مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٢٩ أغسطس ٢٠١٦
أسطورة داريا

ما كان أحد يتوقع صمود أهالي داريا، أو من تبقى منهم (حوالي خمسة أو ستة آلاف من أصل ربع مليون)، كل هذه المدة، أي طوال أربعة أعوام بأيامها ولياليها، في مواجهة ظروف قاسية وصعبة، وتحت طائلة القصف بالطائرات والمدفعية، مع إخضاعهم للحصار المشدد، إذ أن هذه المدينة الصغيرة التي تقع في الجنوب الغربي من دمشق، والقريبة إلى أهم المعاقل العسكرية للنظام (مطار المزة العسكري)، بقيت صامدة وصابرة وشامخة، رغم عزلتها وقلة إمكانياتها، أكثر مما هو منتظر منها.
لا تتوقّف أسطورة داريا على ما حقّقته في صمودها العسكري غير المسبوق، فحسب، وتسجيلها أروع صور الصمود والتضحيـة والتحـدي، رغـم البراميل المتفجرة والصواريخ الفراغية وقذائف الدبابات، ورغم سلاح التجويع، إذ أنها فوق ذلك كانت المدينة التي تفرّدت، تقريباً، بميزات كثيرة، ما جعل كثيرين يعرّفونها باعتبارها درّة الثورة السورية، والمثال الذي كان ينبغي أن يحتذى به، وهي تستحق ذلك عن جدارة.

ما ينبغي معرفته أن داريا هي من أولى المدن التي خرجت المظاهرات فيها، منذ بداية الثورة السورية (مارس 2011)، وأنها تمسّكت بالفعاليات السلمية إلى أقصى حد، وبمعاملاتها مع جنود النظام باعتبارهم إخوة في الوطن، بتقديم المياه والورود لهم، وقدم الشهيد غياث مطر ثمن ذلك من حياته، علما أن هذه المدينة لم تذهب نحو خيار الدفاع العسكري إلا بعد ارتكاب النظام مذبحة كبيرة فيها ذهب ضحيتها المئات (في العام 2012). أيضا، ومنذ البداية، تمسك ثوار داريا بخطاب الثورة وبمقاصدها الأساسية المتعلقة بالحرية والكرامة والديمقراطية وإنهاء الاستبداد، العلماني والديني، وقد ترجمت ذلك برفضها دخول “جبهة النصرة” وأخواتها، و“الغرباء”، وتجار السلاح والأدعياء إليها. وإضافة إلى كل ما تقدم فقد قدمت داريا نموذجاً في الإدارة الذاتية بانتخاب هيئة محلية، تخضع كل ما يجري لقراراتها، سواء على الصعيد المدني أو العسكري، وهذا ما ميّزها عن المناطق الأخرى التي أخفقت في إيجاد بدائل مناسبة للسلطة.

لعل هذا كله يفسّر إصرار النظام وحلفائه، طوال الفترة الماضية، على قتل داريا، فهو في الحقيقة أراد قتل روح الحرية والكرامة والصمود التي تبثّها هذه المدينة في سوريا كلها، وتالياً قتل الأسطورة التي تسطّرها، وقتل نموذجها النبيل الذي يدحض كل ادعاءاته، وذلك بانتهاجه سياسة التدمير الممنهج ضدها، لإبادتها بشراً وحجراً، بل وإزالة معالمها نهائيا.

كما يفسر ذلك أن التسوية التي تم عقدها لم تقتصر على انسحاب المقاتلين (حوالي 700 مقاتل)، فقط، منها، إذ أنها شملت خروج، والأصح إخراج، كل من تبقى فيها من مدنيين، أي أننا إزاء عملية تهجير (ترانسفير) إجباري، يتم تحت علم الأمم المتحدة، بحيث أن هذا يصبّ في إطار عملية التغيير الديمغرافي التي جرت في حمص وتجري في دمشق (بعد ما حصل ذلك في الزبداني ومخيـم اليرمـوك والتقدم والتضامن والحجـر الأسود والقصير ويبـرود)، لتحصيل ما يسمى بـ“سوريا المفيدة”.

في هذا الإطار لن ننسى، بالطبع، أن داريا قتلت أيضا عندما اهتم البعض من الأمراء العسكريين في المعارضة باستعراضات الألوية والكتائب واستغلال اسم الله لحرف الثورة عن مطلب الحرية والديمقراطية، والاشتغال بإزاحة النشطاء السلميين مثل؛ رزان زيتونة وسميرة الخليل وناظم حماد ووائل حمادي (المختطفين في الغوطة الشرقية)، ناهيك عن انسحاب هذه الفصائل العسكرية المعارضة من القصير والنبك والضمير (حوالي دمشق)، وعدم القيام بأي عمل لنجدة مخيم اليرموك أو الزبداني، أي أن ما حصل في داريا كان تحصيل حاصل لكل ذلك.

من جانب آخر، ربما من المفيـد ملاحظة أن ما جرى في داريا يأتي في إطار التموضع الجديد للقـوى الدوليـة والإقليميـة المتصـارعة على سوريا، في ضوء التفاهم الأميركي – الروسي، وبالتزامن مع تحجيم الدور الإيراني، والدخول التـركي على الشمال السوري، من بوابة جرابلس، وفق تفاهمات تركية ـ أميركية ـ روسية.

والفكرة هنا أن النظام بعد خسارته في الشمال السوري، إثر التطورات الحاصلة بنتيجة الدخول التـركي على الخـط، وانحسار الدور الإيراني، يحاول إحراز مكاسب بديلة في دمشق وما حولها لتعزيز وضعه، ووضع حليفه الإيراني، والمعنى من ذلك أن ما جرى في داريا ربما يكون بمثابة بداية للهجوم على معاقل المعارضة في محيط العاصمة، ولا أحد يعرف مدى استعداد المعارضة العسكرية لمواجهة مثل هذا التطور، وهي التي تركت داريا أمام مصيرها دون أن تفعل شيئاً.

داريا هي قصة للبطولة والمأساة، وهي تختصر حكاية السوريين، والمدن السورية، التي تم تدميرها بالبراميل المتفجرة، والتي تمت استباحتها من قبل الطيران الروسي والميليشيات المذهبية الموالية لإيران، والتي يراد تغيير خريطتها الديمغرافية. وبحسب تعبير لمراسل “فرانس برس”، سجل هذه اللحظة، ثمة “قهر كبير بين السكان…ذهبت الأمهات بالأمس إلى المقابر لوداع الشهداء، إنهن يبكين على داريا أكثر مما بكين حين سقط الشهداء”، لذلك فإن هذه القصة لم تنته بعد. داريا في القلب.

اقرأ المزيد
٢٩ أغسطس ٢٠١٦
النظام السوري لا يستطيع العيش يوماً واحداً من دون حرب

ثلاث سمات أبرزتها السنوات الأخيرة للنظام الأسدي:

فهو نظام صارت علاقته مع الحرب الأهلية كعلاقة السمكة بالماء، ليس بمستطاعه أن يعيش ليوم واحد من دون حرب. ليس بمستطاعه أن يتحمّل يوم هدنة واحداً بعد خروج الأنسجة الأهلية السورية عليه، وبعد كل ما ارتكبه ضدها، وبعد تضخم هويته الفئوية أو نفورها أكثر من أي وقت، وبشكل متصاعد الدموية. التوازن الكارثي بين قوى ومسارات الاطاحة به، التي لم تتمكن بعد من انجاز ذلك، وبين عدم تمكنه بأي شكل كان من «الحسم» أو «الإخماد» يحكم عليه بهذه الوضعية الاحترابية المحكومة بمزدوجة تدمير المجتمع وإنهاكه التصاعدي كنظام، وهو إنهاك يعود فيقلل منه التدخل الاجنبي لصالحه، من دون ان يكون بمقدور اي تدخل ان ينتشله من مأزقه، مأزق أنه لم يعد بإمكانه أن يتحمّل يوم هدنة جدياً واحداً.

وهو من الناحية الثانية، نظام نجح في توظيف ما يمتلكه: الرابطة الفئوية لضباطه الأساسيين، سلاح المدفعية، طائرات البراميل. ونجح في توظيف ما لا يمتلكه أخصامه، بفعل جنوحهم الى الحرب في المدن، بدلاً من محاصرتها وقطع مواصلات النظام وإرهاقه بالمسؤولية التمويلية وبالاستنزاف اليومي مع الأهالي، فكانت النتيجة نظاماً لم تبقَ منه تقريباً إلا «مواصلاته»، أي خطوط إمداده، ويعتمد تهجير الأهالي. لكن بقاءه هو قبل كل شيء نتيجة لتقاطع، بالصدفة، روسي ـ أميركي.

الروس يريدون إطالة عمره لأقصى مدى ممكن، دون اي وهم بأنه سيقف على قدميه، وهم يثمنون ورقته، فطالما يجري عزلهم دولياً، وخصوصاً بعد أزمة القرم، فهم بحاجة الى بقائه كعنصر يكبح خيار «عزل» روسيا غربياً. أما الأميركيون، الذين حلوا الجيش في العراق، وكادوا يتعاطفون مع انشقاق الجيشين السوري بين «نظامي» و»حر» فانهم عادوا لفكرة ان حل الجيش النظامي كان خطأ في العراق، وبالتالي ينبغي عدم حله في سوريا، مع ان صدام حسين قادم من الجناح المدني للبعث، بخلاف حافظ الاسد القادم من البعث العسكري، والجيش النظامي العراقي حافظ نسبياً على نظاميته وانضباطيته، وظل متميزاً عن الحرس الجمهوري الحزبي - الصدامي، في حين انه لم تنوجد مؤسسة عسكرية نافر اطلاق صفة المؤسسة عليها، كـ»الجيش العربي السوري» الذي من الصعب اعتباره جيشاً نظامياً، لا سيما على صعيد العصبية المهيمنة داخله، وهشاشة التمييز بين «العسكري» و»المخابراتي». مع هذا ساد في ادارة باراك اوباما اعتقاد بأنه ينبغي الحفاظ على مؤسسات الدولة السورية، أي الجيش، جيش القصف الكيماوي للغوطة، والتهجير الطائفي لأهالي داريا والكثير من المدن والقرى قبلها، والعمالة للحرس الثوري الايراني. حل الجيش العراقي كان كارثة تسببت بها اميركا في العراق، و»الاتعاظ» من هذه الكارثة لدى ادارة اوباما، سوّغ لكارثة اخرى.

السمة الثالثة أنّه نظام استفاد من مناخات «مكافحة الارهاب» في العالم، وحاول حشر نسخته «الكيماوية البرميلية» من مكافحة السوريين بحجة الارهاب. لكنه في الوقت نفسه نظام يحكم على العالم بأن يظل غير قادر على التقدم جذرياً في ملفات معالجة الارهاب، طالما انه مستمر بالوجود كنظام. طالما بقي بشار الاسد في دمشق، لن يكون هناك اي خارطة طريق جدية وتراكمية لضرب الارهاب.

مؤلم مشهد أهالي داريا يخلون بلدتهم للمحتلين والمرتزقة. بقدر ما هو مؤلم فهو يلخّص كل هذه السمات. نظام طالما استمر بأي شكل كان فلا معالجة ناجعة للارهاب. نظام يستفيد من دعم روسيا له لتحصيل مكاسب من اميركا، ومن تسويغ اميركي لبقائه، بحجة الاستفادة من «دروس العراق». نظام يمكنه انه ان يبقى لفترة، لكنه غير قادر على الحسم العميق في اي في فترة.

اقرأ المزيد
٢٩ أغسطس ٢٠١٦
من القصير إلى داريا.. إبادة شعب ودمار وطن

في الخمسينات والستينات من القرن الماضي اعتاد الشعراء بشكل خاص على استخدام مفردات القطار وصفيره ومحطات الانتظار كرموز دالة على الرحيل عن أرض الوطن إلى بلاد المنافي والغربة والشتات والضياع. 

