الأمهات السوريات: ذاكرة الفقد التي لا تهرم
الأمهات السوريات: ذاكرة الفقد التي لا تهرم
● أخبار سورية ٢٨ مايو ٢٠٢٥

الأمهات السوريات: ذاكرة الفقد التي لا تهرم

في الحروب، يموت الناس مرتين، مرة حين تُزهق أرواحهم، ومرة حين تُنسى حكاياتهم، لكن في سوريا، تحوّلت ذاكرة الأمهات إلى قلوب نابضة لا تنسى، تسرد وجعها دون توقف، وتُبقي صور الغائبين حيّة مهما مرّ الزمن. 

على شاشة تلفزيون سوريا، ظهرت سيدة حمصية تسقط أرضًا باكية، تصرخ وتردد: "ريحتهم هون بالمجزرة" كانت تقف أمام صور أقاربها الذين استشهدوا في مجزرة الحولة، وكأن الذاكرة فجّرت الألم الدفين في لحظة. 

حاول الناس أن يرفعوها عن الأرض، لكنّ قدميها لم تحمل جسدها، ووجدانها كان قد غاص في دمائهم، في لحظة تجسّد فيها ألم الأمهات السوريات، اللواتي لا يُسلّين أنفسهن بالأمل بل يعشن على بقاياه.

في بلدة حاس، تعيش أمٌّ مفجوعة على رحيل ابنتها منذ ما يقارب التسع سنوات، الطفلة كانت تلميذة عادية، تملأ البيت حياةً وضحكاً، حتى جاءت مجزرة الأقلام وسرقتها من حضن أمها، ورغم السنوات، ما زالت الأم تنظر إلى صورتها في الهاتف وتبكي، وكأن فقدانها حدث قبل ساعات، تقول: "لو أنها حية اليوم لكانت صديقتي. كانت ستساعدني في البيت، تسمع همّي وتضحك لي، لكنها رحلت، وتركتني وحيدة حتى من نفسي."

زوجة أخرى أمضت أكثر من عشر سنوات تنتظر عودة زوجها الذي اختفى بعد اعتقاله. لم تيأس، صنعت من الحياة روتيناً يلهيها عن التفكير، لكنها كانت تعود في نهاية كل يوم إلى مقعده الخالي، وسريره الدافئ الذي لم يعد. وأخيراً، حين جاءها الخبر بأنه قُتل منذ زمن، شعرت أن صمت الانتظار كان أرحم من صدق النهاية.

أما في كفرسجنة، جلست أم مسنّة تنتظر ابنها 13 عاماً. اعتُقل على طريق لبنان ولم يُعرف عنه شيء. دفعت أموالاً طائلة، ووقعت ضحية للسمسرة والخداع، وكلما سمعَت بخبر عن المعتقلين تجدد أملها، كانت تبكي كل ليلة حتى أُصيب بصرها بالضعف، وذات يوم، رحلت قبل أن يتحقق حلمها. وبعد شهر على وفاتها، ظهر اسمه في قائمة الموتى. كأن قلبها كان يعلم، فغادر قبل أن يرى الحقيقة.

في قصة أخرى، كانت هناك أمٌّ تجهز لخطبة ابنها. اشترت له ملابسه الجديدة والمصاغ، وجهزت البيت لاستقبال الخطيبة. أسبوعٌ فقط فصلها عن الفرح، لكن المعركة سبقتها، واستُشهد ابنها في أحد الاشتباكات. وبينما كانت ترتّب الزينة في البيت، دخل الجيران وهم يحملون جسده. لم تحتمل، وسقطت تبكي بحرقة: "كنت أعد له ليلة العمر، فدخل عليّ ممدداً في كفنه."

وفي لحظة توثق واحدة من أفظع مآسي الحرب، ظهر زوجان مسنّان من داريا على شاشة قناة الجزيرة، يرويان كيف فقدا عشرة من أبنائهما دفعة واحدة. كانت الأم تتحدث عن ابنها "أحمد" الذي لم يُكمل أسبوعين من زواجه، حين تم قتله أمام عينيها. صوتها الحزين خلال اللقاء كان أبلغ من كل تقارير العالم عن المأساة السورية.

في الحرب، لا تموت الصور، بل تعيش أكثر من أصحابها، تسكن هواتف الأمهات، جدران البيوت، تفاصيل الأحاديث، وهمسات الليل. الأمهات السوريات لا يُطفئن شموع أولادهنّ، لأن النار ما زالت مشتعلة في قلوبهن. هذه ليست مجرد قصص، بل شواهد حيّة على أن الفقد لا يُقاس بالزمن، وأن ذاكرة الأمهات، أقوى من النسيان... وأصدق من أي رواية رسمية.

الكاتب: فريق العمل
مشاركة: 
الكلمات الدليلية:

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