
لماذا طرد النظام السوري القنوات الإخبارية -وعلى رأسها الجزيرة- من سوريا أول الثورة ؟
حرص النظام في بداية الثورة على استعداء القنوات الفضائية الاخبارية وطردها من مناطق سيطرته ، كان ذلك دافعاً كبيراً لانحيازها للثورة، وتغطيتها للأحداث عند الطرف المقابل للنظام ، ونقل وجهة نظرهم ، والأحداث التي تقع لديهم ..
كان نتيجة ذلك الاستعلاء والاستعداء للوهلة الأولى أن خسر النظام ورقة هامة وهي "الإعلام" ، واقتصرت تغطيته في مناطقه على إعلام هزيل رسمي وشبه رسمي يحمل اسم قناة الدنيا والإخبارية ، إضافة للمنار ، والميادين ، وروسيا اليوم ..
بينما خسر أوراقاً كبيرة في منظور الإعلام (كالجزيرة والعربية وسكاي نيوز) وما شابهها من قنوات مستقلة إخبارية عدا عن القنوات الثورية السورية كأورينت وسوريا الشعب وشدا وغيرها..
اتجهت المؤسسات الإخبارية المستقلة –موضوع حديثنا- لمناطق الثوار المحررة، وقامت بتغطيتها ، واعتمدت على مراسلين ميدانيين محليين ، أمدتهم بالمعدات ودربتهم ورفعت من سويّتهم ، وأدخلت لبعض المناطق مراسليها الرسميين كمناطق الشمال ، ولعل أحمد زيدان كان من أوائل مراسلي قناة الجزيرة الذين يدخلون المناطق السورية المحررة ويغطون معارك الجيش الحر ، فيما وصل الإعلامي محمود الزيبق إلى قلب الغوطة أيام حصارها ، وقام بتغطية شاملة هناك ..
فضلاً عن عشرات الصحفيين المستقلين أو التابعين للقنوات الاخبارية باللغات المختلفة ، كما رأينا من مراسلي فرنسا وأمريكا وحتى اليابان والصين ..
كسبت الثورة في ذلك داعماً قوياً ، رغم أنّه –هذا الداعم- كان يغطّي الانتصارات والهزائم على حدٍّ سواء ، وما يرفع أويحطّم المعنويّات على حدٍّ سواء ..
كل ذلك ومناطق النظام لا تغني خارج السرب فحسب ، بل وكأنها تعيش في كوكب مختلف ، حيث الإعلام الوحيد المسموح له بالتغطية ، ليس فقط بالكاد يغطي معارك النظام ، بل حتى تغطيته لا ترقى للحرفية المهنية، التي تغطيته فيها جزئية وضعيفة ..
لماذا خسر النظام -في مقتبل عمر الثورة- ورقة الإعلام بهذه الطريقة الفجة، ولماذا خسرت ساحته كل أنواع الإعلام ، عدا بضع قنوات بالكاد تغطي ..؟
كنت قد حضرت قبيل الثورة خلافاً مالياً كبيراً بين مجموعة من التجار ، وكان (شيخ الكار) أحد أهم الأطراف بين التجار المتخاصمين ..
وفي ساعة من نهار التقى به أحد أطراف المشكلة ، أساء معه الأدب ، تشاجر معه ، أمعن في استعدائه ، وبالغ في صنع عداوة مفاجئة معه ، حتى لما حصل اللقاء التالي لبحث الخلافات، لم يحضر الرجل المهم (شيخ الكار) وبعث برسالة مفادها :
١- حلوا مشاكلكم بين بعضكم ، أنا أعتذر عن التدخل ..!
فخلا الجو للتاجر بعيداً عن تدخل ووصاية ومشورة أحد في هذا الخلاف ..
هذا بالضبط ما فعله النظام حين استعدى بشكل غير مبرر القنوات الفضائية وطردها ..
كان يستطيع أن يفتح الباب –كما يفعل الصهاينة مثلاً- ويسمح بحرية تنقل المراسلين طالما أنه لا يستحي أصلاً من جرائمه ، ويثق أن أحداً في العالم لن يحاسبه عليها ، وأنه مهما فعل ، فإن تغطية الحدث ونقله للعالم (كجريمة) لن يقدم ولا يؤخر في المعركة .
