هل تتجدّد الثورة السورية؟
تمر سورية اليوم بمرحلة حاسمة من تطورها، ثمة جملة عوامل تشير إلى ذلك:
أولا، تراجع جبهة النصرة، تنظيم القاعدة في بلاد الشام، بسرعة غير متوقعة أمام تحالف جديد يحمل اسم "جبهة تحرير سورية"، بعد أن بدا أن "هيئة تحرير الشام" كرست سيطرتها على إدلب والشمال السوري، ومناطق واسعة من ريفي حلب الغربي وحماة الشمالي. أغرى هذا التراجع بعضهم بالحديث عن "انهيار الهيئة"، وتتخطى دلالاته جبهة النصرة إلى انهيار التيار الإرهابي المتأسلم الذي مر أمس بـ "الدولة"، ويصل اليوم إلى "إمارة" تتبع القاعدة، بعد حقبةٍ ظهر خلالها وكأن الصراع على سورية أخذ يتعين باستقطاب حده على الجانب غير الأسدي: "دولة داعش وإمارة الجولاني"، وعلى الجانب الآخر روسيا وإيران والأسد، بتباين قدرات أطرافه لصالح روسيا تليها إيران: القوتان اللتان تجرّان وراءهما جثةً تعيش في غرفة إنعاش كتبا على بابها بأحرف نافرة: نظام الأسد. بانهيار حد التأسلم الإرهابي المزدوج، تتزايد فرص تجدد الثورة، شريطة أولا أن يلعب الشعب الدور نفسه في مواجهة التيار المتأسلم، شبه الإرهابي، الذي يقوم به منذ أشهر ضد جبهة النصرة، وأسهم بنصيبٍ لا يستهان به إطلاقا في إخراجها من مناطق رئيسة كانت فيها، قبل أن يخوض أحد أي معركة عسكرية ضدها، وأن يتعلم ممثلو هذا التيار من التجربة ثانيا، ويصدقوا أنه لن يكون في مقدورهم، هم أو أي أحد آخر، إقامة دولة إسلامية في سورية، لأسباب أهمها أنه ليس هناك، ولم يوجد قط في أي يوم كيان اسمه "دولة دينية"، فالدولة أجهزة ومؤسسات تسيرها آليات ومصالح وقوانين وضعية لا دين لها، فمن الحكمة والتعقل أن تتصرف جبهتا الأحرار والزنكي، إذا ما انتصرتا، بالروح التي تمليها مدنية ثورة جمعت، عند انطلاقتها الشعب السوري، بكل مكوناته، وطرحت أعظم برنامج يمكن طرحه لثورة شعبية جامعة، يقول في أحد حديه: "سورية بدها حرية"، يعني ما بدها الأسد، وفي حده الثاني: "الشعب السوري واحد"، يعني لا طوائف ولا فرق ولا حرب طائفية واقتتال أهلي، ولا انجرار إلى اقتتال مع هذا النصيري وذاك النصراني، هذا الرافضي وذاك المؤمن، بحجة أن حرب النظام تستهدف "أهل السنة الجماعة" دون غيرهم، بما أن الثورة ثورتهم وحدهم.
هذا الخطاب الذي يناقض حدّي الثورة ويقوضها، وأخذها إلى حيث أراد النظام والإيرانيون لها أن تذهب، بينما كان القائلون به يتوهمون أنهم عثروا على حجر الانتصار، فرفضوا تمييز أنفسهم عن الإرهابيين، لمجرد أنهم من "أهل السنة والجماعة" الذين يكمن في غلوهم الرد "السني" المناسب على غلو مرتزقة إيران الشيعة، وها هم يرون رؤية العين، إن كانت تبصر، أن هذا الموقف المذهبي كان فخا نصبه أعداء الثورة لها، أسقطوها هم فيه، كانت تكلفته بحرا من دماء "أهل السنة"، سفح بأيدي مجرمي "الدولة الإسلامية" و"القاعدة" لصالح النظام، حيثما سيطر التنظيمان، ودمرا الجيش الحر والمناطق التي أخرج النظام أو خرج منها. والآن، وبعد أن صرفت "الدولة الإسلامية" من الخدمة، بانتهاء مهمتها، اعتقد الجولاني أنه صار سيد الثورة الدينية، وأنه يستطيع معاندة سادته وأولياء أمره وأرباب نعمته من عرب وعجم، وها هو يسقط، كما تقول قرائن كثيرة وتطورات الميدان، التي تنهش بدورها جزءا من لحم الثورة.
