في ورقته «تفسخ النظام السوري أسوأ بكثير مما يُعتقد»، وهي مادة شديدة الأهمية وغزيرة المعلومات ويُوصى بها لكلّ حريص على معرفة البنية الداخلية الراهنة لما تبقى من نظام آل الأسد (بالإنكليزية، نُشرت أمس في موقع War on the Rocks)؛ يبدأ توبياس شنايدر من اقتباس روبرت مالي، أحد مستشاري شؤون الشرق الأوسط الثقاة لدى الرئيس الأمريكي باراك أوباما، في حوار له مع آرون ديفيد ميللر، من الـ«فورين بوليسي». يعيد مالي سرد أولويات أوباما في الملف السوري، ويشدد على اثنتين منها: الحاجة إلى الموازنة بين الهواجس الإنسانية والرغبة في «الحفاظ على مؤسسات الدولة»، وتفادي فراغ السلطة بحيث لا تنزلق البلاد إلى الفوضى الشاملة.
والحال أنّ فقرات ورقة شنايدر لا تثبت، بتفصيل دقيق ومتأن، أنّ مفهوم «الدولة»، ضمن بنية ما تبقى من النظام السوري، آخذ في التفسخ والتفكك والانحلال، خاصة خلال السنوات الثلاث الماضية، فحسب؛ بل إنّ «أطراف» النظام ـ القائمة على ميليشيات محلية وطائفية الطابع مثل «صقور الجبل»، أو جيوب عسكرية ـ ميليشياتية مثل «قوات النمر» ـ باتت مستقلة أكثر فأكثر عن مركز النظام في دمشق، أو فرعَيْه في اللاذقية وطرطوس، واستقلت معها مواردها الاقتصادية والريعية القائمة على النهب وتجارة المخدرات والرهائن والأتاوات. ولم يكن الصدام العسكري المباشر، في تدمر، قبل أسابيع، بين عناصر «صقور الجبل»، جماعة محمد وأيمن جابر، من جهة؛ وعناصر «قوات النمر»، جماعة سهيل الحسن، من جهة ثانية؛ سوى الواجهة الأعلى إفصاحاً عن صدامات أخرى أضيق نطاقاً بين ميليشيات أقلّ شأناً (كما في محيط مصياف، بين اثنين من زعامات ميليشيات «الدفاع الوطني»: فادي قريبيش، قائد منطقة بعرين؛ وأحمد سيغاتا، القائد في منطقة حربنفسة).
فإذا توقف المرء عند التسميات ذاتها، التي تتخذها شبكة ميليشيات الموالاة في مختلف المناطق التي ما تزال تحت سيطرة النظام، في الساحل السوري وريف حماة تحديداً («لواء أسود الحسين»، «القوة الجعفرية»، «لواء سيف المهدي»…)؛ فإنّ مشهد التفسخ والتفكك والانحلال يتخذ بُعداً إضافياً هو التشرذم الجغرافي وتدنّي الترابط وانعدام التنسيق. وهذا يتكامل، وإنْ في أبعاد مالية واستثمارية صرفة أحياناً، في نموذج «جمعية البستان الخيرية»، التابعة لآل مخلوف، في قرية بستان الباشا مقرّ العائلة. صحيح أنّ تأسيسها يعود إلى عام 1999، وأنها قامت أصلاً
على ركائز الاستقلال التام عن مؤسسات «الدولة»؛ إلا أنّ الأدوار التي لعبتها الجمعية في ملفات إنشاء وتسليح الميليشيات، ثمّ ما رشح مؤخراً عن تمتعها بمعونات مالية مباشرة من الأمم المتحدة، أعاد تجذير الجمعية في قلب البنية الراهنة من تفسخ النظام.
مظهر ثالث، يتوقف عنده شنايدر أيضاً، هو الظاهرة التي طفحت مؤخراً في «انتخابات» ما يُسمّى «مجلس الشعب»، وكيف انقلبت ـ رأساً على عقب، أحياناً ـ المعايير التقليدية في اختيار مرشحي السلطة، والتي اعتُمدت طيلة عقود «الحركة التصحيحية»، أو بالأحرى منذ تأسيس هذا المجلس الكاريكاتوري. ففي الماضي كانت معايير الولاء، والاستزلام، والقرب من شبكات الأجهزة وحزب البعث، والتمثيل العشائري أو المذهبي أو الطائفي، هي السائدة عند تشكيل قوائم «الجبهة الوطنية التقدمية». أمّا في «الانتخابات» الأخيرة، فإنّ الحصة الأدسم في قوائم السلطة ذهبت إلى ممثلي الميليشيات وشبكات التهريب وتجارة المخدرات وجباية الأتاوات والاتجار بالمعتقلين والمخطوفين والرهائن… وفي مقابل التراجع الهائل لنفوذ حزب البعث في صياغة القوائم، لوحظ أنّ سطوة الأجهزة الأمنية تراجعت بدورها، واحتكر العملية رجال من آل الأسد، ومخلوف، وجابر، ونصور، وصقور…
وفي العودة إلى روبرت مالي (وهو، للإيضاح المفيد ربما، يشغل المناصب التالية: المساعد الخاص للرئيس في مجلس الأمن القومي، وأحد كبار مستشاريه في الحملة ضدّ «داعش»، ومنسّق البيت الأبيض لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والخليج العربي، فضلاً عن أنه مخضرم بدأ عمله في البيت الأبيض خلال رئاسة بيل كلنتون)؛ ما الذي يعنيه، حقاً، برغبة «الحفاظ على مؤسسات الدولة»؟ بل ما الذي تبقى منها، بالفعل، ويجيز له بالتالي الحديث عن تفادي سقوطها في الفوضى الشاملة؟ وبعد إقراره هكذا: «ليس في وسع أحد، ولست أنا بالتأكيد، أن يقول بأي مستوى من الثقة ما الذي يمكن، أو أمكن، القيام به لتفادي هذه المأساة» في سوريا؛ لماذا، إذن، يبدو مالي واثقاً من إمكان تحقيق تلك الرغبة («الحفاظ على مؤسسات الدولة»)؟ ولماذا كلّ هذا الحرص عليها، هو العليم بحال تفسخ النظام وتفككه إلى أطراف ميليشياتية وعصاباتية وطوائفية متشرذمة؟
ثمّ، ألا يبدو مالي وكأنه يناقض سيده، أوباما، حين يتحدث عن الخشية من وقوع «فراغ» في السلطة؟ ففي أواسط العام 2014 كان أوباما، خلال حوار شهير مع قناة سي بي إس، قد اعتبر أنّ «داعش» استغلت «حدوث فراغ في السلطة في سوريا، فبادرت إلى جمع الأسلحة والموارد وتوسيع سلطتها وقوتها على الأرض». الفراغ موجود، إذن، منذ سنتين على الأقلّ، باعتراف الرئيس نفسه؛ بل أكثر من هذا: «فكرة وجود قوّة سورية معتدلة جاهزة لهزيمة الأسد ليست صحيحة، والتالي فإنه بكل الأحوال الفراغ سيكون موجوداً»، تابع أوباما. وإذا كان قد تحسر، يومها، هكذا: «لقد قضينا الكثير من الوقت ونحن نعمل مع المعارضة المعتدلة في سوريا، لا يمكن لمزارعين وأطباء أسنان لم يسبق لهم أن حاربوا، أن يتغلبوا على نظام الأسد والمجموعات الجهادية»؛ فكيف سيعمل اليوم، وفق منطق مستشاره مالي، مع صقور محمد وأيمن جابر، أو نمور سهيل الحسن؟ وهل ملاعبة الطيور الجارحة والحيوانات اللاحمة أسهل، وأفضل وأجدى، من العمل مع مزارعي وأطباء أسنان المعارضة السورية؟
الأغلب أنّ مالي ـ بصرف النظر عن مقدار أمانته في تمثيل موقف أوباما إزاء هذه القضية ـ ينتمي إلى ذلك الفريق من مستشاري البيت الأبيض، من الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري على حدّ سواء، الذين طرحوا المعادلة التالية: إذا جاز القول إنّ النظام السوري لم يكن صديقاً لأمريكا، على غرار الصداقات الكويتية أو السعودية أو المصرية، فهل يجوز الاستطراد بأنه عدوّ لدود؟ والذين، تالياً، أجابوا هكذا: كلاّ، لا سيما طبائع الحاكم والحكم والاجتماع والعقيدة والاستبداد والفساد؛ واستطردوا: على العكس، هذا أحد أفضل الأنظمة التي شهدتها سوريا في خدمة المصالح العليا الأمريكية: منذ «اتفاقية سعسع»، 1974، التي أدخلت نظام فصل القوّات وجعلت الجولان منطقة هدوء قصوى للاحتلال الإسرائيلي، وأمان مطلق للمستوطنين؛ وصولاً إلى التعاون الأمني الوثيق بين الأجهزة السورية والأمريكية، في ما تسمّيه واشنطن «الحرب على الإرهاب»، والتي نقلها سيمور هيرش على لسان بشار الأسد، في «نيويوركر»، ذات يوم غير بعيد؛ دون نسيان الانخراط العسكري الرسمي في عداد الجيوش التي شكّلت تحالف «حفر الباطن»، والتمهيد لعمليات «درع الصحراء»، 1991.
ومنذ ربيع 2005، أي في ذروة ما كان يوصف بـ«الضغط» الأمريكي على النظام السوري»، أعلن آدم إيرلي، نائب الناطق الرسمي باسم الخارجية الأمريكية، أنّ واشنطن ليست معنية بتغيير النظام السوري؛ ونفى وجود «خطط بديلة عن نظام بشار الأسد»، وأكد على نحو بليغ واضح: «النقاش دار حول كيفية مساندة رغبة الشعب السوري في الإصلاح، وفي حرّيات أكبر، وفرصة أفضل… من داخل النظام القائم هناك حالياً». من داخله، إذن، أو عبر مؤسساته، تماماً كما يردد مالي اليوم؛ فالصقور أمتع، والنمور أبدع!
