"الجـ ـولاني" وسعيه لحصر الثورة بمشروعه
خلقت الممارسات المستمرة لقيادة "هيئة تحرير الشام"، لاسيما بعد مسرحية "العملاء"، وما أفضت لكشف حقيقة "الجولاني" وسياساته القمعية، واقعاً جديداً شجع الشارع الثوري على النهوض من جديد ورفع صوته مطالباً بسقوط هذه القيادة التي أمعنت القتل والاعتقال والتسلط على المجتمع الثوري في المحرر، طالت حتى عناصر الهيئة وكوادرها.
هذا الحراك، ورغم تعامل الهيئة معه بسياسة لينة حتى الآن، إلا أن شخصيات محسوبة عليها خرجت للعلن لتواجه الحراك الشعبي وتسقطه في خانة العمالة والتخوين، معتبرة أن مشروع "الجولاني" هو درع للمحرر والثورة، في تكرار لنفس الخطابات التي تحتكر الثورة السورية في مشروع لفصيل عسكري يديره "الجولاني" للهيمنة على الثورة ككل، واعتبار أن سقوطه يعني سقوط للثورة.
حاملاً تاريخاً مثقلاً بالانتهاكات و"البغي" على الثورة السورية ومكوناتها، يحاول "أبو محمد الجولاني" منذ سنوات تقديم نفسه على أنه حامل لواء الثورة والحريص عليها، متبنياً خطاباً مغايراً تماماً لما بدأ فيه مسيرته "الجهادية"، منقلباً على كل مبادئه ورفقاء دربه، ومعتبراً مشروعه هو "مشروع الثورة الوحيد" الذي يجب أن يفرضه على الجميع بقوة السلاح، وأن سقوطه يعني سقوط مشروع الثورة.
ولعل المراقب لسلسة التحولات التي يجريها قائد "هيئة تحرير الشام"، يصعب عليه الموازنة بين الماضي والحاضر، مع حجم الهالة الإعلامية التي تسعى لترويج أفكار "الجولاني" الجديدة وتوجهاته، وعملية اصباغ مصلحة "الثورة والساحة" على أفعالهم وسياساتهم، وعلى الجميع بالمقابل تقبل الأمر دون النظر للتاريخ الأسود الحافل بالانقلابات والتحولات حتى على رفقاء "البغي".
فمن عايش "الجولاني" إبان حملات تدمير فصائل الثورة واحدة تلو الأخرى، عليه اليوم أن يقبل أن المشروع الذي يحمله ويتخذ من حكمه الانفرادي الإقصائي في "إدلب" نموذجاً، هو المشروع الثوري الوحيد المستمر، وأن هذا المشروع - القائم على "البغي" - سيحمل الثورة لمبتغاها ويحقق مطالبها، وعلى الجميع تقبله بل والمساهمة في تمكينه.
وسبق أن أكد الكاتب والباحث السوري "أحمد أبازيد" في حديث سابق لشبكة "شام"، أن مشروع "هيئة تحرير الشام" ليس مشروعاً ثورياً، لأنه لم يؤسس انطلاقاً من الثورة السورية، وإنما بدايته كانت امتداد لدولة العراق والشام الإسلامية، بقيادة "أبو بكر البغدادي"، الذي أرسل "الجولاني" إلى سوريا وأسس "جبهة النصرة" التي أصبحت تابعة لتنظيم القاعدة.
وأوضح "أبازيد" أن التنظيم الذي أسسه "الجولاني" لم يكن في أي يوم يعتبر نفسه جزءً من الثورة السورية بل كان طيلة السنوات التي سبقت تحولات "الجولاني" الأخيرة يعتبر نفسه طرف يحمل مشروع جهادي وإخوة منهج مقابل لمشروع الثورة والجيش الحر.
وبين الباحث أن مشروع "الجولاني" طيلة سنوات كان في حالة حرب مفتوحة، ضد الثورة كفصائل جيش حر حتى كرموز منها "الحرب على علم الثورة ومسمى الثورة"، وشيطنة كل ما يرتبط بالثورة، إضافة لمحاولة هدم كل المشاريع التي تنتجها، والحرب على النشطاء المدنيين واغتيالهم منهم "رائد الفارس وحمود جنيد" وغيرهم، وفق تعبيره.
