مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٣١ أغسطس ٢٠١٦
إخلاء داريا: سقوط الدور العربي؟

الضاحية الدمشقية الجنوبية الغربية، أو مدينة داريا، هي القصة التي يمكن أن تشكل نموذجا للمدى الذي يمكن أن يصل إليه نظام بشار الأسد وحلفاؤه في التدمير والقتل. هذه المدينة التي تشكل إحدى أكبر ضواحي العاصمة السورية ضمت في الأحوال الطبيعية نحو ربع مليون نسمة، وهي على تماس مع مطار المزة العسكري، ودخلت منذ العام 2012، كما العديد من المناطق السورية، في عداد المدن والبلدات الثائرة على نظام الأسد والساعية إلى تغيير النظام.

خلال أكثر من 4 سنوات وداريا تتعرض لهجوم عسكري دمر معظم منشآتها المدنية. حتى المستشفى الوحيد جرى تدميره بالكامل. وتعرضت لحصار طال كل شيء، ما اضطر، منذ سنوات، ما تبقى من السكان، إلى سدّ رمقهم بالحشائش والأعشاب. وبقيت داريا صامدة وفاجأت جيش النظام بقدرة الثوار على خرق الحصار وتهديد مطار المزة العسكري، وصولا إلى تهديد الطريق الدولي الذي يربط بين دمشق وبيروت. وبقيت عصية على الاستسلام والرضوخ، رغم أكثر من عشرة آلاف قتلهم النظام بالبراميل المتفجرة وبالقذائف المدفعية وغارات الطيران التي شاركت روسيا أخيرا فيها بطائراتها، لضرب أي معلم للحياة في المدينة.

الأسد استكمل عملية التدمير والقتل من دون توقف مستعينا بالحرس الثوري الإيراني ومقاتلي حزب الله بالإضافة إلى روسيا، لكن الأهم كان إدراك الأسد أن سقوط دمشق خط أحمر دولي وإسرائيلي، وبالتالي استخدم كل الأسلحة المشروعة وغير المشروعة لتدمير داريا، وجرى إحكام الحصار عليها إلى الحدّ الذي لم يعد من ذخيرة لدى المقاتلين في داريا، فوافقوا أخيرا على الخروج بسلاحهم إلى خارج منطقة “سوريا المفيدة”، وإلى محافظة إدلب تحديدا. وهذا ما جرى خلال ثلاثة أيام بإشراف الهلال الأحمر السوري.

الخذلان لداريا هو ما نقله بعض الذين خرجوا من المدينة التي أُفرغت بالكامل يوم الأحد. الخذلان بسبب عدم تحرك فصائل المعارضة على جبهة الجنوب لنصرة داريا أو فتح الجبهة لتخفيف ضغط الحصار، أو محاولة مدها بالحد الأدنى من الذخيرة والمؤن. على أن ما يثير الانتباه هو أن داريا لم يجد داعش فيها موطئ قدم ولا استطاعت جبهة النصرة أو فتح الشام أن تكون ضمن فصائلها المقاتلة. أبناء داريا الذين دافعوا عنها ببسالة استثنائية، هم النموذج الذي لم يدخل في أجندات إقليمية ولا استهوته التنظيمات الدينية المتطرفة، رغم أن الهوية الإسلامية تبقى الهوية الطبيعية لأبناء داريا التي توجد فيها أقلية مسيحية من الطائفتين الكاثوليكية والأرثوذكسية.

هنا تكمن أهمية داريا. وبالتالي فإن دلالة سقوطها في يد النظام بعد تدميرها شكلت من الناحية العسكرية نموذجا للفصائل الوطنية السورية. فقد أدرك النظام أن خطورة داريا تكمن في النموذج الذي تقدمه، إذ أن الأسد والحرس الثوري الإيراني، كان هدفهما ضرب أي نماذج للمعارضة يمكن أن تشكل بديلا مقبولا دوليا للنظام. لذا شجعا على تقوية التطرف وقاتلا بشراسة أي مظهر لمعارضة معتدلة. وهذا بات واضحا في سيرة الثورة السورية ولا يحتاج إلى أدلة لكثرتها.

داريا اليوم… والخطوة التالية الغوطة الشرقية وما تبقى من مناطق نفوذ للمعارضة السورية تمهيدا لإمساك الأسد وحلفائه بالعاصمة وريفها بالكامل. داريا كانت تمثل استكمالا لما قام به حزب الله في القصير ومناطق القلمون السوري المحاذي للبنان. فمنذ العام 2013 جرت أكبر عملية تهجير لأبناء القلمون من خلال تدمير شبه كامل للمدن والبلدات والقرى السورية. هذا التفريغ استكمل بتهجير أكثر من مليون سوري من حمص، بالطبع ممن ينتمون إلى الأكثرية السنية. هي إذن خطوات تطهير مذهبي ضمن خارطة سوريا المفيدة. إذ يجب الانتباه إلى الكتل السكانية الكبرى في ريف دمشق، من مخيم اليرموك إلى داريا وبرزة والغوطة وغيرها من ضواحي دمشق، تلك التي تعرضت لعملية تدمير هائل وعمليات قتل غير مسبوقة في التاريخ السوري، والهدف التغيير الديمغرافي تثبيتا لدعائم نظام الأسد الذي بات طموحه أن تستقر له السلطة في “سوريا المفيدة”، أي تأمين جزء من سوريا تشكل فيه الأقليات الدينية مع النفوذ الإيراني وحزب الله وزنا ديمغرافيا وسياسيا يؤمن شروط الحكم.

ليس خافيا أن السيطرة من قبل النظام على داريا ترافقت مع دخول تركي إلى جرابلس بغطاء روسي وأميركي وإيراني، بغاية تحجيم الدور الكردي وتوفير الحسابات الأمنية التركية الداخلية، من خلال القضاء على آخر جيوب تنظيم داعش هناك. وفيما كان الجيش السوري الحر يدخل جرابلس بدعم تركي في الميدان، كان النظام السوري يدخل داريا باتفاق لا يخل بمعجزة صمود داريا كل هذه السنوات، ولكن في ظل صمت إقليمي وعربي ودولي رافق كل الارتكابات التي طالت داريا بشكل لا يوصف.

جامعة الدول العربية حذرت قبل أيام من جريمة التغيير الديمغرافي في سوريا. الصمت العربي هو الثغرة التي نفذ منها النظام للمزيد من عملية التطهير الديمغرافي، لا سيما أن تركيا كما روسيا وإيران فضلا عن واشنطن وإسرائيل، تعيد ترسيم سوريا بما يتناسب مع نظام المصالح المرتبط بكل دولة من خلال تقاسم النفوذ، بينما العرب وحدهم أصحاب المصلحة بإعادة بناء سوريا على قاعدة مصالح السوريين. وهو ما يبدو غير مقبول بالمعايير العربية.

إيران تطمح إلى المحافظة على نفوذها بالمزيد من تهميش الدور العربي، وتركيا تولي حساباتها الوطنية الأولوية التي فرضت عليها الاقتراب من إيران وموسكو ولم تقطع مع إسرائيل وواشنطن، فيما باتت إيران تعتبر أن الحصان التركي هو من يجب الرهان عليه بعدما ضمنت مستوى متقدما في العلاقة مع روسيا وواشنطن، وهي السياسة التي تريد من خلالها المزيد من تهميش الدور العربي في سوريا.

يبقى أن الثورة السورية، بما هي سعي لتغيير نظام الاستبداد والانتقال إلى نظام ديمقراطي، هي القضية الحية، وهي المدخل لإعادة ترميم الدور العربي في سوريا. خيار العرب في سوريا هو السوريون وثورتهم، وسوى ذلك سيكونون خارج التأثير ليس في سوريا فحسب بل في المنطقة العربية عموما.

اقرأ المزيد
٣١ أغسطس ٢٠١٦
جرائم «الكيماوي»: محاسبة بشار أم تسوية دولية أخرى؟

بات الآن مستحيلاً إنكار أن النظام السوري استخدم غاز الكلور مراراً كسلاح ضد شعبه»... هذا ما استخلصه البيت الأبيض من تقرير «آلية التحقيق المشتركة» بين الأمم المتحدة ومنظمة حظر الأسلحة الكيماوية، وهو كلام موجّه مباشرة إلى الكريملن الذي التزم على الدوام بتحصين حليفه النظام من أية إدانة أو عقوبات يقرّها مجلس الأمن، بل ذهب إلى حدّ اتهام فصائل المعارضة السورية بشنّ هجوم كيماوي ضد سكان المعضمية التي تسيطر عليها في غوطة دمشق (21 أغسطس عام 2013).

كانت هذه الواقعة أبرز العلامات الفارقة في الصراع السوري، لا بسبب استخدام سلاح محرّم دولياً فحسب، بل خصوصاً في كونها أظهرت استعداد الدولتين الكبيرتين وتوافقهما على تجاوز القانون الدولي لاعتماد صيغة تسوية لا تخلو من عقوبة للنظام السوري بإلزامه التخلّي عن ترسانته الكيماوية والقبول بتسليم مخزونه وتدميره. وقد واجه القرار الدولي 2118، قبل صدوره متضمّناً هذه التسوية، انتقادات حادة من المجتمع الدولي، ما دفع الأميركيين والروس - بحثاً عن التوازن - إلى تضمينه أيضاً «بيان جنيف» (30 يونيو 2012)، الذي ينص على تسوية سياسية للصراع عبر «هيئة حكم انتقالي بصلاحيات كاملة». ويتبيّن اليوم أن الصيغ المطروحة للحل السياسي لا تنفكّ تبتعد عن «صيغة جنيف»، كما أن منظمة حظر الأسلحة الكيماوية تقرّ حالياً بأن نظام دمشق أخفى عنها مواد ومعلومات عن برنامجه الكيماوي، ولم يسلّم كل مخزونه، رغم أنها أعلنت رسمياً (مطلع يناير 2016) أن المخزون دمّر بنسبة «مئة في المئة».