استطاعت تركيا بجهودها الديبلوماسية، وفقاً لتحولاتها الأخيرة أولاً، وبدخولها الأراضي السورية عسكرياً ثانياً، أن تبدّد حلم إقامة «الممرّ» الكردي العابر للحدود، كما كانت تشتهي «قوات حماية الشعب» (المنبثقة من «حزب الاتحاد الديموقراطي» الكردي في سورية)، أو على الأقل كما كان متوقعّاً من مسيرها العسكري الذي استهدف تحرير مناطق غرب الفرات من «داعش» ووصلها مع مناطق شرق الفرات لإقامة ما دعوه، أو ما اعتقدوه، «روج آفا».
لا جديد في السياسة الأميركية، التي غذّت حلم «قوات حماية الشعب» على أساس الدعم المطلق والحماية الجوية، رغم ما صدر عن المسؤولين الأميركيين أن هذا الدعم موجّه أساساً للحرب ضد «داعش» وأن لا علاقة له بالدعم السياسي الذي يؤهّل أو يفضي إلى إقامة فيديرالية كردية معترف بها، في تنصّل وتمييز واضحين بين الأحلام الكردية وبين سياسة الدعم الأميركية. في ذات الوقت لا جديد بخصوص انسحاب الادارة الأميركية من وعودها العسكرية لهذه القوة ومباركتها، بل وتغطيتها الجهد التركي في دخوله الحرب ميدانياً ضد «داعش» وأيضاً ضد «قوات سورية الديموقراطية» (غرب الفرات)، فهذه الادارة نفسها هي التي كانت صرّحت بسقوط شرعية الأسد وضرورة رحيله، وشرعت خطوطها الحمراء في وجهه، ثم تراجعت عن كل ذلك ليتقدم الخيار الروسي، وليبقى الأسد مودعاً أوباما مع كل تصريحاته النارية، ومن ثم المخملية من حوله.
هكذا بات المشهد السوري مع هذه التطورات غاية في التعقيد والتداخل، مع أطراف متعددة تشتبك وتتقاطع مع بعضها، بصورة تشوّش كثيراً على الصراع الحقيقي أو على ثورة السوريين ضد النظام أو تحجبه. فهناك النظام مدعوماً من الغطاء الروسي الجوي والمقاتلين الايرانيين والميليشيات المذهبية (التابعة لإيران) من لبنان والعراق وأفغانستان وغيرها، في مقابل المعارضة المدنية والمسلحة السورية. أيضاً، بات النظام في مواجهة «قوات حماية الشعب» أو «قوات سورية الديموقراطية» («قسد»)، ما يؤذن بفك التعايش بينهما، بعد أن أثار ذلك الشبهات حول حقيقة موقف هذا التيار الكردي من الثورة السورية، علماً أن هذه القوات تقاتل في ذات الوقت ضد «داعش». وطبعاً هناك تنظيم «داعش» الذي يقاتل الجميع، والجميع يقاتله، ولا سيما «الجيش الحر» وفصائل المعارضة الإسلامية المسلحة والقوى الكردية، فيما تنازعه مع النظام هو أقل شيء! فوق كل ذلك، فقد بتنا إزاء مواجهات عسكرية بين «قوات حماية الشعب» المدعومة أميركياً (ضد «داعش»)، من جهة، وبين فصائل «الجيش الحر»، المدعمة بالإسناد التركي، في تطور يزيد المشهد السوري تعقيداً، ويؤسس لحالة نزاع كردي ـ سوري من شأنها أن تطيح بحلم الأكراد السوريين جميعهم في الشراكة الحقيقية في سورية المستقبل، في دولة ديموقراطية تعترف بالحقوق الفردية والقومية، التي طالما بحث عنها الأكراد داخل مظلة المعارضة، واستطاعوا فعلياً الوصول إلى تفاهمات ووثائق تؤكد لهم هذه الشراكة (وثيقة موقعة بين «المجلس الوطني» الكردي و «الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة»).
إلا أن هذا الاقتتال المؤسف بين «قوات حماية الشعب» (الكردية) وفصائل من «الجيش الحر» يمكن تفسيره بأسباب عدة: أولها، صعود الصراع أو التنابذ الهوياتي في المشهد السوري، على حساب الصراع من أجل إحداث التغيير الديموقراطي، وهو أمر بذل النظام من أجله كل طاقاته، سيما في محاولاته وصم الثورة بالطائفية وتالياً بالإرهاب، ونزع السياسة من الصراع السوري، بما هو صراع من أجل المصالح والحقوق السياسية وتحويله إلى صراع على الوجود، أو تحويله إلى قضية انسانية وقضية لاجئين. والسبب الثاني، هو سيادة العسكرة والعنف المطلق في الصراع الجاري، على حساب أشكال الصراع الأخرى، وهذا أيضاً يأخذنا إلى ضمور السياسة والكيانات السياسية وأشكال الصراع المرتبطة بها، مع العلم أن العسكرة والعنف في الصراع ضد النظام سرعان ما استشرت عدواهما في صفوف الثورة، لا سيما كياناتها السياسية، إذ شهدنا اندلاع اقتتالات، بين فترة وأخرى، بين عديد من فصائل المعارضة العسكرية، كما شهدنا محاولات بعض الفصائل فرض سيطرتها بالقوة في مناطق تواجدها على مجتمع السوريين. السبب الثالث يعود الى أن الأجندات الخاصة بكل طرف تلعب دورها في الاختلاف بين الفصائل، لكن ما ينبغي الانتباه إليه الآن أن الدور المؤثّر والمقرّر هنا، في الصراع بين «قوات حماية الشعب» و «الجيش الحر»، إنما ينجم عن الارتباط بالأجندات الخارجية، الدولية أو الاقليمية، لأن الأطراف الداخلية أساساً إنما تستمد قوتها (العسكرية) من الداعمين الخارجيين، بحيث تغدو مرتهنة لهم ولأجنداتهم، وهذا يفسر أكثر من غيره النزعة نحو الاقتتال والاستئصال بدلاً من نزعة الحوار. رابعاً، يفترض أن نأخذ في الاعتبار هنا أن «قوات سورية الديموقراطية» التي يشكل «حزب الاتحاد الديموقراطي» ـ الكردي عمودها الفقري، والتي أضحت بمثابة قوة في حد ذاتها، باتت قوة مهيمنة في وجه الأكراد أيضاً، المتمثلين في «المجلس الوطني الكردي» مع حاضنتهم الشعبية، ما يزيد تعقيد الحل السوري والمشهد الداخلي. هذا كله يضع هذه القوات أمام خيارين: إما الاستمرار بنهجها الاقتتالي، وبالتالي تعدد الأطراف المواجهة لها عسكرياً، وضمنه المواجهة الداخلية (الكردية ـ الكردية) التي بدت ملامحها من خلال اعتقالاتها المتكررة لرموز العمل السياسي الكردي، أو مراجعة هذا النهج، ووقف هذا النزيف المجاني والانضواء في مشروع وطني ديموقراطي جمعي.
في المقابل، ومن دون رتوش تجميلية للوضع فإن استمرار الاقتتال الحاصل مع «الجيش الحر»، بدعم تركي، سيقود أيضاً الحاضنة الكردية إلى الوقوف مطولاً لدراسة خياراتها وتوجيه دعمها الذي ستغلبه كرديتها على أي شيء آخر، وهو الأمر الذي يجب أن يتفهمه «الجيش الحر» (والمعارضة السورية)، لإعادة حساباته في هذه الحرب المتعددة الوجوه والحسابات.
لا حل لهذا الصراع، أو الاشتباك والتشابك، إلا بسحب الأجندات الخارجية من الأجندات الداخلية (الوطنية)، أو التمييز بينها، وتغليب الأجندات أو المصالح الوطنية على الخارجية، مهما كان دور هذه الدولة أو تلك. هذا يتطلب، أيضاً، تمييز حزب «الاتحاد الديموقراطي» أجندته او مصالحه عن مصالح «حزب العمال الكردي» التركي لأن هذا التداخل يضر بوضع أكراد سورية، وعملية التغيير الديموقراطي في سورية، ولا يفيد «حزب العمال الكردي» في شيء. أخيراً هذا يفترض بحزب «الاتحاد الديموقراطي» أن يغلّب سوريته على اجنداته فوق الوطنية، أو القومية، من دون أن يعني ذلك عدم مشروعيتها، أو حرمانه من حقه في التفكير بحلمه القومي، فهذا شأن آخر. وبكلام آخر مفروض من القوى الكردية، وضمنها «الاتحاد الديموقراطي»، التوافق على استراتيجية موحدة لتعزيز مكانتها في إطار الوطن السوري، وفي إطار عملية التغيير الديموقراطي في سورية، لأن ذلك أفيد لهم وللثورة، ولسورية المستقبل التي نطمح لها جميعاً، سورية متعددة وديموقراطية، يتساوى فيها كل المواطنين، كأفراد أحرار ومستقلين ومتساوين، مع صيانة حق كل مكونات الشعب السوري في التعبير عن ذاتها القومية، وضمن ذلك الشعب الكردي.
وبالطبع فإن هذه الرؤية في حاجة إلى معارضة سورية موحدة، ذات خطاب واحد، تشتغل على التوجهات نفسها، ما يعزز الثقة بين السوريين، عرباً وكرداً، أي أن المسؤولية عن كل ذلك مشتركة، فما يقع على عاتق المعارضة السورية يقع أيضاً على عاتق القوى الكردية.
لا تخفي دموعك ، فهي من النوع الذي يجب أن يظهر و يتجلى أكثر من وجهك المغبر ، وجهك الذي لُطم و جُرح و تحول لعبارة عن مجرى دمٍ تارة على يتخذ لوناً أحمراً من عروقك و مرات شفافاً يعبر عن خلو روحك.