لكي يكون هذا الجديد فرصة لتجديد الثورة، من الضروي ألا يحتل من يقاتلون القاعدة اليوم مكانها غدا، ويحموا بقاياها بحجة توبتهم أو إملاءات إخوة المنهج، وألا يلعبوا دورها في ترويع الشعب، واعتقال أبنائه أو تصفيتهم، ولا يدمروا عمرانه ومصادر رزقه، ويمنعوه من التعبير عن نفسه حتى همسا في مناطقهم. عليهم ألا يمارسوا دورها هذا، وأن يقطعوا مع بقاياها ويستقلوا عن الدول الخارجية، وبالأحرى أن يفككوا إلى أبعد حد ممكن تبعيتهم لها، ليكونوا اصحاب قرار سوري مستقل، ولو نسبيا، ويكون لهم حامل شعبي/ مجتمعي، يمكنهم الاستقواء به، بعد أن تنظم القوى المدنية التي تتحرك اليوم في كل قرية وبلدة بدور فيها صراع ضد الهيئة، قدراتها، وتحصّنها ضد الانزلاق من جديد نحو خياراتٍ تناقض حدّي ثورتها وبرنامجها الأصلي، وكذلك ضد تلاعب القوى الخارجية والعربية بها، التي لطالما تلاعبت بجبهة النصرة قبل أن "يجدبها" الجولاني ومجالسه الشرعية، ويعتقدوا أنهم يستطيعون "النط" من فوق خيالهم ، فدقوا أعناقهم!
ثانيا، بدايات تجدد دور شعبي يشبه الدور الذي صنع الثورة في بداياتها وصاغ برنامجها، السابق ذكره، وهناك اليوم علامات تشير إلى عودة ما إليه، تتجلى من خلال انفراد علم الثورة الأخضر باختيار الشعب وولائه، واختفاء الأعلام السوداء من الساحة، واستعادة هتافات التمرّد الأولى: "سورية بدها حرية، والشعب السوري واحد". إنها إدارة ظهر لثورة "أهل السنة والجماعة" التي كلفت مئات آلاف الشهداء، وعادت على النظام بملايين المؤيدين من "السنة" وغيرهم، وشقت المجتمع السوري، وقدمت الأرضية لصعود تيارات متعسكرة متمذهبة، تستخدم الإسلام لغايات تناقض رحمانيته، تتجلبب به، وتعتبر الحرية كفرا، والسوريين طوائف متعادية، لا تشكل مجتمعة شعبا واحدا، ولا يربطهم ببعضهم غير الرغبة المتبادلة في إبادة الآخر، كأن سيدنا عمر (ر) لم يعتبر الحرية حقا طبيعيا للناس، لا يلغيه دين أو تحجبه ضرورة، أو كأن شعب سورية يقبل أن يكون طوائف متناحرة، تحول يد الدولة الاستبدادية القوية دون فتكها ببعضها، كما تقول نظرية شائعة في أوساط إعلامية غربية، تسوغ بهذا التزوير استبداد الأسدية الذي تبناه جهلة "المجالس الشرعية"، وألزموا بنادق "داعش" و"النصرة" بمحاربة السوريين جماعةً بعد أخرى، وهم يوهمون أنفسهم أنهم يقتلون النظام، حين يقتلون علويا أو درزيا أو مسيحيا أو شيعيا وحتى سنيا. تستعيد الحاضنة الشعبية بعض حراكها الأول، بقي أن تحصن تنظيميا وسياسيا ضد الانجرار، مرة أخرى، وراء غوايات مذهبية وطائفية، كالتي ظهرت بعد عام الثورة الأول، وحرفتها عن مسارها الأصلي، وأخذتها إلى كارثة الأسلمة التي قوّضت الثورة وأنقذت النظام، وتسيطر اليوم أيضا على معظم حملة السلاح الذين لا يفرّقون بين العسكرة والمقاومة، ويجهلون أن الثانية تعني حمل السلاح دفاعا عن حق كل مواطن سوري في العدالة والكرامة، والقتال من أجل حرية المواطنين إناثا وذكورا، إلى أي دين أو فئة أو جنسية أو طبقة انتموا، بينما العسكرة التي تمارسها الفصائل، وعليها هجرها إن كانت عازمةً على الإقلاع عن إخضاع المجتمع وثورته لبنادق يوجّهها جهل قادة كالبغدادي والجولاني وتطرّفهم، و"مجالس شرعية" لعبت أخطر الأدوار في قلب تناقض الشعب العدائي مع النظام إلى تناقض عدائي بين أبنائه وداخل صفوفه، أراح النظام وأهلك أعداءه، بحديث ضعيف من هنا وقياس مقطوع الصلة بالواقع من هناك.
