع التفاهمات الأميركية ـ الروسية.
واضح أن الولايات المتحدة تقبل حضوراً إيرانياً في سورية، فهي لا ترفض إعطاء إيران حصتها السورية، وربما لا تستطيع فعل ذلك، كما تقبل حصة لتركيا أيضا، لكن هذه الحصص يجب أن تبقى ضمن إطار المسموح به، فلا تشكل عائقا أمام التسوية المنتظرة ولو بعد حين. وللوصول إلى ذلك، يتطلب الأمر عملاً كثيرا، خصوصا حين يتعلق الأمر بإيران التي لم يعد حضورها في سورية مقتصرا على البعد العسكري، بل تجاوز الأمر ليصل إلى المنظومة السياسية والأمنية والاجتماعية السورية، بمختلف مستوياتها الدينية والإثنية والعشائرية.
سيؤثر تقاسم النفوذ على الأرض سلبا على مكانة سورية المستقبلية، وحضورها الإقليمي، لكن من شأن هذا التقاسم أن يكون عاملا مهما في مسار إنهاء الصراع العسكري، والتمهيد لمسار سياسي جدي، ينتهي بحلٍّ يكون انعكاسا للواقع على الأرض.
بعبارةٍ أخرى، لن تكون التسوية نقلة كبرى في النظام السياسي، بقدر ما ستكون انتقالا تدريجيا، وربما على سنوات، للوصول إلى نظام مستقر، لكنه نظامٌ ضعيفٌ، من حيث القوة السيادية ومن حيث النظام السياسي.على مدار سنوات الأزمة السورية، بقي التدخل الأميركي مقتصرا على البعد السياسي، مع الاكتفاء بتدخل عسكري غير مباشر، من خلال دعم قوى محلية، لها أجندة مطابقة لأجندتها. ومع إدارة الرئيس دونالد ترامب، أحدثت الولايات المتحدة تحولا كبيرا في تعاطيها مع الأزمة، فانتقل التدخل الأميركي من المستوى العسكري غير المباشر إلى المباشر، مع الإبقاء على الثابت الأساسي، المتمثل بعدم إسقاط النظام عسكريا، وعدم إسقاط المعارضة المسلحة عسكريا. ولا يعبر هذا التحول عن اختلافٍ في الرؤى بين إدارتين أميركيتين فحسب، بقدر ما يعكس المرحلة الجديدة التي وصلت إليها الأزمة السورية، من صراع إقليمي دولي على النفوذ في سورية. يبدو التدخل العسكري الأميركي المباشر مؤشرا على وصول الحرب إلى خواتيمها، بعدما أصبحت الجغرافيا السورية، في معظمها، مقسّمة تقسيما واضحا بين الفرقاء الإقليميين والدوليين، وتتجه نحو استكمال التقسيم. ولا يعني ذلك، بطبيعة الحال، أن الحرب ستنتهي قريبا، ذلك أن مرحلة تقسيم النفوذ لا تنفصل عن مسألة تحديد مصير النظام السوري، فالأمر ليس مجرّد اقتطاع مناطق جغرافية بصورة مباشرة، أو بصورة غير مباشرة، عبر حلفاء محليين. يتطلب تثبيت نفوذ مستدام للقوى الإقليمية والدولية إيجاد حل مستدام للأزمة السورية، ومن دون ذلك، ستستحيل المناطق الجغرافية المسيطر عليها إلى مناطق استنزاف استراتيجي لهذه الدول. هنا تكمن العقدة السورية الكبرى: إيران لا تريد أي تغيير حقيقي في النظام السوري، هي تقبل بتغيير شكلي لا يؤثر في بنيته، فيما تبدو روسيا على استعداد لإجراء تغييراتٍ، شرط ألا تؤدي إلى انهيار النظام، تقبل إعادة إنتاجه لكن ليس على الطريقة الإيرانية، أما الولايات المتحدة فتميل إلى الطرح الروسي، لكنها لا تقبل بقاء الأسد على رأس السلطة بعد التسوية الكبرى. وحتى تلك المرحلة، يسعى الفرقاء الإقليميون والدوليون إلى تثبيت أقدامهم على الأرض، قبيل حدوث التسوية الكبرى التي يجب أن تأخذ بالاعتبار الحقائق الجديدة على الأرض. ويمكن ملاحظة التركيز الأميركي على فصائل المعارضة السورية، بعد أن كان دعمها مقتصرا على الوحدات الكردية، ثم على قوى عربية لها الأهداف نفسها، كما الحال مع "قوات سورية الديمقراطية" وغيرها. الدعم الأميركي المتزايد للجيش الحر مرتبط، في جزء منه، بمعطيات الجغرافيا العسكرية. ولكن في جزء آخر مرتبط بالمرحلة المقبلة، فإذا كانت مرحلة محاربة تنظيم الدولة الإسلامية تتطلب تركيز