قد لا يكون من المؤثر أن ترى في رمقة تلك الراحلة في الحافلة أي شيء يدل على الانكسار ، فأنت تجلس بعيداً لحد النسيان لمشاعر انسان ، كل ذنبه أن بقي يدافع عن وجودك و كيانك و هويتك ، الأهم كرامتك التي من الممكن أن تعود لك في فترة ما ، و لكن في الحقيقة في تلك الحافلة التي لُوينت أخضر ، سيذهب معها الأوكسجين و خضرة الأرض إلى غير عودة ، فهنا لا تبدل للفصول ، و إنما هو رحيل بلا عودة ، هو عملية “التصحر” التي تضرب ذاوتنا.
رجلٌ يحمل في “كيس” أبيض اللون خارجياً ، آلاف القصص السوداء التي تجرعها من خذلان و تخلي و ترك ووحدة ، فقد، عزلة ، نسيان ، نتيجة حماقة، قلة كرامة يتقن لبسها من قبل الجميع ، دون استثناء الأقربون من حملوا السلاح دفاعاً عنه ، ووصولاً إلى كرة أرضية عبارة عن عجلة تدهس الروح قبل الجسد ، دون أي شعود بأي شيء ، فلا أشواك تحملها لتقض ما تحتويه من “هواء”.
في المعضمية اليوم يغادرها ثلاثمئة روح إلى مكان بعيد عن “المعبد” الذي خلقت لتطوف حوله ، بناء على اتفاق فُرض و وُقع و يُنفذ ، دون مشورة أو تنبيه، و حتى رفاهية العلم به غير متوفرة ، فأنت عنصر في دورة طبيعية لـ”السفالة” الفجور ، لا أكثر ….
تختنق الكلمات و يضيع ترتيبها في ازدحام مشاعر قد يُعرف منها الحنق و الاختناق و الرعب ، أي مستقبل ينتظر أؤلائك المغادرون و إلى أين و كيف سيكون الحال ليس في المستقبل البعيد ، وحتى في كل “انقلاب” العجلة لدورة كاملة … فهنا يكون البحث عن الاوكسجين هو جُلّ التركيز و منتهى الطموح، حتى تنسى الممسك بالرقبة و يمنع ولوج سبب الحياة الظاهري ، بعد موتها فعلياً.
من السهل أن يتم ارسال “الكرة” إلى الملعب المقابل على أمل أن تسجل هدفاً في مرمى الخصم ، كرة “التخاذل” المعجونة بمبدأ “ليس بالامكان أفضل مما كان” ، لا يمكن أن تكون فعالة في الوقت الذي ترى فيه الكرة ذاتها تسير أمامك و باتجاه مرماك.
تكرر الكثير من الكلام حول دور الموك في ركون الجبهة في درعا ، آخر يتهم القيادات العسكرية التي تستلم زمام الأمور في الحراك الثوري العسكري ، هناك أصابع تتجه نحو مشكلات جغرافية و تركيبة قبلية مختلطة مع صراع ايدلوجي ، يحول تحرك درعا لنصرة غيرها ، عبارة عن انتحار لـ”مهد” الثورة ، انتحار قد يودي بالثورة منها وصولاً إلى حلب.
اليوم دخلت درعا في المرحلة التي عايشتها الكثير من المناطق القريبة و البعيدة عنها، و حينها كانت درعا قبلة النداءات و الاستغاثات علّها تتحرك لتغير المعادلة ، ففي تحركها مقتلة حقيقة و تغيير فعلي في التركيبة التي يجري العمل عليها في سوريا .
لم يكن يتوقع أشد المتشائمين بأن يقدم النظام على التقدم باتجاه درعا و مناطقها المحررة ، بحجة أن “الوحش” النائم يجب أن يبقى كذلك ، أي تحريك أو جلبة حوله ستقض مضجعه، و بالتالي ستعيده للعمل من جديد ، و لكن هذا كان مجرد يقين خاطئ، و اليوم بدأ النظام و حلفاءه التحرك بالفعل باتجاه درعا بعد أن هدّء خاصرة موجعة “داريا” و خفف لحد الانهاء “الغوطة الشرقية” و لامكان لأي مزعج أو مانع للتقدم بهدوء و رويّة ، وفق سياسة القضم التي أتت أوكلها في كل منطقة و حتى في درعا بعد سقوط الشيخ مسكين ، التي شجعت لأن ينطلق النظام من جديد دون خوف من “الوحش” الذي بات مسالماً.
يدافع البعض عن درعا بأن أمرها ليس بيدها فهناك عوامل تلعب في المسيرة العسكرية ، موك و قيادات لاتستهويها المعارك الطويلة أو الصعبة ، راغبة بالمحافظة على الموجود و التحول للعمل المدني و السلطوي، هناك من يقول أن عوائق اغلاق الحدود الأردنية بحد ذاته كارثة ، فالمصاب بأي عمل هو على قوائم الموت.
ولا نعرف الحقيقة مآلات الأمور في درعا بعد التقدم الذي قام به النظام بالقرب من ابطع ، اليوم ، هل سيكون الرد خجول ، والادعاء بأن الخاصرة “الداعشية” أهم و أولى، على مبدأ العدو الآني و العدو الممكن التأجيل.
فالخيارات ليس بالواسعة تبعاً لنظرة تاريخية ، فنحن إما أمام “مثلث موت” جديد يقلب الآية تماماً ، أو “شيخ مسكين” محدّث يؤكد أن الموت قادم قادم لا محال .
يَستسهل قطاعٌ واسعٌ من سياسيي سورية القول بالتغيير الديموغرافي، وإن النظام هَجَّرَ أهل حمص والقصير وأخيراً داريا، وتكرّر الأمر عينه في حلب. يستند هذا الاستسهال واقعياً إلى إجلاء النظام السكان فعلاً عن تلك المناطق إجلاءً كاملاً.
ولكن المسألة أكثر تعقيداً؛ فالنظام ذاته خسر عشرات الألوف ممن يُعتقد أنهم سيكونون البدائل، وكذلك تم إفناء أغلبية المليشيات التي أتت لنصرته من خارج سورية، ونضيف أن مناصريه من العلويين لن يقبلوا العيش في منطقةٍ ليست لهم، واحتمال قتلهم ممكنٌ في المستقبل، عدا عن أن الحرب السورية دفعت الشعب نحو تظهير الهويات ما قبل الحداثية، أي أن الشعور بالقوة والأمان يتأتى من الوجود بين أبناء الطائفة أو القومية نفسها، وهو ما أدى بسوريين كثيرين، ومنذ 2012 خصوصاً، إلى العودة إلى قراهم بمن فيهم الأكراد. ضمن هذه الرؤية، لا يمكن للنظام أن يهدف إلى التغيير الديموغرافي، ولو أراد ذلك، لن يجد أحداً يستوطن تلك البلدات. قصد النظام من التهجير هو إفناء الحاضنة الشعبية للمناطق الثائرة، وتلقين بقية المناطق درساً "ابتدائياً" بأن الاستمرار في دعم الفصائل المعادية له سيؤدي، بالبلدات الثائرة وأهلها، إلى الدمار والقتل والتهجير.
ولكن، لماذا يتكرّر حديث التغيير الديموغرافي؟ المشكلة أن لكل سياسات النظام والمعارضة جذراً واحداً، يقول إن الثورة طائفية والحرب أصبحت كذلك، ومنذ بعض الوقت، انضم قطاع جديد من المثقفين لقول الشيء نفسه، ولعبت جبهة الفتح على الموضوع نفسه، وأطلقت على عملية فك الحصار عن حلب الشرقية، والدخول إلى بعض المناطق في حلب الغربية، اسم غزوة إبراهيم اليوسف، وهذا للتأكيد على طائفية الثورة، وأن أصلها يعود إلى خسارة السنّة في الثمانينيات. لا علاقة للثورة بتلك الخسارة، ولا بالإسلاميين، لكن الأخيرين "ركبوها"، ودفعوا بها هم والنظام لتصبح كذلك. لم يهتم الإسلاميون بأسباب الثورة، والتي تكمن في السياسات النيوليبرالية والإفقار الشديد الذي عاناه السوريون، والتوانسة والمصريون كذلك. ولم يهتموا بالسياسات القمعية الشديدة، ورفض أغلبية السوريين، وبكل طوائفهم وقومياتهم، لها؛ كُل ذلك لم يُقرأ!
قُرئَ الأمر إخوانياً بأنه الانتقام من النظام، وربما من الشعب، بسبب خسارة الثمانينيات، وبالتالي، يجب استثمار الممارسات الطائفية للنظام في تطييف الثورة. النظام الذي تدرّج في الردِّ على الثورة، وصولاً إلى المجازر والدبابات والطيران والكيماوي، ومختلف أشكال القنابل العنقودية، وأخيراً النابالم، كان ينمّي، هو و"الإخوان المسلمون" الميل الأصولي والسلفية والجهادية، وهذا يتضمن خطاباً إقصائياً وممارسات اجتثاثية للآخر، وبالتالي، تم تغييب أسباب الثورة الفعلية والأهداف القادرة على تحشيد أغلبية الشعب في التغيير السياسي، والانتقال إلى دولة لكل المواطنين، وبعيداً عما يصبو النظام و"الإخوان" إليه. يريد الأول إعادة إنتاج سلطته وتأبيدها. والثاني يريد دولة "إسلامية" عبر مصطلح الدولة المدنية.
يلقى مفهوم التغيير الديموغرافي صدىً واسعاً بسبب التدخل الإيراني وأدواته، من حزب الله والمليشيات الشيعية الطائفية، ومن سياسة القضم المستمرة في الزبداني وقربها من الحدود اللبنانية. يعزّز موقع داريا أيضاً من هذه الفكرة، فهي مُشرفة على الطريق الدولي للزبداني، والمُوصل إلى مناطق خاضعة لحزب الله. لا شك في أن إيران تفكّر بهذه العقلية، وربما كل ما يفعله حزب الله للوصول إلى هذه الفكرة، لكنها أيضاً فكرة غير قابلة للتطبيق، ولا يمكن مبادلة الزبداني بالفوعا وكفريا، فأهل الزبداني، وكل المناطق المحيطة بها، وكذلك داريا، لن يقبلوا أبداً بالتهجير واستبدال العيش قرب دمشق بمدينة نائية، عدا عن أن أكثرية السوريين، ومن كل الطوائف والقوميات، سيرفضون الفكرة من أساسها، وستنتهي كليةً حالما تتوقف الحرب. إذاً لا أنفي وجود الفكرة بالعقلية الإيرانية الطائفية بشكل خاص، لكنها ليست ممكنة التحقق في سورية، ولا يُغير في الأمر شيئاً لو بقي الوضع السوري قائماً لسنوات مقبلة.