الهجمات الكيماوية تتكرّر كلّما أراد النظام حسم مواجهات بدت صعبة لقواته، أو لمعاقبة بعض المناطق على احتضانها فصائل المعارضة. وآخر الوقائع سُجّل أوائل أغسطس الحالي في سراقب (محافظة إدلب) التي قصفت ببراميل فيها غازات سامّة، كردٍّ على إسقاط مروحية روسية في نواحيها، لكن التقرير الدولي الجديد تضمن للمرّة الأولى نتائج تحقيق مستند إلى عيّنات موثّقة من تسع هجمات ثبت في اثنتين منها أن مروحيات عسكرية تابعة للنظام ألقت غاز الكلور (في بلدة تلمنس 21/04/2014 وبلدة سرمين 16/03/2015). وفي التقرير نفسه اتهام لتنظيم «داعش» باستخدام غاز الخردل في معركة مارع (ريف حلب، 21/08/2015). وحيث لم يؤكّد الاتهام كانت الأدلة ضعيفة، رغم أن تقارير الأطباء وإفاداتهم المصوّرة مع الضحايا تتحدّث عن العوارض ذاتها.

عندما يناقش مجلس الأمن هذا التقرير سيكون عليه أن يتحمّل المسؤولية، أي أن يحاسب الجهة المتهمة، وهي هنا حكومة لا تزال ممثّلة في المنظمة الدولية ومعترفاً بشرعيتها رغم أن غالبية دول العالم قطعت العلاقات معها، ولم تعد تعتبرها شرعية طالما لم تعدم وسيلة لقتل شعبها، من الكيماوي إلى قنابل النابالم (الأسبوع الماضي في داريّا قبيل الاتفاق على إخلائها)، ومن الصواريخ الباليستية إلى البراميل المتفجّرة. هذه المرّة هي الأولى التي يجد فيها النظام نفسه أمام إدانة حتمية وعقوبات دولية محتملة لا يمكن أن يعطّلها سوى «فيتو» من روسيا، وربما يدعمه أيضاً «فيتو» من الصين. وسيعني ذلك، إذا حصل، أن دولتين كبريين مستعدتان لـ«شرعنة» جرائم ترتكبها «دولة» عضو في الأمم المتحدة.

في عام 2013 تجاوز استخدام نظام دمشق السلاح الكيماوي ما كان الرئيس الأميركي حدّده كـ«خطّ أحمر» يستوجب التحرك ضدّه، واتخذ بالفعل خطوات أولية لضرب أهداف عسكرية للنظام، لكن موسكو دفعت بحجج عدة لإجهاض هذا التهديد، أولها أنه لم يثبت أن النظام هو من قام بالهجوم ولا «أدلة قاطعة» لتجريمه، وثانيها أن الضربات الجويّة لن تجدي والأفضل حرمانه من هذا السلاح لضمان عدم تكراره اللجوء إليه، وثالثها أن ضرب النظام سيقضي على أي أمل في حل سياسي للأزمة، وهكذا تخلّى باراك أوباما عن خططه العسكرية ليجنح إلى تسوية عملية. لكن معظم العواصم المعنية، باستثناء موسكو وطهران، كانت تشتبه بأن النظام لن يسلّم كل مخزونه، وهو ما تأكد لاحقاً.

هذه المرّة لن تستطيع موسكو المحاججة بأن الأدلة ليست قاطعة، لكنها قد تسعى إلى التخفيف من خطورة الجرم بذريعة أن غاز الكلور غير مصنّف كسلاح كيماوي مثل غازَيّ الخردل والسارين. لذلك دعا المندوب الروسي في الأمم المتحدة إلى «عدم استخلاص نتائج متسرّعة»، مبدياً استعداد بلاده للتعاون مع الولايات المتحدة في معالجة هذا الملف، لكن أي تسوية لن تستطيع تجاهل الوقائع المثبتة في التحقيق، وفي أسوأ الأحوال قد يُصار إلى إلزام النظام السوري باستكمال تصفية برنامجه الكيماوي وبسلوك جدّي في أي مفاوضات من أجل الحل السياسي للأزمة.

اقرأ المزيد
٣١ أغسطس ٢٠١٦
قصة ضريح داريا وضوء على التغلغل الإيراني في دمشق

لطالما أحببت الصحافة الاستقصائية التي تسعى إلى نبش الحقائق التي تسقط بالتقادم ، ورغم أني تركتها منذ فترة طويلة، إلا أنني ما زلتُ أحن إليها..

وقد أثارتها لدي مؤخراً قصة مقام "سكينة بنت علي بن أبي طالب" كرم الله وجهه
التي زعم أتباع حكومة الاحتلال أن لها مقاماً مهملاً في داريا، ولا بد من بنائه!
فقد قرأت التاريخ جيداً، ولم يسبق لي أن قرأت عن ابنة لسيدنا علي باسم سكينة!
فمن أين جاء مقام سكينة بنت علي إذن؟
بالعودة إلى جذور هذا الموضوع، بدأت تتكشف لدي خيوط القصة برمتها..
القصة لا تعدو كونها تأليفاً من أحد كبار مجرمي النظام الذين جمعوا المليارات
من المتاجرة بعقارات ريف دمشق ومختلف أنواع الفساد والإفساد،
ألا وهو "لص ريف دمشق" ومحافظ ريفها، المجرم علي زيود!
الذي سبق أن وصف الشيخ صالح العلي بأنه قاطع طريق!

ففي عام 2004، وأثناء عمليات شق الطرق في داريا، تعين مرور الطريق
بتكية قديمة كتلك الموجودة في كل قرية وبلدة، ويحترمها بعض عجائز داريا..
لم نستطع التحقق ممن بدأ بالفكرة: المخابرات الإيرانية أم علي زيود نفسه
ولكن الشيء المؤكد أن علي زيود قبض مبلغاً هائلاً من المال لحبك قصة جديدة،
فأمر المهندسين بتلافي هدم التكية على أساس أنها مقام للسيدة المجهوة التي لم يسمع بها المؤرخون!
وبناء على ذلك سارعت إيران إلى تعيين وصي على المقام هو "آية الله السيد أحمد الواحدي"،
الذي بدأ بالفعل بجمع التبرعات لإعادة بناء المقام وتأليف تاريخ جديد لهذه الشخصية!
وقد ترافق ذلك عام 2005 بتضاعف النشاط الإيراني المحموم لنشر التشيع في دمشق وما حولها
وتأسيس ما يسمى (درع النجمة المحمدية) والمقصود بها السيدة زينب ابنة الإمام علي كرم الله وجهه!
والذي ترافق مع مهرجان سنوي تحشد له المخابرات الإيرانية في دمشق، وتجمع كافة الشخصيات الدينية
وتقوم بتكريم الشخصيات المختلفة التي تداهن وتقبل مثل هذا الغسيل الدماغي للسوريين.
وقد حرصت إيران على تقديم درع النجمة المحمدية إلى وزراء الثقافة في نظام الأسد..
حيث نال الدرع الدكتور محمود السيد عام 2005، ورياض نعسان آغا!!! عام 2006
بالإضافة طبعاً للعديد من الشخصيات الدينية والمذهبية الأخرى، ومنها السيد محمد حبش!
وفي عام 2008، سُلم الدرع إلى البائع الأكبر للوطن، بشار الأسد، وتسلمه نيابة عنه الدكتور الآغا أيضاً!
وساهم في تلك المهرجانات السنوية (ونال جوائزها) العشرات من رجال الدين من مختلف الطوائف
ومن "الشعراء" والكتاب القابلين بالمشاركة في هذه الحملة التبشيرية الشريرة (وقوائمهم موجودة)!

بمثل هذه الخلفية يمكن تفسير استقتال إيران في دفاعها عمن اشترت منه تاريخ دمشق وعروبتها
مقابل المال الحرام، والحماية من الشعب وثورته عندما يحتاج النظام للحماية!!

الصور: مهرجان (درع النجمة المحمدية) - الدكتور رياض نعسان آغا يستلم الدرع نيابة عن الأسد - وآية الله السيد أحمد الواحدي