الدعم على "قسد"، فإن مرحلة ما بعد "داعش" تتطلب حساباتٍ وخياراتٍ أوسع من "قسد". إنه صراعٌ على مستقبل سورية وموقعها الجيوسياسي، وهو يتطلب المرور بثلاث مراحل رئيسية، الأولى إسقاط "داعش" والثانية إسقاط القوى الإسلامية الراديكالية، سواء المدرجة على قائمة الأمم المتحدة للإرهاب، أو تلك غير المدرجة، لتأتي المرحلة الثالثة التي ينحصر فيها النزاع بين الثنائي السوري، النظام والمعارضة. ووفقا لذلك، يعتبر تقاسم مناطق النفوذ الجغرافي في سورية بين القوى الإقليمية والدولية ضرورةً ملحةً لمنع الفوضى العسكرية، ولوضع سقفٍ عسكري للفرقاء المحليين والدوليين، بما يتناسب مع التفاهمات الأميركية ـ الروسية. واضح أن الولايات المتحدة تقبل حضوراً إيرانياً في سورية، فهي لا ترفض إعطاء إيران حصتها السورية، وربما لا تستطيع فعل ذلك، كما تقبل حصة لتركيا أيضا، لكن هذه الحصص يجب أن تبقى ضمن إطار المسموح به، فلا تشكل عائقا أمام التسوية المنتظرة ولو بعد حين.
وللوصول إلى ذلك، يتطلب الأمر عملاً كثيرا، خصوصا حين يتعلق الأمر بإيران التي لم يعد حضورها في سورية مقتصرا على البعد العسكري، بل تجاوز الأمر ليصل إلى المنظومة السياسية والأمنية والاجتماعية السورية، بمختلف مستوياتها الدينية والإثنية والعشائرية.
سيؤثر تقاسم النفوذ على الأرض سلبا على مكانة سورية المستقبلية، وحضورها الإقليمي، لكن من شأن هذا التقاسم أن يكون عاملا مهما في مسار إنهاء الصراع العسكري، والتمهيد لمسار سياسي جدي، ينتهي بحلٍّ يكون انعكاسا للواقع على الأرض. بعبارةٍ أخرى، لن تكون التسوية نقلة كبرى في النظام السياسي، بقدر ما ستكون انتقالا تدريجيا، وربما على سنوات، للوصول إلى نظام مستقر، لكنه نظامٌ ضعيفٌ، من حيث القوة السيادية ومن حيث النظام السياسي.
ربما آن الأوان أن يعترف اللبنانيون بأنّ لبنان الجميل، ذاك الحلم الرومانسي وبعض سنيّ الازدهار، قد مات حقاً وفعلاً. لبنان الذي واجه تدخلات وتجاوزات المقاومة الفلسطينية، والذي تحمّل احتلال ووصاية نظام الأسد، قد مات، أو بالأحرى قُتل، ليس على يد ياسر عرفات أو آل الأسد، بل بأيدٍ لبنانية، وعلى يد المقاومة اللبنانية التي لا تعترف أصلاً بلبنان الوطن والكيان. وبعض علامات موت لبنان هو حلول البشاعة والخراب في كل ما كان باقياً من تميّز لبنانيّ، حلول القسوة والتجهّم محل الانفتاح والرحابة، في تحوّل بيروت إلى معسكر خانق للأرواح بعد أن كانت متنفّس المشرق.
والحال أنّ موت لبنان هو أشبه بحدث متواصل الحدوث، يكرّر ذاته ويعيد تأكيد واقعة الموت. هذا ما تقوله وقائع كثيرة كالتي حصلت في عرسال أخيراً تجاه اللاجئين السوريين. هنا، وانصياعاً للمنطق لا يمكن تجاهل ما يتحمّله لبنان كدولة من أعباء اللجوء السوري، ولا يمكن تجاهل الخوف التاريخي للبلد الصغير من جاره الكبير. بيد أنّ هذا لا يبرّر بأي حال مستوى العنصرية التي بلغها البعض تجاه السوريين، ففي المقابل، وبلغة الأرقام التي يتذرّع بها العنصريون، قد تكون رؤوس الأموال السوريّة التي هربت واستقرت في مصارف بيروت كافية لوحدها في تعديل الميزان الاقتصادي اللبناني، بل في ترجيحه إيجابياً ربما. هكذا، تبدو الذرائع والمبررات الاقتصادية واهية وعديمة الفائدة، ذاك أنّ السبب الأساس في كلّ ذلك إنما يكمن في إيديولوجية الكراهية الطائفية التي يعتنقها «حزب الله» وجمهوره، هذه الإيديولوجية المدعّمة بسلاح خارج عن القانون باتت تخنق اللبنانيين أنفسهم، ولعلّها السبب الخفيّ خلف انبعاث عنصرية اليمين اللبناني القديمة، وفي انتفاخ هذه العنصرية التي تتمثّل في جبران باسيل وأمثاله.
