
"محكمة الإرهاب في سوريا": هكذا استخدم نظام الأسد القضاء لتكريس الاستبداد
في أعقاب تصاعد الحراك الشعبي السوري في عام 2011، سارع نظام بشار الأسد إلى تعديل أدواته القمعية، مُبدّلاً الأسماء ومُحافظاً على الوظيفة. فجاء تأسيس "محكمة قضايا الإرهاب" عام 2012 كأداة جديدة بلبوس قانوني، استُخدمت بفعالية خلال أكثر من عقد لسحق المعارضة وملاحقة النشطاء وتصفية خصوم النظام، تحت مظلة "مكافحة الإرهاب".
التأسيس: من محكمة أمن الدولة إلى "محكمة الإرهاب"
صدر المرسوم التشريعي رقم 22 بتاريخ 26 تموز/يوليو 2012، معلناً إحداث محكمة تختص بالنظر في "قضايا الإرهاب"، لتحلّ محل محكمة أمن الدولة العليا التي أُلغيت ظاهرياً في سياق ما زعمه النظام من إصلاحات دستورية. لكن الواقع كشف سريعاً أن هذه المحكمة لم تكن إلا استمراراً لمحاكم الطوارئ الاستثنائية، تمّت هندستها لتكون أكثر مرونة في خدمة الأجهزة الأمنية.
ورغم تسميتها القانونية، لم تكن المحكمة معنية بالإرهاب كما يُفهم دولياً، بل صُمّمت لتجريم الحراك الشعبي، وشرعنة الاعتقال السياسي، وإضفاء غطاء قانوني على ممارسات الأجهزة الأمنية.
مهامها القانونية... والمخفية
تبدو مهام المحكمة، بحسب المرسوم التأسيسي، واضحة: النظر في الجرائم التي تُهدد أمن الدولة والمجتمع. لكنها، منذ إنشائها، تحولت إلى مسرح لمحاكمة كل من تجرأ على معارضة النظام، سواء بالمظاهرة أو الكلمة أو حتى تقديم المساعدة الإنسانية.
لم تكن المحاكمة عادلة بأي حال: غابت فيها الضمانات القانونية، واُستُخدمت الاعترافات المنتزعة تحت التعذيب كأدلة إدانة، وسُلب المعتقلون من حق الدفاع. آلاف المعتقلين نُقلوا إلى هذه المحكمة بعد سنوات من الاحتجاز، دون محامين، ودون لوائح اتهام واضحة.
أداة قمع بيد الأجهزة الأمنية
تحوّلت المحكمة إلى ما يشبه ملحقاً لدوائر الأمن، حيث تلعب النيابة فيها دور "السكرتارية" للأفرع الأمنية، التي تُحيل إليها الملفات بعد انتزاع الاعترافات بالقوة. عمل القضاة أشبه بالمصادقة على تقارير التعذيب، لا النظر في أدلة أو استجواب شهود.
ووثقت "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" أن المحكمة كانت الأداة الرئيسة لملاحقة عشرات آلاف السوريين، بما فيهم طلاب جامعات، إعلاميون، أطباء، عاملون في منظمات إغاثية، وحتى قُصّر. كما استُخدمت المحكمة لإصدار أحكام بالإعدام والسجن المؤبد بناء على تقارير أمنية أو نشاط إعلامي، وسط تجاهل تام لقواعد المحاكمة العادلة.
محكمة تصادر الحقوق والممتلكات
لم تكتف المحكمة بحرمان المواطنين من حرياتهم، بل تجاوزت ذلك إلى مصادرة ممتلكاتهم. فبموجب المرسوم رقم 63 لعام 2012، أُعطيت المحكمة صلاحية الحجز على الأموال المنقولة وغير المنقولة لأي شخص تُوجه له تهمة الإرهاب، حتى وإن كانت غيابية.
المراحل التي مرّت بها المحكمة||
12012–2014: التأسيس والانفجار القمعي
شهدت المحكمة في سنواتها الأولى تدفقاً غير مسبوق من القضايا القادمة من أجهزة الأمن، وكانت محاكمات المتظاهرين السلميين عنوان هذه المرحلة. آلاف السوريين أدينوا بتهم فضفاضة مثل "إضعاف الشعور القومي" أو "التحريض على أعمال إرهابية".
2015 - 2018: استهداف المجتمع المدني
انتقلت المحكمة لتجريم العمل المدني، حيث شملت قائمة المتهمين نشطاء إعلاميين، عمال إغاثة، محامين، وأكاديميين. تصاعد عدد الأحكام الطويلة بالسجن، وبرزت تقارير عن ابتزاز مالي ممنهج مقابل تخفيف الأحكام أو تسريع الإجراءات.