ربما سيتم في الأسابيع المقبلة ترحيل سكان حي الوعر في مدينة حمص، وربما سكان ريف حمص الشمالي التي فيها الثوار، وهذا أيضاً سيرفع من شهية القائلين بالتغيير الديموغرافي. يتجاهل هذا المنطق أن في مناطق النظام نفسها أكثرية سنية. أقصد من كل هذا النقاش أن النظام يعمل وفق خطة محددةٍ، وهي تصفية مناطق الثورة الأساسية، مثل حمص وداريا وسواهما، وصمودُه خمس سنوات، وبعد التدخل الإقليمي والدولي الواسع والإنهاك الكلي لمناطق الثورة، سيؤهله لفرض نفسه طرفاً أساسيّاً في النظام المقبل؛ هذا هو الهدف المركزي لكل عمليات التهجير في كل مناطق سورية.
المعارضة والثوار معنيّون بفهم الملاحظات السابقة، ومع ذلك سأشطبها، وأقول إن النظام يستهدف التغيير الديمغرافي، فهل من مصلحة الثورة والسوريين تأكيد هذه الفكرة، وشطب طوائف بأكملها بحجة تأييدها النظام؟ لا أعتقد أن من الصّواب بمكان الاستمرار في هذه السياسات، لا سيّما وأنها ليست سليمة بشكل كبير. وبالتالي، هناك ضرورة سياسية ولصالح الثورة أولاً، وكل السوريين، لإيجاد رؤية سياسةٍ ثوريةٍ، تنطلق من أن الثورة لصالح كل السوريين، وأن الوضع الحالي أصبحت سورية فيه محتلةً من روسيا وإيران وأميركا وتركيا بشكل رئيسي، وهناك ضرورة لمشروع وطني، تتشكل بموجبه هويةٌ وطنيةٌ للسوريين، وفقاً لقيم المواطنة وشرعة حقوق الإنسان، ويُحيَّد فيه الدين عن الدولة، ويظل مسألة اجتماعية خاصة بالجماعات الأهلية.
هناك أفكار كثيرة من الضرورة الإشاحة عنها، ولا سيما كل ما يخص الطائفية والحل العسكري خياراً وحيداً والتبعية للخارج، واعتماد رؤية وطنية للثورة في كل أوجهها، والتوجه بخطاب وطني لكل السوريين، وبما يعزل كل المجموعات الطائفية والمافيوية عن حقل السياسة والثورة؛ سورية أصبحت كلها بخطر، وليس النظام والثورة فقط.
كاد يمر عام على بدء روسيا حملتها العسكرية في سورية، وبدأت تظهر الآن فقط معالم مرحلة جديدة في النزاع السوري، تأتي فيها تركيا في طليعة هذه المرحلة. فنتيجة لتبعات إستراتيجيتها الخاصة في سورية، إضافة إلى دور الفاعلين الخارجيين، يتحول موقف تركيا في النزاع السوري ببطء إلى موقف أقرب إلى موقف الولايات المتحدة الأميركية وروسيا. وبينما سيرحب الكثيرون بهذا التغيير كزيادة في إمكانية تحقيق تسوية سياسية للنزاع، فإن من المحتمل أن يزيد من عدم الاستقرار المحلي في تركيا.
لقد كانت للولايات المتحدة وروسيا وجهات نظر متباعدة بخصوص النزاع السوري. فقد رفضت روسيا دائماً تغيير النظام في سورية، بينما تمسكت الولايات المتحدة بإصرار برحيل الرئيس بشار الأسد. إلا أن الخطاب الأميركي لم يصاحبه قط عمل ملموس لتمكين حدوث هذا التغيير. فمن دون دور أميركي نشط في العملية السياسية التي تقودها الأمم المتحدة أو مستوى كاف من الدعم للمعارضة السورية، سياسياً كان أو عسكرياً، تركت الولايات المتحدة الباب مفتوحاً بشكل فعال لتحول روسيا وجهات نظرها الخاصة بسورية إلى حقيقة ملموسة.
في الوقت نفسه، كانت إستراتيجية النظام السوري الخاصة في معالجة النزاع تعتمد على مسانديه الخارجيين، أولاً إيران، ثم روسيا، مع تقديم معركته ضد المعارضة على أنها معركة ضد التطرف. وعلى المستوى التكتيكي، قام النظام بالسماح بشكل غير مباشر بنمو جماعات مثل تنظيم «داعش»، خصوصاً بعد أن بدأ «داعش» استهداف الثوار السوريين. لكن عندما بدأ التنظيم مهاجمة المناطق الخاضعة للنظام أيضاً، رأت روسيا في هذا فرصة. فالتدخل الروسي الذي بدأ في أيلول (سبتمبر) الماضي تحت ذريعة قتال «داعش» لم يمكّن الأسد من البقاء في السلطة فقط، خصوصاً وقد قامت روسيا بقصف كل من «داعش» والجماعات المختلفة من الثوار السوريين كجزء من حملتها الجوية، لكنه أيضاً جعل روسيا صاحبة مصلحة رئيسية لا يمكن الوصول إلى تسوية للنزاع السوري من دونها.
مع صعود «داعش»، وجدت الولايات المتحدة عدواً مناسباً لتحويل الانتباه بعيداً عن السياسة السورية، وزادت من إبراز تدخلها في النزاع السوري على أنه لمكافحة الإرهاب. وهكذا، تواءم المنهجان الأميركي والروسي في شأن سورية. هذا التواؤم ينمو إلى مناقشات حول تنسيق حملات عسكرية ضد «داعش» والجماعات الأخرى المسماة «إرهابية» في سورية. في هذه الأثناء، بدأت الولايات المتحدة وروسيا مناقشة اتفاق إطاري خاص بتسوية النزاع يتضمن السماح للأسد بالبقاء في السلطة خلال الفترة الانتقالية.
مع تتابع كل تلك التطورات، وجدت تركيا نفسها تحت ضغط متزايد. فبخلاف الولايات المتحدة، سعت تركيا بشكل نشيط لإزاحة الأسد من السلطة من خلال منح الدعم للجماعات المسلحة المتعددة في سورية. كما رأت أيضاً، في البداية، أن صعود «داعش» يشكل فرصة محتملة للتخلص من الأسد بسرعة، وفي النزاع السوري ذريعة لاتخاذ إجراءات صارمة ضد «حزب العمال الكردستاني» في الجنوب على طول الحدود السورية. إلا أن سياسة غض النظر التي اتبعتها تركيا في ما يتصل بحدودها مع سورية، والتي سمحت لآلاف المقاتلين الأجانب بالعبور إلى سورية من أوروبا وغيرها للانضمام إلى «داعش» والجماعات الأخرى، وضعت تركيا تحت ضغط من أوروبا، إضافة إلى الولايات المتحدة التي بدأت تعدها عنصراً من العناصر المسببة لعدم الاستقرار. لقد جاءت المبادرة التركية في مراقبة الحدود متأخرة جداً حيث كان «داعش» عندئذ قد أرسى وجوده على التراب التركي وبدأ سلسلة من الهجمات الإرهابية في المدن التركية المختلفة.
انضمت تركيا بصورة مترددة إلى التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة ضد «داعش»، مما أدى إلى زيادة مجال نشاط «داعش» على أرضها بدافع الانتقام. بالانضمام إلى التحالف، توقعت تركيا أن تلعب الولايات المتحدة في المقابل دوراً أكثر نشاطاً في دعم رغبة تركيا في تغيير النظام في سورية. لكن هذا لم يحدث.
أكثر من هذا، بدأت الولايات المتحدة دعم القوات الكردية المنتمية لـ «حزب العمال الكردستاني» في سورية (وحدات حماية الشعب) على رغم إدراجها «حزب العمال» كجماعة إرهابية، ووجدت في «وحدات حماية الشعب» شركاء عسكريين يمكن أن يكونوا موضع ثقة على الأرض في المعركة ضد «داعش». كذلك بدأت روسيا إخافة تركيا من خلال الحملة الجوية التي بدأت في أيلول (سبتمبر) 2015، ليس فقط بالاختراقات الدائمة للطائرات المقاتلة الروسية للمجال الجوي التركي، ولكن أيضاً بقصف الجماعات السورية الثائرة المدعومة من تركيا، إضافة إلى إمداد «حزب العمال الكردستاني» بالأسلحة ودعم الأكراد في سورية أيضاً.
شعرت تركيا بالعزلة. فهي أصبحت تحت ضغط روسي، وإلى حد كبير من دون دعم أميركي، وتشهد تحولاً تدريجياً في السياسة الأميركية في سورية إلى موقف أقرب إلى موقف روسيا. كذلك أصبحت مثقلة بتفاقم مشكلة «داعش» على أرضها، من دون أن ترى فرصة لتغيير النظام في سورية، وخشيت إمكانية قيام منطقة كردية مستقلة على حدودها مع استغلال الأكراد السوريين صلاتهم مع الولايات المتحدة وروسيا للمطالبة بالحكم الذاتي. وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير محاولة الانقلاب الذي حدث في تركيا في تموز (يوليو) الماضي والذي قابله رد فعل فاتر في الولايات المتحدة وأوروبا.
من بين كل تلك المشاكل، فإن فرصة الحكم الذاتي الكردي خارج منطقة كردستان العراقية هي الخط الأحمر بالنسبة إلى تركيا. وحتى لا يتم عبور هذا الخط الأحمر، عرفت تركيا أن عليها القبول بحل وسط. هذا الحل الوسط يأخذ شكل سورية.