على أنّ عنصرية هؤلاء هي عنصرية منافقة ومتحايلة، إذ تتحايل على مستوى الكبت الذي يسببه «حزب الله» في الحياة العامة اللبنانية وتبحث عن وسيلة لتفريغ هذا الكبت، ولا يوجد أنسب من السوريين، في ضعفهم ومحنتهم، كوسيلة لتفريغ ذاك الكبت. وبهذا، يؤكّد هؤلاء على نهاية حقبة الحماية الأوروبية المسيحية للبنان، التي لا تقتصر أسباب نهايتها على الخذلان الأوروبي فحسب، بل على أداء نخب اليمين اللبناني والتحالف الخطير لجزء منهم مع «حزب الله». والمفارقة هنا، كما أظهرتها أحداث عرسال، أنّ عنصرية هؤلاء تعلن مجدداً موت لبنان عبر الرغبة في تحويله إلى دولة ديكتاتورية. ذاك أنّ العنصريين يحتمون في مثل هذه الأحداث بادعاء التعلق بالجيش الوطني، بوصفه خطاً أحمر، وذلك رغبة في إبعاد تهمة العنصرية والطائفية عنهم بتمسكهم بمؤسسة تعبر عن الانتماء الوطني، لكنهم بذلك يتغافلون عن حقيقة أنه ليس هناك من هو فوق المساءلة في النُظم الديموقراطية، وأنّ هذا الإصرار المتعمّد على عدم مساءلة الجيش يسيء إليه هو نفسه.
على هؤلاء أن يدركوا أنّ «حزب الله» لن يدوم مهما طالت الأيام، وأنّ السوريين باقون في أرضهم، جيراناً لهم، وأنهم لن ينسوا ما حصل لهم في لبنان.
درجت مستويات السلطة والديبلوماسية في روسيا على إبلاغ من تلتقيهم، من النظراء العرب والأوروبيين، أن مصير بشار الأسد لا يعنيها، وانها إنما تقاتل في سورية كي لا تتحوّل إلى بلد فاشل آخر، بالإشارة إلى ليبيا التي قتل رأس النظام فيها فذهبت البلاد إلى فوضى مديدة.
ومع ان حكام روسيا يرغبون في تحويل مقتل القذافي إلى عقدة تلازم السياسات الغربية وتكبح مبادراتها في المنطقة، فإن من الطبيعي أن أي مسؤول دولي سيشعر بالرهبة والإحراج في نقاش إزاحة الأسد عن الحكم، فلا أحد يمكنه أن يتحمل المسؤولية الأخلاقية عن هدم الدول وإيقاعها في الفوضى، وبخاصة إذا جلب له محدثه الروسي الأمثلة عن فشل البدائل التي يجري تصنيعها سريعاً وعلى نار حامية، كما حصل في العراق سابقاً وليبيا لاحقاً.
وإذا أرفقت روسيا روايتها تلك بأن الأولوية الآن في سورية هي لإنهاء الأزمة وهزيمة الإرهاب وإعادة الاستقرار، فإن الطرف المقابل يصبح مربكاً ويشعر أنه مثالي وساذج لأنه لم يكن لديه أكثر من موقف إنساني متعاطف مع قتلى نظام الأسد وبعض شعارات عن الحرية والديموقراطية، وتلك على رغم نبلها إلا أنها لا تضمن الاستقرار للدول والمجتمعات ولا تدير مؤسسات للحكم، عندها يتجرأ الروسي ويطرح مقولته الأثيرة إن الأسد لا يستهدف الآخرين وليست لديه مشاكل مع العالم الخارجي.
