الثورة السورية وغنائم الحرب
منذ أكثر من عام كتب أحدهم على صفحته في التواصل الاجتماعي عبارة قصيرة، لكنها تحمل الكثير من الألم والغضب، ولكي أورد العبارة لابد من أن ألطّف من صياغتها، بحيث تصبح على الشكل التالي: اللعنة على أول واحد تحدث عن الغنائم في الثورة السورية ".
إن المطلع على واقع الحال يدرك بسهولة ما يعنيه صاحب العبارة، فالحديث عن الغنائم والسعي لها قد أضر كثيراً بالثورة السورية منذ بدايتها وحتى الآن، نظراً لما آلت إليه الأمور بعد الأخذ بهذا المبدأ الحربي الذي كان سائداً في الماضي.
وللتوضيح فإن الغنائم بحد ذاتها ليست فرضاً من فروض الإسلام ولا واجباً من واجباته، وإنما هي نظام اقتصادي واجتماعي أملته الضرورة، لإعطاء المقاتل ثمرة جهده في أية معركة أو غزوة يشترك فيها، ثم بعدها يذهب ليمارس عمله المعتاد في حياته اليومية. هذا ما كان سائداً في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وما بعده بقليل، ثم بدأ يتخذ أشكالاً تطبيقية أخرى مع تطور مؤسسات الدولة وترسيخها في أرض الواقع.
وتوزيع الغنائم لم يكن يتم بشكل عشوائي، كما قد يتصور البعض، وإنما كان له نظام خاص حدده الرسول الكريم، فبعد انتهاء المعركة والاستيلاء على الغنائم كان يطلب من "بلال" أن ينادي على المقاتلين، ليأتوا بغنائمهم فيقوم الرسول بتوزيعها بنفسه، بحيث ينال الراجل سهماً والفارس ثلاثة أسهم، والمتزوج سهمين وغير المتزوج سهماً واحداً. وفي حال أخفى أحد المقاتلين جزءاً من غنيمته، فسوف يحاسب عليه يوم القيامة حساباً عسيراً، وحتى إذا قتل في المعركة فلا يعد شهيداً. هذا هو مضمون هذا هو مضمون الغنائم حسبما جاء في السنة النبوية.
وبعد أن تطورت الدولة العربية الإسلامية، وتكونت الجيوش النظامية، وأصبح المقاتل جزءاً من الجيش في أيام الحرب والسلم، اختلفت الأمور، وأصبحت الغنائم تنقسم إلى ثلاثة أقسام " ثلث للجند، وثلث للبناء، وثلث مدخر ". يوضع في بيت مال المسلمين.
إن ما دفعني إلى هذه المقدمة المختصرة، هو ما حدث بعد قيام الثورة، فلأسباب معظمها خارجية تم دفع الثورة باتجاه "الأسلمة"، وفي جانب كبير منها كانت أسلمة متشددة. وكان من المغري أن يتم الأخذ بتطبيق مبدأ الغنائم، ولكنه مع الأسف كان تطبيقاً بعيداً جداً عما كان يجري في زمن الرسول أو بعده، فقد صار أشبه بالفوضى العارمة، حيث دخل على الخط الكثير من الطامعين بالغنائم، والقليل من الطامحين لتحرير الوطن من سلطة الأسد وأعوانه، فاغتنام بندقية أو رشاش أو قاذف، يعد غنيمة للشاب العاطل عن العمل، ولاسيما ممن لا يمتلك ثقافة دينية ووطنية.
وقد ساعد في ذلك عدم وجود أية ضوابط في الحصول على الغنائم ولا في توزيعها، لاسيما بعد أن تعددت الفصائل وتنافرت في الغايات والأهداف حتى أصبح التناحر سمة من سمات العديد من تلك الفصائل، والكل مدرك تماماً أن ذلك يشكل خطراً على الجميع من ثوار وشعب ووطن، فالعدو بأنواعه أخذ يستولي على مكتسبات الثورة جزءاً بعد آخر من الأرض المحررة نتيجة لهذا التناحر المقيت.
في محافظة إدلب انفلات أمني مخيف، وعلى الرغم من أنها مهددة بكارثة حربية محتملة أقسى وأشد من كارثة سقوط حلب، إلا أن الفصائل لا تزال تتقاتل فيما بينها، وتمارس مبدأ الاستيلاء على الغنائم بأية وسيلة ومن أية جهة كانت.
ومن تلك الوسائل ما نقلته وسائل الإعلام منذ مدة، ليست بالبعيدة، من هجوم شنه ملثمون على أحد المقرات التابعة لفيلق الشام في إحدى مناطق إدلب، وذكر الناطق باسم الفيلق أن الملثمين عمدوا إلى الاستيلاء على السلاح وخطفوا عناصر الموقع واقتادوهم إلى جهة مجهولة.