لن تكون هناك بعد اليوم ثورة على الأسدية من دون إنقاذ الثورة من هولاء، ورفع أيديهم عنها، وتفعيل الحراك الشعبي وتنظيمه وتمثيله بواسطة هيئات تنتخب بحرية، لا تسمح باي انزياحٍ عن هدف الحرية ووحدة الشعب، وأية أدلجة طائفية أو مذهبية للصراع ضد النظام، وتفسح، في المقابل، مجالا واسعا في العمل الوطني، لمشاركة سياسية متكاملة، تنخرط فيها مكونات الجماعة الوطنية السورية جميعها، من دون إقصاء أو تمييز، عسى أن تستعيد الثورة من خسرتهم، بسبب طائفية النظام من جهة، وتبني المتمذهبين المتعسكرين نهجه المدمر من جهة مقابلة. ولولا ذلك، لربما كان الأسد قد رحل عن سورية وتغير نظامه، ولما انقلبت سورية إلى ساحة صراعات وتصفيات دولية، أو اعتبر نضال شعبنا في سبيل حريته جزءا من الإرهاب الدولي. يعود حراك السوريين السلمي إلى الساحة، بشهادة مظاهرات عشرات الآلاف في إدلب وسراقب وكفرنبل ومناطق انتشار جبهة النصرة والغوطة الذين تحدثوا لغة واضحة مع "جبهة تحرير سورية"، تحذّرها من أن تغدو "نصرة" بديلة، أو تنخرط بدورها في مسيرة تعسكر وتمذهب متجدّدة، لن تكون نتيجتها مغايرة التي بلغتها "الدولة الإسلامية" والقاعدة، فضلا عن انهيار الثورة النهائي وانتصار النظام.
ثالثا، بسقوط خيار التأسلم والتعسكر الذي لا بد أن يستكمل بسقوط قواه المسلحة، تزداد الحاجة إلى استعادة برنامج التمرد الثوري الأول: الحرية والعدالة والمساواة والكرامة الإنسانية للشعب السوري الواحد، والخيار الديمقراطي بديلا أوحد للنظام، وإلى بناء أداة موحدة للمقاومة، تحمي السوريين وتتفاعل تكامليا مع حراكهم السلمي، وتسهم في وضع حد لحقبة دفع السوريون أثمانا فادحة لها، تراجع فيها دورهم وضمر وعيه، وغرقت نزاهتهم النضالية تحت أمواج تشبيح عاتية. بالتوازي مع استعادة الحراك، لا بد من استعادة برنامجه "الحرية للشعب السوري الواحد"، الذي لا يعقل أن يخالطه أو ينافسه بعد اليوم أي برنامج آخر، ما دامت الثورة لا تنتصر بل تهزم، أن كان لها برنامجان متناقضان، أحدهما متعسكر/ متمذهب يرفض الحرية ووحدة الشعب، يفتك بانصار الثاني، المنادي بالحرية والعدالة والمساواة والكرامة الإنسانية لأبناء سورية.
هل من الكثير على شعب قدم مليون شهيد أن توضع البندقية في خدمته، وتلتزم ببرنامجه، وتخضع لمدونة وطنية، تمنع الفوضى والاختراقات المعادية، والاعتداء على السوريين وانتهاك كراماتهم، باسم "ثورة إسلامية" أعادت إنتاج الاستبداد الأسدي حيثما وجدت، في مستوىً لا يقل عنه انحطاطا وتجبرا وكرها للشعب والوطن.
إذا كانت الثورات مجموعة من البدايات، فنحن أمام بداية جديدة، يجب أن نضع قدراتنا وخبراتنا في خدمتها، وأن نزودها الخطط والبرامج التنفيذية التي نكفل تناميها وتؤهلها لاستباق ما قد تواجهه من تحديات ومخاطر. هذا واجب، إن تخلينا، نحن المثقفين المناصرين للحرية، عنه، تركنا لساحة من جديد للمتلاعبين بها والمشبوهين المتطرّفين، وأسهمنا في ما يتربص بها من فشل.