هذه الرموز الشعرية ذكرتني اليوم بأهل داريا أو ما بقي منهم في داريا. إنهم الآن يتوقفون على رصيف المحطات بانتظار قدوم القطارات التي تنشط الأمم المتحدة لإحضارها من أجل تفريغ داريا من أهاليها، فهذه " الأمم " لم تكن في يوم من الأيام وسيطاً نزيهاً بين الجلاد والضحية، بل كانت عميلاً، هدفه المساهمة والمساعدة في عملية التطهير وتغيير البنية السكانية في سورية.
ها هي القطارات قد جاءت، فإلى أين ستذهب بكم أيها الأحبة.!؟. هل إلى صمود جديد، أم إلى غربة قاتلة، أم إلى شتات بعده شتات.!؟.
قيل عن داريا إنها أيقونة الثورة، وعنوان الصمود، والروح الصابرة، والطفلة التي أهملها أهلها، والمدينة التي أدار الجميع ظهورهم لها، وتركوها بين أنياب الوحوش الكاسرة.
ماذا يمكن أن يقال عن فصائل المقاتلين في الغوطة الشرقية، من جيش الإسلام إلى فيلق الرحمن إلى جيش الفسطاط.!؟. ولماذا لم ينجدوا داريا منذ سنوات عدة.!؟.
الجواب واضح: إنهم مشغولون بقتال بعضهم بعضاً، وكل واحد منهم يشتغل على صناعة إمارة جديدة يكون أساسَها طغيانٌ جديد ينافس طغيان الأسد، بل ويتفوّق عليه، وفي النتيجة ستكون نهايتهم كنهاية داريا.
وماذا يمكن أن يقال عن الجبهة الجنوبية.!؟. لماذا لم تتحرك وتنقذ داريا.!؟.
الجواب أيضاً واضح وصريح: إنهم لا يخرجون عن طوع غرفة الموك، وغرفة الموك لا تريد لداريا أن تبقى صامدة، بل تريد أن تنهار وتعود إلى حضن الوطن.!!.
ولكن مهلاً.. هناك من يقول إن الجبهة الجنوبية تحركت لنصرة أهل داريا بعد أن غادروا مدينتهم، في طريقهم إلى الشمال، وهذا التحرك ذكره صديقي أبو معن في منشور كتبه على صفحته، وأنا هنا أثبت بعض ما جاء في المنشور المؤلم الساخر. يقول أبو معن: ما جرى لداريا ذكرني ببيت عتابا كنت أسمعه وأنا طفل
صديقي الما ينفعني وانا حي
شلي فيه عـنـد ردّات التـراب
ويتابع أبو معن: عادة عندنا نحن العربان نطلق كام رصاصة عند الفرح وأيضا نطلقها عند الموت. اليوم، الجبهة الجنوبية أطلقت كام فشكة من أجل وفاة داريا، فهل هو زعل على داريا أم فرح لوفاتها.!؟. ".
إنها حقاً سخرية مؤلمة وجارحة، وصرخة حادة في وجوه أولئك المتخاذلين، ممن يُطلق عليهم جيوش الغوطة الشرقية أو فصائل الموك.
داريا.. لقد فتحتِ في قلبي جرحاً هو في الأصل لا يزال مفتوحاً منذ عام 2013، فأختك الأولى سارت على طريق السقوط في 4 حزيران من ذلك العام 2013.
وأختك يا داريا هي مدينتي القصير، فهل تذكرين مدينة القصير يا داريا.!؟.
لو أردنا أن نضع نقطة واحدة على حرف واحد من كلمة واحدة مما جرى لكما، لقلت إن قواسم مشتركة تتلاقى بينكما، كما تتلاقى الأوردة الدموية في البدن، فكلاكما وقف شوكة في حلق سلطة الأسد، واستعصت عدة سنوات على طموحات مناصريه من إيران إلى حزب الله.
وكلاكما كنتما مستهدفتين وجودياً ومذهبياً.. نعم وجودياً ومذهبياً، فحزب الله كان يضع عينه على القصير، لتكون له القاعدة المتقدمة والممر الدموي، بحيث يرسل قتلَتَه من لبنان، فيمرون عبرها إلى حمص وحلب، وحتى دمشق دفاعاً عن السيدة زينب.!!!. ثم يعود الكثيرون منهم قتلى وجرحى ومتمارضين، فيعبرون أرض القصير باتجاه لبنان. ألم أقل لكم كانت القصير ولا تزال هي الممر الدموي لهم وعليهم.!!.
أما أنت يا داريا، فكنت أيضاً مستهدفة وجودياً ومذهبياً، مثلما هو حي الوعر مرشح للاستهداف، فإيران وضعت عينها الصفوية على المواقع الأكثر أهمية في الوطن السوري لتغيير بنيته السكانية، وكانت داريا على رأس هذه المواقع. ألم يسوّقوا أن فيها مقام السيدة سكينة بنت الحسين.!؟، وأن دريد بن رفت الأسد قرر بعد تحرير المقام أن يتوجه إلى هناك ليصلي قربه ركتين تقرباً لله تعالى.!!؟.
لهذه الأسباب وغيرها استهدفوا القصير وداريا بدمار ما بعده دمار، حتى أن ما سقط عليهما من قذائف متنوعة من العيار الثقيل يعادل أكثر من قنبلة نووية، فقبل سقوط القصير بعدة أيام قدرتُ ما سقط عليها في يوم واحد فقط بأكثر من عشرين الف قذيفة، ففي كل ثانية، وليس في كل دقيقة، كانت تسقط قذيفتان أو ثلاث، ومنها الصواريخ العابرة للمحافظات، وظلت الحال هكذا طوال الليل والنهار.. وهكذا فعلوا بأختها داريا أيضاً.
إلا أن كلتا المدينتين عانت من إهمال الأقربين والأبعدين على حدّ سواء، مع فارق بسيط، فالقصير رفدها في الوقت الضائع بعض المقاتلين من حلب ودير الزور، وعلى رأسهم عبد القادر الصالح قائد لواء التوحيد يرحمه الله، والعقيد عبد الجبار العكيدي، غفر الله له على ما فعل، حين وقف إلى جانب ميليشيا صالح مسلم في معركة عين العرب، وهي ميليشيا عرقية تسعى لإقامة كيان كردي انفصالي في الشمال السوري.
والخلاصة أن القصير وداريا صمدتا وصبرتا وضحتا، وإن كانت نسبة الصمود والصبر في داريا أكبر مما كانت في القصير، والسبب يعود إلى أن ثوار داريا كانوا تحت قيادة واحدة، بينما كان ثوار القصير تحت عدة قيادات متفرقة متنافرة، وهذه حقيقة لا يجب نكرانها.
ثم جاء ما ليس منه مفر، إما الانسحاب أو الإبادة التامة، وهما أمران أحلاهما مرّ.
نظرت القصير إلى الكيفية التي تتناسب مع واقعها الميداني، فاختارت عدم التفاوض إلا على خروج الأطفال والنساء، أما الرجال والثوار والجرحى فاختاروا المرور من بين براثن الموت سيراً على الأقدام في أرض شديدة الوعورة لمسافة عشرين أو ثلاثين كيلو متراً، ووابل الرصاص والقذائف تلاحق الجميع، حتى استشهد العشرات، بل المئات منا، ونحن نمر من مكان أسميناه " فتحة الموت " واقع بين حاجزين عسكريين، وكنت أنا الكبير في السن واحداً من العابرين، وقد كتبت سيرة ما جرى من أهوال في كتاب أسميته " ملحمة الموت والحياة ".
أما داريا فقد اختارت الكيفية التي فُرضت عليها، فبعد أن صمدت لعدة سنوات ذلك الصمود الأسطوري، وبعد أن بلغت القلوب الحناجر، ونضبت الآمال، وانغلقت الدائرة، ولم يعد هناك من مسلك للخروج، لجأ ثوار داريا وما تبقّى من أهلها إلى التفاوض مع أشرس عدو في التاريخ، وهو تفاوض يضع داريا في موقع الندّيّة وليس في موقع الاستسلام.
ويكفي أن نقول إن داريا تقع جغرافياً في حلق سلطة الأسد، ومع ذلك فمن تبقى من اهلها، ومن بينهم نحو ألف أو لنقل ألفا مقاتل ديراني صمدوا عدة سنوات أمام ما يسمى الجيش السوري من الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة وعدة ألوية عسكرية أخرى وآلاف الشبيحة، إضافة إلى ميليشيات الحرس الإيراني ومعها ميليشيا حزب الله، ثم من بعد ذلك الطيران الروسي ومستشاريه العسكريين. إنه فعلاً صمود أسطوري، فهنيئاً لك على صمودك يا داريا.
........................................
وأخيراً يا داريا، أتذكر أبو راتب، وأنا في وهدة المأساة. هل تعرفين أبو راتب يا داريا.!؟. هو من أهاليك، إنسان شعبي، بسيط، طيب، يلبس الزي التقليدي؛ الشروال والصدرية، ويجر حماره المحمل بأنواع شتى من الخضروات، أطلب تجد، سبانخ، بقدونس، لِفْت، شمندر أحمر، طرخون، بصل أخضر، نعنع، باذنجان، بندورة، فليفلة، ملوخية، وغير ذلك.
كنا في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي نسكن في حي الميدان قرب سكة القطار جنوبي مستشفى المجتهد، وحين يأتي أبو راتب إلى الحارة ينادي: يا أخضر يا ريان، فتسارع نسوان الحارة وتتحلق حوله، وهنّ يفحصنَ خُضْرة أبو راتب بالأعين والأصابع.
ويحدث أن تمزح إحداهن معه، وتتهم خضرواته بأنها مسقيّة بمياه الصرف الصحي، فيرد عليها فوراً وبصوته الأجش وعفويته المعهودة: الله وكيلك يا أختي، الخُضْرة من أرضي ولا أسقيها إلا بمية بير صافية زلال ".
نعم يا داريا، مياه آبارك صافية زلال، وأرضك طيبة، وخضرواتك نقية، وأنت تجمعين بين الصفاء والخصوبة والنقاء، وتضيفين إلى كل ذلك الشجاعةَ النادرة.
أما العنب الديراني، فيا عيني على العنب الديراني، لاسيما إذا كان من عرائش أبو راتب.
مرة طلبت منه عُودين لأغرسهما في داري في القصير، فأحضر لي رزمة عيدان محترمة. أخذتها وشددت الرحال إلى بلدتي، وفي أرض الدار زرعت عودين، وأعطيت الباقي لبعض أقاربي وأصدقائي، وبعد سنوات قليلة أصبحت القصير وداريا متلاحمتين عبر عرائش العنب، فالأصل من داريا والفرع في القصير، وحين يأتيني ضيوف، أقدم لهم صينية العنب، وأقول لهم هذا عنب ديراني ــ قصيراوي، هلمّوا.
آآآآه.. وبعد نحو أربعين سنة، تلاحمت داريا والقصير مرة أخرى، ولكن هذه المرة عبر استهدافهما بالقتل والتدمير من أعداء حاقدين، فاستشهد الآلاف من المدينتين، وطُرد من تبقى من الأهالي في تطهير عرقي ومذهبي لم ولن يشهد التاريخ مثيلاً له من قبل ومن بعد.
فهل يعود أهل القصير إلى القصير، وأهل داريا إلى داريا.!؟.
الأحداث التي تزداد تشابكاً وتعقيداً، تجعلنا نقول: الله أعلم.

 

اقرأ المزيد
٢٨ أغسطس ٢٠١٦
قراءة حلبية/ جرابلسية

لامني أصدقاء، عندما قلت إن فك حصار حلب يؤسّس واقعاً جديداً بالنسبة لمسار الثورة السورية، من علاماته أن ما تم إنجازه ميدانيا هناك لن يكون قابلاً للإلغاء، لأن إلغاءه يتجاوز هزيمة الثورة إلى هزيمة تركيا التي تعمل على أكثر من محور وجبهة، داخلها وخارجها، للرد على ما يدبر ضدها من تهديدٍ يطاول وجودها، وتصرفت بروحية من يرد خطراً مصيرياً عن نفسه، عبر حلب، حيث تركّزت، في العام الأخير، مخاطر تحمل دلالاتٍ قاتلةً بالنسبة لها، قدر ما تحمل مثل هذه الدلالات بالنسبة لثورة سورية وشعبها، لا عجب أنها فرضت عليهما شراكة مصيرٍ انتقلت بتركيا من التعامل المتوجس مع ما يجري إلى مجابهته برؤيةٍ صراعيةٍ استراتيجية الأبعاد، يتطلب تطبيقها ممارسة دور هو ضمانة إقليمية/ دولية الأبعاد لثورة سورية التي كانت قد بلغت، بحصار حلب، لحظةً مفصليةً حاسمةً، اعتبرها النظام و"مستشاروه" الإيرانيون انتصارهم النهائي ضد السوريين، وقرأها الروس خطأً، حين طلبوا من شعب حلب مغادرة مدينته، ومن مقاتليها إلقاء سلاحهم، فجاء الشعور بالخطر الوشيك تركياً إلى الانخراط في شراكة مصيرية مع الثورة، ما لبثت أن قلبت الموازين، وأخذت الأوضاع إلى حال مغايرة لما وجد السوريون أنفسهم فيه، معظم الوقت بعد ظهور "داعش"، ودورها الإجرامي لصالح الأسد ونظامه، فكان من الطبيعي أن تترجم شراكة المصير إلى جهد ميداني يفك قبضة حلف الإجرام الأسدي/ الإيراني/ الروسي عن حلب، ويطرد شريكه الداعشي من جرابلس، وأن يتلقى الحلف في المدينتين ضرباتٍ ستكون نتائجها مما سيصعب على الأسدية المتهالكة، وملالي الإجرام والعدوان في طهران، وقفه، أو مواجهته في مقبلات الأيام، ولو بلغ عدد طائرات فلاديمير بوتين ألفاً.