ولكنه بالمقابل حرصاً على بيته الداخلي ، وسريّة حركة جيشه ، وحرصاً على أن يكون هو المصدر الوحيد للمعلومات من داخل أرضه ، عسكرياً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً طرد كلّ أحد ، وأبقى على إعلامه الخاص المحدود بالعمل ، المنضبط بالحركة ، الشريك في المعركة .. فكانت كلّ حركة ومعركة وتصريح وحتى صورة ، لا تخرج إلا بضوابط حقيقية لبلد يخوض حرباً عسكريّة وجوديّة ..
هذا فيما المناطق المحرَّرة ، مناطق الثوار –المعادية له- يسرح ويمرح فيها الإعلاميّون ، لا تكاد تجد حيّاً ولا شارعاً إلا وفيه الإعلاميّون ، والمراسلون ، والمصوّرون ، من قلب الحدث وبعدساتهم وأقلامهم وتسجيلاتهم ..
ولا تكاد تتابع معركة إلا وتجد أخبارها في طرف النظام قليلة شحيحة ، وبالكاد تجد صورة أو معلومة فضلاً عن مقطع فيديو..
فيما تجد لدى الثوار تفصيلاً شبه دقيق عن مجريات المعارك والقذائف والغارات والتحرّكات العسكرية ..
وقد شاهدنا على قنواته برنامجاً يسعرض فيديوهات الثوار وإعلامييهم ليستخدمها ضدنا في طرح عملياته وانتصاراته أو قتله للمجاهدين، ليستخدم إعلامنا ضدنا ..
ولعلّ المتابع أيضاً لما يقوم به ((تنظيم الدّولة)) في هذا الصدد ، سيجده يتخذ نفس سياسة النظام حيال التغطيات الإعلامية في مناطقه فلا يجروء أي إعلامي على الاقتراب من مناطقه فيما إعلامه الوحيد هو من يغطي برؤيته وأسلوبه وفكره.
بينما لا سياسة ولا ضوابط ولا أُسس لأية عمليّة إعلاميّة تجري في مناطقنا ، حيث أننا نُخترق بإعلامنا درينا أو لم ندرِ ..!
ولعلي وأنا أكتب هذا المقال أقرأ على شاشة الجزيرة الخبر العاجل (اغتيال أحد قادة أحرار الشام الإسلامية بتفجير استهدفه، ومقتل أسرته و......في منطقة ) .. فقد وصل الخبر الأكيد لمنفذ العملية أنها نجحت ، مع أعداد الضحايا أيضاً ..
كما تصل الأخبار للجيش الروسي -الذي يتدرب في مستعمرته الجديدة- بكلّ هدف يقوم بضربه مع دقة الإصابة وأعداد الضحايا ..
وينبغي هنا التأكيد أنَّي لا أتهم الإعلاميين أو المنظومة الإعلامية بقدر ما أصف واقعاً فرض علينا لربما لا نستطيع الخروج منه ، وأنا عن نفسي طرف في هذا الواقع شئت أم أبيت عندما كنت أغطي معارك الغوطة أو القلمون وحلب ..
ولعلنا إن أردنا أن نخلص بنتيجة إيجابية بعد توصيف هذا الواقع السلبي الذي من الصعب جداً جداً تغييره، فإننا أمام مسؤولية كبيرة في أعناق كل إعلامي ومراسل وصحفي وحامل كاميرا ، أو يملك جوالاً قابلاً للتصوير في كل الأماكن والمناطق المحررة ..
مسؤولية أن نتوقف عن تأطير عملية الإعلام بالنشر والتغطية ، والتصوير والبث ..
لنتوقف عن الاستجداء ، والعويل ، والصراخ ..
لم نعد بحاجة لأن نخبر أحد ، وننادي أحد ، ونري أحد ماذا فعلوا بنا ، على مدار الساعة ..
لننتقل لإعلام بناء ، يبني الفكر ، يوجه الجيل ، يرسم خطى المستقبل ..
لننتقل لإعلام يفتح الآفاق ، ويرسم الاستراتيجيات ، ويخطط للقادم من الأيام .
فنحن لم نعد بحاجة إعلام موجه للخارج ، نحن الآن في ذروة احتياجنا لإعلامٍ محلّي الرسالة ، والاستهداف ..
يوجه رسائله لكل أحد في الداخل ، لا سيما فصائل المجاهدين وقادتهم وثوارهم ..
وأهل المخيمات .. وعاملو الاغاثة ، وشباب المجالس المحلية وكوادر التعليم ..
أياً كانت هذه الرسالة فإنها بالتأكيد رسالة بناء ، فبلدنا لم تهدم حديثاً ، إن معول الهدم يعمل فيها منذ خمسين عاماً ...!!