قبل أيام قليلة، أعلن رئيس الوزراء التركي أن تركيا تقبل بقاء الأسد في السلطة خلال فترة انتقالية. وبعد ذلك بأيام قليلة، أرسلت تركيا قوات إلى داخل سورية للسيطرة على بلدة جرابلس الحدودية لمنع مقاتلي «وحدات حماية الشعب» من انتزاعها من «داعش»، إذ أن سيطرتهم عليها كانت ستمكنهم من ربطها بمناطق أخرى تحت السيطرة الكردية في شمال سورية. وفي مجموعة لم يسبق لها مثيل من التحركات، طلبت الولايات المتحدة، إضافة إلى تركيا، أن تتراجع القوات الكردية إلى شرق الفرات، بينما قصف النظام السوري أيضاً الأكراد في الحسكة، بعد أن رأى في زيادة الثقة بالنفس من قبل الأكراد تهديداً لوحدة سورية.
للمرة الأولى في تاريخ النزاع السوري، تتجه الولايات المتحدة وروسيا وتركيا نحو تحقيق درجة من التواؤم في شأن سورية ولو على حساب الأكراد، إضافة إلى العديد من الثوار السوريين المدعومين من جانب الأتراك. وعلى رغم أن هذا يعني أن تركيا لن تجد منطقة كردية مستقلة ذاتياً على عتبتها، فقد كان ثمن هذا عالياً. فالاقتصاد التركي تأثر تأثراً سلبياً، ومن المحتمل أن تستمر النشاطات الإرهابية من قبل «داعش» و»حزب العمال الكردستاني»، كما سيكون على تركيا الإذعان للطلبات الروسية والأميركية الخاصة بسورية، والتي لا يمكن إلا أن تلحق الأذى بالمصداقية السياسية للرئيس أردوغان. قد تتخطى تركيا هذه المرحلة في النهاية، لكن التداعيات المحلية، الاقتصادية والأمنية والسياسية، تستحق وقفة للتفكير.
يشكل حديث نائب الرئيس الأميركي جو بايدن عن رؤيته إلى الاستراتيجية التي تعتمدها الولايات المتحدة في مواجهة تحديات السياسة الخارجية، أفضل تفسير حتى الآن لمحدودية دور بلاده في سورية، وأوضح شرح للأسباب الكامنة وراء ما يراه كثيرون تخلياً من جانبها عن «الخطوط الحمر»، ونكوصاً عن دعم التغيير، و»تفويضاً» لروسيا وقوى أخرى بترتيب «البيت السوري»، مع الحفاظ على الحد المقبول من المصالح الأميركية.
لخص بايدن «عقيدته» في حديث نشرته مجلة «أتلانتيك» قبل أيام على النحو التالي: استخدام القوة العسكرية يجب أن يستند أولاً إلى ما هو مصلحة قومية استراتيجية، وأن نستطيع الحفاظ على زخم هذا الجهد والتأكد من أنه سيأتي بنتائج، وأن نعرف ثانياً ما هي الخطوات التالية بعد التدخل.
وكان أوباما تحدث إلى المجلة نفسها قبل أشهر عن أهم إنجاز له في ولايتيه الرئاسيتين، وكيف أنه لم يلتزم «كتاب التعليمات» للسياسة الخارجية الأميركية الذي يحدد متى وكيف ترد واشنطن على التحديات الخارجية، مبرراً امتناعه عن ضرب نظام بشار الأسد بعد استخدامه السلاح الكيماوي.
وكرر بايدن ما بات معروفاً من أن سورية لا تشكل مصلحة استراتيجية للولايات المتحدة، لأنها دولة لا تمتلك موارد مغرية، ولم تعد طرفاً في المحور الضامن للاستقرار في الشرق الأوسط، والذي كان يضم أيضاً السعودية ومصر، بعدما دخلت المنطقة في حرب محاور وانضوت سورية في المحور الإيراني.
ويضيف نائب الرئيس الأميركي: «لو أرسلنا 200 ألف جندي أميركي إلى سورية، وربما ندخل حينها في حرب مع روسيا، سيكون باستطاعتنا السيطرة على الوضع وتهدئته. لكن ما أن نغادر حتى تعود الأوضاع إلى ما كانت عليه»، مشيراً إلى مثال أفغانستان المهددة بعودة حكم «طالبان» في حال أنهت القوات الأميركية والأطلسية وجودها.
وتعتبر إدارة أوباما أن الإرهاب لا يشكل تهديداً وجودياً للولايات المتحدة، على رغم قدرته على إلحاق الأذى من قتل وتدمير، مع تأكيد أن مساهمتها في الحرب على «داعش» وباقي التنظيمات الإرهابية تستهدف استباق الاعتداءات الإرهابية في أوروبا وأميركا نفسها. وقال بايدن إن التهديد الوجودي الفعلي هو التهديد النووي، كأن يندلع نزاع نووي غير مخطط له، مع روسيا أو الصين وكوريا الشمالية أو مع باكستان.
ولأن المعطيات السورية لا تلبي شروط التدخل الأميركي الواسع، تحدث بايدن عن «إعادة التوازن» مع روسيا، وتعديل الوضع الذي ورثته الإدارة الديموقراطية من جورج بوش وكانت فيه الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة في العالم بلا منازع، وإلى الانخراط مع قوى دولية أخرى، لأن الموقف الأميركي من مشكلات العالم تغير، وبات من الحيوي تعزيز التحالفات وبناء ترتيبات جديدة تقوم على تشارك المسؤوليات والمعلومات.
وهذا تماماً ما فعله الأميركيون عندما فاتحوا الروس بضرورة تعزيز دورهم في سورية والانتقال من مجرد مدافع عن نظام الأسد ومزود له بالسلاح، إلى لاعب أساسي في المفاوضات ورسم مستقبل سورية ومحاربة الإرهاب. أي أنهم عرضوا عليهم مشاركتهم في تحمل مسؤولية حل الأزمة السورية، بغض النظر عن كيفية تفسير موسكو لهذه الدعوة، وكيف تصرفت لاحقاً بناء على هذا التفسير.
وهكذا صار للأميركيين شريك رئيسي في سورية، بعدما تقاسموا مع إيران النفوذ في العراق وأشركوها في وضع أسس التسوية السياسية في هذا البلد تمهيداً لانسحابهم العسكري منه. وجاءت دعوتهم إلى دور روسي أكبر في سورية بهدف القضم من الدور الإيراني هناك وإقناع الإيرانيين بالاكتفاء بالملعب العراقي، علماً أنهم حالوا حتى الآن دون أي دور روسي في العراق على رغم إلحاح موسكو.
أما باقي الشركاء في البلدين، مثل الأكراد والعرب والأتراك، فلا يؤدون بالنسبة إلى الأميركيين سوى أدوار ثانوية، والعلاقة بهم تتوقف على مدى خدمتهم التقاسم الذي تحدده واشنطن، ورهن التطورات على الأرض، لكن من دون مسار ثابت.
عندما سُئلت باربرا ف. وولتر، الخبيرة في الحروب الأهلية، عن صراعات مماثلة للحرب السورية على مر التاريخ، سكتت قليلاً ثم فكرت في بعض الاحتمالات، قبل أن تستسلم قائلة إن ليس هناك أي صراع مماثل، "إنها حقًا قضية صعبة جداً جداً".
لا تكمن فرادة الحرب السورية في الفظائع التي يرتكبها المتقاتلون في حق شعب بكامله فحسب، وإنما أيضاً في ممارسات الأمم المتحدة التي يفترض أنها منظمة محايدة لا علاقة مشبوهة لها بأي من الاطراف ولا تقدم مصلحة أي منهم على مصلحة الآخر. فكأن تعطيل الخمسة الكبار مجلس الأمن لا يكفي لنسف دورها في وضع حد للنزاع، لتتكدس الشبهات في عملها الانساني أيضاً، وصولاً أخيراً الى تقرير نشرته صحيفة "الغارديان" البريطانية عن دفع الأمم المتحدة عشرات ملايين الدولارات لنظام الرئيس بشار الأسد بموجب برنامج المساعدات.
وفي عملية حسابية بسيطة يتبين أن المنظمة الدولية دفعت 31,5 مليون دولار على الأقل في عقود لإدارات ومؤسسات وجمعيات على علاقة بالنظام وتخضع لعقوبات أوروبية وأميركية ترمي أصلاً الى اضعاف النظام ومنعه من مواصلة ممارساته ضد شعبه وإجباره على تقديم تنازلات للتوصل الى حل. ويظهر أيضاً تحليل عقود الأمم المتحدة أن وكالاتها عقدت صفقات مع 258 شركة سورية أخرى على الأقل، ودفعت مبالغ في عقود تراوح قيمتها بين 54 مليون دولار و36 مليون جنيه استرليني وصولاً إلى 30 ألف دولار. ويرجح أن كثيراً من هذه الشركات لها صلات بالأسد أو القريبين منه.
ليس مقنعاً قول الأمم المتحدة إن عملها الإغاثي أنقذ ملايين الأرواح، فهذا عمل المنظمة أصلاً، وليست مجادلتها بأن عليها التعامل مع النظام إذا أرادت التحرك في سوريا كافية لتبرير ما يرقى الى مستوى تواطؤ مع طرف أساسي في الحرب.
وكم تبدو مخيبةً التقارير الواردة منذ بداية المهمة الانسانية في سوريا عن ضغوط يمارسها النظام على البعثة الدولية لتوجيه المساعدات الى مناطق معينة وإرغامه إياها على تعديل تقاريرها بما يتلاءم ومصلحته تحت تهديد منعها من العمل في البلاد، بل هي تشكل نقطة سوداء في سجلها الانساني. سياسة الإذعان والتسويات التي تعتمدها الامم المتحدة في سوريا لا تقل خطراً عن تلك التدخلات الخارجية والمصالح المتضاربة الكفيلة بمدّ أمد النزاع وجعله أكثر عنفًا وأكثر استعصاء على الحل.