ليس ما حدث قابلاً للإلغاء، لأن شراكة المصير التركية/ السورية ليست قابلة للإلغاء، فيما يتصل بالعلاقة مع التكامل الأسدي/ الداعشي. وإذا كان من الضروري تعداد إنجازات الشراكة في الأسابيع القليلة الماضية، فهي:
أولاً وقبل كل شيء، إبطال مشروع صالح مسلم الانفصالي، الذي توهم أنه سينجح في فرض كيان دولوي خاص بحزبه، على العرب والكرد السوريين والعراقيين، وعلى تركيا وإيران، وروسيا وأميركا، وصدّق أن استخدام مرتزقته في الحرب ضد "داعش" يحتم موافقة واشنطن على أوهامه، وها هي تكشر عن أنيابها في وجهه، بمجرد أن طرح الرئيس التركي، أردرغان، عليها الاختيار بين مشروع مسلم المستحيل ومصالحها في تركيا ومعها.

ثانياً، إخراج "داعش" من معادلات الصراع في سورية، وبداية عودة هذه المعادلات إلى ما كانت عليه بعد الثورة، البديل الديمقراطي هو الخيار الوحيد بعد إسقاط الأسد. أخرجت شراكة المصير، بوضعها خطّا أحمر للنظام وإيران في حلب، ولصالح مسلم في الشمال السوري، الإرهاب من حسابات البدائل السورية، وعزّزت، بدعهما معركةً ينفرد الجيش الحر، بخوضها من دون أية إضافات "غير معتدلة"، فرص البديل الديمقراطي الذي بنيت وثيقة جنيف والقرارات الدولية على حتميته، وتطرحه اليوم شراكة المصير بديلاً وحيداً للنظام. عند هذه النقطة، سيكون من المهم والمصيري أن تقوم جبهة فتح الشام بخطوةٍ إضافية، تستعيد، بواسطتها، وتؤكد بصورة علنية وملزمة، وعودها الأولى حول قبولها الاختيار الشعبي الحر لبديل النظام، وتعهدها بعدم استخدام العنف لتحقيق أهدافها السياسية، بعد إسقاط الأسد، وقبولها فكرة الشعب السوري الواحد ووضع جهادها في خدمة جميع مكوناته، بما في ذلك العلوي منها. ومع أنني أعي صعوبة المطلب الأخير ، فإنني أعتقد جازماً أن تحولاً كهذا في مواقف جبهة النصرة سيلعب دوراً حاسماً في تهيئة الأجواء السورية والعربية والدولية لإسقاط النظام، من دون أن تستبعد حرية بلاد الشام الخيار الإسلامي، الحر والسلمي.

مع فك الحصار عن حلب، وتطهير جرابلس من حلفاء الأسد، تتاح لنا فرصةٌ، إن أحسنا الإفادة منها، أخذتنا إلى حل عادل، لا محل للأسد والإرهاب فيه.

اقرأ المزيد
٢٨ أغسطس ٢٠١٦
طوق النجاة السوري بين روسيا ومعاذ الخطيب

لا صوت يعلو فوق صوت المعركة شعارٌ يفهمُ منه كثيرون اقتصار المعركة على الجانب العسكري، وعدم الخوض في المجال السياسي، وهذا تحييدٌ للعقل، وتقييد لميدان العمل، والثورة ميدان آخر كليا، يحتاجُ إلى خوض جميع المعارك، عسكرية وسياسية وإعلامية وحقوقية ...إلخ. وفي الحالة السورية، لولا البندقية وتضحيات حامليها، لكان الأسد يتربعُ الآن مرتاحاً على عرشه فوق دماء السوريين وأشلائهم، وبمباركة دولية. ولكن، في الوقت نفسه، لا غنى عن المعركة السياسية التي ستختصر الطريق إلى النصر، وتجنبنا حالة الاستنزاف التي ندفعُ إليها دفعاً.

فبعد اتساع جغرافية الصراع، وتعدّد أقطابه، لاتزال هناك خيوط في أيدي السوريين، على الرغم من تدخل قوى إقليمية ودولية، وحتى نستطيع أن نكون رقماً صعباً في حل المعادلة السورية، نحتاج إلى أن نفكر بطريقة جديدة مختلفة عما سبق، ونستجمع قوانا العسكرية والسياسية والمدنية، فالصراع أصبح مع الاستبداد والاستكبار الدولي، ولم يعد يقتصر على الأسد وحده، فكل اللاعبين الكبار منخرطون في استنزافنا، سواء الذين يقاتلون، بطائراتهم وعسكرهم، أو الذين يتلونون أمام كل استحقاق إنساني وحقوقي في وجه الأسد، فيبيعون الشعارات، ويطلقون يد الجلاد ويدعمون أطرافاً على حساب أخرى، لتستمر الحرب، ويستمر النزيف السوري لخدمة مصالحهم فقط.

وتستلزم النجاة بالمركب السوري مد الجسور بين القوى الثورية، مؤسسات وأفراداً، لبلورة رؤية سياسية واقعية، والبحث عن خيارات جديدة، من دون التخلي عن الثوابت، مع الاستفادة من حالة الانتصارات العسكرية الأخيرة، وترجمتها في ميدان السياسة. وإذا أردنا النجاح في هذه الخطوة، لا بد لنا من الابتعاد عن لغة التخوين والتسفيه، والتي كانت، على مدار خمس سنوات من عمر الثورة، أداة اغتيال للأفكار والأشخاص، أدت إلى وأد روح المبادرة، حتى فرّت العقول والكوادر، وانزوت في ركن الانتظار، وطفت على الساحة طبقةٌ سياسيةٌ، همها إرضاء الشارع أمام الإعلام لا خلاصهُ. وفي الكواليس، الانبطاحُ الصفيق على أعتاب الدول وسفاراتها، ففقدت هذه الطبقة هيبتها أمام الدول، وخسرت ثقة الناس، بسبب عدم الإنجاز، فأصبحت جزءاً أصيلا من المشكلة، بدل أن تكون بوابةً للحل والأمل.

وللخروج من حالة الاستعصاء السوري، لابدّ من تشكيل طبقةٍ سياسيةٍ جديدةٍ، عمادها ثوار الميدان والشخصيات الوطنية التي تم تحييدها وتهميشها في العمل السياسي لصالح الثورة، مع تمثيل كل القوى السياسية الأخرى التي تتقاطع مع مشروع الثورة الوطني، وكلٌ حسب حجمه وتأثيره الحقيقي. تسعى هذه الطبقة، صاحبة القرار والتأثير الفعلي، إلى خوض المعركة السياسية، وفي مقدمتها المواجهة مع روسيا التي تعد الآن أهم القوى المنخرطة في الصراع المباشر في سورية لصالح الأسد. وهي كما يعلم الجميع، دولةُ مافيا همها مصالحها فقط، ولا تلقي وزنا لدماء الأبرياء. وفي غياب حلفاء حقيقيين، بمستوى روسيا، على الساحة الدولية، لا بدّ من الحديث معها ومحاولة تحييدها من صف الأسد، وهو عمل صعبٌ وطويلٌ، وليس مستحيلاً، ويحتاج إلى قوة ردع ميدانية حقيقية، توازيها قوة سياسية، تدخل معها في مفاوضاتٍ في سبيل تحقيق هذا الهدف. وتحييدها من صف النظام إن حصل يعتبرُ إنجازاً عظيماً على طريق وقف الحرب والخلاص السوري، فلا يخفى على أحد أن التدخل العسكري الروسي أوقف الانهيار العسكري للنظام ومليشياته، ومن خلفها إيران.

والآن، وبعد تمكن الثوار من كسر حصار حلب، أثبتت الثورة السورية، مجدّداً، قدرتها على قلب الموازين العسكرية، ولابدّ من استثمار هذا الانتصار سياسياً مع الروس قبل غيرهم، وقد رأينا كيف اتجهت روسيا إلى لقاء جزء من المعارضة السورية، بقيادة الشيخ معاذ الخطيب في الدوحة، في محاولةٍ منهم للعودة إلى طاولة المفاوضات، وفق الرؤية الروسية. ويدرك الخطيب تماماً أهمية تحييد الروس من المعادلة السورية، ويبني، من البداية، تصوراته على هذا الأمر، وحاول كسب ودهم لصالح الحل، بدل الدفاع عن أحد أطراف الصراع. لكنه، في كل مرة، يخطئ في آليات عمله نحو هذه القناعة، فيتركُ قوى الميدان، ويلجأُ إلى طبقة السياسيين التي تحدثنا عنها، والتي تعلمُ جدوى الفكرة، ولا تعمل عليها. ثم يطلقُ أفكاره ومبادراته في جوٍ عام، يرى فيه معظم السوريين حرق الطائرات الروسية أبناءهم، ويعلمون أن الروس مافيا لا تتحرك باتجاه الشخصيات النظيفة، إلا لخدمة مصالحها وفرض رؤيتها وشقّ صف الثوار، وليس بحثاً عن الحلول. فيصادمُ الناس من دون جدوى، ويصطاد السياسيون في الماء العكر، وتبدأ المزاودات السياسية الرخيصة.

وجزء كبير من الناس يثق بالشيخ معاذ الخطيب، ويعلمُ أنه يريد خلاص السوريين. ولكن، لن يكون هناك خلاص بدون قوى الميدان، وفصائله وأهله القابعين تحت محرقة الطيرانين، الروسي والأسدي وبراميلهما، فهؤلاء، مهما أثرت عليهم القوى الدولية والإقليمية، لن تسلبهم همتهم في معركتهم مع النظام. وعلى كل السوريين الشرفاء، وفي مقدمتهم الخطيب، أن يتجهوا إلى الميدان وقواه، ولا يبخلوا عليه بالوقت والجهد، فأهلهُ هم الحاملُ الحقيقي أي مشروع لخلاص سورية، فلن يكون هناك حل بدونهم، وتشكيل طبقة سياسية جديدة صاحبة قرار، تعبر عن تضحيات السوريين وتطلعاتهم، هو أولى الخطوات نحو هذا الحل، وعندها يصبحُ هذا المشروع مشروع الشعب، وليس مشروع فئةٍ أو حزبٍ أو شخص. وفيما عدا ذلك، كل تحركات روسيا، ولقاءاتها مع أي جهة لا تمتلك القرار الفعلي، مجرد مناورةٍ سياسيةٍ منها، لخدمة مصالحها فقط، وشق صف المعارضة السورية لصالح فرض رؤيتها للحل السوري.

اقرأ المزيد
٢٨ أغسطس ٢٠١٦
ملاحظات على هامش الثورة

هذه ملاحظات دونتها خلال الأيام القليلة الماضية، وأطلعتُ العديد من الأخوة والأخوات الذين أثق بوطنيتهم العالية على بعض منها.. أعرضها على العام هنا مؤكداً أنها لا تمثل ولا تلزم أحداً سواي.. وأنها مجرد تفكير بصوت مسموع (أو مقروء إذا شئتم)، فأنا ممن يعتقدون أن أحد مقاتل أية حركة وطنية أو سياسية إنما يكمن انغلاقها على أعضائها، وعدم انفتاحها على الجمهور كله تحت ضوء الشمس ورابعة النهار... محاولة للتفكير بمنهج بديل للخروج من هذه المقتلة، وصيانة سوريا الغالية مما يُخطط لها في عواصم العالم! 