اقرأ المزيد
٣١ أغسطس ٢٠١٦
«السيناريو الشيشاني» في الحرب الروسية على سورية

استأنفت روسيا حربها المدمرة على سورية انطلاقاً من مدينة حلب. سبق لروسيا، ولفترة قصيرة جداً ادعاءها الانسحاب من الحرب في سورية، ولم يكن في الحقيقة سوى ادعاء كاذب. منذ فترة، تحتكر الطائرات الروسية سماء المدينة، وتمعن في تدميرها على من فيها من سكان مدنيين أو مقاتلين، وعلى بناها ومبانيها. يذكّر التدمير الروسي لحلب بما جرى لمدينة غروزني في الشيشان، والتي قادت تمرداً على السيطرة الروسية وطالبت باستقلالها عن الاتحاد، فكان جواب الرئيس الروسي بوتين مسحها من الوجود وتحويلها ركاماً وأطلالاً. يبدو أن هذا الأسلوب قريب جداً على قلب قائد روسيا في تعامله مع شعوب بلده وغيرها من الأوطان.
لا شك في أن روسيا تخوض حربها الخاصة لتأمين مصالحها في المنطقة ونفوذها على البحر المتوسط. آخر الهموم في عقل بوتين هو الشعب السوري أو النظام أو الرئيس الأسد نفسه، وإن يكن شعار التمسك بهذا الأخير ليس سوى شماعة تبرر له التدخل. يستفيد بوتين من التردد الأميركي ومن إخلاء الساحة وتركها في فراغ. هذا الفراغ ملأه بوتين كأفضل وسيلة للتدخل.
ما يدور في سورية هو عملياً حرب بين «الكبار» من القوى العظمى، حيث لا مكان فعلياً للقوى «الصغيرة» مثل إيران والميليشيات التابعة لها أو لتركيا وقواها أو لسائرالقوى الإقليمية. دور هذه القوى تأمين الغطاء لحروب الكبار. أما الشعب السوري وما يصيبه وما يعانيه، فلا يقع في حساب لا الكبار ولا الصغار. سورية مساحة لحروب بديلة ولتصفيات القوى العظمى لنزاعاتها الخارجية، والأكثرمن ذلك ميدان إجراء التسويات أو التمديد للحروب.
الجديد في الحرب الروسية المدمرة على سورية هو استخدام قاعدة «همدان» الإيرانية في انطلاق طائراتها لضرب مدينة حلب وغيرها من المدن. لا شك في أن الكثيرين ذهلوا من السهولة التي سمحت فيها إيران بانتهاك سيادتها والتسليم بوجود قوى عسكرية خارجية على أرضها. لا يقنع الكلام الإيراني عن أن السماح لروسيا باستخدام قواعدها الجوية لا يعني وجوداً عسكرياً على الأرض. فألف باء العلم العسكري الذي يعرفه الإيرانيون جيداً، أن وجود الطائرات في القواعد العسكرية يحتاج إلى قوى لوجستية وإلى قوى حماية لها. ومن يعرف العقلية الروسية العسكرية يعرف أن القيادة فيها لا تثق بحماية جنود إيرانيين لهذه الطائرات ولطواقمها العسكرية واللوجستية. إذاً القرار الإيراني هو مس بالسيادة اتخذته القيادة طوعاً، وهو فريد من نوعه منذ قيام الثورة الإسلامية عام 1979، بل هو سابقة لم يجرؤ شاه إيران نفسه على السماح للأميركيين، أصدقائه وحماته، بإعطائهم هذا الحق بالتواجد العسكري.
ما بات واضحاً أن ما أملى على إيران شرب «كأس السم السيادي» هو فشلها الواضح في إنهاء الحرب العسكرية في سورية، وفي العجز عن السيطرة على مدينة حلب بعد أن تكبدت مع حلفائها والميليشيات التابعة لها خسائر جسيمة. يرى الإيرانيون أن هذا الحلف مع روسيا سينقذ ماء وجههم في حـرب طالت وستطول حكماً، وتوقعهم أن الجيوش الإيرانية مقبلةٌ على الغوص في رمالها ووحولها أكثر من أي وقت مضى. فهل يكون التدخل الروسي وسيلةً إنقاذ لإيران فعلاً، مثلما سيكون إنقاذاً للأسد ونظامه؟ الجواب في ما ستحمله الأيام المقبلة من مسار الحرب.
لا يقع في باب التكهن أن الروس ستفاجئهم تعقيدات في مسار الحرب وردود الفعل عليها. فالاستكانة للتردد الأميركي وعدم الانغماس في المواجهة قد لا يعني تسليماً لروسيا بحسم الحرب. عودنا الأميركيون على سياسة مراوغة لا تضع في الحسابات سوى مصالحها، ولا تأخذ في الاعتبار مصالح الأوطان والشعوب، كما هي روسيا.
يصعب أن تبقى أميركا خارج اللعبة، ويصعب أن تقبل بتسليم المنطقة لروسيا، وهي الخصم لها في أوكرانيا وأكثر من منطقة في العالم. تملك أميركا وسائل متعددة لوضع العصي في الدواليب الروسية، وليست مضطرةً للنزول إلى الأرض للقيام بذلك. قد نرى الأميركيين فجاةً يغذون قوى معارضة بأسلحة نوعية تهدد الطيران الروسي، وقد يكون العقل الأميركي في وارد إغراق روسيا بأفغانستان أخرى. هذه التوقعات تنبع من معرفة العقل العسكري الأميركي، ومن الإشارات الاعتراضية التي بدأت تبثها الإدارة الأميركية احتجاجاً على العمليات العسكرية الروسية في سورية. ستظهر الأسابيع المقبلة ما إذا كانت التسوية على سورية قد نضجت لدى الكبار، أم أننا أمام مراحل جديدة من الحرب. قد يكون التوقع الثاني هو الأرجح.

اقرأ المزيد
٣١ أغسطس ٢٠١٦
حرب السيلفي

باتت الحرب الإعلامية شكل أساسي من أشكال المعركة الشاملة التي تدور رحاها على تراب سوريا من الشمال حتى الجنوب بين نظام الأسد وحلفائه من مختلف الجنسيات والانتماءات يقابلها في الطرف الثاني الثوار من مختلف التشكيلات والفصائل، لتغدو هذه الحرب في مقابلة الحرب المسلحة، تعطي الدفع الإعلامي الكبير ضد الخصم وتساهم في إحباط معنوياته وتأكيد الحقائق التي يحاول إخفائها عن مؤيديه.


ولعل حرب السيلفي عبر التقاط صور من المواقع التي يتم السيطرة عليها باتت الرائجة في الميدان، حيث تتحارب الصور كحرب الدبابات، يتنافس فيها العاملين في المجال الإعلامي، يدحضون فيها ادعاءات الخصم بالسيطرة على موقع معين، عبر اثبات وجودهم في هذا المكان عبر صورة سيلفي تنشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي.


ولعل إعلاميي نظام الأسد كانوا الأقدم في استخدام السيلفي فوق جثامين الشهداء وفي المواقع التي تحتلها قواتهم، في محاولة منهم لإعطاء دفع إعلامي لمؤيدي الأسد، والتغني بانتصاراتهم المزعومة، ليبدأ ناشطو الثورة باستخدام ذات الحرب والتي باتت وبالاً على نظام الأسد وجنوده، حيث باتت صور السيلفي لناشطين وإعلاميين معروفين بمثابة حرب حقيقية تواجه نظام الأسد، ترى صورهم تملأ مواقع التواصل من أطراف الراموسة وكلية المدفعة وحلفايا وطبية الإمام وجرابلس وعشرات المواقع التي تحرر من رجس عصابات الأسد.


صور السيلفي هذه أربكت إعلام الأسد الذي يحاول عبر وسائل إعلامه تغيير الحقائق وعدم الاعتراف بتقدم الثوار، كلية المدفعية في الراموسة مثالاً والتي طالما حاول شادي حلوة مراسل نظام الأسد أن ينفي سيطرة الثوار عليها إلا أنه اصطدم مراراً بصور السيلفي التي نشرها ناشطون من داخل أبنية الكليات ومن مواقع معروفة في المنطقة، تثبت سيطرة الثوار وتدحض كل محاولاته اليائسة لنفي هزيمتهم من فيديوهات صورها على طرقات قال أنه على مشارف الراموسة.


أيضاً معارك حماة التي ماتزال مشتعلة على عدة جبهات، لم يذكرها الإعلامي الرسمي لنظام الأسد وتحاشى التطرق لها عبر وسائل الإعلام، إلا أن صور السيلفي التي خرجت من أمام المراكز الرئيسية في مدينة حلفايا وبعدها مدينة طيبة الإمام والتي تعني انكسار كبير لنظام الأسد وجنوده وخسارته عشرات المواقع على الجبهة، ما أربك الاعلام الحربي ودفعه للاعتراف ان هناك مناوشات وهجمات تستهدف مواقعه وأنه مازال يقاوم، إلا أن الصور التي تخرج عبر وسائل التواصل لم تترك له مجالاً للتهرب وبات الاعتراف بالهزيمة أمراً واقعاً لا محال.


وتشكل الحرب الإعلامية جزء أساسي من المعركة الراهنة، لابد للثوار من حسن ادارتها واستخدامها في دحض ادعاءات نظام الأسد وتبيان كذبه وتزييفه للحقائق التي يحاول اظهارها لعوام مؤيديه، في الوقت الذي تتلقى فيه قواته الضربات الموجعة على يد الثوار وتنال الهزيمة إعلامياً وعسكرياً.

اقرأ المزيد
٣٠ أغسطس ٢٠١٦
الوعر.. على مسافة دمعة

أتذكر الجملة الأولى التي كتبتها في أول مقال لي بعد بداية الثورة في بلدي "يستشهد الشاب على مسافة دمعة من أمه، وتتظاهر هي على مسافة صرخة من استشهاده"، وكنت أصف أماً حمصية يومها.

أرسل رئيس مجلس محافظة حمص الحرة السيد "أمير عبد القادر" قبل أيام في 27 آب رسالة إلى دي ميستورا يحذر فيها من شبه حتمية تكرار سيناريو داريا في حمص بعد التصعيد العنيف من قبل النظام.

يدرك عبد القادر أن هذه المراسلات لا تحقق نتائج، وإن حققت فإنما هي نتائج ضعيفة لأن "المجتمع الدولي بكل منظماته إما متراخٍ في التعامل مع الثورة السورية أو متواطئ مع النظام" حسبما قال رداً على سؤالنا له عن غاية والفائدة من رسالته، التي أوصلها إلى عضو الائتلاف سهير الأتاسي وإلى رئيس الهيئة العليا للمفاوضات الدكتور حجاب.

وتوصلت لجنة المفاوضات في حي الوعر اجتمعت أمس الإثنين بعد اجتماعها مع اللجنة الأمنية التابعة للنظام في مدينة حمص، وبعد مفاوضات استمرت عدة ساعات بين الجانبين، توصلت لاتفاق يقضي بإيقاف القصف والغارات الجوية من قبل النظام على الحي مدة 48 ساعة.

وأصدرت "لجنة المفاوضات" في حي الوعر بياناً، دعت فيه المبعوث الدولي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا، و"لجنة حقوق الإنسان" في "الأمم المتحدة"، للضغط على "نظام الأسد ووقف عملياته العسكرية التي تهدف لتغيير التركيبة السكانية لمدينة حمص عبر عمليات التهجير القسري".

وتدرك لجنة المفاوضات ويدرك السوريون، ويدرك الحماصنة، أن المثل الوحيد الذي يصح في سوريتنا وفي نداءاتنا للمجتمع الدولي "أسْمَعْتَ إن ناديت حيّاً، ولكن لا حياة لمين تنادي".

