المرأة بين القيود والوصمة: حين تُدان بلا ذنب
المرأة بين القيود والوصمة: حين تُدان بلا ذنب
● تقارير إنسانية ١٢ مايو ٢٠٢٥

المرأة بين القيود والوصمة: حين تُدان بلا ذنب

اعتادتْ مجتمعاتنا المحافظة تحميل المرأة أضعاف ما يُحمّل للرجل في المواقف الصعبة، إذ يُربط الشرف غالباً بالنساء دون غيرهن. كثير من النساء اشتكين من نظرة المجتمع القاسية، خاصة عند تعرضهن لتجارب كالتوقيف أو الغياب القسري، فواجهن أحكاماً جائرة وتأويلات مسيئة تمسّ سمعتهن وكرامتهن.

قصة "ميرا" والشائعات التي تُلاحق النساء
حين انتشرت قصة هروب "ميرا" من منزل والدها للزواج، استذكرت إحدى السيدات معاناتها بعد اعتقالها، إذ واجهت شائعات وتهماً كاذبة، أبرزها أنها هربت مع حبيبها، مما سبب ألماً بالغاً لعائلتها. علّقت قائلة: "لم يكن الأمر سياسياً بقدر ما كان نتيجة مجتمع فارغ يتلذذ بالخوض في أعراض الناس".

وأضافتْ أن آلاف التعليقات كانت تردد: "هربت لتتزوج"، أو "كانت مضطهدة في بيت أهلها"، بينما رفض البعض تصديق أنها معتقلة أصلاً، واعتبروا ما حدث لا علاقة له بالثورة. وأكدت أن أثر تلك التجربة لا يزال حاضراً في حياتها، قائلة: "حتى اليوم، لم أنم. عودة ميرا أعادتني إلى قصتي... أياً تكن حقيقتها، أفكر بها وبأهلها، وبخذلان هذا المجتمع".

الظلم الاجتماعي بعد الاعتقال: وصمة تلاحق الناجيات
وقد اشتكت العديد من الناجيات من الاعتقال من الظلم الاجتماعي الذي يلاحقهن بعد خروجهن، بسبب تداول أقاويل مسيئة بحقهن، يعود أصلها إلى اعتقاد سائد بأن كل معتقلة تعرضت حتماً للاغتصاب، وهو أمر غير مؤكد في جميع الحالات.


 أسهمت بعض وسائل الإعلام، من خلال الإفراط في تسليط الضوء على قصص الاعتداء الجنسي داخل المعتقلات، في ترسيخ هذه الصورة النمطية. ونتيجة لذلك، ما إن يُعرف عن امرأة أنها كانت معتقلة، حتى تتشكل عنها تصورات مشوهة تؤثر سلباً على حياتها الشخصية ومكانة عائلتها الاجتماعية.

خوف الناجيات من الظهور الإعلامي: بسبب الوصمة الاجتماعية
هذه الوصمة دفعت العديد من الناجيات إلى العزوف عن الظهور الإعلامي أو المشاركة في جهود التوثيق. خلال عملنا على هذا الملف، تواصلنا مع إحدى الناجيات بهدف توثيق تجربتها ومشاركة قصتها، وقد أبدت في البداية استعداداً للحديث، لكنها بعد نحو عشر أيام، اعتذرت عن المتابعة بسبب خطوبتها، إذ طلب منها خطيبها عدم التواصل مع الصحفيين حفاظاً على خصوصيتهم وتجنباً للتعليقات التي من الممكن أن ترد. احترمنا رغبتها، باركنا لها الخطوبة، وقررنا الانسحاب.

وبالمثل، رحبت ناجيات أخريات بفكرة المشاركة، لكنهن وضعن شرطاً أساسياً، وهو استخدام أسماء مستعارة ضمن المادة الصحفية، مع تعديل بعض التفاصيل المتعلقة بمكان الإقامة أو الانحدار الجغرافي، خوفاً من أن يتعرف عليهن أحد، مما قد يتسبب لهن أو لعائلاتهن بوصمة اجتماعية أو مضايقات لا يرغبن بخوضها.

تجربة "رقية" والشائعات الملاحقة
تروي رقية، وهي شابة أُوقفت على حاجز لقوات النظام عام 2015، قائلة: "كنت أعود من مدينة حماة، التي كانت تحت سيطرة نظام المجرم بشار الأسد، إلى قريتي في ريف إدلب الجنوبي. كانت الحافلة تقلّ عددًا من أبناء القرية، ولم أكن وحدي. لم يُطلب من أي امرأة النزول، ولم يُجرِ العناصر حديثاً معنا، بل اقتصر الحديث على الرجال. 


وتضيف: رغم ذلك، لاحقتني الشائعات، وتعرض والدي لكثير من الكلام الجارح، إذ بدأ الناس يلومونه لأنه سمح لي بالسفر لإكمال دراستي الجامعية في حماة. مرت نحو عشر سنوات على الحادثة، وما زال البعض يتحدث عنها، رغم أنني لم أُعتقل، ولم يُحقق معي، ولم أغادر الحافلة أصلاً"

وتابعت: "في إحدى المرات، كنت برفقة والدتي في زيارة إلى منزل أحد الأقارب. كانت الغرفة مكتظة بأشخاص أعرف بعضهم، وآخرين لا أعرفهم. فجأة، قالت لي إحدى الحاضرات أمام الجميع: (مو أنت اللي نزّلوكي العساكر على الحاجز؟) شعرت والدتي حينها بإحراج شديد، فغادرنا المكان فوراً".

التعليقات الجارحة بعد الخروج من السجن
تضيف إحدى الناجيات: "بعد خروجي من السجن، تفاجأت بكمّ التعليقات غير اللائقة التي كنت أسمعها من الناس، دون أي مراعاة لتأثير الكلام على من مرّ بتجربة قاسية. ما معنى أن يسأل أحدهم فتاة: هل حصل معك شيء؟ ثم يعلّق على إجاباتها بالتشكيك أو الاستغراب، وكأن الألم بحاجة لإثبات حتى يُصدق. لم أتعرض للاغتصاب، لكن نظرات الناس وأسئلتهم كانت كفيلة بأن تجعلني أشعر وكأني أُدان لمجرد أنني اعتُقلت."

دور الإعلام والمجتمع في التصحيح
لمواجهة هذا الظلم المجتمعي، يبرز دور الإعلام المسؤول في تفكيك الصورة النمطية المرتبطة بالمعتقلات، وتسليط الضوء على تجاربهن بكرامة واحترام. كما تُعد حملات التوعية المجتمعية والدعم النفسي للناجيات خطوات ضرورية، إلى جانب سنّ قوانين تجرّم التشهير وتحمي النساء من الوصمة الاجتماعية. إتاحة المجال للناجيات لرواية قصصهن بأمان قد يكون بداية تغيير حقيقي في نظرة المجتمع.

نحو مجتمع أكثر عدالة
يبقى التحدي الأكبر ليس في خروج النساء من المعتقل، بل في خروجهن من دائرة الشك والوصمة المجتمعية. فاستعادة الكرامة لا تكتمل إلا حين يتوقف المجتمع عن معاقبتهن مرتين: مرة على ما تعرضن له، ومرة على ما لم يفعلن. إن منح الناجيات مساحة آمنة للبوح، ومساندتهن بدل التشكيك بهن، هو الخطوة الأولى نحو عدالة اجتماعية طال انتظارها.

الكاتب: سيرين المصطفى
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