خلفية لا بد منها
يجب أن نعترف بكل جرأة ووضوح أن الثورة الشريفة التي قام بها شباب وشابات سورية من أجل الحرية والكرامة قد فقدت بريقها وألقها، واستطاع النظام المجرم بالقمع الوحشي والإغراءات والاختراقات دفعها نحو التسلح الذي شكل مقتلاً لها.
ذلك أن التسلح يعني أولاً ضرورة الارتهان لقوى خارجية للتزود بالسلاح والذخيرة ورواتب المقاتلين.
ولأن التسلح يغري الجهلة والمتسلقين وحتى الزعران بركوب هذه الموجة، كي يصبحوا قادة بالقوة والجبروت على مجتمعهم ومحيطهم، وهنا يبدأ تذمر الناس وضيقها، وصولاً إلى كفرها بالثورة!
ولأن التسلح (والقمع الوحشي للنظام) يجلب الغرباء للتدخل في الثورة تحت ستار (نصرة الإسلام والمسلمين)، وبدفع من قوى إقليمية تريد جزءاً من الكعكة السورية!
وقد دفع النظام إلى ذلك بكل قوته، وأطلق سراح المتشددين ذوي الخبرات في الحركات الجهادية لكي يبدؤوا دورهم في تطييف الثورة واستخدام السلاح.
كل هذه العوامل أفقدت الثورة بريقها في عيون حاضنتها الشعبية أولاً، ومنحت النظام ما يحتاجه من مبررات وحجج للاستمرار في القمع وتكتيل قواعده وأجهزته حولة باعتبارهم أصبحوا مهددين بحياتهم.
وزاد من الأثر المأساوي للتسلح والتطييف أن القوى الدولية التي تظاهرت بتأييدها لأهداف الشعب السوري في الحرية والعدالة، وجدت المبرر لسحب يدها تدريجياً، وتحويل مواقفها حتى أصبحت أقرب للنظام منها للشعب المعذب المكتوي بنار البراميل.
كل ذلك ترافق مع غياب القيادات السياسية الواعية، والتغييب القسري لها من قبل النظام قتلاً وسجناً، مع إطلاق سراح المتشددين ليتصدروا المشهد العام ويزيدوا من تنفير مجتمعهم والعالم كله من الثورة.
هذه لم تعد إذن ثورة الشعب السوري.. ليست الثورة التي خرجت من أجل حرية وكرامة السوريين.. ليست ثورة غياث مطر، وباسل شحادة، ورزان زيتونة، ومشعل تمو، وعبد العزيز الخير، والآلاف غيرهم ممن اغتالهم النظام أو غيبهم.. فقد استولى عليها الغلاة الذين أظهروا (في المناطق التي سيطروا عليها) عداءهم لقيم الحرية والكرامة.
أما الشخصيات التي سارعت "لتمثيل" الثورة في الخارج، فقد أظهرت مع بالغ الأسف قصوراً بالغاً في الرؤية، ونقصاً شديداً في الخبرة السياسية، واستكانة مخجلة أمام تدخل القوى الإقليمية والدولية.. حتى أصبحت بالفعل ممثلة لهذا الطرف الإقليمي والدولي أو ذاك، أكثر من تمثيلها لجماهير الثورة ومصالح السوريين.
وبالتالي وجد النظام المجرم الأمور مهيأة لاستمراره في القمع والقتل، بصمت عالمي لا سابقة له، وبدعم من حلفاء طائفيين مصرين على بقائه لأنه أصبح حصان طروادة بالنسبة إليهم في سعيهم لتغيير ديمغرافية سوريا، وإلحاقها بالإمبراطورية الفارسية المدعومة أمريكياً وروسياً.
وخلف كل هؤلاء، يتربع الكيان الصهيوني المستفيد من كل هذا الدمار والقتل لهذا البلد العريق وتغييبه لعشرات السنين القادمة.
لقد ظن البعض أن نداءاتنا للحفاظ على سلمية الثورة في بداياتها كانت ناتجة عن مثالية أو ملائكية، أو عدم فهم لطبيعة النظام! والحقيقة أن معارضتنا للتسليح كانت ببساطة لأنه لا ينجح مع مثل هذا النظام، وإلا لما دفَعَنا النظام إليه دفعاً لكي يقاتل في الساحة التي يتقنها جيداً! ساحة القتل والتعذيب والقصف الأعمى! كان موقفنا في الدعو للسلمية نابعاً من فهمنا الدقيق للنظام والآليات المطلوبة لمواجهته.
غير أن الاستمرار في السلمية كان بحاجة إلى درجة عالية من الوعي والصبر وضبط النفس لم تكن متوفرة لدى قواعد الثورة. كما كان بحاجة إلى قيادات ميدانية متمرسة تستطيع ضبط وتوجيه حركة الجماهير وتكريس السلمية وحض الناس عليها. وقد اغتيلت سريعاً جميع القيادات التي كانت تبشر بمثل هذا النهج. وبالمقابل وجدنا القيادات التلفزيونية تتبارى في دغدغة مشاعر العامة وتدعو - بجهل بالغ - للتصدي للنظام من مهاجرها الأمينة الهادئة! غير أن ست سنوات من فشل هذا الخيار لا بد أن توقظ المخلصين إلى الحقيقة الدامغة، وهي أنه لا منتصر في سوريا اليوم ولا غداً.. فالقوى التي تغذي الصراع لن تسمح بهزيمة ماحقة لأي طرف.. وجل ما يمكن تحقيقه هو التقسيم المستند إلى الأمر الواقع، وهو ما بدأنا نر

ى مقدماته مع بالغ الأسف!
نحن إذن بحاجة إذن لثورة جديدة على الثورة.. ثورة تعيد قيم الكرامة والوطنية الحقة.. ثورة لا تستخذي أمام المال السياسي، ولا تبيع ولاءاتها ودماء شعبها.. ثورة وطنية سورية لا شية فيها!
وبالتالي فإن هناك حاجة إلى حركة شعبية جديدة.. هناك حاجة لا إلى حزب سياسي جديد، ولا لمنظمة معارضة، بل لوطن جديد ينهض من تحت الرماد بجهود جميع أبنائه.. حركة للسوريين جميعاً على كلا الجانبين لإعادة التفكير بمصير وطنهم الذي أصبح على كف العفريت الصهيوني الإيراني الدولي.. حركة لاستنهاض قيم الوطنية السورية بكل معانيها لتفويت الفرصة على الأعداء من كل صنف ولون. حركة تكون باختصار:
حركة وطنية سلمية سورية، تؤمن بحرية سوريا واستقلالها، وبحق جميع مكوناتها في العيش في ظل دولة ديمقراطية عادلة.
حركة تريد اجتراح مقاربة مختلفة للخروج من النفق المظلم والخطير الذي دخل فيه الوطن دون أمل بالخروج منه!
حركة تريد جمع أشتات السوريين من جديد، للحدب على وطنهم، وإعادة المحبة بينهم، وعدم الدخول – في هذه المرحلة الخطيرة جداً – في التفاصيل السياسية التي تفرق بينهم، وذلك كمقاربة جديدة ومختلفة لتناول الأزمة المستعصية التي تعصف بالوطن وتهدد مصيره.
حركة تريد – مرحلياً على الأقل – تجاوز خلافات السوريين، والتركيز على ما يجمعهم لا على ما يفرقهم. ففي نهاية المطاف، المباديء والممارسات أهم من الأشخاص، وسوريا أهم وأغلى وأبقى من هوية حاكمها.
إن بناء حركة شعبية كهذه لن يكون بالأمر السهل أبداً.. فقد بلغ اليأس بشعبنا كل مبلغ، وساهمت هيئات المعارضة بنصيب وافر من المسؤولية عن تيئيس الناس وخذلانهم. ونخر الفساد والمحسوبية والتنفع هياكل المعارضة حتى أصبح الشرفاء يتطيرون من أية دعوة للعمل العام. فكل مغامر أصبح يسعى لتأليف تجمع لكي يتاجر بعد ذلك بأعضائه إما للوصول إلى المساعدات القذرة من هنا أو هناك، أو للوصول إلى مناصب خلبية ربما منحته مالاً أو شهرة أو زعامة!
ولذلك فإن أول ما يجب الحرص عليه هو أن تُصمم هذه الحركة بحيث تكون مغرماً لا مغنماً، بحيث يهرب منها ضعاف النفوس، ولا يأتي إليها إلا من يريد العطاء من ماله أو جهده أو وقته أو دمه إذا تطلب الأمر! لا بد – حتى تنجح هذه الحركة الشعبية – من أن تجعل الانتساب لها شرفاً يتطلع إليه الوطنيون الشرفاء، ويرنو إليه شباب الوطن بمختلف انتماءاتهم!
إننا نرى أن الحركة الشعبية الجديدة يجب أن ترتكز على المبادئ والاستراتيجيات التالية:
• إعادة الحراك السلمي الوطني الرافض للتدخل في شؤون سوريا الداخلية من جميع الأطراف، والرافض لأي وجود أجنبي على أراضيها من أي طرف غير سوري، وبالتالي إنقاذ سوريا من التدخلات الخارجية كلها، وخروج كافة القوى والمليشيات والجيوش والقواعد غير السورية من أرض سوريا تمهيداً لاستعادة القرار الوطني السوري.
• دم السوري على السوري حرام.. ويكفي سوريا ما سُفك من دماء أبنائها. وبالتالي ضرورة وقف نزيف الدم والتدمير، الناتج عن الارتهان المذل لكافة القوى الخارجية التي تمول وتؤجج الصراع بين السوريين تمهيداً لتقسيم وطنهم، وتفتيت وحدتهم.
• فك الحصار عن كافة المناطق المحاصرة، والسماح بدخول المساعدات والمواد الغذائية والطبية إليها دون قيد أو شرط.
• إطلاق سراح كافة المعتقلين لدى جميع الأطراف، ووقف جميع أعمال الاعتقال والخطف في جميع أنحاء سوريا.
• السماح بعودة المهجرين في الداخل والخارج إلى بيوتهم ومناطقهم دون أعمال انتقامية من أي طرف كان.
• السوريون أدرى بشعاب وطنهم، وسيجلسون لتحديد طريقة وصولهم إلى الدولة الديمقراطية العادلة التي يريدونها بمجرد خروج كافة القوى والمليشيات، وتوقف الدول عن التدخل بشؤونهم.
• يجب على الأمم المتحدة أن تعيد تقييم موقفها، وأن تطالبَ كافة القوى الإقليمية والدولية بالكف عن التدخل في الشأن السوري، وأن تمارس دورها الحقيقي لاحترام القرار الوطني السوري واحترام إرادة السوريين الحرة المستقلة.
معالم على الطريق:
1- لا بد من بناء أوسع حركة شعبية سورية ممكنة من المؤمنين بالأهداف الواردة سابقاً داخل الوطن وخارجه. ومن مختلف المرجعيات والأطياف الفكرية والسياسية، باعتبار أن ما يجمع كل هؤلاء هو الإيمان بسوريا حاضراً ومستقبلاً.
2- اتباع الطرق السلمية في التعبير عن الرأي وفي الضغط الشعبي في الداخل والخارج لتحقيق أهداف الحركة، واتباع كافة الاستراتيجيات والتكتيكات السلمية التي تزخر بها تجارب العالم في هذا المجال.
3- وضع آلية لاختيار قيادة الحركة من الأشخاص المشهود لهم بالنزاهة، والوطنية، وعفة اليد واللسان، والتاريخ المشرف، والحرص على سوريا بجميع مكوناتها.
4- وضع آلية شفافة للمحاسبة والمكاشفة، وتجديد القيادات، وإعطاء دور محوري وازن لشباب الوطن وشاباته باعتبارهم الأداة الرئيسية للتغيير.
5- الخروج إلى الشمس، وتجنب الأسماء الوهمية لأن ما تقوم به الحركة لا يحق لأحد أن يختلف معه، ناهيك عن إدانته أو

المعاقبة عليه، وتجنب ممارسات الغرف المغلقة والأسرار، ووضع الجمهور أولاً بأول بكافة أنشطة الحركة واستراتيجياتها وتحركاتها ومباحثاتها مع أي طرف كان.
6- تحريم تلقي أي دعم مادي مشروط من خارج أعضاء الحركة. فالحركات السلمية الشعبية إنما تنفر خفافاً، وليست بحاجة إلى الأموال الطائلة المُفسدة، بل هي بحاجة إلى المؤمنين المخلصين، وبالتالي فلن يكون للطامعين الأجانب من سبيل لشرائها أو حرفها أو اختراقها.
7- وضع آلية بالغة الشفافية تعرض دورياً على أعضاء الحركة وعلى الجمهور عموماً في حجم الأموال المتبرع بها ومصادرها، وآليات وأوجه صرفها تفصيلياً.
8- تصميم راية واحدة تمثل سوريا فقط، ويرفعها جميع منتسبي الحركة والمؤمنون بنهجها، ويكون رفع هذه الراية الوطنية والتمسك بها من باب أضعف الإيمان.
9- يقدم كل منتسب للحركة سيرة ذاتية مبسطة يوضح فيها ما الذي يمكنه تقديمه لسوريا. بدءاً بالدعم المادي، ومروراً بالعمل مع الجمهور، والعلاج النفسي، والكلمة، واللوحة، والفيلم، والتظاهر، والعمل مع الجهات السياسية الأجنبية ومنظمات حقوق الإنسان، وإرسال الرسائل للمنظمات والسياسيين وقادة الرأي في كل ساحة من الساحات، وانتهاء بمجرد تبني راية هذه الحركة ورفع علمها ومشاركة بوستاتها.
10- تتولى قيادة الحركة رسم استراتيجية تفصيلية بعيدة المدى وخطوات مرحلية محددة لتحقيق أهداف الحركة، وتوسيع رقعة أعضائها والمؤمنين بها، وتحدد في كل مرحلة طبيعة الأنشطة السلمية والإعلامية التي يجب القيام بها داخل الوطن وخارجه. ويتم إطلاع كافة الأعضاء، وحتى الجمهور الواسع، على تلك الاستراتيجية إشراكاً لأوسع الشرائح في تبنيها وتنفيذها.
11- في جميع أدبياتها وتصريحاتها ومواقفها تلتزم الحركة بالتعبير عن الهم السوري العام، والمصلحة السورية العليا، والهدف المركزي الذي قامت من أجله، دون الدخول في الخلافات السياسية التي تضعف دورها الوطني الأساسي كحركة جامعة للسوريين بمختلف منابتهم وانتماءاتهم السياسية والفكرية، وتؤجل ما عدا ذلك من قضايا (رغم إدراكها للخطورة والتعقيدات الكبيرة لتلك القضايا).
12- وبناء على البند السابق، ورغم الصعوبات الجمة، تسعى الحركة إلى تعزيز القواسم المشتركة بين السوريين، وتهذيب الخطاب العام، وتصليب الموقف الوطني حول الثوابت. وفي سبيل ذلك تسعى جاهدة إلى ترشيد خطاب أعضائها، واستبعاد كل من يعمل بشكل مباشر أو غير مباشر على تعميق الهوة بين السوريين، دون الحجر على حرية الناس ومصادرة حقهم في الاعتقاد والتعبير في إطار المصالح الوطنية العليا.
13- في سعيها لبناء تيار شعبي واسع حول أهدافها المركزية، تعمل الحركة على الاستفادة من التجارب العالمية في مجال المصالحات الوطنية، والتوعية الوطنية، ومد الجسور، وأشكال العمل المدني الموحد لتحقيق أهدافها النبيلة.