وقال الباحث السوري إن مشروع "الجولاني" هو مشروع "معارض ومعاد لمشروع الثورة السورية"، وكان جزء من المشاريع الجهادية التي بنت شرعيتها لكونها معارضة لمشروع الثورة وتعتبره مشروع "قطري وعلماني ووطني" وهي تعتبر مشروعها "جهادي وإسلامي لتحكيم الشريعة".
وأوضح "أبازيد" أنه منذ تأسيس "هيئة تحرير الشام"، بات "الجولاني" في سياسية مختلفة، في محاولة إثبات كونه ينتمي إلى سوريا والثورة السورية، وإثبات الاعتدال والانفصال عن تنظيم القاعدة والتاريخ الجهادي القديم.
واعتبر في حديثه لشبكة "شام" أن هذه المحاولة تؤكد أن الماضي لـ "الجولاني" والذي كان ماض براغماتياً لم يكن عقائدي يتبنى عقيدة صارمة إنما "شخصية براغماتية انتهازية" تتبنى في كل مرحلة المبادئ التي تتيح له البقاء في السلطة، سواء حين كان في دولة العراق الإسلامية ثم جبهة النصرة وتنظيم القاعدة.
ولفت الباحث إلى أن "الجولاني" حاول التحالف مع فصائل إسلامية محلية ثم أصبح "هيئة تحرير الشام" لإثبات أنه فصيل لايمتلك أي عمق لتحكيم الشريعة ومنقطع عن السلفية الجهادية وبات يروج نفسه على أنه يحارب السلفية الجهادية ويقوم بلجم وتحجيم واعتقال المقاتلين الأجانب أو المهاجرين.
وختم "أبازيد" بالإشارة إلى أن التحولات الأخيرة لا يمكن أن الهيئة تحولت لمشروع وطني وثوري وإنما محاولة ركوب الشرعية الثورية والوطنية التي لم يتمكن من هزيمتها سابقاً والتترس بها، للوصول كونه سلطة معترف بها خارجيا بعد أن تخلى عن ماضيه الجهادي القديم.
خفض التصعيد فرصة لتمكين نفوذه
واعتبر قيادي عسكري سابق برتبة ضابط في "الجيش السوري الحر" أن الإعلان عن اتفاق "خفض التصعيد" شمال غرب سوريا، أعطى لـ "الجولاني" فرصة ذهبية للتفرغ لتملك المناطق المحررة، والتغني بإنجازات حكومته "الإنقاذ" التي أسسها لإدارة المنطقة، مع وعود الإعداد لمرحلة التحرير، مستغلاً آمال المدنيين وحلمهم في العودة لمناطقهم التي هجروا منها.
وأكد القيادي (الذي فضل عدم ذكر اسمه) في حديث سابق لشبكة "شام"، أن الإعلام الرسمي والرديف للهيئة والحكومة التابعة لها، لعب دوراً بارزاً في عملية تسويق "الجولاني" وحاشيته بوجههم الآخر، لتغدوا منابرهم مخصصة لتغطية زيارات القائد وإنجازاته، ولقاءاته مع الأهالي في المخيمات تارة وفي إدارات المناطق التابعة لهم أو بنشطاء إعلاميين، وصل لزيارة الطوائف الأخرى في إدلب والتي نالت نصيباً وافراً من الانتهاكات على يد عناصر "الجولاني" سابقاً.
وأوضح أنه مع تنامي التمجيد بتلك الانجازات على المستوى الأمني والعسكري والمدني والإداري في "دولة إدلب"، باتت عملية التسويق تتوسع، لتبدأ مرحلة تمكين المشروع في الهيمنة على كامل المناطق المحررة، مستثمراً ما أنتجته قبضته الأمنية بإدلب، من ترهيب وكم للأفواه وهيمنة على كل شيء يمكن أن يجني مورداً لهم، وبدء انتقاد الوضع المفكك شمالي حلب على كافة المستويات.
ولفتت القيادي إلى أن النزعة في التوسع، لم يكن هدفها استعادة مناطق سيطر عليها النظام، وإعادة إحيائها بعودة أهلها وعودة المرافق الخدمية لها، بل كانت تستهدف الوجهة الأخرى من المحرر، في مناطق سيطرة "الجيش الوطني"، خلافاً لتصريحات "الجولاني" التي تحدث فيها عن الإعداد والتجهيز للمعسكرات والأسلحة لبدء التحرير، غايته تمكين مشروعه ومنع ولادة أي مشاريع منافسة.
