أسعارها تعمّق الأوجاع .. "الأدوية" أزمة ممنهجة تؤرق المواطنين في سوريا
يشكل واقع توفر وغلاء أسعار الأدوية في سوريا أبرز التحديات أمام المرضى وذويهم ضمن رحلة شاقة للبحث عن الدواء أحد أبسط حقوق الإنسان، ويسلط هذا التقرير الضوء على أزمة المستحضرات الدوائية في عموم سوريا، كما يستعرض آلية النظام السوري في المتاجرة بأوجاع السوريين وابتزازهم في سياسة ممنهجة تتضمن تعطيش السوق المحلية للدواء وثم طرح هذه الأصناف بأسعار مرتفعة تفوق القدرة الشرائية للمواطنين.
الدواء.. من حق مكفول إلى حلم لا يتحقق
على وقع انهيار القطاع الطبي في سوريا، كان للأدوية نصيب من هذا التراجع والتدهور الذي انعكس سلباً على حياة السوريين، وطالما يدعي النظام السوري بأنه يقدم الخدمات الطبية بشكل مجاني، إلّا أن أزمة الدواء على وجه الخصوص فضحت هذه المزاعم وكشفت زيف ادعاءات النظام بهذا الشأن، حيث يكابد المواطن لتحصيل حبة الدواء ويعتبر ذلك إنجازاً كبيراً في ظل تفاقم الأزمة بشكل متصاعد وسط تكرار رفع أسعار الأدوية.
وانتهج النظام السوري خلال السنوات الماضية سياسة متكررة تقوم بالتلاعب والإتجار بأوجاع السوريين وحرمانهم من حقهم بتلقي العلاج الطبي، حيث يعمد إلى قطع الأدوية لفترة زمنية بحجج مختلفة منها نقص المواد الأولية وغيرها، ثم يطلق العنان لتصريحات المسؤولين التي تطالب برفع أسعار أصناف الأدوية لمرة جديدة بدواعي الحفاظ على توفر الأدوية في الصيدليات، ما يشير إلى وقوف نظام الأسد خلف أزمة الأدوية في سوريا بهدف تحقيق إيرادات مالية.
أسعار جديدة تُلهب الجيوب وتزيد المعاناة
رفعت مديرية الشؤون الصيدلانية في وزارة الصحة لدى نظام الأسد، مؤخراً أسعار الأدوية وبررت ذلك بارتفاع سعر الصرف وفق نشرة المصرف المركزي وارتفاع تكاليف حوامل الطاقة وحرصاً منها على استمرار توافر الأدوية في السوق.
وشمل القرار معظم الأصناف الدوائية بنسبة ما بين 50 إلى 100 بالمئة، حيث ارتفعت أسعار الكابسول والتابليت بنسبة 65% والكريمات والمراهم بنسبة 75% في حين الشرابات والملعقات ارتفعت 85% أما الأدوية العقيمة مثل الأمبولات والسيالت وقطرات العين ارتفعت بنسبة 100 بالمئة.
وكانت وزارة التجارة بحكومة نظام الأسد قد رفعت سعر حليب الأطفال، بنسب بين 20 و30% ليصل سعر حليب الأطفال نستله نان (1-2) 400 غرام، للصيدلي 17050 ليرة وللمستهلك 18800 ليرة سورية.
تبريرات غير منطقية.. رفع الأسعار لصالح المواطن!
يزعم النظام السوري بأن رفع أسعار الأدوية كان ضرورياً باعتبار أن ذلك سوف ينعش الصناعة الدوائية، خصوصاً أن تكاليف الإنتاج للكثير من المستحضرات أصبحت أغلى من سعر المستحضر ذاته، ويقدر عدد الأصناف الدوائية التي رفع أسعارها نحو 13 ألف مستحضر.
ويأتي ذلك وسط تبريرات غير منطقية حيث يزعم نظام الأسد بأن سبب ارتفاع الدواء إلى أن الصناعة الدوائية مرت بأزمة حقيقية خلال الأشهر الماضية تجلت في عدم التوازن والعدالة بين التكاليف المتكبدة لإتمام الدورة التصنيعية وبين عملية التسعير للمستحضرات الدوائية.
