الأحزاب السياسية السورية والخدمات المجانية
كان لحالة الاستبداد السياسي في سوريا، واستمرار قوانين الطوارئ والأحكام العرفية لنصف قرن من الزمن، واحتكار السلطة وفرض الوصاية على الشعب وقواه الحية، والاستئثار بالقرار الوطني، أثر بالغ في افتقار الشارع السوري إلى ثقافة حزبية وافتقار الوعي السوري العام إلى فهم طبيعة الدور الذي تسهم من خلاله الأحزاب السياسية في رسم سياسة الدولة، لهذا أتى مطلب السماح بتأسيس الأحزاب من أبرز المطالب السورية طوال الفترة الماضية التي اتسمت بغياب مفهوم التعددية وهيمنة حزب البعث على قيادة الدولة والمجتمع، وتجميد عمل الأحزاب السياسية منذ العام 1972 في ما يسمى الجبهة الوطنية التقدمية للإيحاء بأن هناك أحزابا معارضة وممثلة في الحكم.
أدى الحراك السوري منذ انطلاقته إلى تفعيل الحياة السياسية السورية، ومع صدور قانون الأحزاب في أغسطس 2011 تم الترخيص لعدد من الأحزاب الجديدة المتنوعة في اتجاهاتها السياسية، كما ظهرت تشكيلات قريبة من النظام وتمتلك رؤية مشابهة لرؤيته، بالإضافة إلى تشكيلات معارضة متنوعة ذات فعالية محدودة، بعضها مكون من عدد من الشخصيات المعارضة المستقلة والثقافية، غير أن أهم التشكيلات السياسية المعارضة هي هيئة التنسيق الوطني للتغيير الديمقراطي في سوريا، وتعدّ تجمعا لقوى مختلفة بالرؤية السياسية إذ تضم ممثلين عن أحزاب يسارية وقومية وإسلامية معتدلة، ورموز المجتمع المدني، والعديد من رموز الثوار، وقد لخّصت عملها ضمن ثلاثة أهداف؛ “لا للتدخل الأجنبي، لا للعنف، ولا للطائفية”، وهي رغم ادعائها تمثيل المعارضة الداخلية، إلا أنها لم تتمكن من قيادتها أو تمثيلها سياسيا، كما لم تستطع أن تكسب التأييد الشعبي اللازم.
أحزاب الداخل لم تخرج من حالة الشلل في قدرتها على العمل وفي تحقيق غاياتها عبر خلق قاعدة شعبية لعملها السياسي لأسباب عديدة منها اعتمادها على منطق أيديولوجي وخطاب سياسي يبتعد عن مقاربة الواقع الاجتماعي المعيش، وبقاء هذه القوى محكومة بالأطر الشخصية والحزبية، وعدم قدرتها على مأسسة العمل الحزبي، وإخفاقها في تفعيل دورها على الأرض الذي لا يبتعد عن مسألة تطبيق مبدأ التمثيل، الذي يقتضي توفر إمكانية العمل الدؤوب للوصول إلى تحقيق تطلعات غالبية السوريين بإسقاط نظام استبدادي، والأخذ بأيديهم في جميع القضايا والمسائل، إضافة إلى التعامل مع المتغيرات والمستجدات في الداخل والخارج.
إخفاق التمثيل الذي تعانيه معارضة الداخل ينطبق بصورة أكبر على المعارضة الخارجية، والتي رغم احتكارها للمشهد السياسي منذ مؤتمر أنطاليا في صيف العام 2011، مرورا بإعلان تأسيس المجلس الوطنيّ السوري في إسطنبول في العام نفسه، إلى إعلان تأسيس الائتلاف الوطني في الدوحة على أنقاض المجلس، وحتى مؤتمر الرياض وتشكيل الهيئة العليا للتفاوض التي انبثقت عنه، استمرت في مراكمة فشلها بعدم قدرتها على امتلاك أي رؤية وطنية لكيفية الحل، فبدأت بخسارة الثقة الشعبية منذ لحظة ولادتها، وعدم امتلاكها لأي فكرة عن آلية العمل المؤسساتي وأهميته في بناء إطار عمل وطني قادر على جذب السوريين للخوض في مقارعة النظام، وإقناع المجتمع الدولي بمخططها وأسلوب عملها بحيث تكون مصدر ثقة وبديلا عن النظام، فما بات يعرفه الشارع السوري يعرفه المجتمع الدولي، وهو أن ما تم تأسيسه في الفترة الماضية هو تصورات لمؤسسات قائمة بفعل تمويلها من الخارج، ولا يحتاج قرار إغلاقها إلى أكثر من اتفاق دوليّ إقليمي يستطيع أن ينهي ما يسمى تشكيلات المعارضة الخارجية، أما التشكيلات الحزبية الداخلية فقد استمرت في لعب دورها كأحزاب أو تشكيلات أزمة لا أكثر، ولاتزال تقدم طروحاتها النظرية في سياق بات أحوج ما يكون إلى الطرح العملي ضمن أطر قانونية في التنشئة والتأهيل والتنمية السياسية.
الواقع الحالي بقدر ما يبدو مخيبا للآمال، يستدعي المزيد من التفكير والعمل في آن معا لتجاوز المأزق السياسي السوري، وإنشاء كتلة وطنية تعتمد مبدأ الشراكة السياسية وتأخذ بزمام المبادرة في العمل على برامج وسياسات واضحة تكون مرجعيتها من السياق الاجتماعي لحياة المواطنين، وتعبّر عن الاحتياجات الحقيقية للمجتمع بكافة أطيافه، مطوّعين كافة الأفكار والنظريات لخدمة هذا الهدف، فهو الحل الممكن لشرعية التمثيل واضطراب الخطاب السياسي وتخبّطه الذي يقدّم خدمات مجانية للنظام وللميليشيات وحاملي حقائب المال السياسي.
فعمق الأزمة أيا كانت أسبابه وحالة الانقسام سيقف حجر عثرة أمام فرض احترامها على الشعب والمجتمع الدولي، ولن تؤهل لقيام بدائل النظام الحالي الذي يزداد تمسكا بزيادة أمد الحرب رغم كل الفناء الذي يعيشه الشعب.