يظهر الجانب التقني من الموقف الروسي وجود طرف دولي مسؤول يفكر من خارج الصندوق وبما يليق بالواقعية السياسية أن تكون، ويكشف ظاهريا عن رؤية إستراتيجية عميقة تقوم على ما هو أبعد من الانفعال بالأحداث اليومية والصور الناتجة منها ولا تتأثر بعواطف الكره والمحبة التي تشوّه المواقف السياسية وتؤثر في القرارات الصادرة عنها، لكن هل الموقف هو هكذا بالفعل؟
على رغم ادعاء روسيا ذلك إلا أنها ديبلوماسياً وإعلامياً تستخدم بكثافة مواقف عاطفية للدفاع عن الأسد، فكم من مرّة وصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الثوّار بـ «آكلي الأكباد» تعليقاً على حادثة فردية، ولم يتردّد وزير خارجيته في وصف «الخوذ البيض» بالمشعوذين، بل إن روسيا دافعت عن جرائم الأسد الكيماوية في شكل مبتذل ولا يليق بديبلوماسية بلد يعتبر أحد الدول الخمس المسؤولة عن الأمن والسلم الدولي، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل مارست سياسة الأرض المحروقة تجاه البيئات الحاضنة للمعارضة السورية، وقد ذكر تقرير المرصد السوري لحقوق الإنسان ان روسيا قتلت خلال حملتها في سورية حوالى ثلاثة عشر ألف شخص، منهم ألف وثلاثمئة طفل دون سن الثامنة عشرة، وثماني مئة امرأة، وأكثر من نصف عدد القتلى من المدنيين العزل.
وقد أثبتت روسيا انها مستعدّة للذهاب أبعد من ذلك من أجل حماية الأسد وتثبيته، وكل ما تمارسه موسكو من ادعاءات الحياد والحفاظ على الدولة السورية ومؤسساتها ليس سوى تقية، الهدف منها الحصول على مساحات زمنية وسكوت دولي يتيح لها تدمير كل أشكال المعارضة والمقاومة للأسد، ليبقى هو ونظامه من دون ادنى تغيير أو مشاركة في الحكم، ولا شك في أن روسيا تصدق في جزء من روايتها من أنها لا تفعل ذلك محبة بالأسد، لكن ما لم يقله أحد من المسؤولين الروس عن الأسباب الخفية هو جوهر الحكاية ومحتواها.
لقد كشفت حادثة مقتل العميل الروسي ألكسندر برفيشيلليني الذي كان يدير ملفات تبييض الأموال بين نظام الأسد والكرملين، والتي كشفت عنها صحيفة «صنداي تايمز» البريطانية، جزءاً من رأس جبل الجليد من تفاصيل علاقة بوتين والأسد، وهي علاقة يتداخل فيها السياسي بالشخصي والعائلي، جزء من هذه العلاقة تديره مؤسسات الدولة الروسية مع نظيرتها في نظام الأسد، وهي علاقات سطحية، أما الجزء الأكبر من هذه العلاقة فهو ما تتم ترتيباته وإدارته في الغرف الخاصة سواء بين اجهزة الاستخبارات أو عبر قنوات تواصل مباشرة بين قصر المهاجرين والكرملين.
لا يتهيب بوتين من كل أشكال الفساد والانحراف في تعامله مع نظام الأسد، وهو تعامل مريح من دون الخوف من تبعات كشفه طالما ان الأسد ونظامه باقيان في السلطة، من هنا لا يبدو غريباً ان طباخ بوتين يحصل على ربع النفط السوري أو ان يجري استخدام نظام الأسد في عمليات تبييض الأموال للنخبة القريبة من بوتين.
هل يكفي ذلك لتفسير التكتيكات الروسية لإبقاء الأسد في السلطة، واطمئنان الأخير إلى انه ليس فقط باقياً في السلطة وإنما لن يتعرض للمحاكمة، ذلك ان بوتين باق في السلطة في روسيا وتأثيراته لن تنحسر حتى أمد بعيد.
يملك بوتين خيارات عديدة للإبقاء على لعبته في الحفاظ على الأسد إلى أبعد مدى، عبر سياسة تفنيد مصادر الخطر التي تواجهه، مثل تدمير البدائل وإلغاء شرعيتها، وخيار تقاسم النفوذ مع أميركا في سورية، وإرضاء إسرائيل من خلال نشر قوّة روسية في جنوب سورية وطمأنة تل أبيب.
لن يتخلى بوتين عن الأسد. ثمّة ملفات كثيرة يراد للزمن ان يدفنها، حتى لو كان الثمن دفن سورية بأكملها، فإما الأسد أو لا أحد.
