بعد كشف رويترز عن عملية إخفاء جماعي للجثث.. السلطات تتحرك للتحقيق في “مقبرة الضمير”
فتحت السلطات القضائية في سوريا تحقيقاً جنائياً شاملاً في واحدة من أكثر القضايا إثارة للجدل في تاريخ البلاد الحديث، وذلك بعد نشر تحقيق استقصائي لوكالة رويترز كشف عن وجود مقبرة جماعية سرّية في صحراء الضمير تحتوي على آلاف الجثث، ويُعتقد أنها ضحايا من مختلف مراحل النزاع السوري.
وأمر القضاء الجهات الأمنية بفتح تحقيق موسع تضمن توثيق الموقع وتصويره ومسح الأرض والاستماع إلى شهود عيان، في خطوة تأتي بعد أن أثار تقرير الوكالة اتهامات بأن المقبرة كانت جزءاً من مخطط سرّي لإخفاء أدلة على انتهاكات واسعة.
تفاصيل عملية النقل السرية
بحسب شهادات ضباط سابقين ومصادر عسكرية، فإن الموقع كان منشأة عسكرية مهجورة في صحراء الضمير شرق دمشق، كانت تُستخدم مستودعاً للأسلحة في عهد النظام السابق، وقد خُصصت لنقل رفات آلاف الضحايا من مقبرة جماعية في بلدة القطيفة خارج دمشق.
وأظهرت الشهادات أن العملية، التي أُطلق عليها اسم "نقل الأتربة"، نفّذت على مدى عامين تقريباً بين 2019 و2021، بمعدل أربع ليالٍ أسبوعياً، حيث كانت الشاحنات المحمّلة بالجثث والأتربة تدخل الموقع تحت حراسة عسكرية، وتُفرغ حمولتها في خنادق واسعة أُعدّت خصيصاً لدفن الرفات.
أحد الشهود، وهو ميكانيكي يُدعى أحمد غزال، روى أنه أصلح الشاحنات التي استخدمت خلال عملية النقل، وأفاد بأن الموقع كان شبه خالٍ باستثناء الجنود الذين كانوا يرافقون قوافل الشاحنات.
إجراءات أمنية حول الموقع
مع سقوط النظام السابق في ديسمبر/كانون الأول 2024، أعاد الجيش السوري الانتشار في المنطقة ليس لإخفاء الآثار، بل لتأمين الموقع. وأعلن مسؤولون عسكريون أن منشأة الضمير أعيد تفعيلها في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي كثكنة عسكرية ومخزن أسلحة، في إطار خطة تهدف إلى تأمين المناطق الصحراوية المفتوحة ومنع استغلالها من قبل جهات معادية، خاصة وأن الطريق الصحراوي القريب يربط العاصمة دمشق بمناطق شهدت نشاطاً لتنظيم "الدولة الإسلامية".
وأظهرت صور الأقمار الصناعية التي راجعتها رويترز نشاطاً متزايداً للمركبات العسكرية في الموقع منذ تشرين الثاني، بعدما كان شبه مهجور لسنوات، حسب تقارير الوكالة.
كما أُقيمت نقطة تفتيش عسكرية عند مدخل المنشأة بعد أسابيع من نشر تقرير رويترز في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، وأصبح الدخول إلى المنطقة مشروطاً بالحصول على تصاريح رسمية من وزارة الدفاع.
التحقيقات القضائية وآفاق المتابعة
على صعيد التحقيق الرسمي، قال جلال طبش، رئيس مخفر شرطة الضمير، إن الشرطة وثّقت الموقع بالصور، وأصدرت تقارير أولية، واستجوبت شهوداً، من بينهم غزال الذي أدلى بكافة التفاصيل التي نقلها سابقاً لوكالة رويترز.
وتم إحالة ملف القضية إلى القاضي زمن العبد الله، النائب العام في منطقة عدرا، الذي أعلن أن الجهات القضائية تعمل على مراجعة دقيقة للوثائق الأمنية التي حصلت عليها بعد سقوط النظام، بهدف تحديد مشتبه بهم من عهد النظام السابق، بعضهم داخل سوريا وآخرون خارجها، دون الإعلان عن أسماء حتى الآن.
وتشير بعض الوثائق والشهادات إلى أن العقيد مازن إسمندر كان مسؤولاً عن الجوانب اللوجستية للعملية، وفق ما نقلته وكالة رويترز.
جهود منظمة لمعالجة المقابر الجماعية
من جهتها، أعلنت الهيئة الوطنية للمفقودين، التي تأسست بعد الإطاحة بالنظام السابق للتحقيق في مصير المختفين قسرياً، عن خطط لإعداد كوادر متخصّصة وإنشاء مختبرات علمية وفق المعايير الدولية، لتبدأ عمليات نبش واستخراج الرفات من المقابر الجماعية خلال عام 2027، ومن بينها موقع الضمير، في إطار مسعى لتحديد هويات الضحايا ومحاسبة المسؤولين عن الجرائم المرتبطة بهذه المقابر.
خلفية القضية
وتُعد عمليّة إخفاء المقابر الجماعية جزءاً من محاولات النظام السابق في عام 2018، قبل إعلان النصر في الحرب السورية، لإخفاء آثار بعض الجرائم الجماعية وإبعاد الأدلة عن أنظار المجتمع الدولي. وأكد تحقيق رويترز أن القرار لنقل الجثث صدر مباشرة من القصر الرئاسي، بهدف طمس معالم واحدة من أوسع المقابر الجماعية في تاريخ النزاع السوري.
وقد استند تحقيق الوكالة إلى مقابلات مع 13 شخصاً مطلعين على تفاصيل العملية، وتحليل أكثر من 500 صورة فضائية وبيانات أشعة أثبتت تغيّر التربة وآثار نبش واسعة، ما يعزز مصداقية الادعاءات حول حجم الجثث المنقول ومكان الدفن الجديد.