مع تسويات مشبوهة كهذه وإذعانها لتهديدات النظام بسحب ترخيص العمل منها، تساهم الامم المتحدة في تغذية العنف وإطالة زمن الحرب الى حين فناء البشر والحجر معاً.
قُصفت داريّا بوابل من قنابل النابالم، قبيل إخلائها، وقال شهود عيان أن الحرائق بدت ليلاً من دمشق أشبه بفوّهة بركان مشتعلة. لم يقل أحد، ولا الأمم المتحدة، أن نظام البراميل المتفجّرة عبّأ براميله بسلاح محظور دولياً، ولو من قبيل توثيق الواقعة. الأرجح، أن التعب الدولي من انتهاكات النظام جعل التنبيه الى جرائمه بلا معنى أو مغزى، فهي كثيرة ويومية. غير بعيد من داريّا، في المعضمية، قبل ثلاثة أعوام، كان القتل بالسلاح الكيماوي، وتعاون الأميركيون والروس على لفلفة الجريمة آنذاك، والأرجح أنهم سيتعاونون على حماية النظام القاتل بعدما حمّله التحقيق الدولي مسؤولية واقعتين كيماويتين بأدلة قاطعة.
كانت لداريّا رمزية خاصة بدلالة تجربة العيش المشترك بين أبنائها مختلفي الانتماءات، ففيها تجلّت «سلمية الثورة» بأبهى حللها في تقديم الورود الى جنود السلطة، وفيها انكشف باكراً الوجه العنفي الحاقد للنظام بقتل حامل الورود غياث مطر بعد اعتقاله، وفيها كذلك ارتكب النظام المجازر المنهجية الأولى قبل أن يشرع في حرب إبادة ضد المدينة، وفيها أخيراً سجّل عسكريون وشبان اضطرّوا للتعسكر واحدة من تجارب الصمود الإنساني الأكثر إذهالاً. كانوا مقاومة شعبية حقيقية، ذات هوية وطنية، ولا ارتباطات خارجية لهم، ولا أسلحة ثقيلة، ولذلك كان وجودهم على مقربة من دمشق مصدر إزعاج لا للنظام وإيرانييه فحسب، بل حتى لفصائل أخرى قريبة وباتت الآن تحت ضغوط براميل النابالم تمهيداً لإخلائها بدورها.
بالنسبة الى إعلام نظامَي بشار الأسد وملالي إيران، شكّل الانتهاء من عقبة داريّا خطوة متقدّمة في «تأمين دمشق»، بعد القلمون والزبداني، والتأمين هذا اسم مرادف لاقتلاع السكان والتغيير الديموغرافي. هو استنساخ دقيق لنموذج الإرهاب والمجازر الإسرائيلي في إخلاء المَوَاطن من أهلها، ومن ثَمّ التصرّف بما يسمّى «أملاك الغائبين» والسهر على تهويد الأماكن. قبل داريّا، مورس النهج «التهويدي» في حمص، ويستكمل الآن - بالنابالم - في حي الوعر، الرقعة الأخيرة منها خارج سيطرة النظام.
لكن هذا النظام قبل طوعاً تقزيم وجوده في الحسكة، بعدما طردته منها قوات «حزب العمال الكردستاني»، وليس «حزب الاتحاد الديموقراطي» الكردي، وفق التسمية التي اعتمدها محافظ الحسكة. وفي هذه الواقعة أيضاً، سيكون للتغيير الديموغرافي أثره القاسي في الناس، تحت أنظار الروس الذين تولّوا «التوسّط» بين النظام والأكراد. وهو تغيير يتمّ في سياق يخدم أجندة النظام، إذ يقبل سيطرة الكرد طالما أنهم سيهجّرون العرب. وما دام الـ «بي كي كي» السوري تسبّب بنفي قسم كبير من مواطنيه الأكراد غير المتوافقين معه سياسياً وتهجيرهم، فماذا يُتوقّع منه حيال العرب، وقد هجّر منهم مَن هجّر، وعلى رغم نفيه المتكرّر لم يستطع أحدٌ منهم العودة الى قريته أو بلدته.
لوقائع مثل داريّا والحسكة أبعادٌ «مستقبلية» باتت تنبثق من قذارة الحرب وأهداف اللاعبين فيها، ويمكن أن تضاف إليها الحالات الميليشياوية التي فرضت نفسها على مناطق المعارضة، كما دأب الإيرانيون على نشرها في «مناطق النظام» حتى أن الروس الذين ازدروها في بداية تدخّلهم، لم يجدوا مناصاً من التعامل معها وأصبحوا يستقبلون وجوهها في قاعدة حميميم. هذه وقائع أقلّ ما يقال فيها أنها لا تسابق «الحل السياسي» وتضاعف صعوباته وتعقيداته فحسب، بل إنها ماضية في قتله وفي تغيير الوقائع على الأرض، الى حدّ أن القرار الدولي 2254 الذي لم يظهر إلا في العام الخامس للصراع، أُفرغ من مضمونه في غضون شهور قليلة. وإذ يُنظر بيقين الى «داعش» على أنه خطر زائل لا محالة بعدما وفّر لجميع من ساهموا في ظهوره حقولاً للقتل والتدريب وتجريب الأسلحة، فالمؤكّد أن «داعش» لا مستقبل له في سورية أو في العراق، لكن ما يحصل على الأرض ماضٍ في صنع مستقبل لمن أوجدوا التنظيم واستغلّوه تحديداً في إفساد قضية الشعب السوري.
فمن داريّا التي أعادت إنعاش حلم الأسد والإيرانيين في «سورية المفيدة»، الى الحسكة التي أكّدت وجود تفاهم أميركي - روسي على منح الأكراد كياناً خاصاً بهم، الى جرابلس التي دشّنت دخول تركيا منطقة النفوذ التي أفردها لها الروس والإيرانيون، الى مواصلة الأميركيين والروس بحثهم عن «هدنة شاملة» في حلب وعن أفضل تنسيق لنشاطاتهم الجوية وأفضل تمييز ممكن بين معارضتين معتدلة ومتطرفة، وإلى استمرار النقاش والخلاف حول «مصير الأسد» فيما تتمسك به موسكو وطهران وتستعد أنقرة لتطبيع العلاقة معه وتسلّم واشنطن بوجوده في مرحلة «قصيرة» لا يريدها الأسد نفسه، بل لا يعترف بأي صفة «انتقالية» لها... يبدو أن الطرف الوحيد الذي لن يتاح له أن يقرّر مصيره هو الشعب السوري، وإذ كانت تركيا حتى أمس قريب أشبه بحصن أخير لقضية هذا الشعب، أقلّه بحكم موقعها الجغرافي، فإن التحاقها باللاعبين الخارجيين الآخرين مرشحٌ لأن يُضعف التزاماتها تجاه المعارضة.
لا شك في أن الدخول التركي الى الأراضي السورية، لمقاتلة «داعش»، صار مقبولاً أميركياً بعدما نالت تركيا قبولاً روسياً - إيرانياً، بل قُبل معها أيضاً «الجيش السوري الحرّ» الذي كانت أميركا أمعنت في إهماله وتهميشه يوم كان قادراً على صدّ اختراق «داعش» وانتشاره، ثم مانعت لاحقاً أي دور له في محاربة الإرهاب، كأنها لا تجد له مكاناً في «سورية المستقبل» كما تتصوّرها، ولذا فضّلت الاعتماد على «بي كي كي» السوري لأنها حجزت له مكاناً في «سورية المستقبل» كما تتصوّرها. تم تحريك هذا الفصيل من «الجيش الحرّ» تحت الإمرة التركية، ووفقاً للصيغة التي اشترطتها أميركا منذ 2014، أي لمقاتلة «داعش» لا لمقاتلة النظام. هذا يناسب المعايير الروسية، ولا يقلق إيران، وإن كان مجرد ذكر «الجيش الحرّ» يثير كل الحساسيات داخل الحلقة الضيّقة للنظام، وحتى لدى جمهوره. لكن حسابات الحلفاء برهنت في محطّات عدة، أنها لا تكترث بهواجس الأسد وزمرته.
في أي استراتيجية يمكن وضع التحرّكات الدولية والإقليمية الراهنة، وهل هي منسجمة مثلاً مع نص القرار 2254 الملتزم «وحدة سورية»، أو حتى مع «المبادئ» الثلاثة التي ادّعاها «التفاهم الثلاثي» الروسي - الإيراني - التركي (وحدة سورية أراضيَ وسيادةً، حكومة وطنية موسّعة، إعطاء الشعب السوري الفرصة لتقرير مصيره...)؟ الواقع، أن الأمم المتحدة اتّبعت مع أمينها العام الحالي خطّ العمل في موازاة ما تتفاهم عليه أميركا وروسيا اللتين عطّلتا كل سلطة مبدئية أو أخلاقية للمنظمة الدولية كما ألزمتا المبعوث الأممي بمراعاة إيران والنظام على حساب الأطراف الأخرى.
لكن المتدخّلين الخارجيين جميعاً، كما نظام الأسد، لم يُثبتوا يوماً احترامهم وحدة سورية. إيران أولاً لاستحالة تحقيق مطامعها في سورية موحّدة، وإيران مع النظام بعدما بانت صعوبة استعادته الحكم على كل البلد، ثم روسيا التي أدركت سريعاً أن سورية تجزّأت قبل تدخّلها، وأن خيارها الوحيد حماية «سورية المفيدة» كمشروع إيراني - أسدي يمكن أن تحافظ على مصالحها فيه، أما الولايات المتحدة فانتزعت نفوذاً عبر إدارة المعارضة وكبحها في الجنوب وتمكين الأكراد في الشمال، ومن خلال الدورَين الروسي والأميركي حصلت إسرائيل على «حقّها» في التدخل، وإذا لم تكن تبحث عن منطقة نفوذ فلأن لديها الجولان وتريد اعترافاً بأنه لم يعد محتلاً، بل أصبح «حلالاً لها»، وأخيراً انضمّت تركيا الى اللعبة وهي تعلم أن لـ «البازار» الذي يرحّب بها قواعد وشروطاً لا تتلاءم بالضرورة مع كل ما تسميه «ثوابت» لا تحيد عنها.