حرص الجيش اللبناني، في روايته حول الهجمات التي نفذها جنوده ضد مخيمات للاجئين السوريين في عرسال، إلى استدراج العنصر الأهلي للجماعة التي يستهدفها، متقصداً بذلك الخلط بين ساكني الخيم منزوعي الحصانة القانونية، و«الإرهابيين» الذين يستمد منهم تعريفه الأخير لنفسه.
تعريف، ظاهره «حماية الوطن» وباطنه التناوب بين تطبيق تعليمات دول مهووسة بمحاربة «الإرهاب»، وإرضاء تناقضات الطبقة السياسية المحلية. والأخيرة، إذ اتفقت على تأجيل خلافاتها المفتعلة أصلاً، وجدت في اللاجئ عدواً مثالياً، وتدرجت في لغة عدائه قياساً بالحال الطائفي، الذي ينطوي عليه جمهورها. فالبيان الصادر عن قيادة الجيش زج بطفلة قتلت أثناء الهجمات، جاعلة إياها معادلاً عائلياً للانتحاري، ذاك أن تقارير كتبها صحافيون مقربون من الأجهزة الأمنية، كشفت أن الطفلة ابنة اخ أحد الانتحاريين، وسقطت بسبب تفجيره حزاماً ناسفاً. اللاجئ «الإرهابي»، كما تصوره الرواية العسكرية، وما استتبعها من خيال إعلامي مخطط له، ليس قاتل نفسه فحسب، بل أفراد عائلته، خطره فائض ليشمل المخيم كله، ما استلزم مسح المكان وتخريبه حرقاً وهدماً.
والعائلة – الأهلية، في البيان المذكور، ترمي أيضاً إلى جعل الطفلة شريكة في شبهة «الإرهاب»، وحصر «القاتل» و»ضحيته» في حيز واحد. «الإرهابي» لاجئ وكذلك الطفلة، من مكان واحد يخرج الاثنان وللتخلص من هذا «المرض» لابد من الاستئصال.
وإذا كان الانتحاري مؤبلس بطبيعة الحال بحكم موقعه، فإن الضحية، أي الطفلة، ليس بعيدة عن صورة عمها، فهي المستهدفة من قبل حملة إعلامية عنصرية، ما انفكت تستعدي كل اللاجئين وتصنفهم كأعداء متساوين في الشر، فلا فرق بين نازح وآخر إلا في درجة ضرره. والحملة تلك، تدرجت تبعاً للأحداث الأمنية التي ارتبطت باللاجئين، فقسمت هؤلاء بين «إرهابيين» و»إرهابيين محتملين»، وإن انتمى العم إلى الصنف الأول، أدرجت الطفلة مع الفئة الثانية، لينال الاثنان مصيراً واحداً.
هذا التعسف اتسع كذلك ليشمل المعتقلين، هؤلاء إذ أغفلهم بيان الجيش، تكفل بهم إعلاميوه والمروجون لروايته، فنسبوا زوراً رجالا مذلين ومهانين، إلى تنظيمي «الدولة الإسلامية» و»النصرة». والفرق الزائل بين معتقل و»إرهابي» هو نفسه الذي يماهي بين طفلة وعمها. ثمة استواء صلب لا يحتمل أي تمايزات أو اختلافات. الأطفال والانتحاريون والمعتقلون واحد لا ينفصل، جوهره لاجئ سوري يهدد البلد ويستجلب إليه الخراب. لاجئ، بات ضحية مستويين من الكراهية، الأول مصدره صورة نمطية حيال السوري في لبنان، تمزج بين رجل الأمن والعامل، فيما الثاني يتأتى من الحملة التحريضية التي تستثمر بكل الضغوط الاقتصادية التي تسبب بها النزوح الأخير. والحال فإن المستويين متكاملين، يستدعي كلاهما الآخر لتغذية صورة «العدو».