ويدعي إعلام النظام بأن بعد صدور نشرة الأسعار الجديدة بدأت الأدوية تتوفر بالصيدليات، بعد ترويج خبر توقف معامل الأدوية عن تزويد المستودعات جعل المواطنين يشترون الأدوية فوق حاجتهم الفعلية خوفاً من انقطاعه، وطالما تضاربت تصريحات النظام حول الأدوية حيث سبق أن نفى وزير الصحة انقطاع أو فقدان أيّ مادة دوائية فيما جاءت تصريحات نقيب الصيادلة "علياء الأسد"، خلافاً لذلك.
أزمة تحت الطلب لزيادة إيرادات الخزينة!!
كشفت صحيفة موالية لنظام الأسد عن استمرار فقدان بعض أصناف الأدوية في الأسواق منها العديد من أنواع أدوية القلب والأدوية العصبية إضافة إلى العديد من المضادات الحيوية، وسط تكرار تبريرات النظام حول شماعة العقوبات المفروضة عليه.
ويدير النظام السوري الأزمة بشكل ممنهج وطالما تتزامن تصريحات المسؤولين لديه حول توفر صنف جديد من الأدوية وحليب الأطفال ضمن الصيدليات مع وصول دفعات من هذه المواد إلى ميناء اللاذقية المصدر الرئيس للأدوية إضافة إلى معابر برية مع لبنان والعراق.
وتواتر الحديث مؤخراً عن رعاية هذه الصفقة من قبل شخصيات اقتصادية نافذة في نظام الأسد بينهم مقربين من "أسماء الأخرس" زوجة رأس النظام "بشار الأسد"، فيما قالت صيدلانية في مناطق سيطرة النظام إن هناك حالات احتكار للأدوية وكذلك حليب الأطفال الذين يتم احتكاره لرفع سعره.
رغم الترويج للإنتاج المحلي.. استيراد أدوية بملايين اليوروهات
كشف مدير "المؤسسة العامة للتجارة الخارجية" "شادي جوهرة"، بأن فاتورة استيراد الأدوية سنوياً تقارب 120 مليون يورو، وقال إن المؤسسة أمنت 60% منها متذرعاً بالصعوبات التي تعترض استيراد الأدوية بسبب العقوبات الاقتصادية المفروضة على نظامه.
وقدر مدير فرع المؤسسة العامة للتجارة الخارجية باللاذقية "محمد الأسد" تأمين الأدوية النوعية المستوردة للقطاع العام بقيمة 20.103 مليار ليرة، فيما تم تأمين أدوية مماثلة للقطاع الخاص بقيمة تقدر بنحو 270 مليون ليرة، مدعيا العمل على استيراد الأدوية النوعية من "الدول الصديقة".
من جانبه يعتبر النظام السوري بأن من المهم تصدير الأدوية المحلية كونها معروفة بجودتها عالمياً إضافة إلى أن تصديره يوفر القطع الأجنبي ويزيد من إنتاج معامل وشركات الأدوية السورية، وفق تعبيره، علما أن نوعية الدواء السوري تراجعت بنسبة كبيرة خلال السنوات الماضية.
الأدوية في الشمال السوري.. نقص وغلاء
تعيش مناطق الشمال السوري على وقع أزمة أدوية تتمثل في غلاء الأسعار وفقدان بعض الأصناف الدوائية لفترات، وتواصلت شبكة "شام"، الإخبارية مع عدد من الشخصيات المعنية بملف الأدوية وتحدثت إلى صيادلة حول واقع توفر الأدوية في شمال سوريا.
وحصلت "شام" على ملف نشرة سعرية تتضمن "النشرة الدوائية الموحدة درع الفرات وغصن الزيتون"، في ريفي حلب الشمالي والشرقي، وقال أحد الصيادلة فضل عدم ذكر اسمه إن خلال الفترة الماضية عُقد اجتماع نتج عنه التواصل إلى صيغة معينة تهدف إلى توحيد أسعار الأدوية في الشمال السوري.