وأخيراً، ليست لدينا أية أوهام في مدى سيطرة القوى الإقليمية والعظمى على القرار السوري على الجانبين. غير أننا ممن يؤمنون بقوة الفكرة إذا ما تهيأ لها حَمَلةٌ مؤمنون مضحون. فهي كالزهرة التي تشق أعتى الصخور. ولا بد أن تولد من لجة هذا اليأس إرادة جديدة للحياة ورفض إملاءات الشياطين الكثر.
ونحن على ثقة بأن مثل هذه الحركة الشعبية ستلاقي القمع من النظام كما تلاقيه من المعارضة المسيطرة على الأرض، رغم أن كلا الطرفين يتغنيان بأهدافها المعلنة، وسيجدان صعوبة في إدانتها واضطهاد أنصارها الذين سيكثرون مع كل انتصار صغير يحققونه، وسيلونون أرض الوطن وسماءه بوعيهم وصبرهم وتمسكهم بالثوابت الوطنية وبحق سوريا في الوحدة والبقاء والحرية والتقدم.

اقرأ المزيد
٢٨ أغسطس ٢٠١٦
قصة مدينة اسمها داريا

خلاصة التسوية بين مقاتلي داريا ونظام الأسد، تقضي بتسليم المدينة للنظام مقابل خروج نحو خمسة آلاف هم من تبقى من سكان المدينة والمدافعين عنها إلى مناطق خارج سيطرة النظام. وبهذه الخلاصة، يسدل الستار على فصل مهم من قصة مدينة صغيرة قاومت قوة النظام العاتية لنحو خمس سنوات، في ظل حصار خانق، فشل العالم في فكه أو تخفيف معاناة المحاصرين على نحو ما فشل في الوصول إلى حل سياسي للقضية السورية، كانت داريا ستجد فيه إمكانية لتجاوز التسوية الأخيرة في تسليم المدينة ورحيل من بقي من سكانها والمدافعين عنها.

داريا أكبر مدن غوطة دمشق الغربية، وهي الأقرب للعاصمة دمشق؛ إذ لا تبعد عنها سوى ثمانية كيلومترات، وتجاور مطار المزة العسكري الموصوف بأنه أكبر وأخطر قواعد النظام الأمنية والقتالية في محيط دمشق، حيث توجد فيه طائرات الهليكوبتر، ومقر فرع التحقيق للمخابرات الجوية سيئ الصيت، وبلغ عدد سكان داريا أكثر من مائتين وخمسين ألفًا عشية ثورة السوريين على النظام في مارس (آذار) من عام 2011، لكن غالبية هؤلاء تم تهجيرهم من المدينة في ظل سياسة القتل والاعتقال والحصار والتجويع، التي مارسها نظام الأسد، وأدت إلى مقتل وإعطاب عشرات الآلاف من السكان، وفقد آلاف منهم، قامت الأجهزة الأمنية والعسكرية باعتقالهم أو اختطافهم.

ويمثل موقع المدينة الاستراتيجي أحد أسباب السياسة الدموية، التي اتبعها النظام في التعامل مع المدينة وسكانها، وثمة أسباب أخرى لا تقل أهمية عنه، منها أن داريا كانت بين أوائل المدن السورية التي انخرطت في الثورة، فأطلقت حراكًا مدنيًا سلميًا، ميز الثائرين من أبنائها في سلوكياتهم وشعاراتهم رغم البطش المبكر الذي مارسه النظام ضدهم مع بدء المظاهرات في أواخر 2011، وكرس أبناء داريا فكرة سلمية الثورة بصورة منظمة ومنضبطة، وعملوا على صيانة المدينة والحفاظ على وحدة المسلمين والمسيحيين من أبنائها، وحافظوا على الوافدين من سكانها، وانفردوا بين الثائرين بتوزيع الورود والمياه على جنود النظام، وحافظوا على خطاب الثورة وشعاراتها دون الذهاب إلى التطرف.

غير أن النظام رد على اعتدال داريا وسلميتها بعنف شديد، كانت مجزرة داريا في 2012 إحدى أبرز ذرواته المبكرة، التي قُتِل فيها ثلاثمائة من سكان المدينة في يوم واحد، يضافون إلى ثلاثمائة وستين آخرين قُتلوا في العام الأول من الثورة مع اختفاء واعتقال نحو ألف من أبنائها في العام الأول، وكانت المجزرة بين الأسباب التي عززت توجُّه بعض ثوار داريا إلى التسلح للدفاع عن النفس، خصوصًا بعد تزايد عدد أبناء المدينة الذين انشقوا عن جيش النظام وأجهزته الأمنية، وانضموا إلى الثورة، فتم تشكيل المجموعات الأولى من «الجيش الحر» في المدينة، وتوحدت تلك المجموعات في كتائب أبرزها كتيبة شهداء داريا، قبل أن تنتظم تلك الكتائب تحت اسم «لواء شهداء الإسلام» في أعقاب المذبحة الكبرى التي ارتكبها النظام في أغسطس (آب) عام 2012.

فرض النظام الحصار على داريا مع أواخر عام 2012، فمنع مرور الأشخاص والسلع بما فيها الغذاء والدواء إلى المدينة بهدف إخضاعها. لكن الأهالي والفعاليات الأهلية والمدنية، أعادت ترتيب الحياة في المدينة من خلال مجلس محلي مُنتَخَب بطريقة ديمقراطية، هدفه تجاوز نقاط الضعف والفوضى والتشتت، وتجميع الجهود لإدارة المدينة وحياة سكانها عبر مكاتب متخصصة، يديرها مكتب تنفيذي، كان الوحيد بين المجالس المحلية الذي يشرف على المكتب العسكري ويوجهه، وفي هذا عكس أبناء داريا وعيهم وقدرتهم على تنظيم وإدارة حياتهم بما في ذلك الدفاع عن مدينتهم ضد هجمات النظام التي ظلت متواصلة ومتصاعدة طوال السنوات التالية.

واستنزفت الحرب الطويلة مع الحصار الشديد، ومنع الغذاء والدواء قدرات أهالي داريا، وتفاقم الوضع بعد التسوية الجزئية، التي تمت بين نظام الأسد والمعضمية جارة داريا وخاصرتها في الغرب، وبعد التوقف الكلي لأية مساعدات كان يمكن أن تجد لها طريقًا إلى المدينة، ثم زاد الأمر سوءًا إغلاق أفق التسوية السياسية للقضية السورية، وتشديد النظام لهجماته البرية والجوية على المدينة وأطرافها، وكلها عوامل جعلت من إمكانية سقوط المدينة بيد نظام الأسد أمرًا ممكنًا، وكانت السبب في التوصل إلى الاتفاق الأخير الذي ما زالت بعض تفاصيله غير معلنة.

قصة داريا، قصة المدينة المثال في ثورة السوريين من حيث تجسيدها لسعي السوريين السلمي من أجل الحرية والعدالة والمساواة. وحتى عندما ذهبت الثورة إلى التسلح والعسكرة، فقد ظلت المدينة تحكم قبضتها عبر مجلسها المحلي على القوة العسكرية، وتخضعها لقرارات المجلس المحلي، الأمر الذي ساعد في صمود المدينة وأهلها في وجه القوة الطاغية للنظام.

ولئن استطاع الأخير أخذ المدينة بالقوة الطاغية، وترحيل من بقي من سكانها والمدافعين عنها، وسط ظروف سياسية وميدانية محليًا وخارجيًا، فإنه لن يستطيع إلغاء فصل عظيم من تاريخ مدينة ظلت سنوات وسط حصار تقاوم العدوان والدموية في تجربة لا تكاد تماثلها تجربة في تاريخ المدن، بل إن حصار مدينة ستالينغراد الروسية في الحرب العالمية الثانية لمدة ستة أشهر، ليس إلا فصلاً بسيطًا من تجربة داريا.

اقرأ المزيد
٢٨ أغسطس ٢٠١٦
معركة تركيا في سوريا

هناك أعداء كثر لكن في نظر الأتراك العدو الأول هم الأكراد الأتراك الانفصاليون٬ وكذلك الأكراد السوريون المتحالفون معهم. وللتذكير٬ فالأكراد٬ مثل العرب٬ شعوب مختلفة منتشرون في تركيا وسوريا والعراق وإيران. وسبق للقوات التركية أن دخلت العراق مرات٬ ولاحقت الجماعات الكردية التركية العابرة للحدود.

«العدو الأول» صار خطًرا بشكل مفاجئ خلال أشهر قليلة٬ عندما تمددت الفصائل الكردية السورية على مساحة شاسعة تقدرها التقارير الصحافية بنحو ستمائة كيلومتر من شمال سوريا بمحاذاة تركيا. والسر أن أكراد سوريا٬ رغم ميولهم اليسارية٬ تطوعوا ليكونوا رأس حربة في حرب التحالف ضد «داعش»٬ بدعم لوجيستي ضخم واستخباراتي أميركي مكنهم من التوسع.

بالنسبة لكل الأطراف؛ الأتراك والإيرانيين والنظام السوري والمعارضة السورية والروس٬ لم يعارضوا تقوية الأكراد ما دام الهدف «داعش» فقط٬ إلا أن الأكراد خرجوا على التفاهمات واستولوا على مدن ومناطق كاملة ما بين نهري دجلة والفرات. لم يكتفوا بمقاتلة «داعش» بل قاموا بتفريغ مناطق كاملة من سكانها!

ونتيجة لاكتساحهم الواسع صاروا في مواجهات متعددة٬ مع قوات تركية و«داعشية»٬ وحتى قوات الأسد.

الأتراك استشعروا الخطر مما فعلته وحدات حماية الشعب التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني. رأْوا فيه مشروع دولة على حدودهم ويهدد وحدة بلادهم٬ فقرروا إعلان الحرب داخل سوريا لأول مرة منذ بداية الأزمة قبل خمس سنوات.

ولا يمكن أن تخطئ العين التهديدات التي تمثلها الحرب في سوريا على كل الدول التي لها حدود معها٬ وأولها تركيا الأطول حدوًدا والأكثر تشابًكا٬ ثم العراق الذي فقد منذ زمن بعيد السيطرة على حدوده ونحو ثلث أراضيه لـ«داعش»٬ والأردن الذي قام بالسيطرة الكاملة لكن بعد أن عبر إليه مليون لاجئ٬ ونشبت معارك هائلة بجواره في محافظة درعا السورية. وهناك قوات إيرانية وميليشيات «حزب الله» تتمركز في مواجهة الجيش السوري الحر المتمركز شمال الأردن داخل الأراضي السورية.

رأى الأتراك في توسع الأكراد تهديًدا لوحدة بلادهم فدخلوا سوريا٬ يطاردون الميليشيات الكردية٬ وقوات التحالف٬ بقيادة الولايات المتحدة٬ سحبت الغطاء عنها ضمن تفاهمات مبررة.

انتصار الجيش التركي السريع في جرابلس وغيرها قدُ يختتم باتفاق يقيد أكراد سوريا وينهي مشروع بناء إقليم مشابه لإقليم كردستان في شمال العراق شبه المستقل منذ عام 1990 .

بالنسبة للأسد وتركيا٬ ورغم العداوة بين النظامين٬ يتفقان على رفض إقامة أي كيان كردي في تلك المناطق. فحكومة أنقرة تعتبره مشروًعا لزعزعة أراضيها لأن الإقليم الكردي السوري الجديد يبنى على حدودها الجنوبية٬ وسيكون حديقة خلفية للحركة الكردية التركية الانفصالية. والأمر كذلك بالنسبة لنظام الأسد الذي يخشى أن يكون الكيان الكردي حصان طروادة لقوات التحالف لهندسة مشروع التغيير في سوريا٬ كما فعل الكيان الكردي العراقي وشارك في إسقاط نظام صدام حسين في العراق.

وفي رأيي أنه كان بإمكان تركيا مبكًرا٬ ومنذ سنوات الحرب الأولى٬ تأمين حدودها بل ومد نفوذها إلى محافظة كبيرة مثل حلب المجاورة ثم التأثير على نتيجة النزاع٬ إلا أن أنقرة يبدو أنها رغبت في عدم إرباك المشهد بالتدخل المباشر مما زاد من الأخطار عليها اليوم.

على أية حال٬ يفترض أن نضع في الحسبان العوائق المحتملة التي ربما أثرت على قرارات أنقرة٬ فهي ملتزمة بقواعد الاشتباك التي تفرضها اتفاقات الدفاع ضمن حلف الناتو٬ فدخول أي دولة عضو في حرب دون موافقة الحلف لا يلزمه بالدفاع عنها٬ إضافة إلى مخاطر خرق القوانين الدولية المنظمة للنزاعات واعتبارات السيادة.

هل تستطيع تركيا٬ بدخولها عسكرًيا في سوريا٬ أن تحوله إلى عملية سياسية تشجع الأطراف المختلفة على الحل السياسي وإنهاء الحرب؟ ستكون لاعًبا أقوى من السابق٬ لكن أستبعد تعاون إيران وروسيا٬ اللتين لا تشعران بعد بضرورة إقصاء الأسد.