ضرب المشاريع المنافسة
واعتبر القيادي أن "هيئة تحرير الشام" وقبلها "جبهة النصرة"، عملت على شيطنة فصائل "الجيش السوري الحر" ومكونات الثورة الأخرى، بذرائع أطلقها من توأمه "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، وبعدها من تنظيم الأم القاعدة، ولم يخفها أو اقتصرت على لسان شرعييه، بل بلسان "الجولاني" بأنها مشاريع صحوات وردة وعمالة لدول إقليمية وغربية، بات لاحقاً يطلب ودها ورضاها، ويقدم في سبيل ذلك القرابين والأعطيات من الدماء المعصوم، في سياق تبييض تاريخه الأسود الملطخ بالدماء.
وأكد القيادي أن سلسلة الغزوات الداخلية التي خاضها "الجولاني" ضد فصائل الثورة، والتي أخذت حججاً ومزاعم عدة، تجتمع تحت هدف واحد هو "ضرب المنافس" من أي مشروع صاعد قد يؤثر على مشروع "الجولاني" وفصيله، منها ضرب مكونات "الجيش السوري الحر" ولاحقاً "حركة أحرار الشام" وغيرها من المكونات التي أنهاها الجولاني وصولاً لآخر حملة "بغي" شمالي حلب.
وخلص القيادي، إلى أن مشروع "الهيئة أو الجولاني" لم ولن يكون ثورياً، أو يمثل الحراك الثوري، مهما حاول إظهار قربه للحراك وتبنيه بالهيمنة والمراوغة والالتفاف على الفعاليات التي تقبل التعامل معهم كسلطة أمر واقع، مشيداً بالوعي الجماهيري لأبناء الثورة، الذين عاشوا ويعيشون التبدلات في المواقف وعدم الثبات على مبدأ، رافضين رهن سنوات من الكفاح والنضال بيد أي مكون يحمل مشروعاً مناقضاً لمشروع الثورة، قد ينقلب على مبادئه في أي وقت ويتغير.
وكانت كشفت الاحتجاجات الشعبية التي تصاعدت ضد "هيئة تحرير الشام"، تحديداً زعيمها "أبو محمد الجولاني"، عن الكثير من الأشخاص المدافعين عن الهيئة، بينهم إعلاميين، مراصد، رجال دين، وغيرهم من مريدي "الجولاني" وأتباعه حتى في ظلمه وطغيانه، ما يظهر حجم التملق والتزلف لدى هذه الشخصيات المنتفعة من بقائه على رأس سلطة الأمر الواقع فحسب.
ويبدو أن الآلة الإعلامية التابعة لـ"هيئة تحرير الشام"، استعانت بأدوات وقفازات ظهرت عبر مواقع التواصل قد ترى أنها تُسهم في التخفيض من الاحتقان والاحتجاج الشعبي القائم ضدها، وتقوم هذه السياسة بشكل مباشر على المنتفعين من أبواق الإعلام ومشايخ السلطان، في محاولة لمواجهة الحراك الشعبي عبر منشورات تؤكد الولاء للقائد وتحذر من عصيانه.
وبات المشهد أكثر تعقيداً أمام قيادة "هيئة تحرير الشام"، بعد مغامرة غير محسوبة النتائج وقعت بها فيما عرف بـ "قضية العملاء"، والتي خلقت شرخاً واسعاً في بنية الهيئة عسكرياً وأمنياً، وشجعت الحاضنة الشعبية المكبوتة على الخروج علانية في الشوارع تطالب بسقوط "الجولاني"، الأمر الذي استدعى حراكاً واسعاً من قبل شخصيات في الهيئة لتدارك الموقف ومنع الدخول في دوامة لارجعة فيها.
وتعول قيادة الهيئة على امتصاص حالة الغصب في الشارع الثوري، وتقديم الوعود بالإصلاحات، لكسب وقت إضافي وعدم توسع المشهد الاحتجاجي في عموم المناطق المحررة، في وقت تلمح مصادر "شام" إلى أن "الجولاني" لن يقف مكتوف الأيدي في حال خرجت الأمور عن السيطرة، وأنه مستعد لإدخال المنطقة بحالة فوضى عارمة من عمليات تفجير واغتيال وتسلط اللصوص وقطاع الطرق، يجبر الحراك على خيارات ضيقة في الاستمرار أو الفوضى.