وحسب الملف فإن نقابة صيادلة حلب أقرت بتاريخ 19-01-2023 التسعيرة الدوائية الموحدة، وتشير إلى أن مخالفة النشرة بالزيادة أو النقصان تستوجب مخالفة الصيدلية، ويتضمن الملف أسعاراً محددة بالدولار الأمريكي لأكثر من 12 ألف مستحضر دوائي، لشركات إنتاج مثل "ميديكو - دلتا - أوبري - الشهباء - السعد - افاميا - ابن حيان - ابن الهيثم- يونيفارما - يونيشيما - فارما يوناي - هيومن فارما"، وغيرها.
ويشير صيدلاني في محافظة إدلب إلى وجود نقص كبير في الأدوية النوعية وسط غلاء حاد، ويقدر بأن وجود صيدليات خيرية ومنظمات طبية لا يغطي سوى نسبة ضئيلة جداً من حاجة السكان للأدوية والمستحضرات الطبية والدوائية.
ويقتصر إنتاج أصناف محددة من الأدوية في الشمال السوري على معمل ضمن مناطق ريف حلب الشمالي والشرقي، ومع عدم القدرة على تغطية السوق من المنتجات الطبية والدوائية يتم تأمين المستحضرات الدوائية من المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام وأحيانًا عن طريق تركيا.
واقع الأدوية في شمال وشرق سوريا
أفاد صيدلاني في مناطق شمال وشرق سوريا، طلب عدم كشف هويته بأن الأدوية في المنطقة لها عدة مصادر منها مناطق سيطرة النظام، وأخرى من أربيل، مشيرا إلى أن غالبية الأدوية المتداولة هي السورية، وأكد وجود حالات احتكار ورفع أسعار الأدوية بشكل لافت في الفترة الماضية.
وقدرت مصادر خاصة في مناطق سيطرة "قوات سوريا الديمقراطية"، (قسد) بأن أسعار الأدوية ارتفعت بشكل كبير وبنسبة تصل إلى 100 و130%، علما أن غالبية الأدوية تتوفر، فيما تنعدم الرقابة من قبل "الإدارة الذاتية"، كما أنّ أغلب الصيادلة يعملون بدون شهادة تخصص بمناطق شمال وشرق سوريا، لافتا إلى تراجع فاعلية الأدوية السورية مع انتشار حالات الغش وتحول المستحضرات الدوائية إلى سلع تجارية.
ويقدر الرئيس المشترك للمجلس التنفيذي للإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا "عبد حامد المهباش"، سابقاً وجود 1822 صيدلية ضمن مناطق سيطرة "الإدارة"، ويشير "خالد الحسين"، رئيس نقابة الصيادلة في محافظة الرقة الخاضعة لسيطرة قوات "قسد"، بأنَّ رفع أسعار الدواء من قبل حكومة النظام السوري يشكل أزمة دواء في المنطقة، إلى جانب أجور الشحن الباهظة التي تصل لحوالي 22,000 دولار أمريكي.
ويذكر أن سوريا تعاني نقصاً حاداً في الأدوية وحسب أرقام وبيانات رسمية كانت سوريا تنتج محلياً 90% من احتياجاتها من الأدوية قبل اندلاع الثورة السوريّة عام 2011، وتضررت الأدوية السورية خلال السنوات الماضية نتيجة عدة عوامل منها توقف المصانع عن العمل وتعرض بعضها للقصف على يد نظام الأسد، فيما تحولت المنتجات الدوائية لاحقاً إلى سلعة تجارية يستثمرها النظام السوري وسط نشاط محموم لشركات إيرانية وروسية بهذا الشأن، مع استمرار سياسة قطع الأدوية وطرحها بأسعار أعلى، فيما يبقى المواطن السوري الحلقة الأضعف دون قدرته على تأمين المستحضرات الدوائية.