
"العدالة قبل الخبز".. عصيان في سجن رومية يعرّي أزمات لبنان القضائية والإنسانية
شهد سجن رومية المركزي، أكبر مرافق الاحتجاز في لبنان، حركة عصيان داخلي بالتزامن مع انعقاد جلسة تشريعية للبرلمان اللبناني يوم الخميس 24 نيسان/أبريل 2025، في تحرك يهدف إلى الضغط على المجلس النيابي للمصادقة على اقتراح قانون تقدمت به كتلة "الاعتدال الوطني" يهدف إلى الحد من الاكتظاظ في السجون وتسريع الإجراءات القضائية، فضلاً عن الاحتجاج على التراجع في وعود ترحيل السجناء السوريين وتسليمهم إلى الإدارة السورية الجديدة.
"كرامتنا قبل رغيفنا"
رفع السجناء شعارات تطالب بـ"العدالة قبل الخبز"، في إشارة إلى الإهمال المتواصل لحقوقهم، وفق ما أكده المحامي ومدير مركز "سيدار" للدراسات القانونية محمد صبلوح، الذي أشار إلى أن ما جرى يعكس التقاطع الخطير بين الانهيار القضائي، والتهميش الاقتصادي، وتعقيدات السياسة الطائفية في البلاد، لا سيما مع التمييز الذي يتعرض له مئات السجناء السوريين، وموقوفو القضايا الإسلامية، الذين تصدّروا واجهة الاحتجاجات.
ورغم الطابع المحدود للعصيان، وفق مصادر أمنية تحدثت لموقع "المدن"، إلا أنه دفع قوات مكافحة الشغب إلى الاستنفار، ونقل بعض الضباط إلى داخل السجن. وسرعان ما بدأت مفاوضات غير علنية بين قيادة قوى الأمن والمحتجين بوساطة شخصيات دينية وحقوقية، أسفرت عن تهدئة المشهد مقابل وعود بمناقشة الملف داخل البرلمان.
احتجاجات في الداخل وتضامن في الخارج
عند الساعة الحادية عشرة صباحاً، تصاعدت الهتافات داخل مبنى "ب" في سجن رومية، حيث يُحتجز موقوفون في قضايا ذات طابع أمني وديني. أظهرت مقاطع فيديو، صُورت بهواتف مهرّبة، السجناء وهم يحرقون أغطية مهترئة ويطرقون أبواب الزنازين مطالبين بالإفراج المشروط وتخفيض مدد الأحكام. بالتزامن، شهدت مناطق في بيروت والبقاع وصيدا وطرابلس تجمعات تضامنية لذوي السجناء، رُفعت فيها لافتات تحث النواب على إقرار الاقتراح بقانون بشكل عاجل.
الناشطة الحقوقية وعضو لجنة أهالي السجناء، رائدة الصلح، أوضحت أن التحرك يهدف إلى إيصال الصوت إلى نواب الجلسة التشريعية، مؤكدة أن اقتراح القانون من كتلة "الاعتدال الوطني" يهدف إلى تخفيف الاكتظاظ عبر الإفراج عن أكثر من 3000 سجين، مع استثناء مرتكبي جرائم القتل والملفات المحالة إلى المجلس العدلي، وقضايا الاعتداء على المال العام وتفجير مرفأ بيروت.
اقتراح القانون: بين الانفراج القانوني والحسابات الطائفية
يتضمن الاقتراح تقليص مدد التوقيف الاحتياطي إلى النصف، والإفراج عن كل من أمضى ثلثي محكوميته إذا كانت العقوبة أقل من ثلاث سنوات، مع إلزام النيابات العامة بعقد جلسات استجواب افتراضية أسبوعياً. رغم انتهاء النقاشات حوله في اللجنة الفرعية المشتركة في آذار الماضي، لا يزال القانون رهينة الانقسامات بين الكتل النيابية، خاصة فيما يتعلق بشمول المدانين في قضايا "إرهاب".
الكتل المسيحية أبدت تحفظاً على ما وصفته بـ"العفو المقنّع"، بينما دعمت كتل مقرّبة من دار الفتوى الخطوة باعتبارها تخفيفاً لمظلومية الموقوفين. هذا الانقسام أعاد إلى الأذهان تعثر مشروع العفو العام عام 2020، الذي سقط حينها في اختبار الانقسامات الطائفية.
مأساة الأرقام في الزنازين
تشير إحصاءات المركز اللبناني لحقوق الإنسان إلى أن نسبة إشغال السجون اللبنانية تتجاوز 323%، فيما تضاعفت حالات الوفاة في أماكن الاحتجاز بين عامي 2021 و2023، نتيجة تدهور الرعاية الطبية. وتوثق منظمة العفو الدولية هذه الزيادة، محذرة من استمرار الإهمال الصحي. في المقابل، يظل ملف السجناء السوريين نقطة توتر بارزة، حيث يشكلون نحو 30% من إجمالي السجناء، والكثير منهم مطلوبون للنظام السوري.
وكان عشرات السجناء السوريين قد أعلنوا في 11 شباط/فبراير الماضي إضراباً مفتوحاً عن الطعام احتجاجاً على ما وصفوه بـ"الاعتقال التعسفي"، مطالبين بالترحيل أو الإفراج، وسط تجاهل رسمي لمطالبهم.
تشريع مطلوب وواقع مأزوم
ورغم حصول الاقتراح المعجّل على شبه توافق برلماني، إلا أن تطبيقه يواجه عوائق بنيوية تتعلق بضعف البنية التحتية القضائية، واستمرار سياسة التوقيف الاحتياطي كممارسة شبه روتينية، بالإضافة إلى غياب استراتيجية إصلاحية متكاملة.
يرى ناشطون حقوقيون أن اعتماد الدولة على "حلول مؤقتة" يُعيد إنتاج الأزمة بدل تفكيكها، إذ لا تمسّ جوهر السياسة الجزائية ولا تضمن محاكمة عادلة للجميع.
رسالة رومية: لسنا أرقاماً
انتفاضة السجناء في رومية لم تكن سوى تذكير صارخ بأن خلف جدران السجون يقبع بشر ينتظرون فرصة للعدالة والكرامة. وبين مطرقة الانهيار القضائي وسندان الحسابات السياسية، يتوجب على الدولة اللبنانية ألا تترك الزنازين وحدها تحترق، بل أن تتحرك قبل أن يشعل الغضب ناراً لا تطفئها بيانات التهدئة.