وفي بيان سابق اتهم فيلقُ الشام فصيلَ جند الأقصى في ريف حماة الشمالي، بممارسة أعمال " تشبيحية وأفعال همجية" قد تؤدي إلى سقوط هذه المناطق بيد قوات الأسد وانسحاب الثوار ". والمؤلم أن هذا الكلام من فيلق الشام يعد تمهيداً لانسحاب مرابطيه من بعض الخطوط الأمامية في حال استمرت هذه الاعتداءات على مقراته.!!.
ومع عدم إغفالنا ما يمارسه شبيحة الأسد من تعفيش مخجل في الأماكن المدنية التي وقعت في أيدهم، بشكل يدعو إلى السخرية قبل الاستنكار، ولكننا الآن نريد أن نركز على ما جرى في مناطق عدة في إدلب من ممارسات مؤلمة، فبحسب الوقائع المعروفة على الأرض قامت بعض الفصائل بالسطو على عشرات المنشآت العامة من صحية وخدمية وحتى من معامل ومصانع، ومنها معمل سكر جسر الشغور ومحطات توليد الكهرباء إضافة إلى المناطق الأثرية والمتاحف، وتفكيك عربات القطار التي كانت موجودة في محطة "محمبل".
كما قام مجهولون مؤخراً بتفكيك خط سكة الحديد لمسافة كبيرة، ونقل المحتويات إلى جهة مجهولة، في مشاهد وصفها البعض بأنها مرعبة حقاً، وسط غياب تام لأي رقابة من أية جهة، رغم وجود اتهامات مبطنة لفصائل بعينها تقوم بهذا الفعل تحت بند "الغنائم".!!.
وهكذا تحولت العقول "الثورية" أو بتعبير أدق "الجهادية" إلى عقول فاسدة ومفسدة ومنفلتة، في الوقت الذي يزعم أصحاب هذه العقول أنهم لا يفعلون إلا كما أمرهم الله، والله من معظم أفعالهم براء، ومع ذلك يصرون على أحقيتهم في امتلاك الغنائم، حتى ولو كانت من الأملاك العامة، دون أن يلتفتوا إلى الضوابط التي كانت سائدة في زمن الرسول الكريم وبعده، ودون أن يدركوا أن الغنائم، مثلها مثل الأنفال التي نُسخت بزوال أسبابها، من هنا انتفى تطبيق أسلوب الغنائم الحربية كما كان سائداً في عهد الرسول، نظراً لتوفر البدائل الأكثر نجاعة وفائدة، والأقل إرباكاً، ففي عهد الدولة الأموية وما بعدها أُحدثت دواوين الجند وغيرها من الدواوين التي تسهّل أمور الدولة وخدماتها المتنوعة، وأصبحت العطاءات المادية بديلاً عن توزيع الغنائم التي أخذت طريقها إلى مخازن بيت مال المسلمين، ثم تُصرف في الوجهة التي تتطلّبها المصلحة العامة، وليس الخاصة.
وهذا ما كان يجب على الفصائل المسلحة أن تفعله، ولكنه لم يحصل إلا نادراً، فالظروف القاسية التي عاشتها وتعيشها الثورة جعلت العديد من الفصائل تسلك طريق الفوضى، الغريبة، العجيبة، وتسيّدت الأنانية والغايات الشخصية على حساب الإيثار والمصلحة العامة.
وقد ساهم في كل هذه المآسي أسباب عديدة أُشبعت عّجناً وخَبزاً، ومنها فشلُ القائمين على الثورة في تشكيل قيادة عسكرية واحدة تجمع الفصائل المقاتلة في جيش ثوري واحد ينضوي تحت جناحيها، ولو كان حدث ذلك لأصبح الجيش الثوري المفترض قوةً فاعلة على الأرض، يمكن له أن يعالج الفوضى السائدة، ويجعل الانتصار ممكناً على من يدمر الوطن ويبيد الشعب، ومع ذلك ظل قواد تلك الفصائل يصرون على ضلالهم، ويتنصّلون من الانضواء تحت قيادة واحدة وراية واحدة، وهم يعلمون علم الأكيد بأن الكل مهددون بحياتهم ومصيرهم من قبل عدو لم تشهد بلاد الشام مثيلاً لحقده وطغيانه في تاريخها الطويل، مع أن غريزة البقاء تدفع أي إنسان وحتى أي حيوان إلى البحث عن طريق للنجاة، وليس إلى الغوص في مستنقع الهلاك.