والجيش الذي يصادر «حزب الله» وظيفته المركزية، وجد في اختلاط اللجوء والإرهاب، فرصة مثالية لتقديم شهادة حسن سلوك أمام الدول التي تدعمه لوجستياً، وتزعم محاربة «الإرهاب». والمحاربة هنا، فعل أمني – استخباراتي، تتعمم في ظله صورة «الإرهابي» ليصبح بيئة واجتماعا، فيتداخل المدني بالعسكري، والخيمة بالمتراس، والسلاح بأدوات الطبخ، ويغدو الكل هدفاً مباحاً. اقتحام المخيمين في عرسال لم يشذ عن هذه القاعدة، بل هو تطبيق حرفي لها بنسخة لبنانية، جرت تغذيتها عبر حملات منظمة اشتركت في صناعتها الطبقة السياسية بمختلف تلاوينها. انمحت الخلافات بين معسكري 14 و8 آذار، توحد الخطاب، وعقدت الطوائف هدنة بإيعاز من قادتها، الذين انصرفوا لاستكمال هواياتهم في تمرير توريث أولادهم وصفقات الفساد وتفصيل قوانين انتخاب على مقاساتهم. وكان اللاجئ ضحية الصفقة فهو الغريب «العدو» الذي يمكن أن يتحمل أخطاء البلد وخطاياه، أمام الرأي العام، فيمتص نقمة الشارع ويستوعبها أفعالاً عنصرية تتكرر بشكل دوري.
والدفاع عن الجيش، بوجه الانتهاكات التي ترتكبها عناصره ضد اللاجئين، وإن تمظهر في فلكلورية لبنانية مملة ومعدومة الخيال، فهو في وظيفته المراد أداؤها دفاعاً عن الطبقة السياسية وارتباطاتها مع الدول المحاربة للإرهاب، لتستوي المعادلة بضرب اللاجئ الذي اختير من قبل السياسيين قرباناً لاستكمال لعبة الحكم بكل منافعها، ورشوة المجتمع بإطلاق يد أفراده لممارسة عنصرية مقززة ما يظهر من نتائجها أقل بكثير مما يحدث في الواقع.
يشكل التصريح الرسمي الذي صدر عن الجيش اللبناني , يوم أمس , حول شهادة معتقلين سوريين تحت التعذيب , و لجوءه إلى تبرير ذلك بأنه عائد لـ "ظروف جوية" , يشكل تطور خطير في المشهد القادم لقرابة 100 ألف لاجئ سوري في عرسال خصوصا و مليون و يزيد في كل لبنان.
الرسالة التي آثر الجيش اللبناني ايصالها , من خلال البيان , هو التأكيد أن الفعل "الآثم" هو شيء سيتكرر و يتتابع دوماً , و لن يكون هناك حاجة لتبريره أو إيجاد مخرج يمتص بعضاً من الاحتقان , إذ تعد الرسالة بأن في لبنان يوجد أيضاً من يقتل السوريين وبالتالي موتوا على يد أبناء ما يسمى "وطن" أفضل من الموت على يد الغريب أو الجار الذي كان ضمن من "ربينا سوا".
الرواية الرسمية التي تبنتها لبنان , كانت "وقحة" لأنها حقيقية , و لكن الحقيقة دوما قاسية و لا تطابق الآمال , إذ كان في امكانه أن يقول أنهم من ضمن من فجروا أنفسهم (كما ادعوا ليقدموا دليل ملموس) , ولكن قول الجيش اللبناني أن ماتوا لديه و في مشهد مشابه لمعتقلات التي توجد لدى الأسد , هي تمهيد أن لا خط للمواربة أو مسعى لمراعاة مشاعر الإنسان في بلد يقال أنه يحب الحرية والديمقراطية .
سبعة أو عشرة ضحايا , هي رقم مبدئي يخفي خلفه مصير مجهول لقرابة 350 آخرين , اعتقلهم جيش لبنان , في 30 حزيران الأسود , ممنوعون من كافة حقوقهم الإنسانية سواء في ظروف الاعتقالات و مسبباته و حق الدفاع عن النفس بتوكيل من يدافع عنهم , في تهمة مطاطة قد تصل حد الإعدام في أي وقت يشاء الجلاد.
السياسيون اللبنانيون (بمختلف الطوائف في بلد الطوائف) يسعون لايجاد تبرير لكل ما حدث أنه يصب في اطار مكافحة الارهاب وإحباط مخططات خطيرة تعصف في بلد , لا يوجد فيه مقومات ليس لدولة فحسب , فقد يكون المنطق حتى العشائرية بعيدة عن هذا النموذج الغريب , الذي يسيطر فيه ارباب ارضيون ممثلون لله بمختلف أشكاله الدينية , يتفوق فيه العابد على المعبود.
اليوم ليس وحدهم السوريون يجب عليهم الوقوف أمام آلة القتل الجديد "القذرة" في لبنان , و لكن حتى اللبنانية أنفسهم عليهم التحرك , قبل أن يصل الأمر لنشهد بشار الأسد ثان عبر عون ومن خلفه حزب الله.