أي حل يبقي على الأسد سينفخ في نار الحرب ولو أجمع السياسيون عليه. فالأسد٬ على الأرض٬ بلا جيش ولا قوات أمن٬ التي كانت وراء بقائه في الماضي حاكًما بالقوة. حالًيا بلا قوة تتبعه. فجيشه البري الذي يحارب عنه هو قوات إيرانية وميليشيات «حزب الله» وأخرى عراقية٬ وقوته الجوية هي روسية تقوم بالحرب نيابة عنه.

وحتى لو رضخت قيادات المعارضة السورية لحل الأسد رئيًسا٬ فإن المقاتلين سيتمردون على قادتهم٬ لأن حجم العداء٬ بعد نصف مليون قتيل٬ لا يمكن أن يفرض رغًما عنهم حلاً يوقع في فنادق سويسرا.

اقرأ المزيد
٢٧ أغسطس ٢٠١٦
ما بعد جرابلس

لم يكن ممكناً للقوات التركية دخول الأراضي السورية، ولو بغاية دعم الجيش السوري الحر في السيطرة على جرابلس، من دون ضوء أخضر أميركي ـ روسي. يُفترض أيضاً أن الإيرانيين كانوا على علمٍ بذلك، على خلفية زيارة وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، إلى طهران الأسبوع الماضي، ولقائه نظيره الإيراني، محمد جواد ظريف. بالطبع، من المفترض أيضاً وأيضاً أن يكون الإسرائيليون على علمٍ بذلك، كعنصر ميداني، يقوم بعمليات عسكرية محدّدة في سورية، من اغتيال قادة من حزب الله، وقصف قوافل السلاح التابعة للحزب، فضلاً عن قصف مناطق في الجولان السوري.

عليه، قد يكون الجميع على علمٍ بالعملية التركية قبل حدوثها، إلا النظام السوري، بما يؤشر إلى أن دوره سيكون هامشياً، في المرحلة المقبلة، خصوصاً في أية مفاوضاتٍ أو مشاورات. الدلالات كثيرة. الروس بأنفسهم لا يتعاملون مع النظام، ورئيسه بشار الأسد، على أنه "عنصر فاعل" في سورية، بل على قاعدة "تقاطع المصالح" التي صودف وجود الأسد فيها فترة طويلة، قبل انبلاج فجر التحالفات الجديد في الأسابيع الأخيرة، تحديداً، بعد الانقلاب الفاشل في تركيا في 15 يوليو/ تموز الماضي.

في العام الماضي، رفع الأتراك من نبرتهم في شأن "المنطقة الآمنة" على الحدود السورية ـ التركية. جوبهوا باعتراضاتٍ روسية كبيرة، أدّت لاحقاً إلى تعليق المشاورات بشأن هذه المنطقة. كان واضحاً أن إنشاء مثل هذه المنطقة من عدمها أمر دولي، أكثر منه إقليميّاً. وهو ما يحصل حالياً، فتحرير جرابلس شرّع الأبواب أمام ترسيخ مثل هذه المنطقة ميدانياً. بالتالي، فإن السؤال لم يعد عن وجودية "المنطقة الآمنة" بحدّ ذاتها، بل تجاوزها إلى السؤال حول مساحتها الجغرافية، وأهدافها المستقبلية.

وقبل اتضاح حيثيات المنطقة العتيدة، يبدو الدور الروسي "مفاجئاً" لكنه فعلياً غير مفاجئ. اعتاد الكرملين التصرّف ببراغماتية أشبه بسياسة توحي بـ"تخلٍّ" أو أقلّه "نصف تخلٍّ"، منذ وصول فلاديمير بوتين إلى السلطة. يعمل بوتين وفق قاعدةٍ قائمةٍ على ثلاثة اعتبارات. الأول، يتعلق بالتعامل مع القوى الكبرى عالمياً، من موقع "الفتى المشاكس"، لا "الدولة المنسجمة" في تركيبة قوانين هذه الدول. الثاني، يتمحور في إقناع الدول الضعيفة بأن "الروسي هو حليفها الأوثق"، وحين يأمن جانبها وركونها إليه، يعمد إلى استغلالها، على قاعدة "ألا بديل عنه"، بما يشبه فعل السخرة السياسية. أما الاعتبار الثالث، فمتعلق بالثوابت غير المتغيرة، أي المرتبطة بـ"القومية الروسية"، وإفرازاتها في دول الجوار من البلطيق إلى أواسط آسيا.

عليه، لن يتردّد الروسي في تغيير مساره التكتيكي سورياً، بما يحفظ مصالحه. وهو أمر نوقش عشرات المرات، بين موسكو وعواصم إقليمية ودولية. يريد بوتين كسب كل دول الشرق الأوسط إلى جانبه، لا سورية فقط، ووفقاً لشروطه، تحديداً لجهة تأمين الأسواق للسلاح والغاز الروسيين. وهو ما يظهر في سير عمله دبلوماسياً واقتصادياً.

أما بالنسبة للولايات المتحدة التي بدت، لوهلة، وكأنها تدعم معظم الأطراف في معركة جرابلس، فإنها ليست في وارد الإقدام على فعلٍ ما، قبل ثلاثة أشهر من انتهاء عهد الرئيس باراك أوباما، لكنها قادرة على إطالة المعركة في الشمال السوري، حتى بدء عهد الرئيس/ة المقبل/ة. من المؤكد أن أموراً كثيرة ستتغير في سورية في الفترة المقبلة، إذ سبق لرئيس الوزراء التركي، بنعلي يلدرم، أن أكد، بصورة غير مباشرة، على احتمال حدوث تطوراتٍ كبيرة في الملف السوري في الأشهر الستة المقبلة. وإذا كان الشهر الأول منها يبدو مفاجئاً، فإن جميع الاحتمالات مفتوحة، مع ثابت وحيد: بدء انتهاء تأثير النظام السوري كلياً على امتداد المساحة الجغرافية السورية، واستطراداً على بعض دول الجوار.

اقرأ المزيد
٢٧ أغسطس ٢٠١٦
إلهاء السوريين عن الموت

ليست تقنية الإلهاء جديدةً على اللعبة السياسية، وقد مارسها الحكام عبر التاريخ، قبل أن يتم توصيفها وتصنيفها ووضع قواعدها، ثم إعلان ذلك كله على الملأ في القرن العشرين.

ولعل أكثر قضية سياسية تم فيها التلاعب بعقول الناس باستخدام تقنية الإلهاء هي القضية السورية، فمنذ انطلاق الثورة السورية قبل خمس سنوات ونيف، لم يتوقف العالم عن الخروج بأفكار جديدة، واقتراحات ووعود ومبادرات ومشاريع، كانت كلها تذهب أدراج الريح، بعد أن تكون قد تذهب بأرواح بعض السوريين، وبعقول معظمهم، والعالم الذي نقصده بتفريخ الأفكار، هو القوى الكبرى والمجتمع الدولي، والمنظمة الدولية، وبمراجعةٍ هادئةٍ لحجم وعدد الأفكار التي أطلقت وشغلت الناس، طوال السنوات الخمس، نكتشف حجم الخديعة التي تعرّضنا لها، وعدد المرات التي سقطنا فيها في الحفرة نفسها، من دون أن ننتبه، وفي كل مرة كنا نكرّر المسار نفسه، فنتحمس ونبدي المواقف والآراء، بعضنا يقف مع الفكرة، وبعضنا ضدها، تنشغل مواقع التواصل الاجتماعي بمواقف منطقية وغير منطقية، مواقف محمولة على مشاعر وطنية، وأخرى على مشاعر ضيقة، ثم تفرّد الصحف والفضائيات مساحاتها لآراء المحللين والكتاب والسياسيين لتبدو آراؤهم المتناقضة حول الموضوع المطروح، حتى يتلاشى الأمر برمته، ونعود إلى نقطة الصفر، لنتلقى فكرةً جديدةً لنكرّر التجربة من جديد.

والأمثلة على ذلك أكثر من أن تعدّ وتحصى، فمنذ أول اقتراحٍ لتشكيل حكومة وحدة وطنية في عام 2011، والتي تم تداول اسم هيثم مناع، لرئاستها في ذلك الوقت، حتى تشكيل المجلس الوطني، وقبله هيئة التنسيق، وحتى الأسابيع الأخيرة التي يتم فيها الحديث عن مجلس عسكري مشترك، مرّت مئات الأفكار والمبادرات والاجتماعات والمؤتمرات التي أوحت كل واحدةٍ منها بأن نهاية الحرب السورية باتت قاب قوسين، وانتهت جميعاً إلى نتيجةٍ واحدة، هي اللاشيء.

والفكرة الأخيرة التي يتم تداولها الآن، وهي فكرة المجلس العسكري المشترك تم بثها بطريقة توحي بجديتها، وباختلافها عن سابقاتها، فقد تم الإيحاء بأن هذه الفكرة هي حصيلة حوارات طويلة بين الروس والأميركان، وأنها دعمت باتفاق بين الروس والأتراك، وبالتنسيق مع الإيرانيين، وتم منحها مسحة إضافية من الجدية بتسريب تفاصيل عنها تبدو قابلةً للتصديق، مثل أن رئاسة المجلس العسكري ستكون لشخصية من النظام، وإنها ستضم، في عضويتها، ضباطاً منشقين، وقياديين في الجيش الحر، وكذلك ضباطاً متقاعدين، يمكن اعتبارهم محايدين، وأن هذا المجلس سيكون العمود الأساسي لضمان المبادئ العليا لحل الأزمة السورية، ومنها الحفاظ على سورية موحدة وعلمانية، والحرص على عدم انهيار مؤسسات الدولة، ومنها الجيش، وقد تضمن تسريب الخطة معلوماتٍ عن ولادتها تزيد من قابلية تصديقها، من قبيل أن بوتين كلف المخابرات الروسية ووزارة الدفاع اختبار الخطة واختيار الشخصيات المناسبة للمشاركة في هذا المجلس العسكري، والسير في خطوات تنفيذها، وأنه تولى بنفسه إقناع الأميركان والأتراك والإيرانيين بالموافقة عليها والمساعدة في تنفيذها.

ونقلت صحف عن مسؤولين في وزارة الدفاع والاستخبارات الروسية أنها (أي وزارة الدفاع) بدأت جس نبض شخصيات في الجيش السوري النظامي، وفي "الجيش الحر"، لاحتمال تشكيل مجلس عسكري. كما طرحت الفكرة وراء الأبواب مع ضباط سوريين متقاعدين. كان الحديث بداية عن حوالى 70 عضواً، لكن بات الحديث يتناول بين 42 و45 عضواً بقيادة ضابط من الجيش النظامي على أن يضم ضباطاً منشقين في غالبية أعضائه، خصوصاً من الضباط رفيعي المستوى الذين لم ينخرطوا في العمل العسكري المباشر في السنوات الماضية، ويقيمون في دول مجاورة أو خليجية.

طبعاً التسريبات حول هذه الخطة تشبه إلى حد كبير الفكرة التي سبقتها مباشرةً، وهي مبادرة تعيين خمسة نواب للأسد، لإدارة المرحلة الانتقالية، والشبه بينهما بدأ من التسريب، ثم تغيير في بعض التفاصيل للإيحاء بجدية الطرح، ففي موضوع النواب تم الحديث عن خمسة نواب، ثم عن أربعة، ثم عن ثلاثة، قبل أن يستقر الطرح على خمسة، ثم يتلاشى الموضوع نهائياً، ويذهب أدراج النسيان. والآن، تم الحديث عن 71 شخصية عسكرية، ثم عن أربعين ثم عن 33، وتنوعت التفاصيل بين كلام عن نظام وفصائل مسلحة، وبين نظام وضباط منشقين، وبين نظام ومنشقين وضباط متقاعدين.

هي بضعة أيام، وستنتهي هذه الفكرة في الهواء، كما انتهت كل فكرة قبلها، وستنجح في أداء وظيفتها، كما نجحت كل مرة سابقة في إلهائنا.