نعم، قد يشكّل تقاطع مصالح أنقرة وطهران ودمشق ضد الكرد قاعدةً لتقاربها، لكن المشروع الكردي يحظى بتفاهم أميركي - روسي وبتشجيع إسرائيلي، وبالتالي فإن ما تستطيعه الدول الثلاث المتضرّرة هو إبطاء هذا المشروع وحصر تداعياته عليها. ولا شك في أن نظام الأسد يمثّل هنا الحلقة الأضعف، فهو، على قول بعض القريبين، لم يعد معنياً إلا بـ «قصر المهاجرين» (مقرّ حكمه)، أما انزلاق سورية أكثر فأكثر الى مستنقع التقسيم فلا يشغله، لأن التقسيم حصل في رأسه منذ اندلاع الأزمة.
منذ فجر الثورة ولغاية منتصف 2014 ظل حي الوعر الحمصي يعيش حالة نسبية من الهدوء، ولكن بسبب التهجير الذي نفذته آلة الحرب التابعة لنظام الاستبداد والإجرام وميليشياته، التي طالت غالبية مدن وقرى محافظة حمص بحقد مقيت يهدف لقمع الثورة السورية المطالبة بالحرية والعدالة والكرامة، بدأت الكثافة السكانية في الحي تتزايد حتى وصلت نحو نصف مليون نسمة، ما يعادل خمسة أضعاف عدد السكان الأصلي، يتوزعون على مساحة لا تزيد على ثلاثة كيلومترات مربعة.
الشعور السابق بالأمان، سرعان ما تبدد مع اقتراب صيف عام 2014، وبعد أن بدأ النظام ينفذ عمليات قصف على الحي بدعم من الميليشات الطائفية المقاتلة إلى جانبه، وأطلق يد عناصره ليمارسوا القمع والتضييق على السكان بالإضافة إلى عمليات الاعتقال وصولاً إلى فرض حصار كامل على الحي.
عشرات آلاف المدنيين اختاروا النزوح مجدداً، فتحت التهديد المستمر بالقصف والقتل والحصار والاعتقال، لم يكن خيار البقاء في الحي سهلاً، وبدأت حركة نزوح جديدة خارج الحي، ومع استمرار التصعيد في القصف وتشديد الحصار وصلت أعداد النازحين إلى أكثر من 300 ألف نسمة، غادروا الحي الواقع غربي مدينة حمص الذي لا يفصله عنها سوى نهر العاصي وبساتين حمص الشهيرة.
المدخل الوحيد للحي كان عبر قرية «المزرعة» التي قامت ميليشيات موالية للنظام انطلاقاً منها بتنفيذ انتهاكات شديدة بحق أهالي حي الوعر، من خلال دعم الحصار والمشاركة في التضييق ومحاولات متكررة لإذلال السكان والأهالي، وصولاً إلى جرائم الخطف وطلب الفدية مقابل إطلاق سراح المخطوفين.
ومع تشديد الحصار كان لا بد لسكان الحي من التأقلم مع الواقع الجديد والمتفاقم، والبحث عن سبل أخرى للعيش، فكانوا مثالاً للإبداع والعمل الدؤوب والجاد، وتمكنوا من النجاح في شتى المجالات، وخاصة في مجال التعليم الذي لم يتوقف يوماً، سواء فيما يخص المرحلة الابتدائية أو المتوسطة أو الثانوية، وصولاً إلى المعاهد المتوسطة، وكذلك الحرف اليدوية والزراعة التي كانت من أهم ما ساعد سكان الحي على الاستمرار بالحياة.
لم يقتصر الأمر على ذلك، فقد ظهرت مشاريع العمل المدني، سواء في مجال الحفاظ على النظافة أو أعمال الدفاع المدني أو تقديم خدمات الطبابة والإسعاف. ورغم شدة الحصار، وبدء الاحتلال الروسي باستهداف الحي بالقصف مستخدماً ذخائر محرمة منها القنابل العنقودية وقنابل النابالم الحارقة، ورغم قناصة النظام المتمركزين على المباني العالية القريبة من الحي والمطلة عليه لاستهداف المارة؛ فقد أصر عشرات الآلاف من سكان الحي على الاستمرار في الحياة والبقاء في بيوتهم وعدم المغادرة.
تدخلت الأمم المتحدة عدة مرات بعد الضغط الشديد الذي مورس عليها من داخل الحي وخارجه، لكن جميع محاولات التدخل باءت بالفشل ولم يتم إدخال سوى القليل القليل من المساعدات الإنسانية.
دور الأمم المتحدة لم يكن منحازاً لصالح الطرف الذي طاله الظلم، لم يقف إلى جانب الحق، ولم يقف الأمر عند هذا الحد. فقد فشلت المنظمة في التمسك بموقف محايد، بل كان مكتب الأمم المتحدة في دمشق يضغط على السكان من خلال موظفيه، في محاولة لتمرير هدنة تفضي في نهايتها إلى الاستسلام، حيث قام مكتب دمشق بزيارات واتصالات مع سكان الحي لإقناعهم بالموافقة على الهدنة المزعومة، ما يشير إلى شراكة في مشروع التهجير، وإلى عجز وخيبة الأمم المتحدة في معالجة الأمر وفشلها المدقع في حماية المدنيين تحت القوانين الدولية، كل ذلك دون ذكر قضايا الفساد التي بدأت تطفو وتتكشف في الآونة الأخيرة.
مهما يكن من أمر، وعلى الجانب الآخر، حاولت فصائل الجيش السوري الحر كسر الحصار المفروض على الحي أكثر من مرة، لكن تضاريس الحي المكشوفة، ووجوده قرب ثكنات عسكرية تابعة لقوات النظام أعاق تلك الجهود، وحال دون تكللها بالنجاح.
نظام الأسد ينتهج سياسة إجرامية بات العالم كله يعرفها، وهي تهدف إلى القتل والتهجير والتدمير، من أجل الاحتفاظ بالسلطة بغض النظر عن الكلفة، متوهماً أن ارتكاب المزيد من الجرائم يمكن أن يقتل إرادة الحرية لدى الشعب السوري الثائر، ومستخلصاً مما جرى مؤخراً في مدينة داريا أسوأ العبر والدروس، التي ستكون دون شك ذات عواقب وخيمة عليه، فصمود داريا طوال 4 سنوات، رغم الحصار الخانق، ورغم الوضع الاستراتيجي الصعب على المقاتلين داخل المدينة والحساس لقربه من مواقع ومراكز النظام؛ لا يمكن وصفه إلا بالصمود الأسطوري الذي كشف العديد من الحقائق والذي سيكون سبباً في تلاحم الثوار وصمودهم في سائر أنحاء سوريا. إن هلاك الظالمين قدر محتوم، ولا يمكن لجرائم النظام في سوريا ومدنها وقراها وبحق سكانها؛ أن تمر دون أن تكون سبباً في هلاك المجرمين وإسقاطهم ومحاسبتهم.
وهنا أيضاً لا بد من الإشارة إلى دور ومسؤولية وواجب المجتمع الدولي، وخاصة الدول العربية ودول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والدول الصديقة المساندة للشعب السوري، فجميعها مطالبة اليوم وأكثر من أي وقت مضى، بالقيام بما من شأنه حماية المدنيين في سوريا، والانتباه إلى سياسية النظام في قتل وتهجير أبناء سوريا، فكما جرى في مناطق عدة كان آخرها داريا، يسعى النظام للاستمرار في ممارسات التهجير القسري بأي وسيلة ممكنة، بدءاً من القصف والقتل والحصار وصولاً إلى فرض هدن محلية غير عادلة وتمثل خرقاً للقانون الدولي يتم تحت ستارها فعل التهجير والطرد، هدن تمثل في حقيقتها وصمة عار في تاريخ المنظومة الدولية والقانون الدولي كونها تسمح لنظام مارق، استخدم الأسلحة الكيميائية، والبراميل المتفجرة، والقنابل العنقودية، ضد المدنيين؛ بالاستمرار في ممارسة أفعال القتل والتدمير والتهجير القسري.
لا بد من ضمان حق السوريين في البقاء في بيوتهم من خلال وقف حملات النظام وأعوانه عليهم، والسماح بوصول المساعدات الإنسانية والمواد الطبية إلى المحاصرين.
لا بد من اتخاذ خطوات عملية تمهد لحل سياسي ينهي معاناة الشعب السوري ويحقق تطلعاته. الشعب السوري يريد الحياة، الحرة الكريمة، ولن يتمكن تحالف قوى الشر كلها على وجه الأرض من كسر إرادته تلك.
إن تجدد الجرائم والانتهاكات والتهجير القسري، سيظل هاجساً لا يمكن إلا التخوف من تكراره، ما دام رد الفعل الدولي البارد مستمراً تجاه كل الخروقات، بكل ما يترتب عليه من مخاطر ليس أقلها إجهاض الجهود الدولية الرامية إلى استئناف العملية السياسية.
استأنفت روسيا حربها المدمرة على سورية انطلاقاً من مدينة حلب. سبق لروسيا، ولفترة قصيرة جداً ادعاءها الانسحاب من الحرب في سورية، ولم يكن في الحقيقة سوى ادعاء كاذب. منذ فترة، تحتكر الطائرات الروسية سماء المدينة، وتمعن في تدميرها على من فيها من سكان مدنيين أو مقاتلين، وعلى بناها ومبانيها. يذكّر التدمير الروسي لحلب بما جرى لمدينة غروزني في الشيشان، والتي قادت تمرداً على السيطرة الروسية وطالبت باستقلالها عن الاتحاد، فكان جواب الرئيس الروسي بوتين مسحها من الوجود وتحويلها ركاماً وأطلالاً. يبدو أن هذا الأسلوب قريب جداً على قلب قائد روسيا في تعامله مع شعوب بلده وغيرها من الأوطان.