2019–2021: تغييرات شكلية وتجميل الواجهة
أُعلن نظام الأسد عن تغييرات في بنية المحكمة شملت تعيينات جديدة، لكن التقارير أكدت أن سلوكها القمعي لم يتغير. تغييرات صورية لم تطل البنية الأمنية العميقة التي تديرها، بل زادت من طابعها الأمني من خلال تعيين ضباط أمنيين كقضاة تحقيق.
في تقريرها الصادر بتاريخ 15 تشرين الأول/ أكتوبر 2020، كشفت "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" عن الممارسات القمعية التي اتخذت من "محكمة قضايا الإرهاب" غطاءً قانونياً لإسكات المعارضين والمطالبين بالتغيير السياسي في سوريا، معتبرة أن هذه المحكمة تحولت إلى فرع أمني بغطاء قضائي يخدم مصالح النظام البائد في مواجهة الحراك الشعبي.
محكمة سياسية بامتياز
وصف التقرير المحكمة بأنها "كيان أمني/سياسي"، هدفه الأساسي ليس مكافحة الإرهاب، بل القضاء على المطالبين بالعدالة والديمقراطية وحقوق الإنسان. ووفق بيانات الشبكة، لا يزال ما لا يقل عن 10,767 شخصاً يخضعون لإجراءات هذه المحكمة، التي نظرت منذ تأسيسها في نحو 91 ألف قضية، إضافة إلى إصدارها قرارات بحجز ممتلكات في 3,970 حالة على الأقل.
أدوات التصفية: من الاعتقال إلى المصادرة
أوضح التقرير أن المحكمة اعتمدت على شبكة من الإجراءات القمعية شملت الاعتقال التعسفي، وانتزاع الاعترافات تحت التعذيب، واعتماد الضبوط الأمنية كأدلة وحيدة، ليتم تحويل الملفات لاحقاً إلى المحكمة دون أي التزام بأصول المحاكمات أو قواعد الإثبات القانونية.
كما لفت التقرير إلى أن النص القانوني الذي تستند إليه المحكمة صيغ بطريقة فضفاضة، ما يتيح توجيه التهم لأي شخص، وتحويل النشاط السياسي أو الإعلامي أو حتى المساعدات الإنسانية إلى "جرائم إرهابية" يعاقب عليها بأشد الأحكام، والتي قد تصل إلى الإعدام.
قضاء خاضع للسلطة التنفيذية
أكدت الشبكة أن المحكمة لا تتمتع بأي قدر من الاستقلالية، مشيرة إلى أن رئيس الجمهورية السابق كان يعيّن قضاة المحكمة بمن فيهم قضاة التحقيق وقضاة النقض، في مخالفة صريحة لمبدأ فصل السلطات. ورأى التقرير أن هذه الممارسات تجعل من المحكمة امتداداً طبيعياً للأفرع الأمنية، وليست هيئة قضائية مستقلة.
كما بيّن أن رئيس النيابة العامة في المحكمة لعب دور الوسيط بين الأجهزة الأمنية والقضاة، وأن قاضي التحقيق غالباً ما كان يرفض التصديق على إفادات المعتقلين بتعرضهم للتعذيب، مكتفياً بتسجيل الضبط الأمني بوصفه "دليلاً" قانونياً.
تغوّل على الحق في الدفاع والمحاكمة العادلة
انتقد التقرير بشدة غياب الحق في الدفاع، متهماً المحكمة بانتهاك "الحق المقدس" في المحاكمة العادلة. وأوضح أن جلسات محكمة الجنايات غالباً ما كانت تستند إلى سطور معدودة من الضبوط الأمنية، وقد تنتهي بالحكم بالإعدام لمجرد المشاركة في مظاهرة أو إبداء رأي معارض.
وأشار إلى أن الطعون في الأحكام لا تُجدي نفعاً أمام منظومة تعتمد على التعذيب كوسيلة إثبات، وذكر حالات اختفاء معتقلين بعد مثولهم أمام المحكمة، إضافة إلى إعادة اعتقال مفرج عنهم، ما يؤكد تغوّل السلطة الأمنية على المسار القضائي.
غطاء قانوني لمصادرة ممتلكات المعارضين
توقّف التقرير مطوّلاً عند البعد الاقتصادي للمحكمة، كاشفاً عن استخدامها كأداة لتجريد المعارضين من ممتلكاتهم. ووفقاً للمرسوم رقم 63 لعام 2012، بات بإمكان المحكمة، ووزارة المالية، والأجهزة الأمنية، إصدار قرارات بمصادرة جماعية تستهدف آلاف المواطنين المحالين إلى المحكمة غيابياً أو حضورياً.