اقرأ المزيد
٢٧ أغسطس ٢٠١٦
هل يمكن إنهاء الحرب السورية؟

منذ الحرب الأهلية اللبنانية التي دامت أكثر من 17 عاماً، أصبح من الواضح أن الحرب لم تعد مسألةً محلية. إيقاد نار الحرب مسألة خاصة بالتأكيد، فهي تبدأ بين طرفين، أو أكثر، يعتقد أحدهم أن لديه ما يكفي من القوة لسحق الآخر، وفرض مطالبه أو رؤيته عليه، أو إخضاعه لإرادته. لكن منذ اللحظة التي يشعل فيها أول ثقاب، تخرج الحرب من سيطرته، وتدخل في ديناميكيات جديدة تحرّكها الانقسامات والنزاعات والتوترات الطويلة القائمة في محيطه، والتي تنتظر مناسبةً لتفصح عن نفسها، وتقفز على بؤر الحرب المشتعلة لتضع حطبها فيها، وتجيّر نتائجها لمصلحتها. ولذلك، عندما بدأت بعض الأصوات تخرج من صفوف بعض الثوار، بعد أشهر طويلة من المكابدة، مناديةً بأنه لا يمكن الاستمرار في المظاهرات السلمية من دون سلاحٍ يردع العصابات المسلحة التي أطلقها النظام لمهاجمتها، وقتل عشرات من الناشطين بدم بارد، كنت أقول للناشطين: لا تستعجلوا حمل السلاح، وإدخال الثورة في مرحلة مسلحة، فلن يخفف اللجوء إلى السلاح من معاناة الشعب والثوار، ولن يحل المصاعب المتزايدة التي تواجهها الثورة. فهو، أولاً، خيار النظام الذي يريد أن ينقل الصراع إلى الميدان الذي يعتقد أن لديه التفوق الساحق فيه. وهو، ثانياً، لن يقلل من عدد الشهداء والضحايا بين الثوار، وإنما سيزيدهم لأن النظام سوف يعتبر أن من حقه، بعد ذلك، استخدام كل أنواع الأسلحة التي في حوزته، وهي لا يستهان بها. وثالثاً، لن يقصر أمد الصراع، وإنما سيطيله، إذ متى ما دخلنا النزاع المسلح، لن يكون هناك سبيل لوقف الصراع، إلا بحسم لمصلحة أحد الطرفين. ومع وجود ترسانةٍ لا تنفد من السلاح عند النظام، سوف ندخل في نفقٍ لا نعرف نهايته. ورابعاً، سوف يعمل الدخول في الحرب على تضييق هامش استقلالنا، وربما ارتهان قرارنا الوطني لتلك الدول والقوى التي سنعتمد عليها، من أجل مدّنا بالمال والسلاح اللذين من دونهما لن نستطيع الاستمرار في الحرب. وخامساً، ستسحب منا الحرب بأسرع مما نتصور ورقتنا الرابحة الرئيسية، فبمجرد دخولنا في منطق السلاح نكون قد حكمنا على الشعب وملايين السوريين بأن يخرجوا من دائرة الصراع، ورهنّا معركتنا بفصائل مقاتلةٍ، لا سيطرة لنا عليها، ولا نعرف من يمكن أن يتحكّم بها فكرياً وسياسياً، في الوقت الذي تشكل فيه المظاهرات المليونية، بهتافاتها المدوية وأهازيجها وشعاراتها، قوتنا الاستثنائية، بل هي التجسيد الحي للثورة ذاتها، بوصفها حدثاً خارقاً للعادة، وخارجاً عن منطق التطور العادي للأمور، وبانياً لميزان قوى جديد، يقزّم النظام، ويقيده ويفرغ وجوده السياسي نفسه من معناه. فليس هناك شك في أن هذه المظاهرات الحاشدة هي التي أفقدت النظام صوابه، وأظهرت حقيقته، وبؤس خياراته القمعية وكذبه على العالم. ولم يعد له هم آخر سوى وقفها مهما كان الثمن ليظهر أنه لا يزال مسيطراً على الوضع. وما من شك أيضاً، وهذه كانت نتيجةً سادسةً لم تخطر على ذهني في تلك الساعة، أن دخول الثورة في مرحلة الكفاح المسلح قد أدى إلى تغييراتٍ عميقة في قاعدتها الاجتماعية، وثقافة المشاركين فيها، وشعاراتهم وأهدافهم، فغلبت الشعارات الدينية والأبعاد الطائفية، وربما مشاعر الضغينة والانتقام على مشاعر الوطنية الجامعة، وتطلعات التحرّر والانعتاق.


رثاء الثورة السلمية
لم يكن لدي أي وهم في أن الأوضاع كانت متجهةً نحو النزاع المسلح. كان في ذهني هدفان من تخفيف الرهان والتسابق على السلاح. الأول، تمديد زمن الثورة السلمية وتظاهراتها الحاشدة لأطول فترةٍ ممكنةٍ، كي تترسخ حقيقتها الشعبية من جهة، وينصهر فيها، في لحظة انعتاق استثنائية، جميع السوريين، على مختلف أصولهم وانتماءاتهم ومذاهبهم ومناطقهم، قبل أن يستبد بالمسرح السلاح، وتتحوّل الثورة، في نظر الرأي العام، الشعبي والدولي، إلى حربٍ أهلية. والثاني، أن نعطي للمجتمع الدولي الذي كان يظهر التفاعل مع الثورة الشعبية الوقت، لتكثيف ضغطه على النظام، وترتيب تدخله لحماية المدنيين، قبل أن تفقد الثورة إشعاعها وصورتها الأسطورية وشرعية قضيتها، بوصفها ثورة شعبٍ مضطهد في مواجهة أكثر النظم عتوّاً وطغياناً واستعداداً للقتل والدمار، وتصبح صراعاً تقليدياً بين نظام ومعارضة، كما أصبحت اليوم.

ببطولاتهم وبسالتهم وتضحياتهم غير المسبوقة، نجح الثوار في كسر إرادة النظام الاستبدادي، وتمريغ وجهه بالوحل، وحل المذابح الجماعية التي أصبحت رديفةً لاسمه، ووحل الاحتماء بالتدخلات الأجنبية التي كان يتهم خصومه باطلاً بالمراهنة عليها، ووحل الاستسلام للمشاريع الطائفية والاستعمارية والتقسيمية التي أصبح أول مطلقيها وصانعيها. ولم يعد للنظام اليوم، لا في صفوف السوريين، ولا في الأوساط الدولية، بما في ذلك الأطراف التي احتمى بها، أي صدقية أو قيمة أو اعتبار. وهم إذ يعملون المستحيل، لإيقافه على قدميه والحفاظ على ما تبقى له من مظهر الدولة النافقة، فذلك لاستخدامها قناعاً، واستخدام رئيسها نفسه، والشرعية الاسمية التي ورثها، أداةً لتحقيق مآربهم وأهدافهم الخاصة والأنانية.

لكن، في المقابل، بعد ست سنوات من الحرب الشاملة التي لم يترك الأسد سلاحاً لم يستخدمه لقتل السوريين وترويعهم، وتدمير مدنهم وبلداتهم وقراهم، بهدف تشريدهم وإفراغ البلاد من ساكنيها، يجد السوريون أنفسهم على جميع الجبهات مستنزفين بشرياً، لعظم ما فقدوه من أبنائهم وفلذات أكبادهم، حتى لتكاد سورية تفقد جيلين من الأعمار التي تراهن الدول عادةً عليها، لإحداث الثورات التقنية والعلمية والاقتصادية الاجتماعية، بين 20 و45 سنة. وبعد أن كان كثيرون منهم يراهنون على أشهر للخلاص، والتوصل إلى حلّ أو سقوط النظام، ها نحن اليوم في السنة السادسة للحرب، وليس هناك بعد أي بارقة أمل في أن تكون السابعة سنة خلاص وسلام. وإذا كانت هناك "نبوءة" أثبتت تحققها بالكامل، فهي تلك المتعلقة بارتهان السوريين إلى القوى الأجنبية. كنت أعتقد أن التبعية للداعمين بالمال والسلاح سوف تقتصر على نشطاء الثورة السلميين، والذين لا يملكون لمواجهة نظام مدجج بالسلاح، أكثر من أصواتهم وأياديهم وأعلامهم المصبوغة بالدم. لكنه انطبق أيضاً، وبشكل أكبر، على النظام الذي اضطر، في النهاية، إلى رهن البلاد بأكملها عند المضاربين الإقليميين والدوليين. وأخيراً، يكاد حلم سورية الديمقراطية الحرة يغيب، ومعه اسم سورية ذاته، أمام ضجيج شعارات الطائفية وأصوات الانتقام السنية والشيعية والعلوية، ونداءات الهويات القومية العربية والكردية والتركمانية والأشورية والسريانية، وغيرها.


حرب الاستنزاف الدائمة

ليس هذا هو الوقت المناسب لمراجعة قرار اللجوء إلى السلاح من عدمه، لأن قرار الحرب كان، من دون أدنى ريب، قرار النظام، ومن أجله لم يترك وسيلةً للاستفزاز وإذلال الناشطين وإهانة الرأي العام وتعبئة مشاعر الطائفية إلا استخدمها، وفي مقدمها أفلام الفيديو التي بثها قصداً، وفيها يستعرض أمام الرأي العام السوري كله شراسة أساليبه في التعذيب وخرق المحارم والمقدّسات، وانتهاك الأعراض في سبيل دفع الناشطين حتماً إلى الاختيار بين الانسحاب وحمل السلاح.

وعلى الأغلب، لم يكن النظام ليتردّد في إعدام كل الذين شاركوا في الثورة والمسيرات والتظاهرات، لو وقعوا بين أيدي رجاله الأمنيين، ولعل الخوف من هذا المصير هو الذي دفع كثيرين منهم إلى الانخراط في الفصائل المسلحة، وتحرير المناطق التي تحولت إلى حماية لهم من انتقام النظام، قبل أن يأتي الوباء الداعشي الأسود، لينتزعها منهم. فلم يكن هناك في الأصل أي خيار. والواقع، كما يثبت التاريخ، لم يتخذ أي طرفٍ محسوبٍ على الثورة قرار اللجوء إلى السلاح، وما حصل في ما بعد جاء على سبيل رد الفعل على توحش نظامٍ لم يعد يتورّع عن ارتكاب أي عمل، بما في ذلك أعمال الاغتصاب والإذلال والتمثيل بالجثامين، ونشر صورها لردع الشعب عن الاستمرار في تظاهراته السلمية، والإعلان بأسرع ما يستطيع إلى الرأي العام الدولي أن الثورة لم تكن، وأن سيطرته على الوضع لم تمسّ. خيار الحرب الشاملة وحرق البشر والبلاد لم يكن سوى الاستراتيجية السياسية والعسكرية التي اعتقد النظام أنها الوحيدة التي تمكّنه من تصفية الثورة، وتشتيت الناشطين وتدمير حاضنتهم الشعبية، وتهجير القسم الأكبر منها، ودفعهم إلى الدخول في مساراتٍ بعيدةٍ كلياً عن مسارات الثورة الأصلية، وما كانت ترمي إليه. وقد تحقق له ذلك، بمقدار ما أدى العنف غير المسبوق، وغير المشروع الذي استخدمه ضد مدنيين مجردين من أي سلاح سوى أصواتهم، إلى انشقاق الضباط والعسكريين، وهو ما فتح باب تشكيل التنظيمات العسكرية، وشرعن العنف المضاد، وشجع شباب الأحياء والقرى على بيع مجوهرات نسائهم للحصول على السلاح، للدفاع عن أنفسهم او التضامن مع أخوانهم، في رد عنف النظام المستشرس عنهم.

لا ينفصل خيار الحرب هذا عن موقف النظام السياسي، بل هو الجواب المنطقي لرفضه التفاوض على أي جزءٍ من سلطاته المطلقة، واعتقاده الراسخ والدائم بأن مجرّد القبول بالحوار يعني الاعتراف بشرعية الاحتجاج، أي أيضاً بحق الشعب فيه، وبالتالي، بالشعب نفسه طرفاً وشريكاً ومحاوراً وصاحب إرادة وخيار. وهذا يعني القضاء على شرعية الاستبداد المطلق، وانهيار صرحه من أساسه. فهو لم يقم ولم يستمر إلا على نفي وجود الشعب طرفاً مستقلاً وفاعلاً وصاحب قرار، وتجريده من كل حقوقه السياسية والسيادية، وإحلال نفسه محله. وهذا ما بيّنه تغييب نائب رئيس الجمهورية، فاروق الشرع، بعد دعوته إلى جلسة حوار يتيمة مع المعارضة في أحد فنادق دمشق.

كانت الحرب الرد الطبيعي من نظامٍ قام على أنقاض الشعب السياسي، ولا يخاف شيئاً أكثر من عودته إلى الحياة. ولم يدخل النظام الحرب، ويقبل اللجوء إلى كل الأسلحة المحرّمة لكسر إرادة السوريين، ولا يتردّد في الانقياد لأجندات الداعمين الخارجيين، والتحالف معهم ضد شعبه، إلا لأنه كان على ثقةٍ بأنه سيربح الحرب، وسيكبد الشعب الذي خرج عليه أو فكّر بالتخلي عنه الثمن الأغلى والأكثر دموية. ولا يوجد شك في أن نظام الأسد كان، قبل ثورات الربيع العربي، وبشكل أكبر بعد انطلاقها، قد وضع الخطة الكاملة لسحق أي حركة احتجاجٍ شعبيةٍ سورية، وأن في صميم هذه الخطة الاستخدام اللامحدود وغير المقيّد للعنف، وهذا ما أوصله في 21 أغسطس/ آب عام 2013 إلى استخدام السلاح الكيماوي رسالةً للسوريين، المصرّين على خروجه من السلطة، على مدى استعداده للتطرف في العنف والذهاب به إلى أقصى ما يمكن أن يكون.