لا شك في أن روسيا تخوض حربها الخاصة لتأمين مصالحها في المنطقة ونفوذها على البحر المتوسط. آخر الهموم في عقل بوتين هو الشعب السوري أو النظام أو الرئيس الأسد نفسه، وإن يكن شعار التمسك بهذا الأخير ليس سوى شماعة تبرر له التدخل. يستفيد بوتين من التردد الأميركي ومن إخلاء الساحة وتركها في فراغ. هذا الفراغ ملأه بوتين كأفضل وسيلة للتدخل.
ما يدور في سورية هو عملياً حرب بين «الكبار» من القوى العظمى، حيث لا مكان فعلياً للقوى «الصغيرة» مثل إيران والميليشيات التابعة لها أو لتركيا وقواها أو لسائرالقوى الإقليمية. دور هذه القوى تأمين الغطاء لحروب الكبار. أما الشعب السوري وما يصيبه وما يعانيه، فلا يقع في حساب لا الكبار ولا الصغار. سورية مساحة لحروب بديلة ولتصفيات القوى العظمى لنزاعاتها الخارجية، والأكثرمن ذلك ميدان إجراء التسويات أو التمديد للحروب.
الجديد في الحرب الروسية المدمرة على سورية هو استخدام قاعدة «همدان» الإيرانية في انطلاق طائراتها لضرب مدينة حلب وغيرها من المدن. لا شك في أن الكثيرين ذهلوا من السهولة التي سمحت فيها إيران بانتهاك سيادتها والتسليم بوجود قوى عسكرية خارجية على أرضها. لا يقنع الكلام الإيراني عن أن السماح لروسيا باستخدام قواعدها الجوية لا يعني وجوداً عسكرياً على الأرض. فألف باء العلم العسكري الذي يعرفه الإيرانيون جيداً، أن وجود الطائرات في القواعد العسكرية يحتاج إلى قوى لوجستية وإلى قوى حماية لها. ومن يعرف العقلية الروسية العسكرية يعرف أن القيادة فيها لا تثق بحماية جنود إيرانيين لهذه الطائرات ولطواقمها العسكرية واللوجستية. إذاً القرار الإيراني هو مس بالسيادة اتخذته القيادة طوعاً، وهو فريد من نوعه منذ قيام الثورة الإسلامية عام 1979، بل هو سابقة لم يجرؤ شاه إيران نفسه على السماح للأميركيين، أصدقائه وحماته، بإعطائهم هذا الحق بالتواجد العسكري.
ما بات واضحاً أن ما أملى على إيران شرب «كأس السم السيادي» هو فشلها الواضح في إنهاء الحرب العسكرية في سورية، وفي العجز عن السيطرة على مدينة حلب بعد أن تكبدت مع حلفائها والميليشيات التابعة لها خسائر جسيمة. يرى الإيرانيون أن هذا الحلف مع روسيا سينقذ ماء وجههم في حـرب طالت وستطول حكماً، وتوقعهم أن الجيوش الإيرانية مقبلةٌ على الغوص في رمالها ووحولها أكثر من أي وقت مضى. فهل يكون التدخل الروسي وسيلةً إنقاذ لإيران فعلاً، مثلما سيكون إنقاذاً للأسد ونظامه؟ الجواب في ما ستحمله الأيام المقبلة من مسار الحرب.
لا يقع في باب التكهن أن الروس ستفاجئهم تعقيدات في مسار الحرب وردود الفعل عليها. فالاستكانة للتردد الأميركي وعدم الانغماس في المواجهة قد لا يعني تسليماً لروسيا بحسم الحرب. عودنا الأميركيون على سياسة مراوغة لا تضع في الحسابات سوى مصالحها، ولا تأخذ في الاعتبار مصالح الأوطان والشعوب، كما هي روسيا.
يصعب أن تبقى أميركا خارج اللعبة، ويصعب أن تقبل بتسليم المنطقة لروسيا، وهي الخصم لها في أوكرانيا وأكثر من منطقة في العالم. تملك أميركا وسائل متعددة لوضع العصي في الدواليب الروسية، وليست مضطرةً للنزول إلى الأرض للقيام بذلك. قد نرى الأميركيين فجاةً يغذون قوى معارضة بأسلحة نوعية تهدد الطيران الروسي، وقد يكون العقل الأميركي في وارد إغراق روسيا بأفغانستان أخرى. هذه التوقعات تنبع من معرفة العقل العسكري الأميركي، ومن الإشارات الاعتراضية التي بدأت تبثها الإدارة الأميركية احتجاجاً على العمليات العسكرية الروسية في سورية. ستظهر الأسابيع المقبلة ما إذا كانت التسوية على سورية قد نضجت لدى الكبار، أم أننا أمام مراحل جديدة من الحرب. قد يكون التوقع الثاني هو الأرجح.
الاجتماع السنوي لسفراء فرنسا حول العالم للاستماع إلى رئيسهم يتحدث عن ديبلوماسية فرنسا يطرح السؤال: من سيكون على رأس فرنسا في هذه الفترة من السنة المقبلة لقيادة هذه الديبلوماسية وكيف ستكون ديبلوماسيته؟ ومن سيقود الولايات المتحدة وكيف سيكون تأثير ذلك على العلاقة مع فرنسا وأوروبا؟ شعبية الرئيس الفرنسي منخفضة جداً لأن الوضع الاقتصادي في البلد سيء والبطالة لم تزل مثلما توقع هولاند في بداية عهده. ولكن موقفه من القضايا الدولية خصوصاً بالنسبة إلى سورية ولبنان والعالم العربي موقف جيد. فهو منذ بداية الصراع السوري يطالب بحل سياسي ويدين إجرام النظام السوري وحلفائه. فكيف سيكون وجه الديبلوماسية الفرنسية مع الرئيس الجديد في السنة المقبلة إذا لم يعد هولاند حسب توقعات شعبيته المتدنية؟ فالفائز في الانتخابات الأولية لحزب الجمهوريين (اليمين المعتدل) قد يكون لديه الحظ الأكبر في الوصول إلى الرئاسة. والمتنافسان الأكثر شعبية في حزب الجمهوريين هما رئيس الوزراء السابق ألان جوبيه الذي تولى حقيبة الخارجية مرتين في عهد الرئيس الاشتراكي فرانسوا ميتران وفي عهد نيكولا ساركوزي والآخر ساركوزي، علماً أن حزب «الجبهة الوطنية» (اليمين المتطرف) التي تترأسه مارين لوبن يحظى بشعبية متزايدة. وإذا عاد ساركوزي إلى الرئاسة على رغم أن كثيرين في اليمين لا يتمنون عودته، فإنه لن يغير في تعامله مع النظام السوري كونه هو الذي سحب البعثة الديبلوماسية الفرنسية من دمشق ومنع التعامل مع النظام، علماً أنه كان دعا بشار الأسد إلى باريس مرتين واستقبله بحفاوة ولكنه سرعان ما أدرك أن النظام كاذب ولم يلتزم يوماً بما تم الاتفاق عليه. ولكن ساركوزي ينتقد هولاند على سياسته مع روسيا وتجاهل هذا البلد الكبير. إلا أن بوتين يعتبر أن ساركوزي خدعه في ليبيا عندما اتخذ قرار مجلس الأمن ذريعة لتغطية إزالة نظام القذافي. أما جوبيه وهو اليوم في استطلاعات الرأي الأوفر حظاً للفوز في الانتخابات الأولية، فسيكون إذا وصل إلى الرئاسة أقرب إلى توجهات هولاند في سورية ولكن مع تغيير في الأسلوب والنهج والتعامل بإرادة أقوى وحزم أكبر وسرعة في اتخاذ القرار.
إن الإرهاب سيكون المشكلة الأساسية التي يواجهها الرئيس الفرنسي الجديد لأن الحرب مع الإرهابيين طويلة وقاسية. وأي من المرشحين لقيادة فرنسا سيستمر في الحرب ضد «داعش» وفي ملاحقة ومراقبة الجهاديين في فرنسا مثلما تقوم به الحكومة الحالية. ولا يملك أي من المرشحين وصفة سحرية لإزالة هذه الكارثة للدولة. ولا شك أيضاً أن التغيير في الولايات المتحدة سيؤثر على فرنسا. فإذا فازت هيلاري كلينتون قد تتغير أمور عدة في الشرق الأوسط خصوصاً بالنسبة للصراع السوري، لأنها استاءت مرات عدة من موقف أوباما إزاء التراجع بالنسبة لسورية. أما بالنسبة إلى الحل السياسي في سورية فهذا غير ممكن على ضوء ما يجري على الأرض.
فالصراع السوري مستمر منذ خمس سنوات وقد يستمر أكثر خصوصاً إذا تم تغيير القيادات الغربية التي بإمكانها إذا كانت أكثر حزماً مع روسيا أن تقنعها بضرورة الحل السياسي في سورية وإلا أصبحت مستنقعاً لها وللميليشيا اللبنانية «حزب الله». إن تغيير القيادات المقبل في الولايات المتحدة وفرنسا وربما ألمانيا وبعد تسلم تيريزا ماي رئاسة الحكومة في بريطانيا، يطرح مسائل عدة إزاء حل الصراع السوري وما إذا كانت هذه الدول مستعدة لبقاء الأسد والعودة إلى التحدث معه.
هناك في اليمين الفرنسي رئيس حكومة سابق في عهد ساركوزي هو فرانسوا فيون الذي يتنافس مع ساركوزي وجوبيه في الانتخابات الأولية ولكنه أقل حظوظاً وهو يدعو إلى العودة للتحدث مع الأسد بحجة حماية مسيحيي الشرق وكأن مسيحيي الشرق لهم مستقبل في بلد دمره الأسد. فالأسئلة عديدة عن مصير المفاوضات لحل سياسي في سورية مع كل هذه التغييرات الآتية في الغرب والوقت الذي ستحتاجه لتقوم بعملها. وفي هذه الأثناء يستمر القصف الوحشي السوري والروسي على شعب ليس لديه أي حل في وجه هذه الوحشية.