لا يمكن فصل عملية اقتحام الجيش اللبناني لمخيمات اللاجئين السوريين في محيط بلدة عرسال القريبة من الحدود الشرقية مع سوريا، عن الكلام المتصاعد لقيادات حزب الله عن ضرورة التنسيق بين الحكومتين اللبنانية والسورية من أجل التنسيق لعودة اللاجئين إلى سوريا. عرسال ومحيطها كما هو معروف يضمان أكثر من سبعين ألف لاجئ معظمهم قدموا من المقلب الآخر من الحدود أيّ منطقة القلمون السورية التي خاض فيها حزب الله أشرس المعارك ضد الجيش السوري الحر وفصائل المعارضة منذ العام 2013، ونجح في السيطرة عليها بعدما تمّ تدمير معظم الحواضر والبلدات في هذه المنطقة وأشهرها مدينة القصير فضلا عن مناطق أخرى في حمص وريفها.
الجيش اللبناني قبل أيام قام من خلال قوة عسكرية باقتحام المخيم، وسط حملة إعلامية مركزة كان من الصعب خلالها تقصي المعلومات الدقيقة، ففيما تحدث الجيش في بياناته الرسمية عن عملية استباقية استهدفت مخططا جهنميا كان يجري التحضير له في هذه المخيمات ضد مناطق لبنانية، نفت أوساط قريبة من اللاجئين وجود مثل هذا المخطط وتحدثت عن عملية ترويع طالت اللاجئين في هذه المخيمات، وأدّت إلى اعتقال مئات اللاجئين بطريقة وحشية كشفت عنها بعض الصور التي جرى تسريبها خلال هذه العملية وأثرها، كما أنّ بيانات الجيش تحدثت عن خمسة انتحاريين فجروا أنفسهم خلال تنفيذ الجيش عملياته داخل المخيمات ولكن من دون أن يؤدي هذا التفجير إلى سقوط ضحايا من الجيش اللبناني، فيما جرى الحديث عن سقوط طفلة سورية قال الجيش اللبناني إنّها قضت نتيجة التفجير الانتحاري.
للمرة الأولى يمكن الحديث عن عملية عسكرية لا تلقى ردات فعل سلبية من جهات طالما انتقدت عمليات استهداف اللاجئين السوريين. الزعيم الدرزي وليد جنبلاط وحده انتقد استهداف الآمنين في هذه المخيمات داعيا إلى التمييز بينهم وبين المطلوبين، لكنه ما لبث بعد ساعات أن حذف تغريدته، مبررا ذلك بأنه لا يريد أن يساء فهم موقفه، وسوى ذلك خيم الصمت على الجهات السياسية المشاركة في السلطة والتي تفادت تأييد خطوة الجيش أو إدانتها.
وحده حزب الله كان يغرد ويثني على هذه الخطوة ووجه رسالة تهنئة للجيش، بعد أن سرب صورا لطلاب في المدرسة الحربية في الجيش اللبناني وهم يقومون بزيارة إلى أحد مواقعه المدنية والسياحية في مليتا، وهي الزيارة الأولى التي يقوم بها ضباط من الجيش اللبناني لهذا الموقع الذي تمّ إنشاؤه قبل أكثر من عشر سنوات، ولم تكن الزيارة في أصلها وفي توقيتها، مع اقتحام الجيش لمخيمات اللاجئين، إلاّ محاولة من حزب الله لإظهار الجيش اللبناني في موقع المتناغم معه، لا سيما أنّ حزب الله كان من أكثر المؤيدين لخطوة اقتحام مخيمات اللاجئين، لإدراكه أنّ هؤلاء يحملونه مسؤولية تهجيرهم إلى جانب النظام السوري، بعد أن دمرّ بلداتهم وقتل الآلاف من أبنائهم.
لذا خرج نائب أمين عام حزب الله إثر العملية ليطالب الحكومة اللبنانية بالتنسيق مع الحكومة السورية من أجل تأمين “عودة طوعية للاجئين إلى سوريا”، وهذا المطلب ليس جديدا كما هو معروف لكنّه كان مطلبا مرفوضا من قبل أكثر من نصف أعضاء الحكومة الماضية والحالية، انطلاقا من أنّ لبنان لا يريد أن يكون طرفا في الأزمة السورية ويريد أن يكون منسجما مع الموقف العربي الذي اتخذ موقفا مقاطعا لنظام الأسد في سوريا بسبب ارتكاباته ضد شعبه، وعدم نجاح حزب الله في السنوات الماضية في خلق قنوات اتصال علنية ورسمية بين الحكومتين اللبنانية والسورية، لا يمنعه من خلق الظروف الضاغطة التي تساعد بنظره على فتح هذه القنوات، ويتم ذلك من خلال قلب الحقائق، فحزب الله الذي دخل الأراضي السورية عسكريا ورغم الاعتراض الرسمي اللبناني، بدل أن يبدأ من خطوة الخروج من سوريا استجابة لشروط السيادة اللبنانية، يعمل على فرض كل الظروف الضاغطة ليس من أجل عودة السوريين إلى بلادهم بل من أجل إلزام السوريين بالعودة ضمن ما يسميه المصالحات وهي في جوهرها الإقرار من قبل اللاجئين بأنّهم يلتزمون بشروط النظام ويقبلون بشروطه، بكل ما ينطوي عليه ذلك من مخاطر الاعتقال والقتل والانتقام.