ماذا بعد فشل الحلول الدولية؟
لم تخدم الحرب أحداً، لكنها قضت على سورية، وجزء عزيز وكبير من السوريين، ممن استشهدوا أو تعوقوا أو شرّدوا وفقدوا أغلى ما لديهم. واستمرارها لن يقود إلى أي حسم، كما يعتقد النظام، وبعض أطراف المعارضة أيضاً. ولكن فقط إلى مزيد من الخسائر التي شهدناها حتى الآن: البشر والوقت والسيادة والانقسام والتذرّر والانشقاق الداخلي. وعلى الرغم من الدعم غير المسبوق الذي حظي به النظام من إيران ومليشياتها الطائفية، ثم من روسيا، والتشويش الهائل على شعارات الثورة ومسارها من القوى الظلامية التي أطلقها، من "داعش" وغيرها، والحروب الموازية التي رعاها لمحاصرة الثورة الشعبية، بالتنسيق مع حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي)، على الرغم من ذلك كله، يدرك النظام السوري، اليوم، أنه فقد أي أمل بحسم الحرب لمصلحته، وأنه هو نفسه لم يعد يمثل شيئاً للسوريين، سوى راية الحرب المرفوعة مهما كان الثمن، وواجهة تخفي وراءها الدول الأجنبية مفاوضاتها السرية والعلنية لاقتسام مناطق النفوذ والمصالح على جثة الشعب السوري، وعلى حساب دماء أبنائه. وفي أحسن الأحوال، لن يكون مصير النخبة الطائفية التي فجرتها للحفاظ على احتكارها السلطة والدولة والقرار أفضل من مصير النخبة الطائفية المارونية التي خرجت الخاسرة الوحيدة من الحرب الأهلية في لبنان.

حتى وقت قصير، تعلق السوريون الذين أصبحوا، في غالبيتهم الساحقة، ضحيةً للحرب وأسرى لها، بأمل التفاهم الدولي بين موسكو وواشنطن، لفتح ثغرةٍ في جدار الصراع الدامي، وتعبيد الطريق نحو مفاوضاتٍ تفضي إلى حل سياسي يوقف الحرب، ويبدأ الخطوات الأولى نحو عودة السوريين المشردين إلى بلادهم، واستعادة الحياة الطبيعية فيها. لكن، إذا كان هناك طرفٌ دوليٌّ يريد فعلا نهاية الحرب، وتجنب مزيدٍ من أضرارها عليه، فهناك أطرافٌ إقليمية ودولية أكثر لا تزال ترى في استمرار الحرب خدمةً لمصالحها، أو أنها غير مستعدة لوقفها، قبل أن تحصل على ما تنتظره من المشاركة فيها. ويزيد من إضعاف الأمل أن الحرب الدائرة لم تعد تعني سورية، بوصفها رهاناً يتنازع على كسبه الأطراف، وإنما وسيلة لكسب رهاناتٍ أخرى خارجها، وأبعد منها، إقليمية وعالمية. من هنا، ينبغي أن نفهم انهيار مفاوضات جنيف الأولى والثانية والثالثة. وليس من المؤكد أن مصير مفاوضات جنيف الرابعة سوف يكون أفضل من سابقاتها.

لكن، إذا كان من غير الممكن، ولم يعد من المقبول، المراهنة على تفاهم الأطراف الدولية والإقليمية، أو الارتهان لنزاعاتها، هل يمكن في المقابل العودة إلى الرهان على تفاهم بين السوريين؟ في هذه الحالة، ما يطرح على السوريين المعنيين بمصير بلادهم وشعبهم في ما وراء انقسامهم إلى موالاة ومعارضة، ليس سؤالاً من طبيعةٍ علميةٍ وتفسيريةٍ، مثل: هل يمكن الخروج من الحرب؟ وإنما سؤالٌ مركزيٌّ ذو طابع سياسي مباشر: كيف يمكن الخروج من الحرب؟ وماذا ينبغي عليهم أن يفعلوا لوقف مسيرة تفكيك سورية وفرطها أمام أعينهم، وما هي الخطوات والمبادرات والسياسات والخطط التي على الفاعلين اتخاذها أو تطويرها، من أجل المساعدة على وقف نزيف الدم، وتعطيل آلة الدمار التي تكاد تقضي على حضارة سورية بأكملها. ليس هذا السؤال مطروحاً على المثقفين والسياسيين والفاعلين العسكريين فقط، وإنما هو مطروح على سبيل النقاش والاستئناس على كل سوريٍّ، يشعر بأنه معنيّ بمصير بلده، وقادر على أن يحمل قسطاً من المسؤولية في تقرير مصيره ومستقبله، ويستطيع أن يلعب دوراً، ولو صغيراً، في إعادة سورية النازفة إلى الحياة. في انتظار الأجوبة، أودّ أن أعبر عن اقتناعي العميق بأن إنهاء الحرب السورية وحده الذي يفتح الطريق أمام إنهاء حروب الآخرين على سورية وأرضها. العكس غير صحيح.

اقرأ المزيد
٢٧ أغسطس ٢٠١٦
صور من المأساة السورية

خلال يوم واحد، تواترت في وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي ثلاثة مشاهد مرعبة، أخبرت بفداحة الحالة السورية، وبانتهاك الإنسان في بلاد الشام. وجاءت معبّرة عن معاناة آلاف المدنيين السوريين الذين تقطّعت بهم السّبل وأدمتهم الحرب، وأكلتهم المعتقلات. فدفعوا من حياتهم وأجسادهم وكينونتهم ثمن حربٍ لم يختاروها، بل فرضت عليهم، وتحوّل معها شوقهم إلى العيش في كنف الحرّية والعدالة والكرامة التي ثاروا من أجلها إلى كابوس لا يكاد ينتهي...حرب تعدّد الفاعلون فيها، وتنوّعت فيها الجريمة وأدوات التدمير، وكان السوري ضحيّتها الأبرز. في المشهد الأوّل، صورة صادمة لطفل سوري في عمر الزهور اسمه عمران (5 سنوات)، من حلب، داهمته الطائرات الهادرة والقاذفات القاتلة، وهو في منزله وبين ذويه، فحوّلت بيت أهله ركاماً، وبعثت الهلع في النفوس، وجعلت الوجوه مكفهرّة من شدّة الفزع وقوّة الدمار وعمق الجراح. وظهر عمران في ذلك الخراب صامتاً، مشدوهاً، مضرّج الوجه بالدماء والغبار. كان جالساً في سيّارة إسعاف، يتحسّس محيّاه الجريح، ولا ينبس ببنت شفة، لم يكن يبكي، لأنّ الصورة كانت تبوح بما فوق البكاء، ولأنّ فؤاده كان مسكوناً بالصدمة والحيرة وكان وجهه المشوّه بالشظايا يسائل بوتين وبشّار وزعماء العالم أن بأيّ ذنب أقصف؟ وبأيّ سبب تنتهك طفولتي؟ وبأيّ شرعةٍ يهدم بيتي، ويُشرّد أفراد أسرتي؟ ويسائل ضمير الإنسانية أن كيف أحمي حياتي من ويلات هذه الحمم النازلة من السماء؟ أين سأمضي ليلتي المقبلة؟ أين سأبيت وقد أصبحت بلا بيت؟ أليس من حقّي أن أعيش مثل أطفال العالم؟ أسئلة يعجّ بها ذهن الطفل المنكوب، وتفيض بها صورته الصادمة المعبّرة في آن. صورة هي صرخة إدانة في وجه مجتمع دولي غير مسؤول، لزم الحياد والصمت إزاء الجرائم المرتكبة ضدّ الأطفال وعموم المدنيين في سورية.

المشهد الثاني اختزله تقرير منظمة العفو الدولية "إنه يكسر الإنسان: التعذيب والمرض والموت في السجون السورية"، وجاء فيه أن أكثر من 17 ألف شخص قضوا في أثناء الاعتقال ما بين مارس/ آذار 2011، تاريخ اندلاع الثورة ضد النظام الحاكم، وديسمبر/ كانون الأول 2015. ما يعني أن عشرة أشخاص ماتوا يومياً، و300 أو أكثر في الشهر، بحسب المنظمة التي وثقت نتائج التقرير من خلال مقابلات أجرتها مع 65 ناجياً من التعذيب، وأكّدوا، في إفاداتهم، بشاعة المعاملة التي يلقاها السجناء في معسكرات الاعتقال التابعة للنظام والمليشيات الموالية له، بدءاً بحفلة الترحيب الرهيبة، مرورا بالتفتيش الأمني المهين، وصولاً إلى التجريد من الثياب والمنع من النوم ومن الزيارة، والصعق الكهربائي وانتزاع الأظافر، والاغتصاب، وغير ذلك من ألوان التعذيب الدالّة على الاستهانة بقيمة الإنسان، والإمعان في انتهاك كرامته وإهدار حقوقه، بسبب رأيه المخالف للنظام أو بسبب خروجه في مظاهرة سلميةٍ معارضة للسلطة الحاكمة، أو حتى بسبب إطالته شعره وتشبّهه بوليد جنبلاط، بحسب رواية أحدهم.

ومدار المأساة أن البلد أصبح سجنا كبيراً، فمن لم يَطُله أوار الحرب، ولم يُهجّره وطيس المعارك، يجد نفسه فجأة ضحيّة اعتقال تعسّفي من أعوان النظام، أو من المليشيات المعارضة، فيتمّ زج آلافٍ في زنازين بدائية، تفتقر للتهوئة، ولأبسط الشروط الصحية، ويتمّ التنكيل بالضحايا، ويُحال بينهم وبين العالم، فلا الأهل يدرون مكان اعتقالهم، ولا المنظمات الحقوقية الدولية تجد سبيلاً للتواصل معهم، والاطلاع على أحوالهم، فالسجون السرية أو المعلنة التابعة لأطراف النزاع في الداخل السوري ممنوعةٌ على الصحافيين والحقوقيين والمراقبين الدوليين. ومعلوم أنّ ذلك يزيد من انتهاكات حقوق الإنسان، ومن معاناة المعتقلين وذويهم على السواء. ويُفترض أن تتخذ جامعة الدول العربية والأمم المتحدة والقوى الدولية الفاعلة تدابير فورية إجرائية لإلزام النظام السوري والأطراف المتصارعة باحترام حقوق المساجين، والسماح للبعثات الحقوقية بزيارة معسكرات الاعتقال، وأن يتم تأمين مفاوضات إفراج متبادل عن الأسرى لدى الأطراف المتحاربة، والمراد إنقاذ الإنسان ووضع حدّ لمسلسل التعذيب الرهيب.

الصورة الثالثة من المأساة جلاّها حصار آلاف المدنيين السوريين في مضايا، والزبداني، وداريا، ومخيّم اليرموك، والغوطة الشرقية، والفوعة، وكفريا، وغيرها، ومنعهم من الماء والغذاء والدواء أسابيع، عملا بآلية العقاب الجماعي العشوائي على متساكنين عُزّل، لا ذنب لهم سوى أنّهم سكنوا تلك المناطق، أو أنّهم تظاهروا سلمياً ضدّ النظام أو ضدّ خصومه، فيُحال بينهم والمساعدات الإنسانية، حتّى مات آلاف الأطفال والنساء والشيوخ من شدّة الجوع وندرة الدواء وقلّة ذات اليد. وهذا المشهد التراجيدي وصمة عار في جبين الإنسانية، وخضوع لعدمية "الجوع أو الركوع" التي يحاول المحاصِرون فرضها على المدنيين. وأحرى بالمجتمع الدولي أن يستجمع قوّته، لفرض وصول المساعدات إلى المنكوبين، وفتح ممرّاتٍ آمنةٍ لتحرير المحاصرين. ومن المهمّ، في هذا الخصوص، التفعيل الفوري لقانون الأمم المتحدة لحماية المدنيين، ودفع المتنازعين إلى طاولة الحوار، لبلورة حلّ سياسي عادل للأزمة السورية، ولوضع حدّ لمعاناة المدنيين الذين توزّعوا بين المقابر والسجون والمنافي.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
٢١ مايو ٢٠٢٥
بعد سقوط الطاغية: قوى تتربص لتفكيك سوريا بمطالب متضاربة ودموع الأمهات لم تجف
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
٢٠ مايو ٢٠٢٥
هكذا سيُحاسب المجرمون السابقون في سوريا و3 تغييرات فورية يجب أن تقوم بها الإدارة السورية
فضل عبد الغني" مؤسس ومدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
١٦ مايو ٢٠٢٥
شعب لا يعبد الأشخاص.. بل يراقب الأفعال
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
١٥ مايو ٢٠٢٥
لا عودة إلى الوطن.. كيف أعاقت مصادرة نظام الأسد للممتلكات في درعا عودة اللاجئين
فضل عبد الغني
● مقالات رأي
١٤ مايو ٢٠٢٥
لاعزاء لأيتام الأسد ... العقوبات تسقط عقب سقوط "الأسد" وسوريا أمام حقبة تاريخية جديدة
أحمد نور (الرسلان)
● مقالات رأي
١٣ مايو ٢٠٢٥
"الترقيع السياسي": من خياطة الثياب إلى تطريز المواقف
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
٥ مايو ٢٠٢٥
حكم الأغلبية للسويداء ورفض حكم الأغلبية على عموم سوريا.. ازدواجية الهجري الطائفية
أحمد ابازيد