الوعر اليوم تهرول باتجاه داريا، بعد إغلاق الطرقات والتصعيد العنيف قصفاً وقنصاً، وبعد تكثيف سياسة الترهيب من محاولة اغتيال أحد القادة العسكريين داخل الحي المحاصر من قبل خلية مرتبطة بالنظام السوري وصولاً إلى محاولات تسوية أوضاع بعض الشباب عن طريق الضغط عليهم من خلال اعتقال أحد افراد أسرهم، عدا عن حملة الاعتقالات الضخمة للتضيق على الموظفين والطلاب ومنع تطوير بعض المشاريع داخل الحي (كانخفاض عدد المستفيدين من مشفى البر إلى النصف خلال الأشهر الستة الأخيرة بسبب اجراءات التضيق التي حصلت).

لا يحاول رئيس مجلس محافظة حمص الحرة إنقاذ حمص من المصير الذي ينتظرها، ويعرف أنه كل ما يمكنه فعله عدا النجاة من الموت قدر الإمكان، توثيق تحذيره سواء سارعت الأتاسي وحجاب بعقد مؤتمر صحافي "وهو مالن يحدث" لإجبار العالم على سماع صوت حمص قبل وقوع الكارثة، أو تجاهل دي ميستورا والمسؤولين الغربيين "كعادتهم" التحذيرات الآتية من الداخل السوري لكل منطقة على حدة.

سوريا اليوم، سوريا الأمس، الوعر اليوم، داريا الأمس القريب، يتحرك أهلها بعد كل مجزرة بجنون، لا يصدقون ما تراه أعينهم، يبكون ويصرخون منادين الأحبة، تهرول العدسات لتوثيق لحظات الحزن الأسود والخوف اللامنتهي، تدخل صور انتشال الجثث من تحت الأنقاض إلى معارض الصور في العالم، فلا يتحرك العالم الأحمق ويستمر في مؤامرته المعلنة على سوريا، وتحتفظ سوريا بصورنا كلها لأنها تعرف أننا سنرفعها في وجه نفس العالم الأحمق يوماً لنقول له "هذا ما صنعه تجاهلكم وسياسييكم".

الأطفال تتفحم في الوعر، وتنتشر فيديوهات أطفال آخرين يرتجفون خوفاً وألماً من قنابل النابالم، وخلال الأشهر الستة الماضية غادر أكثر من 1000 أسرة الحي بعد التهديدات التي تلقتها من قوات النظام.

لا نشير هنا إلى معلومات ميدانية اعتادت القنوات الإخبارية أن تضعها في تقرير واحد يتم بثه على شاشاتها يومياً، تبدأ التقارير بجملة "ميدانيا في سوريا.. قتل... وأصيب.. في حي.. ومدينة.. وبلدة.."، وإنما نحاول أن نقتنع بمحاولة رئيس محافظة حمص الحرة، مع عجزنا القاتل عن فعل أي شيء بوجود معارضة كسيحة تتأهب للدخول بمفاوضات جديدة متجاهلة إصدار أي تصريح حقيقي "رجولي كما يعبر السوريون" عن داريا، ومتناسية الوعر منتظرة سقوطه لتصدر بيان نعوة.

العجز السوري القاتل، هو ما يشعر به كل سوري اليوم وقف في وجه بشار الأسد، كل سوري توقف عن سماع التقارير الميدانية عن بلده في الأخبار، لأنه أحصى هو عدد شهداءه ومصابيه وعدد الأيدي والأرجل التي بترت بعد كل قصف على كل حي أو قرية أو مدينة، السوري الذي صبغ العالم الافتراضي بالأحمر من أجل حلب، وصبغه بالأخضر لأجل الغوطة، واستحال ذلك العالم إلى بركة من الدموع مع خروج أبطال داريا منها، هو السوري الذي لم يعد يحتاج من أعضاء جسده إلا إلى إصبعه الوسطى التي يرفعها في وجه معارضته اللاشريفة والعالم المتحضر المتآمر.

حمص اليوم على خطى داريا.. ولكن لا عليكم.. يمكنكم الانتظار قليلاً قبل التنديد والشجب وتنظيف " قذارات" بشار الأسد الذي مرغ وجهكم فيه يومياً على مدى 6 سنوات من الثورة والموت.

اقرأ المزيد
٣٠ أغسطس ٢٠١٦
معركة حلب تُغيِّر الأفق الاستراتيجي

حين حرّر الثوار السوريون جسر الشغور بعد إدلب، وتقدّموا في قلب سهل الغاب، والذي يصل محافظة إدلب بمحافظتي اللاذقية من الغرب وحماه من الجنوب، ثم أمعنوا في اختراق السهل، بدت معها حماه تقترب من الخلاص من كابوس النظام. ومن جهة أخرى، شرعوا، أوائل عام 2015، بقرع أبواب عين الكروم بقوة، وهي التي لا يفصلها عن الصلنفة وقمة النبي يونس سوى مئات الأمتار، يساعدهم ثوار جبال الأكراد من فوق. حينها، أدرك الجميع أن هذه إشارات على هزيمة إيران لا لبس فيها، ولا نقول هزيمة النظام، لأن الأخير كان في حكم المهزوم منذ عام 2012، عندما كان الثوار، قبل أن يبتلوا بـ "داعش" وجبهة النصرة، يقاتلون في قلب دمشق وعلى أطراف المطار. وحينها، كانت داريا، بطلة الثورة وقرّة عين السوريين، قد أجهزت على الفرقة الرابعة، مفخرة الصناعة الطائفية للنظام وجهازه الذي أعدّه ليكون مصدرًا لرعب السوريين.

لم ينقذ إيران ومليشياتها، مؤقتاً، من شناعة هزيمة سوى روسيا، بطائراتها التي بدأت منذ فبراير/ شباط 2015 حرب الإبادة للسوريين. أراد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أن يضع السوريين أمام خياراتٍ قاتلة: الموت تحت الأنقاض، أو النزوح إلى خارج بلدهم، أو العودة إلى عبودية النظام، وهذا سيناريو أشد إيلامًا من السيناريوهين الأولين. فما يفعله السوريون بالروس، الآن، شرعوا في عمله مع إيران منذ سنة، بدأت علامات هزيمة الروس على أبواب حلب، ها هي الهزيمة تتكرّر مع الروس، ونظام بوتين ذي الطموح الإمبراطوي الذي يتلهف لمقايضة الشعب الروسي: الشعور بالعظمة الإمبراطورية الكاذب، لقاء تخليه عن الحرية. لم تنل طائرات بوتين من تطلع السوريين نحو تحرير بلادهم من الغزاة، وقد أبدوا الاستعداد لدفع التكاليف الباهظة من دمائهم. أثبتوا، في إصرارهم ووحدتهم، قدرتهم على اجتراح المعجزات، فكان فك الحصار عن حلب معلمة تاريخية، برهنت على إخفاق روسيا بوتين وعجز إيران، ومعها شراذمها الطائفية، عن كسر إرادة السوريين.

ساهم أطفال حلب نسبيًا في تحييد سلاح الطيران من المعركة، وذلك في تحويلهم الإطارات المشتعلة إلى صواريخ مضادة للطائرة، وقد أيقظ نبل معركة فكّ الطوق عن أهل حلب الشعور بالتلاحم الوطني، وحفَّزت السوريين على ابتكار أساليب تُنهي فجوة القوة التي تفصل بين جيش بوتين وبندقية المقاتل السوري. ولا بد أن يُدرك النظام وحلفاؤه، ربما بعد حين، الدروس القوية لمعركة الراموسة، وهي دروس ستغير الخطوط الاستراتيجية لمعركة السوريين مع الغزاة.

لعل أهم نتيجة مباشرة لهذا النصر على العدوان الروسي والإيراني، وتابعهم في قصر المهاجرين، استرجاع الثقة بالذات وبقدرات الشعب السوري، وشبابه وصبيته، في رد العدوان بعد تشوّش الصورة إثر ضربات النظام وشركائه، وتقاعس الجميع أمام المأساة. وثانيًا، استعاد نجاح جيش الفتح اللحمة الوطنية في غمار الحماس الذي صاحبها، والمشاركة بأفراح النصر على قوة عظمى في الميدان الدولي (روسيا)، وعلى دولة عظمى في ميزان القوى الإقليمي (إيران)، وحرّك الجبهات الأخرى، وزرع الثقة بالمستقبل لدى قوى التغيير السورية. وثالثًاً، أدرك كل من له دراية بالوضع العسكري للنظام أن الثوار، في معركتهم لفك الحصار، ضربوا الجملة العصبية لقوة النظام العسكرية، واستولوا على قلعته الحصينة في جنوب حلب، في الراموسة وحولها، وهشّموا تحصيناته، وأحد أهم مصادر تسليحه، وأغلقوا طريق إمداده الرئيسي، وأن ما تبقى لديه من مصادر قوة لا يُقاس بما خسره في الميدان، وهذا يبشّر بأن تحرير حلب صار ممكناً، وباتت المسألة متوقفة على استمرار الوحدة العسكرية والشعبية التي تجلَّت في كسر الحصار، وعلى التصميم والثبات على الهدف. وفي المقابل، خسر النظام وحلفاؤه القدرة على المبادرة الاستراتيجية في شمال سورية. ورابعًا، أثبتت الملحمة الحلبية للروس أن القاعدة البشرية للنظام عاجزةٌ على أن تستثمر على الأرض ما يرتكبونه من تدميرٍ وقتلٍ من الجو، وأنه لم يعد مجديًا رهانهم على نظام غير قادرٍ سوى على القتل عن بعد، وعلى امتهان الكذب والصراخ الأجوف في محطاته الإذاعية والتلفزيونية، وأن مساعدة المليشيات التابعة لإيران له لا تأتي بغير استفزاز السوريين، وتزيدهم إصرارًا على الاستمرار في ثورتهم. لهذا، من المحتمل أن تقود نتائج المعركة الروس إلى الاستنتاج الضروري: أن نصر الشعب السوري قادم، ووحده هذا الشعب قادر على طرد إرهابيي "داعش" من البلاد، فهو لن ينسى مذبحة هؤلاء أهله في دير الزور والرقة، وأن هذا التنظيم هو مخلب الثورة المضادة، استخدمه النظام والغرب والروس للإساءة للثورة ولطابعها الشعبي الديمقراطي، وتحول إلى عدو للشعب، مارس العدوان عليه مع النظام.

