
أنفقتُ سنوات من عمري على بناء منزل .. الأسد دمره بلحظة والغربة أرهقتْ أرواحنا
انتظرتُ خبرَ التحرير طويلاً، كنتُ أحلم به طوال سنواتي التي مرّتْ عليّ وأنا أقيم في مدينة أورفا بتركيا، التي اخترتُها كملاذ بعد أن اشتدَّ القصف على قريتنا كفر سجنة بريف إدلب الجنوبي، ولم يعد أمامي خياراً سوى السفر إلى تركيا عن طريق التهريب برفقة أطفالي الأربعة. بالرغم من مرور ثمانية سنوات على تلك التجربة، إلا أنني ما أزال أذكُرها وكأنها البارحة. أول مرة، أمضيتُ على الحدود أسبوعاً كلاماً ولم نستطع اجتيازها، المرة الثانية حصلَ ذات الأمر، الثالثة دخلنا.
أصررتُ على مغادرة سوريا بعد تجرعي مرارة النزوح من منطقة إلى أخرى، صرتُ أخاف أن أخسر أحد أبنائي في أي لحظة، إذ قصدتُ عدة مناطق من الـ 2013 وحتى الـ 2017، مثل:أطمة ، حارم، مخيمات باب الهوى، فكنت أنزحُ لفترة ثم أعود إلى منزلي، فيما بعد لم أعد أطيق الوضع الأمني، صرت أحلم بنوم ليلة واحدة دون خوف، لاختار الهروب إلى تركيا.
سكنت في مخيم أديمان لمدة سنة وثلاثة أشهر، كنت سعيدة جداً لأن فيه عائلات من قريتنا، كنتُ أشعرُ بالأنس والطمأنينة عند الجلوس والحديث معهم ونخفف عن أنفسنا مرارة الغربة، فيما بعد تمت إزالة المخيم، وانتقلت للعيش مع أبنائي في مدينة أورفا، وتبعنا ثلاثة من أبنائي (شابين وشابة) كانوا في سوريا، ومضت أمور حياتنا هنا، الشابين وجدا عمل والشابة صارت تدرس.
طوال إقامتي في تركيا لم تكن تغادرني صورة منزلي، كنت ما إن أغمض عيني أتخيلُ نفسي أتنقل في أرجائه، فأشعر بغصة كبيرة وأحنُّ إليه، لكن سرعان ما أتذكر أجواء الخوف التي عشناها، وشكاوى أقربائنا النازحون في مخيمات إدلب، أتراجع على الفور وأحمد الله أنني غادرت. ذهبتْ أيام وأتت أخرى حاملة ما كنا نحلم به سنينا سقوط بشار الأسد في 8 كانون الأول، لم أصدق الخبر أعدت قرائته أربع أو خمس مرات، والمقطع الصوتي "الساعة الٱن السادسة وثماني عشرة دقيقة تماماً بتوقيت دمشق، سوريا من دون بشار الأسد"، كل ما سمعته أبكي أزغرد أضحك أعانق أولادي، لم أعد أتمالك أعصابي من شدة السعادة.
فتواصلتْ مع أقاربي طالبةً منهم أن يلتقطون صوراً لمنزلي، ولولا علاج ابني من مرض السرطان ودراسة ابنتي الجامعية، لنزلتُ تسفيراً من شدة أشواقي وحماسي. وبعد أن علمت أن شقيق زوجي زارَ القرية اتصلتُ به على الفور ليرسل لي الصور، بالبداية ادّعى أنه لم يصور، ثم قال لي أنه التقط البعض منها لكن ابنه حذفها بالخطأ، هنا شعرت أن ببيتي ليس بخير، فألححتُ بطلبي فاستسلم وأرسل لي الصور.
لم أعرف المنزل على الإطلاق، كان عبارة عن مكان يملأه الركام ومحروقاً من الداخل، الأبواب والشبابيك تم خلعها وسرقتها، جدرانه تغزوها التشققات، سيطرَ علي اليأس والإحباط. فكل ما كنت أملك في قريتنا هو هذا المنزل. عندما تزوجتُ كان عبارة عن غرفة واحدة ومطبخ، ومع الأيام صرنا نوسعه بحسب المال المتوافر، حتى أصبح أربع غرف وشرفتين، وزرعت بقربه شجرة تين من الأمام وبالقرب منها حوض للورد، وشجرة دراق وأخرى ليمون خلفه، ظللت أرتب أموره طوال تسعة عشرة عاماً، دمرته قوات الأسد بلحظة. لا سامحهم الله بتعبنا ولا بذكرياتنا التي أفسدوها.
الٱن أرتب أمور إعادة بنائه مع عائلتي، سَنُقدِمُ على هذه الخطوة ما إن تسنح لنا الفرصة، وما إن تتخرج ابنتي من جامعتها، ويشفى ابني من السرطان نهائياً، وأتمكن من بناء منزلي سوف أعودُ إلى رحابه وأتخلص من الغربة التي أرهقتْ أرواحنا.