مستعرضة التجربة الفرنسية .. عهد زرزور: إصلاح المناهج يبدأ بتحرير التعليم من السياسة
قالت الكاتبة والناشطة السورية عهد زرزور، إن المناهج التعليمية في سوريا ما تزال أسيرة الإرث الذي خلّفه نظام البعث، إذ ظلت طوال عقود أحادية المصدر والرواية، مكتوبة من جهة واحدة تحتكر الحقيقة وتمنع النقاش، ما حوّل التعليم إلى أداة دعاية سياسية لا إلى وسيلة لبناء الوعي والمعرفة.
وأوضحت زرزور في منشور على صفحتها على "فيسبوك"، أن مرحلة ما بعد سقوط النظام لم تشهد تحولاً مؤسسياً حقيقياً، بل اتسمت بـ محاولات متسرعة لتغيير المناهج تمت بقرارات شخصية وتوجهات سياسية ضيقة، بعيداً عن أي مرجعية علمية أو لجان مستقلة، وهو ما يهدد بتحويل المناهج إلى "ساحة صراع بين الجهات النافذة" بدل أن تكون إطاراً وطنياً مشتركاً للتفكير والنقد.
التجربة الفرنسية نموذج في السيادة التعليمية
واستعرضت زرزور تجربتها خلال عملها في وزارة التربية الوطنية الفرنسية (Éducation nationale) منذ عام 2020، مشيرة إلى أن فرنسا تقدّم نموذجاً متقدماً في إدارة المناهج باعتبارها مسألة سيادة علمية ووطنية لا أداة سياسية.
وتتولى هذه المهمة جهة رسمية تعرف بـ المجلس الأعلى للمناهج (Conseil Supérieur des Programmes)، التابع مباشرة لوزارة التربية، ويضم نخبة من الأكاديميين والمفكرين والمؤرخين والخبراء التربويين، ممن يعملون على تحديد الأهداف المعرفية والمهارية لكل مرحلة دراسية، ضمن رؤية علمية دقيقة ومستقلة.
وأضافت أن الوزارة، بعد اعتماد البرامج الرسمية، تُصدر ما يُعرف بـ “الوثائق الإرشادية” (Documents d’accompagnement)، وهي أدلة تفصيلية تساعد المدرسين على تطبيق المناهج بحرية فكرية ومنهجية، دون إلزامهم بكتاب واحد، بل تتيح لهم اختيار المراجع والمصادر بما يتوافق مع الإطار الوطني للمناهج.
حرية مسؤولة ورقابة علمية
وبيّنت زرزور أن المدارس الفرنسية تخضع لنظام تفتيش أكاديمي دوري يعرف باسم “inspection”، هدفه ضمان الالتزام بالمنهج العلمي وليس مراقبة الآراء أو المواقف، فالمدرس يتمتع بحرية واسعة في الطريقة والأسلوب، لكنه مقيّد بالإطار الوطني للمناهج لا بتوجهات السلطة، مما يخلق توازناً بين الحرية الأكاديمية والانضباط العلمي، ويمنح التعليم بعداً نقدياً يعزز ثقافة التفكير والمساءلة بدلاً من التلقين.
التاريخ مجال للنقاش لا للعقيدة
وأكدت زرزور أن التجربة الفرنسية في تدريس التاريخ تقوم على اعتباره مجالاً مفتوحاً للنقاش والتحليل، لا عقيدة مغلقة، يتعلم الطالب أن يقرأ الوثائق، ويميز بين الروايات، ويكتشف التحيزات، ويقارن بين المصادر بعقل نقدي. كما تُشرف لجان علمية تضم مؤرخين من مدارس فكرية متعددة — وأحياناً من دول أخرى — على وضع الأطر العامة للقضايا الحساسة مثل المحرقة والاستعمار، بما يضمن تعدد زوايا النظر بدلاً من فرض سردية واحدة.
رؤية لبناء تعليم وطني مستقل
وشددت الكاتبة على أن بناء منظومة تعليمية وطنية في سوريا يتطلب تحرير المناهج من الهيمنة السياسية، ووضع إطار علمي متوازن يقوم على ثلاث ركائز رئيسية "لجان علمية مستقلة تضع الأطر المعرفية وتضمن حياد المناهج، وقوانين تحمي حرية المدرسين الأكاديمية وتمنع التلقين الإيديولوجي، ومنصات مراجعة ومساءلة دورية تضم مؤرخين وأكاديميين لمتابعة المناهج بعد صدورها وتطويرها بشكل مستمر".
التاريخ أداة وعي لا أداة سلطة
وختمت زرزور بالقول إن سوريا الجديدة تحتاج إلى مناهج تعليمية تحرر التاريخ من السياسة وتغرس في الأجيال القادمة حب السؤال والبحث لا الترديد والتلقين، مؤكدة أن المطلوب ليس "تاريخاً جديداً" أو "سردية بديلة"، بل طريقة جديدة في النظر إلى التاريخ — إلى تاريخ سوريا القاسي والمضيء في آن، وتاريخ العالم الذي يحيط بها.