وخامساً، سوف يُدرك الرئيس الأميركي، باراك أوباما، في نهاية حكمه، أن أولاد الحرفيين والأساتذة والموظفين من السوريين قادرون على إنجاز ما لم يتخيله خياله السياسي. وسيُدرك، بعد فوات الأوان، أن الشعب السوري، على الرغم من الدمار والنزوح والدم، وبعد خمس سنوات من المعاناة والإهمال الدولي، ما زال متمسكّا بحقه في تقرير مصيره، وقادرًا على صنع هذا المصير بقبضته، وإن المراهنة على صالح مسلّم وحزبه الانفصالي الفاشي، بلصق لوحة (ديمقراطية = اتحاد) على حزبه، حماقةٌ ستنتهي بفضيحة ومأساة، ولن يقبض مسلّم وجماعته سوى الأوهام التي ستتطاير أمام وحدة السوريين، وتصميمهم على التحرّر والوحدة. وسيدرك أوباما أنه حوَّل أميركا إلى المقاعد الخلفية للمسرح الدولي، ويقتصر دور وزير خارجيته، كيري، على القيام بدور الشارح والسائح في أصقاع الأرض، للعمل بجد على الإقناع، بدلاً من أن يكون في مركز قيادة العالم، فصنعت سياسته من بوتين نجمًا في فضاء السياسة الدولية، بالسماح له باستعراض القوة على حساب خفوت دور أوباما، ودولته الجبارة. وسيدرك أوباما، بعد فوات الأوان، أن المعادلات الجافّة التي يرسمها مدير سياسته الخارجية حبر على ماء، وربما ستجبرُه ملحمة حلب على الإقلاع عن سياسة تأهيل بشار الأسد الذي أرجعته معركة حلب إلى الجحر الذي يستحقه.

سادساً: سيكون أول الخاسرين والمحبطين والمهزومين من هذا النصر حزب الله الذي افتتح معركة حلب بخطابٍ لأمينه العام، حسن نصرالله، قال فيه إن أمامه معركة تاريخية، ستقرّر مصير سورية والعراق ولبنان. وقال إن تحرير القدس يمر بحلب، مقلدًا، خطاب الخميني عام 1982، إن تحرير القدس يمر ببغداد. سابعاً، فتح الثوار السوريون الطريق أمام الرئيس التركي، أردوغان، ليقول كلمته الواضحة إلى بوتين، ويستطيع أن يتحدّث على أساس ميزاني القوى الجديدين، العسكري والمعنوي، فالثوار غدوا أكثر وحدةً ومصداقيةً والتحاماً بالجمهور، وثقة بالمستقبل، بينما يعاني النظام من ضيق قاعدته الشعبية، وتقدم المليشيا الإيرانية ميدان الحرب والسياسة على حساب جيشه الذي لا يليق به سوى لقب العصابة الطائفية. ثامنًا، ستفرض نتائج هذه المعركة نفسها بقوة على طاولة مؤتمر جنيف، ستمنح القوة للموقف التفاوضي للمعارضة، فأصبح ممكنًا إبعاد الأسد عن المرحلة الانتقالية.

تاسعًا، على حزب الاتحاد الديمقراطي قراءة معركة حلب، وأن يعرف أن احتلاله الشيخ مقصود وعفرين وعين العرب والحسكة، وأيضًا تدمير منبج، وتهجير مئتي ألف من سكانها بذريعة الحرب على الإرهاب بالاستقواء بجيوش الولايات المتحدة، المغرمة به، لن يفيده في تقرير مستقبل سورية، فكل الصور المبهرجة التي يراها، هو وحزبه، ليست سوى وقائع أتته في غفلة من الزمن السوري الذي سيعود، ربما سيلمس ذلك قريبًا في الشيخ مقصود، وطريق الكاستلو. وليس بعيداً علينا أن يعرف صالح مسلّم أنه دخل في مغامرةٍ، لولا تكالب نصف العالم على الشعب السوري لما حدثت. عاشرًا، العرب، ولا سيما دول الخليج العربي، وفي مقدمتها السعودية وقطر، وهي التي تتصدّر الموقف السياسي العربي في مواجه التوسعية الإيرانية، ستمنحها نتائج هذه المعركة إمكانية الخروج من حلقة الخيارات الضيقة إلى رحاب أفقٍ استراتيجي أوسع، لتقوم بواجباتها تجاه إخوانها في سورية.

الدرس الكبير المفترض أن تستخلصه قوى الثورة السورية، العسكرية والسياسية، من هذه المواجهة الكبرى، أن سلاح النصر في متناولها، عليهم أن يُحسنوا استخدامه، وهو الوحدة، والإصغاء لصوت الناس المتلهفين للخلاص من الوحش الأكبر، أي نظام الاستبداد المليشياوي، نظام الطغمة الذي جلب، في أذياله، زحفاً طائفياً إيرانياً يستهدف الاحتلال والهوية العربية والثقافية للشعب السوري الذي صار على اقتناع بأن معركته من أجل الحرية تمر عبر التحرّر من الاحتلال والغزو. لكن، وإن صبر على سلوكيات بعض الفصائل العسكرية، لتجاهلها طموحاته إلى الحرية والديمقراطية من أجل القضاء على (الوحش)، فهو لن يساوم على شوقه إلى الحرية، وإلى حياة الاحترام والكرامة وحكم القانون، ويبقى تحقّق هذا الشوق واجبًا عليه، وممكنًا أيضًا.

اقرأ المزيد
٣٠ أغسطس ٢٠١٦
... عن إنقاذ بقايا السنّة السوريين

حينما طُرحت المبادرة العربية الخاصة بنقل السلطة في سورية مطلع 2012، لم تكن التنظيمات الإرهابية ظهرت فعلياً بعد، حيث لم يتعدّ عمر الجيش الحر، الجهة الوحيدة المسلحة، بضعة شهور. آنذاك، بلغ إجمالي عدد اللاجئين السوريين نحو ربع قاطني مخيم الزعتري حالياً. وقتها، ثارت ثائرة غالبية أطراف المعارضة والمنصات الداعمة للحراك في الداخل، معتبرةً تلك المبادرة استسلامية كونها توفر مخرجاً آمناً لرأس النظام ورموزه. واليوم، يُطل أصحاب عقلية «كل شيء أو لا شيء» أولئك من وراء قرابة 12 مليون لاجئ ونازح، معظمهم سنّة، ووسط غبار المعارك التي تخاض في سورية على طريقة «الكرة الشاملة»، بينما تترسخ أكثر فأكثر حقيقة «فلسطنة» القضية السورية.

تبين جلياً بعد كل تلك الأحداث، أن الخاسر الأكبر مما جرى ويجري هو ما يمكن تسميته «المجتمع السني» في سورية، الذي يراد له أن يتفكك ويتحول إلى تجمعات متفرقة في الداخل ومتوطنة في الخارج.

وإن كانت عمليات التطهير والتهجير الممنهج ومسح قرىً وأحياء من الوجود وحرق سجلات النفوس والعقارات، تكتيكات معروفة لمثل هذه النوايا، فإن كل ذلك حدث ضمن استراتيجية حرب طويلة الأمد، أراد النظام أن يشارك فيها الخارج، لا يظهر أن معسكر المعارضة تحضّر لها.

ومن هنا، يمكن فهم لماذا كافح الاتحاد الأوروبي لتوقيع اتفاق مع الأردن لتبسيط قواعد المنشأ أمام الصادرات الأردنية مقابل أن يكون ما لا يقل عن 15 في المئة من إجمالي القوى العاملة في المصانع الراغبة في التصدير من السوريين، وما الذي يرام من التعهدات بتشغيل نحو 200 ألف لاجئ هناك على مدى ثلاثة أعوام (لاحظوا المدة) نظير مساعدات إلى المملكة. ومن هنا أيضاً، يكون تقرير الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون الصادر قبل شهور، والذي تحدث عن ضرورة «إدماج» اللاجئين السوريين في لبنان، أكثر من بوحٍ غير مقصود لمكنونات صدور أولي الأمر.

وتروّج أطراف في المعارضة السورية، «تشتغل» عند الأتراك، منذ عام ونصف العام لخيار التوطين، تارةً ببحثه في دراسات مكثفة خلصت عمداً إلى أن السوريين في تركيا لا ينوون العودة إلى بلادهم حتى لو استقرت الأمور، وتارةً أخرى بطرحه للنقاش الإعلامي على رغم أنه لم يكن متداولاً.

وعليه، لم يكن مستغرباً أن يصرّح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أخيراً، بنيته منح حقوق المواطنة إلى النخبة السورية، وهو الذي عمل على التخلّص من غير المرغوب فيهم بشحنهم إلى أوروبا، بمساعدة مستترة من «سوريي اسطنبول». الأوروبيون بدورهم لم يألوا جهداً لسن قوانين تغري حتى من كان يملك عملاً داخل سورية أو في دول الجوار على بيع ممتلكاته وركوب البحر على أمل تخليص أولاده الذين سينشأون هناك من «وصمة» الجنسية السورية إلى الأبد.

أما لماذا كل ما سبق، فلأن اللاعبين الدوليين والإقليميين ونظام دمشق يريدون إعادة رسم سورية من الداخل مستغلين ما بدأ في 2011 وما تلاه. ولأن الهندسة السكانية فيها لا تصح إلا بإعادة دمغرفة المجتمع السنّي، فإن العناد الطفولي للكثيرين من منظّري الثورة المصرّين حتى اللحظة على إكمال الطريق بالكيفية نقسها كأن الزمن لم يتحرك، فضلاً عن الارتزاق الفجائعي للكثير من الحركات السياسية والفصائل العسكرية المعارضة، هي بالتحديد ما يفرك النظام ومريدو ذلك المشروع الكبير أيديهم له. فما فشل فيه الأسد وأحجم عنه أيام «السلم» لانتفاء الذرائع، استثمره زمن «الحرب» أيما استثمار. فاستخدم تمدد الجهاديين لشرعنة سياسة الإفراغ، في حين توهمت المعارضة ومن معها أن غض النظر عنهم كفيل بجلب التدخل الغربي مخافة استلامهم السلطة. ويكفي، على سبيل المثل، أن مشروع «حلم حمص» الذي أُطلق رسمياً في 2010 قبل أن يتوارى اضطرارياً، حققه الأسد بربع المدة (5 أعوام بدلاً من 20) بفضل دم المعارضة المسلحة الحامي التي أصرت على قتاله حتى آخر مدني حمصي.

