
"عزيز الأسمر"... فنان الجدران الذي رسم الألم والأمل على أنقاض الوطن
برع السوريون في إيصال صوتهم للعالم، ونقل معاناة الشعب الثائر ضد الظلم والاستبداد، لم تكن الكلمة وحدها صوتهم، بل أبدع السوريون في نقل واقعهم المُعاش بوسائل عدة، فالفن يترجم مشاعر الناس وتطلعاتهم وأوجاعهم بطريقة رمزية أو مباشرة، ويمنحهم مساحة آمنة للتعبير عمّا يعجز عنه الخطاب السياسي أو الإعلامي، فـ (الرسم، الشعر، المسرح، السينما، وحتى الغرافيتي في الشارع)، كلّها تصبح لغات موازية لصوت الشعب.
وحين تنطفئ الكلمات تحت ركام البيوت، ويعلو صوت القصف على كل شيء، يبقى الفن أحد أشجع أشكال التعبير، ليس ترفاً ولا تزييناً للجدران، بل فعل مقاومة، وصرخة إنسانية في وجه الصمت والتجاهل، في زمن الحرب، تتحوّل الفرشاة إلى شاهد، واللون إلى وثيقة، هكذا وجد الفن مكانه في قلب المأساة السورية، ليقول ما عجزت عن قوله نشرات الأخبار وخطابات السياسة.
ومن بين أولئك الذين جعلوا من الجدران أرشيفاً حيّاً لذاكرة وطن، يبرز اسم الفنان عزيز الأسمر، الذي نقل تفاصيل الثورة ومعاناة الناس من تحت الركام إلى وجدان العالم، بلوحات تنطق بالألم والأمل في آنٍ واحد.
في الشمال السوري، وتحديداً من مدينة بنش في محافظة إدلب، وُلد الفنان عزيز الأسمر، الذي تحوّلت أنقاض البيوت في وطنه إلى لوحات تنبض بالحياة والرسائل. في عامه الـ52، لا يزال هذا الفنان يرسم كما لو أن العالم كله جدارٌ واحد ينتظر بصمته. فنان لا يكتفي بالألوان، بل يُحمّل كل ضربة فرشاة بمعانٍ تتجاوز الحبر والحجر.
الفن كإرث وكقضية
لا تحتاج لتاريخ طويل في متابعة المشهد السوري لتدرك أن الجدران هناك صارت دفاتر توثيق، وأن فنانين أمثال عزيز الأسمر باتوا شهوداً صامتين يتكلمون بلغة لا يُمكن إسكاتها. فالرسم عنده لم يكن خياراً طارئاً، بل ميراثاً. "انتقل إليّ الرسم بالوراثة" يقول عزيز، "والدي كان يتقن الخط العربي، وأخوالي كانوا رسامين، الجو المحيط كان مشجّعاً للفن، لكنه لم يكن يوماً كافياً دون الإحساس بالقضية".
لقاء خاص مع عزيز الأسمر
أجرينا في شبكة "شام" الإخبارية لقاءً خاصاً مع عزيز الأسمر، تحدث فيه بصراحة مفعمة بالألم، لكن دون أن يفقد نبرة الأمل. فقال: "أحداث الثورة كانت ملهمة... بما فيها من قصف واعتقال وتهجير... كل ذلك حفّزني أن أنقلها من مخيلتي إلى الجدران، لتكون شاهدة على إجرام نظام الأسد وحلفائه، وعلى خذلان من كنا نظنهم حلفاء الإنسانية."
الجدران... أرشيف الوجع والأمل
لم تكن الجدران، في نظر عزيز، مجرد سطح للرسم. لقد تحولت إلى أرشيف حيّ يُوثّق لحظات النصر والانكسار، الألم والرجاء، الحزن والانتصار. "الفن لغة عالمية" يقول، "استطعنا من خلالها مخاطبة شعوب العالم، عبر رسم قضاياهم وقضايانا على جدران منازلنا التي دمّرها طيران النظام والطيران الروسي".
