درعا البلد، التي استفرد بها النظام
في آواخر يوليو الماضي، عندما تقدمت قوات النظام في أطراف درعا البلد، كانت حينها تظن أن المعركة هي أمر ساعات وتنتهي وأن المقاومة لن تتجاوز بعض النقاط، كان النظام محقًا في قراءة الواقع في درعا البلد، لكنه كان مخطئ جدًا في قراءة مشهد الريفين الغربي والشرقي. الساعات الأولى للهجوم شهدت معارك وهجمات في مدن وبلدات درعا، لتتساقط حواجز النظام الواحد تلو الآخر ويطغى مشهد الأسرى والغنائم على مشهد درعا البلد حينها. أوقف النظام هجوم البلد مباشرة وأعاد فتح قنوات الاتصال لتخفيف وتيرة تساقط الحواجز وإنقاذ أسراه.
في ذلك اليوم، شدّت درعا البلد من عضدها بباق حوران، كان جولة انتصار أولى أوضحت للنظام أن معركة ضد درعا البلد هي معركة في كل حوران، ونحن لا نتحدث عن معارك تحرير وسيطرة، بل نتحدث عن هجمات موجعة وضربات مؤلمة ضد الحواجز المنتشرة على الطرقات. هي ذاتها طرقات حوران التي اتسمت بالفوضى الأمنية وضعف السيطرة العسكرية لتشهد ما يزيد عن ألف عملية اغتيال منذ اتفاقية "التسوية" في 2018، ما يعني أن حواجز النظام ستكون لقمة سائغة للضربات والهجمات.
شهر كامل على ذلك المشهد، ماطل النظام في المفاوضات وألتف على التفاصيل وانتفض ضد بعضها وراوغ في أخرى. جرّنا النظام إلى المعركة التي يبدع في الانتصار فيها، معركة شراء الوقت بالمفاوضات، هذا الأسلوب الذي نصح يوما ما وليد المعلم خصومه بتعلم السباحة خوفا من الغرق في تفاصيل المفاوضات. أشترى النظام الوقت، سحب الحواجز الضعيفة وعزز تلك الرئيسية واستقدم التعزيزات وحشّد القوات وأعاد الانتشار وحضر نفسه للجولة الثانية من المعركة. لم يكن النظام يبحث عن معركة انتصار في درعا البلد بقدر بحثه عن معركة لا هزيمة في ريف درعا.
استفرد النظام بدرعا البلد، ووجدت حوران نفسها أمام مشهد لا يشبه ذلك الذي كان قبل شهر ونصف، الحواجز الضعيفة سهلة الضرب غير موجودة، وتلك الأقوى قليلًا باتت أقوى كثيرًا والهجوم عليها بمبدأ العصابات قد يكون ذو تكلفة عالية، واحتمالات تلبية نداءات "الفزعة" من درعا البلد محدودة. استطاع النظام تحييد نقاط ضعفه، بينما خسرت مجموعات المعارضة سلاح العصابات التي امتلكته في الجولة الأولى.
انعدام الخيارات أمام المقاتلين والحاجة الماسة لإنقاذ درعا البلد من هجمة التدمير بالصواريخ الثقيلة، دفع الجميع نحو البحث عن الطرف الوحيد القادر على بدء معركة ضد النظام بما هو أكبر من معارك العصابات. لسوء الحظ كان الفيلق الخامس – أحمد العودة هو ذلك الوحيد القادر على ذلك. لسوء الحظ لأن العودة مازال معادلة غير مفهومة في مشهد حوران، كثيرون ينتظرون من العودة التدخل وتغيير المشهد والمعادلة ولجم النظام ولعب دور أكثر فاعلية في حماية ودفع الأذى عمن كان يومًا شريكًا في البندقية في تحرير معقل العودة الأكبر في بصرى الشام نفسها. لسوء الحظ لأن السؤال الذي كان يجب طرحه قبل تعليق الآمال بالعودة، هو أنك في أيّ الطرفين تقف؟ الإجابة بسيطة للغاية، العودة في طرف النظام وإن لم يشارك في الهجوم على درعا البلد، حيث لا يحتاجه النظام في الهجوم، العودة في طرف النظام لأنه ببساطة ليس في الطرف الآخر الآن.
إن الفيلق الخامس كان الفخ الذي نصبه الروس لحوران قبل ثلاثة سنوات، الفخ الذي سقطت فيه وسائل إعلام عديدة ومقاتلون بالمئات ومدنيون بالآلاف، تم اختراع الفيلق وتصويره بأنه الضامن ضد انتهاكات النظام والرادع لتمدد الميليشيات الطائفية في جنوب سوريا، رغم أن الفيلق لم يلعب هذا الدور أبدا، بل اصطاد الفرص لتصوير هذا الدور فقط.
في مارس 2020، دخل الفيلق معززا بالمقاتلين لتصوير مشهد وساطة في الصنمين، رغم أن الصنمين حينها كانت قد أنجزت كل شيء مع النظام. في مايو 2020، دخل الفيلق برتل مجلجل إلى قرفا لتصوير مشهد لجم النظام عن اعتقال عدد من أبناء البلدة وإطلاق شعارات التهديد للمطالبة بإطلاق سراحهم، لم يطلق النظام سراح أحد في حينها. في يوليو 2020، صور مقاتلو الفيلق مظاهرات ورددوا شعارات ضد النظام ثم ذهبوا إلى سلمى في ريف اللاذقية لمساندة النظام ضد فصائل المعارضة هناك. الفيلق ليس في صفهم، ودرعا البلد فضحت كل شيء.
استفرد النظام بدرعا البلد، وحوران كلها اليوم أمام مشهد سترسمه درعا البلد بنفسها، الصمود سيكون صمود لطفس وريف درعا الغربي، وسقوط درعا البلد سيتبعه سقوط كثيرون ولن يكون العودة ومن معه بعيدون عن ذلك أبدا.