لقد أضحت الطبقة المتوسطة السنيّة في سورية (وليس برجوازيي المدن فقط) بقايا وفتات. وبات ممثلوها إما نازحين في مناطق لا تشكل كتلة بشرية متوحدة كبيرة متصلة بمثيلتها، ومن دون وظيفة مرموقة وتعليم، وهما مدماك تلك الطبقة على مدى عقود طويلة، أو لاجئين فقدوا أمل العودة معتاشين على المعونات بعدما كانوا عماد الكفاءات الأكاديمية والاقتصادية. هؤلاء شكلوا على الدوام العمود الفقري لسورية السياسة والاقتصاد والفكر التي عرفناها وقرأنا عنها. وبالتالي، فإن غيابهم يعني أن علينا توقع سورية جديدة من دونهم، اللهم إلا إذا بقي للمنطق مكان ونظر المكابرون إلى الصورة الكبيرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه والكف عن عبثية خيار شمشون لأن المعبد هنا سيهدم فوق رؤوسهم فحسب.

اقرأ المزيد
٣٠ أغسطس ٢٠١٦
استراتيجيات استخدمها النظام لتقويض ثورة السوريين

لم ينتهج النظام السوري فقط طريق القوة المتوحّشة وغير المسبوقة في محاولاته تقويض ثورة السوريين، فهو انتهج معها أيضاً استراتيجيات عدة، بالتعاون مع حليفتيه روسيا وإيران (والميلشيات اللبنانية والعراقية والأفغانية المرتبطة بها).

بداية اشتغل النظام على ضرب مصداقية الثورة بادعاء أنها مؤامرة تقف وراءها جماعات إرهابية، تتحرّك وفقاً لنوازع طائفية ودينية، مدعومة من الخارج، محاولاً في ذلك التقليل من شرعيتها الوطنية والسياسية، متجاهلاً حق السوريين بالانتقال إلى دولة ديموقراطية، ودولة مواطنين أحرار، وفقاً لشعارها الأول: «الشعب السوري واحد». واضح أن النظام استغل غياب مركز قيادي للثورة، واضطراب خطاباتها، وهذا بديهي، إلا أن اللافت أن بعض مكونات المعارضة، لا سيما العسكرية، لم تدرك مغزى هذه الاستراتيجية، بل إنها خدمت النظام، وأسهمت في ترويج روايته، بذهابها نحو الخطاب الديني على حساب الخطاب الوطني، وبانجرارها نحو العصبية الطائفية، ما أضعف صدقية هذه الثورة إزاء شعبها، وإزاء العالم. هذا أولاً.

ثانياً: سهّل النظام عملية قيام جماعات «إسلامية» عسكرية معارضة، من دون أن يعني ذلك أنه أنشأها، وضمن ذلك سهّل صعود «داعش» من العراق إلى سورية، بالتواطؤ مع العراق وإيران. وقد شهدنا أن هذا التنظيم لم يستهدف قوات النظام بربع ما استهدف به «الجيش الحر»، وأنه قضم من الأراضي التي سيطر عليها هذا الأخير، من الرقة ودير الزور إلى إدلب وحلب. كما شهدنا أن هذا التنظيم يتحرك بأمان، وفي مواكب سيارة، بين مناطق شاسعة ومكشوفة بين باديتي الشام والعراق، من دون أن يطلق عليها برميل أو رصاصة، لا من قبل النظام ولا من قبل ميليشيات إيران، ولا من روسيا، التي استهدفت الجماعات المسلحة الأخرى، هذا من دون أن نسأل عن كيفية حصول هذا التنظيم على ترسانة أسلحة توازي تسلح عدة فرق من الجيش، وعلى أموال طائلة، لدى استيلائه على الموصل بسلاسة ملحوظة (في صيف 2014). القصد هنا أن «داعش» كان ضرورة للنظام لتقويض ثورة السوريين، ونزع شرعيتها، وتشويه مقاصدها، وخلخلة إيمان شعبها بها، بالنظر إلى الممارسات الوحشية الغريبة التي انتهجها التنظيم في المناطق التي سيطر عليها، ما أسهم بترويج محاولات النظام وصم الثورة بالإرهاب.

ثالثاً: فتح النظام البلد على مصراعيه أمام التدخل العسكري الإيراني، ثم الروسي، واستطاع الاستفادة إلى أقصى حدّ من الدعم اللامحدود الذي قدّم له، في حين أن ما سمي «أصدقاء سورية»، والذي يضم الولايات المتحدة والدول الأوروبية وتركيا وبعض الدول العربية، لم يستطع أن يقدم مضاداً واحداً للطائرات، ولا فرض حظر جوي أو منطقة آمنة، ولا وقف القصف بالبراميل المتفجرة، ولا رفع الحصار عن أي منطقة في سورية، بل لم يستطع حتى منع تهجير النظام لأهل أي منطقة (مثلما حصل في داريا مؤخراً)، أو تقديم الغذاء للمحاصرين، وهكذا ترك السوريين مكشوفين، كأنهم مجرد حقل رماية، على امتداد السنوات الخمس الماضية.

رابعاً: منذ البداية انتهج النظام على الصعيد العسكري استراتيجية التخفّف من المناطق الكثيفة السكان والمعزولة، والقليلة الأهمية من وجهة نظره في الصراع الدائر. هكذا حاول النظام عبر ذلك تقليل جهده العسكري في تلك الأماكن مقابل حشده للدفاع عن وجوده في أماكن أخرى، وهذا يشمل خط المدن الرئيسية في الوسط من الشمال إلى الجنوب، أي مدن درعا ودمشق وحمص وحماة وحلب. لكن ذلك لم يكن يعني الانسحاب من باقي المدن، وإنما محاصرتها، وجعلها بمثابة حقل رماية لطائراته ومدفعيته، الأمر الذي يرفع كلفة الخروج عن طاعة النظام، بالقتل الجماعي وبتدمير العمران، وبالحصار والتجويع، ما يحول الثورة إلى كارثة إنسانية، لم يكن بالإمكان تصورها، أو تصور احتمال العالم لها. المشكلة هنا أن المعارضة، وبخاصة العسكرية، لم تدرك معنى «انسحابات» النظام، وكانت تعدها إنجازات لها من دون أن تنتبه إلى أن ذلك خفّف عن النظام عبء نشر قواته في الأحياء الشعبية التي تعتبر معادية له، وأن هذه الحواضن تحولت إلى مناطق محاصرة، وإلى عبء على الثورة، بعد أن كادت تفرغ من قاطنيها. هكذا بات الوضع بمثابة كارثة إنسانية، كما تمخض عن كارثة سياسية بالنظر إلى الإخفاق الكبير في طريقة إدارة الجماعات العسكرية للمناطق التي اعتبرت «محررة»، ناهيك عن التقاتل في ما بينها، وعن الفجوة بينها وبين المعارضة السياسية.

خامساً: استطاع النظام عبر استراتيجياته المذكورة حرمان الثورة من طابعها الشعبي بتعمّده تكبيد «البيئات الحاضنة» الأثمان الباهظة بالقصف العشوائي والقتل الجماعي والتدمير الشامل، وبسياسة الاعتقال والحصار والتجويع، وقد نجم عن هذه السياسات تحويل الثورة إلى مجرد صراعات عسكرية، بين منطقة وأخرى، أو مع هذه الجماعة أو تلك. المهم أن المظاهر الشعبية للثورة اختفت وحلت محلها مظاهر السوريين العابرين للحدود والبحار، وأضحت الثورة بمثابة كارثة على السوريين، والدول المجاورة، كما على الدول الأوروبية، وفي ذلك نجح النظام في محاولاته حرف الصراع من كونه صراعاً سياسياً إلى كونه قضية إنسانية، لا سيما مع ملايين المشردين اللاجئين في دول العالم، ومع كل التداعيات السياسية والاجتماعية والثقافية والأمنية الناجمة عن الصراع، هذا إضافة إلى محاولة وصمه بالإرهاب.

سادساً: تلاعب النظام بالمكونات السورية، كما تلاعب بالوتر الديني، وضمن ذلك تأتي محاولته كسب الكرد إلى صفّه في الصراع الدائر على سورية، من خلال التسهيل على «حزب الاتحاد الديموقراطي» (الكردي) الهيمنة على المناطق ذات الكثافة الكردية، على الحدود مع تركيا، ومن خلال سكوته عن تشكيله الإدارات الذاتية في هذه المناطق. وقد نجح النظام من خلال ذلك في تحقيق هدفين، أولهما، تحييد القوة الرئيسية لأكراد سورية وتجنّب الصراع معهم. وثانياً، إثارة الشكوك بين المجتمع الكردي، أو بين جمهور الـ «ب ي د» (PYD) والمعارضة السورية وجمهورها. المشكلة هنا أن هذا الحزب اشتغل بأجندة هي أقرب إلى أجندة «حزب العمال الكردي» (التركي)، وأنه قرأ الصراع الدولي والإقليمي على سورية بطريقة ساذجة ورغبوية ومتسرّعة وخاطئة، ظنّاً منه أن الظروف مهيأة لتحقيق حلمه القومي، أو أقله حلمه بالحكم الذاتي مرحلياً، وباعتباره الدول كأنها بمثابة جمعيات خيرية، أو كأنها تشتغل وفقاً للمبادئ وليس وفقاً للمصالح واستراتيجيات القوة والمكانة، ما أدى به إلى الاشتغال كأداة عند هذه الدولة أو تلك، دافعاً الثمن، من دون تحقيق أي من أحلامه، على ما ظهر مؤخراً. في المقابل فإن حال المعارضة، السياسية أو العسكرية، لم يكن أحسن حالاً، فهي لم تبذل الجهود اللازمة للتوضيح للكرد بأن قضيتهم عادلة ومشروعة، مثلاً، وأن الظروف الراهنة تقتضي الانخراط في عملية التغيير السياسي من أجل بناء دولة مواطنين أحرار ومتساوين في سورية ديموقراطية يتم فيها تداول السلطة، مع حق الكرد كشعب في التعبير عن ذاتهم القومية، فقد كان في ذلك فائدة للطرفين، ولحاجتهما لتنمية الثقة المتبادلة وبناء إجماعات مشتركة لسورية الجديدة، بدلاً من ترك النظام يتفرج على التصارع الكردي ـ العربي ويستثمر فيه.