حين تصبح اللوحة رسالة إنسانية
واحدة من أكثر الجداريات التي تعني له الكثير، كانت لوحة "القلب المحمول على كف وسط الأنقاض". لوحة أصبحت في ما بعد طابعاً بريدياً في ألمانيا، ويصفها بأنها "إنجاز كبير لي ولفريقي – ريشة أمل".
الرسم تحت الخطر
لكن لم تكن المسيرة سهلة، بل كانت محفوفة بالتحديات. فالرسم على جدران مهددة بالسقوط، أو على مقربة من مناطق يسيطر عليها النظام، كان مجازفة حقيقية. "كنا نخاطر كثيراً، لكننا كنا نعلم أن رسالتنا تستحق هذه المغامرة".
الانتقال من المحلية إلى العالمية
حصل عزيز على العديد من التكريمات من منظمات محلية، وشارك في معارض دولية في اليابان، ألمانيا، النمسا، وإيطاليا. ولكن التكريم الأهم بالنسبة له لم يكن شهادة أو ميدالية. بل كان في وصول أعماله إلى أكثر من مئة قناة وصحيفة ووكالة وموقع حول العالم، وفي تضمين بعض رسوماته في كتاب يُعرض على مكتبة أمازون، الأكبر عالمياً.
ريشة أمل... ثم ريشة وطن
في البداية، كان الفريق الذي يعمل معه يُعرف باسم "ريشة أمل"، ومع تغيّر المرحلة وتحقيق بعض المناطق لحريتها، تحوّل الاسم إلى "ريشة وطن". هذا الاسم الجديد جاء تعبيراً عن التوسّع الجغرافي والتنوّع الفني الذي أضافه رسامو مناطق سورية عدة، من درعا إلى السويداء، ومن دمشق إلى حلب، ومن مصياف إلى دير عطية.
بانكسي سورية... بصمة محلية وصدى عالمي
وقد جاء اسم "ريشة وطن" من مادة نُشرت على موقع Frontline in Focus XR، شبّهت عزيز بالفنان العالمي الغامض بانكسي، في إشارة إلى الطابع الفوضوي المتمرّد لأعماله، والتي جعلت منه صدىً سورياً في ساحة الفن المقاوم.
فن يرفض الصمت... ووطن يُرسم بالأمل
في النهاية، لا يمكن النظر إلى رسومات عزيز الأسمر بوصفها مجرد لوحات. هي نوافذ، تفتح على وجع بلد، وعلى أحلام ناسه. وعلى الرغم من الخراب، فإن فرشاته تظلّ تصر على رسم وطن جميل... وطن يشبه ما يستحقه السوريون فعلاً.
توثيق الذاكرة الجماعية والتاريخ الشعبي
من خلال الأغاني الثورية، والأفلام التي توثق فترات القمع أو النضال، يحتفظ الفن بالذاكرة الحية للشعوب، فالفن لا يُنسى، وغالباً ما يبقى أكثر تأثيرًا من التقارير والوثائق، لأنه يخاطب العقل والقلب معًا.
مقاومة القمع وكسر الصمت
وفي مواجهة الأنظمة القمعية، يتحول الفن إلى فعل مقاومة فلوحة واحدة يمكن أن تزعج نظامًا، وقصيدة واحدة قد تُطبع في ذاكرة جيل،وفيلم واحد قد يحرّك ضمير العالم.
بناء الجسور بين الشعوب
وللفن لغة عالمية لا تحتاج لترجمة، وهو وسيلة فعالة لنقل معاناة شعب ما إلى شعوب أخرى، وخلق تعاطف إنساني عابر للحدود، فلوحة تصوّر لاجئًا، أو رقصة تعبّر عن الحصار، تصل إلى الجمهور في باريس أو طوكيو كما تصل إلى الداخل السوري أو الفلسطيني.