وأشار التقرير إلى أن أوامر الحجز لا تقتصر على المتهمين، بل تشمل أفراد أسرهم، بما في ذلك الآباء والأمهات والأبناء والزوجات. وسجلت الشبكة ما لا يقل عن 3,970 حالة حجز منذ عام 2014 وحتى تشرين الأول/ أكتوبر 2020، شملت 57 طفلاً على الأقل.
استثنائية في دولة لا تحترم القانون
رأت الشبكة أن محكمة قضايا الإرهاب تنتهك أحكام القانون الدولي العرفي والمادة الثالثة من اتفاقيات جنيف، إذ لا تتمتع بشرعية قانونية، ولا تخضع لمبدأ الحياد أو الاستقلال. وأكد التقرير أن حرمان المتهمين من الحق في محاكمة عادلة يُصنّف ضمن جرائم الحرب، وفق النظم الأساسية للمحكمة الجنائية الدولية.
وأضاف التقرير أن النظام السوري وظّف خطاب "مكافحة الإرهاب" لتشويه صورة المعارضة، حيث جرى وصف كل من طالب بتغيير النظام بـ"الإرهابي"، ما أتاح تبرير استخدام العنف والقتل والمصادرة ضدهم، وتمرير ذلك من خلال محكمة سُمّيت بـ"محكمة الإرهاب"، في حين أن النظام نفسه هو من صاغ قانونها، وعيّن قُضاتها، وحدد إجراءاتها.
2022–2024: استمرار القمع وتغييب الملفات
مع تصاعد الحراك المعارض مجدداً، عادت المحكمة لتنشط في إصدار أحكام جماعية، رغم محاولة النظام التعتيم على نشاطها. واستخدمت مجدداً لتصفية نشطاء وتصفية حسابات سياسية داخل بنية النظام نفسه.
بعد سقوط النظام: تفكيك المحكمة وفتح ملفاتها
في شباط/فبراير 2025، وبعد انهيار نظام الأسد، أصدرت وزارة العدل السورية قراراً بإحالة 87 قاضياً من محكمة الإرهاب إلى التحقيق، لفتح ملفات التجاوزات التي ارتكبوها بحق المعتقلين. وقد بدأت بالفعل عمليات جمع شهادات ناجين وتدقيق الملفات القانونية، تمهيداً لمحاكمات قضاة ثبت تورطهم بأحكام تعسفية وبالفساد القضائي.
أرقام وحقائق صادمة
- أكثر من 91 ألف قضية نظرت بها المحكمة خلال عقد، وفق تقديرات حقوقية.
- نحو 10,767 شخصاً لا يزالون قيد المحاكمة أو الاحتجاز ضمن ملفات المحكمة.
- 177,021 شخصاً موثقين كمختفين قسرياً منذ عام 2011، معظمهم أُحيلت ملفاتهم إلى محكمة الإرهاب دون محاكمة.
- ما لا يقل عن 45,332 شخصاً قُتلوا تحت التعذيب في مراكز احتجاز، كثير منهم مرّ بمحكمة الإرهاب ولم تُسلّم جثامينهم لذويهم.
محكمة الإرهاب... بين القانون الدولي وجرائم الحرب
بحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فإن المحكمة تُمثل انتهاكاً صريحاً لأبسط معايير المحاكمة العادلة المنصوص عليها في القانون الدولي. إذ إن قضاة المحكمة عُيّنوا من قبل رأس النظام مباشرة، وأحكامهم لا تستند إلى أدلة قانونية، بل إلى تقارير فروع الأمن.
كما أن المحكمة حاكمت مدنيين وعسكريين وأحداثاً ضمن بنية قضائية واحدة، خلافاً للقواعد الدولية التي تفصل بين هذه الفئات من المتهمين، وقد أدرجت الشبكة السورية هذه المحكمة كأداة رئيسية ارتكب النظام من خلالها جرائم ضد الإنسانية، ما يجعل القضاة العاملين فيها عرضة للمساءلة في المحاكم الدولية.
ضرورة تفكيك المحكمة وبناء قضاء نزيه
أثبتت محكمة قضايا الإرهاب أنها لم تكن يوماً مؤسسة عدلية، بل سيفاً بيد النظام لتصفية خصومه. واليوم، بعد سقوط هذا النظام، تُطرح الأسئلة الملحة حول مصير هذه المحكمة، وضرورة تفكيكها، ومحاسبة كل من أسهم في أعمالها، سواء كانوا قضاة أو محققين أو موظفين قضائيين.
في المقابل، يؤكد حقوقيون أن بناء قضاء سوري جديد لا يمكن أن يتم دون الكشف الكامل عن الجرائم التي ارتُكبت تحت عباءة "العدالة"، ووضع إطار قانوني يضمن استقلال القضاء ويحمي حقوق الإنسان، ويعيد الاعتبار لمفهوم الدولة القانونية بعد سنوات من التلاعب به باسم مكافحة الإرهاب.