سابعاً: أيضاً، ومنذ بداية الثورة لم يبخل النظام ببث الإشارات التي تفيد بأنه حافظ أمين للأمن الإقليمي، ولا سيما أمن إسرائيل، وهذا ما يتم التصريح به فوق الطاولة أو من تحت الطاولة بطريقة مباشرة أو مبطنة، من قبل مسؤولين سوريين، في كل المحافل الدولية والإقليمية، ويتم التدليل على ذلك بالمخاطر التي جرتها الثورة السورية على المنطقة. على أية حال فإن الاستنكاف الأميركي عن لعب أي دور فاعل في كبح النظام في سورية لا يمكن تفسيره برغبة أميركية في التخفّف من عبء المنطقة فقط، إذ أن ذلك لا بد أنه نتاج ضغط من إسرائيل، وكتعبير عن رضاها عما يحصل، إن تحت يافطة: العرب يقتلون بعضهم، أو من وجهة نظر أن خراب المشرق العربي، لا سيما في العراق وسورية هو أكبر ضمان لأمنها لعقود.

هذه هي أهم الاستراتيجيات التي انتهجها النظام لتقويض ثورة السوريين، من مختلف النواحي، والسؤال الآن: ماذا فعلت المعارضة إذاً لتفويت هذه الاستراتيجيات أو لمواجهتها أو لتدارك مخاطرها؟ والأهم من ذلك هل أدركت المعارضة حقاً هذه الاستراتيجيات واستنتجت العبر المناسبة منها؟ أم أنها استمرت على طريقها غير مبالية، مسهلة للنظام استراتيجياته؟ أطرح هذه الأسئلة فقط لأن مقالتي السابقة حول «الأسئلة التي لا تناقشها المعارضة» («الحياة»، 2/8) لاقت ردوداً تفيد بأن المعارضة سألت، وبأنني أجحف في حقها أو انتقص منها. والحال فإذا كانت تمت مناقشة تلك الأسئلة فأين هي الأجوبة عنها؟ ثم إذا كانت ثمة أجوبة مناسبة فأين انعكاسها على الأرض، في الخطابات وفي البنى وفي العلاقات وفي أشكال العمل؟ ثم لماذا وضع المعارضة على هذا النحو؟ أو لماذا وصلنا إلى هنا إذن؟

اقرأ المزيد
٣٠ أغسطس ٢٠١٦
قبل أي توحد.. لابد من "تبييض السجون"

مما لاشك فيه أن التغيرات التي طرأت على الساحة العسكرية في الشمال السوري أبرزها فك الارتباط لجبهة النصرة بتنظيم القاعدة، وفتح صفحة جديدة تتطلع للتوحد والاندماج بين الفصائل، قد لاقت ترحيب كبير في الأوساط الشعبية والعسكرية على مستوى الفصائل، والتي يتطلع الجميع لبدء صفحة جديدة في الشمال السوري تطوى فيها جميع الخلافات والإشكالات التي حصلت طوال السنين الماضية، وتبدأ مرحلة تندمج فيها القوى العسكرية في كيان واحد لضمان استمرار الساحة، والتصدي لكل محاولات قوات الأسد وحلفائه لتطويق المنطقة والسيطرة عليها.


ومع بدء الإعلانات المتتالية عن اقتراب ظهور كيان جديد موحد يجمع العديد من الفصائل أبرزها جبهة فتح الشام، بدأت الصيحات في الداخل السوري تتعالي مطالبة باتخاذ خطوات تمهيدية لهذه العملية التوحدية، تقتضي إصلاح الأخطاء السابقة وعدم تكرارها، وذلك يتطلب أولاً كبادرة لحسن النية تجاه الشعب والثورة، أن تبيض السجون من الشباب الثائر المعتقل بتهم الانتماء لفصائل فسدت بعض قادتهم، فحولتهم لسجناء في ظلمات الأقبية التابعة للفصائل العسكرية في الساحة.


"تبييض السجون"  لا يعني إطلاق سراح المجرمين والقتلة وكل من ارتكب الجرائم بحق الثورة، بل تبيضها يتم بإطلاق سراح المئات من المعتقلين ممن لا ذنب لهم إلا أنهم تبعوا لفصيل فسدت بعض قياداتهم، فعم العقاب على الجميع، وملئت السجون بالشباب الثائر، بعد أن جردوا من سلاحهم وأفرغت الساحة من كل من ينتسب لهذه الفصائل، أيضاَ أفرغت الساحة من عشرات العناصر والقادة والناشطين الشرفاء، ممن لوحقوا بذات التهم دون الرجوع لتاريخهم الثوري وعملهم في خدمة الثورة، فأخذو بأخطاء البعض ممن كانوا بينهم في فصيل واحد.


وهذه الدعوة لا تشمل جبهة فتح الشام فقط بل تطال جميع الفصائل الثورية في الساحة الشامية لتبييض سجونها من أبناء هذا الشعب، وإدخال البسمة والفرحة للمئات من العائلات ممن لا تعرف ما هو مصير ابنائها في سجون الفصائل، والتي كانت تخاف عليهم من اعتقالات الأفرع الأمنية للنظام، ليكون اعتقالهم على يد رفقاء السلاح والخندق، إما لتصفية حسابات شخصية أو بتهم متعددة.


وللمتابع لتطورات الأحداث في الساحة يعي جيداً كيف سعت بعض الدول الغربية لتفريغ الشمال السوري من الشباب وذلك من خلال فتح أبواب الهجرة باتجاه الدول الاوربية، أضف على ذلك التغيرات العسكرية في الشمال والاعتقالات التي طالت المئات من القادة والشباب الثائر وزجت بهم في السجون، إضافة لهجرة المئات خوفاً من الاعتقال، بل وتورطهم في كيانات جديدة بدعم وأوامر غربية جعلتهم لقمة سائغة لها، تديرهم وتحركهم كيفما تريد، بينما ينعم المفسدين في فنادق الدول المجاورة، وقد أفلتوا من الحساب والعقاب، بل منهم من غادر باتجاه تركيا تحت مرآى ومسمع قادة الفصائل ذاتها وربما بمساعدتهم، ليحاسب الصغير ويترك الكبير حراً طليقاً.


والساحة اليوم تتطلب تكاتف الجميع ووقوفهم في صف واحد ضد كل القوى الاستعمارية التي تحاول تطويق المنطقة والسيطرة عليها، بدعم وتحت غطاء دولي من كل دول العالم التي تآمرت على قضية الشعب السوري، فلتكن مبادرتنا اليوم ودعوتنا لتبييض السجون هي بادرة أولى لحسن النية والبدء بمرحلة التكاتف والتلاحم وكسب جميع الطاقات والشباب في السجون وأيضاَ من أجبروا على الخروج من مناطقهم لدول الجوال خوفاً من الاعتقال، فلتعد الطاقات لمواقعها وخنادقها، وتكن تحت الصرح الموحد الذي سيشكل عما قريب.

اقرأ المزيد
٢٩ أغسطس ٢٠١٦
كأنَّا يوم داريّا أسود..

هل يعيد التاريخ نفسه؟ كلا. فلا شيء يتكرَّر، بالتمام والكمال، عندما يتعلق الأمر بما هو تاريخي (سياسي واقتصادي وثقافي واجتماعي)، برغم قول ماركس إنَّ التاريخ يعيد نفسه، مرةً كمأساة وثانيةً كمهزلة (أو ملهاة). ولكن ماركس كان يتحدَّث عن السلالة البونابرتية في فرنسا، وليس عن أمكنةٍ وأحداثٍ تاريخيةٍ يغلب عليها، للوهلة الأولى، التكرار. مع ذلك، هناك ما يني يحدث لأمكنةٍ معينةٍ بحيث يصحُّ القول، بسبب تواتر حدوثها، إنَّ التاريخ يكرّر نفسه. فكَّرت بهذا الأمر، وأنا أقرأ لائحة مختصرة بتواريخ مدينة داريا السورية المنكوبة. بدا لي فعلاً أنَّ هذه المدينة التي أرتنا تلفزات العالم خرائبها وهياكل عمائرها الفارغة من أيّ حضور إنساني طالعة من تحت عصف نووي. لا يمكن إلا للتدمير المنهجي أن يوصل إلى ما صارته داريا. لا حرب عصابات، لا مدافع ودبابات يمكن أن تمسح أحياءً برمتها، حسب ما رأينا على التلفزات التي اقتربت كاميراتها من الخراب. فقط الطيران والقصف الجوي والبراميل التي لا تستهدف موقعاً بعينه، بل مساحة، يمكنها أن تُحدث هذا التدمير الذي يخجل منه العدو قبل الصديق، فكيف بابن البلاد نفسها.

محزنةٌ داريا. مبكية. لكن لا حزن على سيماء العالم، ولا دموع في مآقيه. لا شيء. كأنَّ هذا التدمير، بعد التجويع والتركيع، هو ما يجب أن يحدث. كأن ذلك من طبائع الأمور في هذه المنطقة من العالم. فلا دهشة ولا استغراب، ناهيك عن استنكار. ثم إنَّ "الزايد أخو الناقص"، كما يقول مثلنا الشعبي. بل الزائد يبكم ويشلُّ.