ومن جانب آخر يريد حزب الله أن يلزم الحكومة اللبنانية بالعودة إلى حصر العلاقة بالشأن السوري بالنظام نفسه، وهو في هذه المرحلة يستثمر معركة القضاء على الإرهاب الجارية من أجل تعزيز موقع الأسد في المعادلة ومن خلال مواقع تأثيره أي لبنان.
ومن المعروف أيضا أنّ فلول تنظيم داعش وتنظيم جبهة النصرة ما زالت تتواجد في بعض المناطق الحدودية من الجانب الشرقي، وهذه التنظيمات التي لا يمكن النظر إلى معنى تواجدها ونشأتها في سوريا وفي هذه المناطق على أنقاض الجيش الحر، إلا لكونها ساهمت بوعي وبغير وعي في تمدد النظام السوري وفي شيطنة اللاجئين السوريين في لبنان، وكانت أداة طيعة في توفير الحجج والذرائع لنظام الأسد وحلفائه في كثير من محطات الحرب على هذه الحدود. بل يمكن القول إنّ نشأة هذه التنظيمات تمت إلى حد بعيد بدعم من نظام الأسد وحلفائه ضمن الاستراتيجية التي لا تزال مستمرة والقائمة على أن تغطية فظائع نظام الأسد ضد شعبه لا يمكن أن تتم إلا بمحاولة خلق تنظيمات تحترف القتل وقابلة للشيطنة.
لبنان في المرحلة المقبلة يجري تحضيره بوسائل شتى إعلامية وسياسية واجتماعية ومخابراتية لمواجهة مع اللاجئين، ويتم ذلك من خلال تضخيم آثار وجود اللاجئين على البلد، من خلال شيطنة هذا الوجود على الكيان اللبناني، وعبر بث الشائعات وتضخيم أحداث معينة ولصقها بالوجود السوري في لبنان، ومحاولة تحميل اللاجئين مسؤولية الأزمات اللبنانية الاقتصادية والمالية والبطالة، وهو سلوك خبيث من قبل السلطة للتغطية على فسادها وتقصيرها، وللتغطية أيضا على الارتكاب الاستراتيجي المتمثل بتدخل حزب الله في سوريا والذي ساهم في تعميق الشرخ النفسي والاجتماعي بين فئة كبيرة من السوريين وفئة كبيرة من اللبنانيين، ويحاول حزب الله اليوم أن يجعله شرخا لبنانيا سوريا لغاية توريط اللبنانيين في هذا العداء الذي صنعه بالأساس تدخله الفج في الأزمة السورية.
تحويل حياة اللاجئين السوريين في لبنان إلى ما يشبه الجحيم هو الهدف الذي تتجه إليه السياسة اللبنانية والتي يدفع حزب الله نحوها، والغاية منه جعل العودة إلى العيش تحت سلطة نظام الأسد أفضل من البقاء في لبنان، فالمعادلة هي ذاتها إمّا داعش وإما الأسد، وفي لبنان إمّا البؤس والاعتقال أو العودة إلى الأسد. فبعد يومين على اقتحام مخيمات عرسال، احترقت مئات الخيام التي تقيم فيها عائلات سورية في البقاع الأوسط، ومن دون أن تعرف الأسباب إلا أن ذلك يصب في خيار الدفع باتجاه جعل الحياة صعبة إن لم تكن مستحيلة للاجئين السوريين في لبنان، وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه الحوادث التي تطال اللاجئين تتم في مناطق تشكل بيئة حاضنة لهم، وهذا أمر ليس بريئا باعتبار أن الشرخ لم يعد بين بيئة حزب الله والسوريين، بل أيضا في بيئات معروفة بانحيازها إلى تيار المستقبل والرئيس سعد الحريري