ترافق الخروج من داريا مع زلزال ضرب بلدةً إيطالية. إنها كارثة بالنسبة للإيطاليين، والأوروبيين عموماً، الذين لم تعرف أجيالهم الحالية ويلات الحروب. فهناك مئاتٌ قتلوا وجرحوا، وعشرات آلاف يقيمون في أمكنة إيواء مؤقت. هذه مأساة ارتكبتها الطبيعة، ولا يد لبشرٍ فيها. مثلها مثل الأعاصير والطوفانات. الطبيعة لا تفكُّر ولا تتقصَّد السوء، أما الإنسان فيفعل، حتى مع أقرب الناس إليه، فما إن تشيطن شخصاً، طائفةً، شريحةً من الناس، حتى يسهل استهدافها، بل يصبح استهدافها واجباً وطنياً وقومياً مرةً، ودينياً مرةً أخرى. كيف يتحول القتل من جريمةٍ إلى واجب؟ كيف يتم تجريد الإنسان من كل أهليةٍ وحقٍّ بالحياة؟ هذا ما تغطيه الدعاوى والأيديولوجيات، المدنية والدينية على السواء. فـ "الخائن"، في نظر القومي العقائدي، مثل "الكافر" في نظر المتشدِّد الديني. لا فرق. لأن الموت هو العقاب في الحالتين. هذا ما حصل لداريا، وغيرها من المدن والبلدات السورية، فقد حوَّلتها الدعاوى الفاشية من أمكنةٍ "سليمة"، معافاة، إلى أمكنةٍ "موبوءة". ألم يتحدّث "الدكتور" عن الفيروسات التي تغزو الجسد، وكيف يتم التخلص منها. فقط الأمكنة الموبوءة يمكن أن "تُعالج" على هذا النحو الفظيع.

لا أريد أن أخفّف على المجرم الراهن جريمته في داريا. فينبغي أن تُضاف إلى لائحة جرائمة التي لا يعادلها أيّ عقاب. فأيّ عقابٍ على جرائم مثل هذا النوع رمزي جداً. ولكن، عدّدوا معي بعض ما عرفته داريا في تاريخها الدهري من أحداث، تشي بالتكرار:

تأثرت داريا بمعظم الأحداث التي شهدها العصران، الأموي والعباسي، وما جرى خلالهما من أحداث سياسيةٍ وعسكرية. كانت تقطن داريا قبائل يمانية وأخرى قيسية. وتعرّضت للحرق نتيجة تلك المنازعات عام 26هـ وكذلك عام67 هـ في عهد هارون الرشيد، حيث ثارت الفتن، مجدّداً، بين القيسية واليمانية، أو ما تعرف بفتنة أبي الهيذام، فحرقت ونهبت. وفي عام 233هـ، تأثرت داريا بالزلازل. ومرَّت عليها المنازعات ما بين الأتابكة والسلاجقة، ولم تنج من الغزو الصليبي، والتتار الذين عاثوا فيها فساداً وتدميراً. وقبل التدمير الأسدي، شهدت، في أثناء الاحتلال الفرنسي، "معركة داريا الكبرى"، فصبَّ عليها المحتل جام غضبه.

وفي فتنة أبي الهيذام، أيام الرشيد، بين القيسية واليمانية، قال الشاعر قيس الهلالي يصف الدمار الذي حلَّ بها:

كأنَّا يوم داريا أسود/ تدافع عن مساكنها أسودا. تركنا أهل داريا رميماً/ حطاماً في منازلهم همودا. قتلنا فيهم حتى رثينا/ لهم ورأيت جمعهم شريدا.

هكذا نرى لبشار الأسد أسلافاً (أسوداً!!) في "فتننا" التي لم تخمد نارها حتى اليوم، لأننا، على الرغم من وجودنا في القرن الحادي والعشرين، لم نخرج من كتاب "الملل والنحل".

اقرأ المزيد
٢٩ أغسطس ٢٠١٦
سورية: تسويات أم تطهير؟

ما برح الساسة الغربيون ينعتون الثورة السورية بالأزمة، أو الحرب الأهلية، أو الحرب في سورية، وهي نعوت تطلق بغرض التهرّب من المواجهة الأخلاقية والقانونية للتوصيف الدقيق لما يجري في سورية، وهو ثورة شعبية طالبت بالحرية والتحرّر من نظام الإبادة الذي تجاوز الدكتاتورية بكثير.

ولم تكن صور المخرَجين من أرضهم وديارهم من داريا، بإشرافٍ دولي، ومن قبله أهالي مضايا والزبداني، إلا أبشع صور التطهير في العصر الحديث، بعد أن طبق أنصار بشار الأسد شعارهم "الأسد أو نحرق البلد"، وقذفوا، بصواريخهم وقنابل الطيران والمدفعية والبراميل المتفجرة، في شبه مسلسل يومي، لتكون حلقته الجديدة، اخيراً، نقل من تبقى من الأحياء والثوار خارج سكناهم ومناطقهم، فإذا لم يكن هذا تطهيراً، فما التطهير إذن؟

درج مصطلح التطهير العرقي في تقرير للأمم المتحدة، تناول الأزمة اليوغسلافية عام 1992، وتم تحديد ثلاثة عناصر لضبط المفهوم: الهوية الإثنية للمجموعة المستهدفة، والترحيل القسري، وضم الأراضي التاريخية للمجموعة المُرحّلة. وقد تم ضبط التعريف ليكون التطهير العرقي هو إيجاد حيز جغرافي متجانس عرقياً، بإخلائه من مجموعة عرقية معينة، باستخدام السلاح، أو التخويف، أو الترحيل القسري، أو الاضطهاد، أو طمس الهوية الثقافية واللغوية، عبر القضاء عليها نهائيا أو تذويبها في المحيط الإثني الذي يُراد له أن يسود.

ويلاحظ، بهذا التعريف، أن هذا الشرط قد حضر ليس مع قيام الثورة السورية فحسب، بل يمتد إلى أحداث حماة عام 1982 وانتفاضة الكرد 2004 في الجزيرة السورية، إلا أن الأمر مع أحداث الثورة السورية لا يخلو من أي لبسٍ، يبرّر التوصيفات الغربية لما يجري في سورية، من استباحة الأغلبية السنية، وتهجيرها بقوة السلاح والطائرات والبراميل المتفجرة، وقصف المساكن، وجعل المدن خاليةً من أهاليها، أقول لا يبرر نعتها ما يجري بكلمة: قد ترتقي إلى جريمة حرب، فهذه (قد) الاحتمالية التي يستعملها الساسة الغربيون تجعل الأسد وحلفاءه في حلٍّ من استباحة البقية الباقية من المدن السورية.

تهجير قرى ريف اللاذقية في جبلي الكرد والتركمان، وهدم منازلهم وحرقها، بعد التمهيد المدفعي والصاروخي، وصولا إلى ريف إدلب، وقبلها حمص، حيث نزحت الغالبية السنية من المدينة، وبقي جزء منها في حي صغير، واستهدف مسجدها التاريخي، وتم تهجير أهالي القصير. ومع ما يحدث اليوم من انزياح كتل بشرية من أمكنتها التاريخية، هو أبشع أشكال (وصور) التطهير والإبادة الجماعية في القرن الواحد والعشرين.

التطهير العرقي والديني الذي يمارسه النظام السوري، وحلفاؤه، بطريقةٍ خفيةٍ وذكيةٍ، لا تثير مجلس الأمن الدولي، ما يجعلنا نجزم بانهيار المنظومة الأخلاقية العالمية، وتهاوي شعارات حقوق الإنسان، ما يعني مستقبلاً أكثر دمويةً، مليئا بالثارات والانتقامات، في غياب المجتمع الدولي الذي تحول إلى مراقبٍ للصراعات، ومدير لها، بدل أن يلجم المجرمين الدوليين عن جرائمهم بحق شعوبهم.

أحداث الثورة السورية المتعاقبة، وما يجري من إخضاع وطن كامل لأكثر من محتل أجنبي، واعتقال عشرات الآلاف، ومقتل مئات الآلاف، وتهجير ملايين وترحيلهم وتطهيرهم، يضع هيئة الأمم المتحدة، ومجلس الأمن التابع لها، أمام اختبارٍ عسير، قد تتهاوى معه آخر إبداعات العقل السياسي في العصر الحديث، باعتبار أن المقصد الرئيسي من المؤسستين قام، بالأساس، على إنهاء الحروب والصراعات، وتحقيق العدالة الدولية ونشر السلام.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
٢١ مايو ٢٠٢٥
بعد سقوط الطاغية: قوى تتربص لتفكيك سوريا بمطالب متضاربة ودموع الأمهات لم تجف
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
٢٠ مايو ٢٠٢٥
هكذا سيُحاسب المجرمون السابقون في سوريا و3 تغييرات فورية يجب أن تقوم بها الإدارة السورية
فضل عبد الغني" مؤسس ومدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
١٦ مايو ٢٠٢٥
شعب لا يعبد الأشخاص.. بل يراقب الأفعال
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
١٥ مايو ٢٠٢٥
لا عودة إلى الوطن.. كيف أعاقت مصادرة نظام الأسد للممتلكات في درعا عودة اللاجئين
فضل عبد الغني
● مقالات رأي
١٤ مايو ٢٠٢٥
لاعزاء لأيتام الأسد ... العقوبات تسقط عقب سقوط "الأسد" وسوريا أمام حقبة تاريخية جديدة
أحمد نور (الرسلان)
● مقالات رأي
١٣ مايو ٢٠٢٥
"الترقيع السياسي": من خياطة الثياب إلى تطريز المواقف
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
٥ مايو ٢٠٢٥
حكم الأغلبية للسويداء ورفض حكم الأغلبية على عموم سوريا.. ازدواجية الهجري الطائفية
أحمد ابازيد